حاشية فرائد الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-091-8
الصفحات: ٥٥٦
الجزء ٢ الجزء ٣

قوله : وأمّا ثالثا فلو سلّم جريان استصحاب العدم الخ (١).

لا يخفى أنه لو سلّم جريان استصحاب العدم ومعارضته لاستصحاب الوجود يكون استصحاب عدم جعل الشيء رافعا حاكما عليهما لا محالة ، لأنّ مرجع جميع الشكوك المتصوّرة في المقام إلى الشك في رفع الحادث أثر المقتضي وعدمه ، إذ لو كان منشأ الشك الشك في أصل المقتضي وكيفية جعله لم يعقل أن يشك في الرافع من هذه الجهة أي من قبل وجود الشيء المشكوك الرافعية. وبالجملة لا فرق بين الشك في رافعية الموجود في مثل المذي وبين وجود الرافع المعلوم الرافعية كالبول في أنّ منشأ الشك الشك في رفع أثر المقتضي فلا وجه للتفكيك بينهما ، لأنّ رفع أثر المقتضي إنّما يتحقق بتحقق أمرين كون الشيء رافعا بحقيقته وكونه موجودا والشك في كل منهما شك في الرافع ، وليس الشك في المثال المفروض في جعل الشارع للحكم المستصحب بعد وجود ما هو مشكوك الرافعية إلّا من جهة الجهل بجعله رافعا أم لا وهذا واضح بعد التنبيه عليه.

قوله : إلّا أنّ الاستصحاب مع هذا العلم الاجمالي (٢).

هذه العبارة ليست موجودة في بعض النسخ وقد الحقت في بعض النسخ في هامش الكتاب وفي بعضها في المتن ، ولا يخفى أنه غير مرتبط بهذا المقام ، نعم يناسب أن تلحق قبل قوله نعم يستقيم الخ ، وظنّي أنّ المصنف ألحقها هناك وكتبها في هامش كتابه واشتبه موضع الردّة على النسّاخ وكم له من نظير وجدناه في كتب المصنف وغيره ، وكيف كان هذا الكلام في حدّ نفسه غير مستقيم ، لأنّه لمّا جعل استصحاب عدم تأثير الوضوء في الطهارة كاستصحاب عدم جعل المذي رافعا

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢١٣.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢١٣.

٢٤١

كليهما محكوما ، لأنّ الشك فيهما ناش عن الشك في أنّ المجعول في هذه الحالة في حق المكلف هو الحدث أو الطهارة ، لزم أن يحكم بجريان استصحاب الطهارة لأنه سليم عن المعارض ، والعلم الاجمالي بجعل الشارع أحد الأمرين في حق المكلف غير مانع عن جريان هذا الاستصحاب ، وإنما يمنع العلم الاجمالي من إجراء الأصلين في طرفي العلم في الشبهة المحصورة من جهة أنّ إجراءهما يوجب طرح العلم وهذا غير ما نحن فيه ، لأنّ الأصل في أحد الطرفين محكوم بالفرض غير جار ويبقى الأصل في الطرف الآخر بلا مزاحم ولا مانع ، إذ بجريانه لا يلزم طرح العلم الاجمالي فليتأمّل ، والأولى إسقاط هذه العبارة من متن الكتاب.

بقي شيء لا بدّ من التنبيه عليه وهو أنّ ما جعله المصنف هنا مجرى الاستصحاب أعني ما كان الزمان ظرفا لوجوده كوجوب الجلوس إلى الزوال جعله مجرى للبراءة في صريح كلامه في ذيل ما أورده على الفاضل التوني فيما سبق حيث قال : وكذا لو أمر المولى بفعل له استمرار في الجملة كالجلوس في المسجد ولم يعلم مقدار استمراره فإنّ الشك بين الزائد والناقص يرجع مع فرض كون الزائد المشكوك واجبا مستقلا على تقدير وجوبه إلى أصالة البراءة ، ومع فرض كونه جزءا يرجع إلى مسألة الشك في الجزئية وعدمها ، فإنّ فيها البراءة أو وجوب الاحتياط انتهى ، وحيث إنّ مختاره في مسألة الشك في الأقل والأكثر الارتباطي هو البراءة فالحكم مطلقا على البراءة في فرض المسألة ، والتحقيق هو ما ذكره هنا من أنه مجرى الاستصحاب بناء على حجيته في الشك في المقتضي وإن قلنا في مسألة الأقل والأكثر بالبراءة ، ووجهه أنّ الجزء المشكوك كالسورة هناك لم يعلم وجوبه من أول الأمر بوجه فلا مسرح للاستصحاب فيه ، إذ ليس شيء كان متيقنا في السابق يشك في بقائه كي يكون محلا للاستصحاب ، نعم ربما

٢٤٢

يتخيل جريان استصحاب الاشتغال. وفيه أنّ الشك في الاشتغال وعدمه ناش عن الشك في وجوب الجزء وعدمه ، فالأصل فيه محكوم بالنسبة إلى أصالة البراءة الجارية بالنسبة إلى الشك السببي على ما حقّقناه سابقا غير مرّة ، وهذا بخلاف ما نحن فيه فإن وجوب الجلوس قبل زمان الشك متيقن بالفرض فأركان الاستصحاب فيه تام لا وجه لمنعه ، وهو مقدّم على أصل البراءة هنا لأنّ الشك فيه واحد ، وأحد طرفيه موافق للبراءة والطرف الآخر موافق للاستصحاب ، وليس هنا شكّان يكون أحدهما مسبّبا عن الآخر أو لا يكون.

قوله الأمر الثالث أنّ المتيقن السابق إذا كان مما يستقل به العقل الخ (١).

ظاهر كلامه اختصاص عنوان هذا البحث بالمستقلات العقلية وبما كان منها مبنيا على قاعدة التحسين والتقبيح ، والظاهر أنه لا وجه لهذا الاختصاص ، بل يجري أيضا في الاستلزامات العقلية كما إذا علم بوجوب شيء من جهة كونه مقدمة لواجب أو حرمته لكونه ضدا لواجب ثم شك في بقاء ذلك الوجوب أو الحرمة ، وكذا يجري في المستقلات غير المبنية على قاعدة التحسين والتقبيح كما إذا علمنا بعدم وجوب شيء من جهة كونه موردا لنهي فعلي منجز يمتنع معه الأمر به لعدم جواز اجتماع الأمر والنهي على القول بأنه من قبيل التكليف المحال بالمحال ، ثم لو فرضنا الشك في تعلق الأمر به بزوال النهي عنه مثلا فإنه محل البحث أيضا.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢١٥.

٢٤٣

قوله : والحكم العقلي موضوعه معلوم تفصيلا (١).

هذا التحقيق من مبتكرات تحقيقات الماتن قد أشار إليه سابقا في غير موضع ، وقد ذكرنا نحن أيضا ما عندنا في أول رسالة الاستصحاب عند التقسيمات التي أوردها بالنسبة إلى دليل المستصحب ، ونقول هنا أيضا إنّ ما ذكره من عدم إمكان الاجمال في موضوع حكم العقل محل نظر بل منع ، لأنّ المراد من الحكم العقلي الذي نريد استصحابه ليس المراد منه نفس انشاء العقل للحكم واذعانه له وتصديقه به ، إذ لا يشك أحد في أنه لو حكم العقل مثلا بقبح الكذب بوصف أنه ضار ثم ارتفع الضرر في شخص ذلك الكلام الكاذب لا يحكم بقبحه بمعنى أنه لا يذعن بثبوت القبح واقعا ، وهذا المعنى أعني عدم حكمه حينئذ مقطوع به للعقل ، بل المراد منه ما حكم به العقل أي نفس القبح الواقعي الذي هو صفة للفعل وهو كونه مما يستحق به الفاعل للذم من حيث إنّه فاعله ، ولا شك أنّ هذا المعنى صفة واقعية قد أدركها العقل ، وحينئذ نقول يمكن أن يدرك العقل أنّ الكذب الضار فيه صفة القبح قطعا لكن لم يعرف أنّ مناط القبح فيه كونه ضارا أو مجرد كونه إراءة لخلاف الواقع ، فلو كان كذب خاص مثلا ضارا حكم بثبوت القبح فيه قطعا لوجود مناطه فيه قطعا ، وإن كان المناط مرددا عنده بين أمرين إلّا أنه لا يضر بحكمه لوجود كلا الأمرين بالفرض ، ثم إذا زال الضرر عن شخص ذلك الكذب يشك في بقاء صفة القبح في الواقع لاحتمال كون مناطه في الواقع هو الأمر الأعم الباقي فيستصحب ، وما ذكره من عدم حكم العقل إلّا بعد معرفة جميع ما له دخل في مناط القبح واقعا مفصّلا ممنوع أشدّ المنع ، وإنما يعتبر أن يعرف وجود المناط وإن كان مرددا بين أمرين موجودين ، وسيصرح المصنف في المتن

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢١٥.

٢٤٤

أنه يمكن أن يكون موضوع حكم الشرع أعم من موضوع حكم العقل ، وليس ذلك إلّا باعتبار أنّ ما هو مناط الحكم واقعا من الوجوه المحسّنة أو المقبّحة قد خفي على العقل وإنما أدرك الحسن أو القبح في العنوان الأخص وكشف الشرع عن عموم المناط والحكم ، فيمكن فرض مثله فيما لم يرد من الشارع حكم ما عدا ما استفيد من العقل ، فيفرض حصول الشك في بقاء المناط عند تغيّر بعض ما يحتمل كونه دخيلا فيه ، وهذا واضح بعد هذا البيان ومراجعة الوجدان.

وإن شئت زيادة التوضيح فلاحظ استصحاب حال الإجماع يعني إذا كان الدليل المثبت للحكم في الزمان الأول هو الإجماع ثم حصل التغيّر في وصف من أوصاف الموضوع وشك في بقاء نفس الحكم واقعا مع فرض عدم الإجماع على الحكم في هذه الحالة الطارئة ، فإنّ المصنف يقول بجريان الاستصحاب فيه هنا مع أنه لا فرق بينه وبين ما نحن فيه مما كان دليل ثبوت الحكم المستصحب العقل والبيان البيان ، وظنّي أنّ منشأ توهم المصنف أنه أراد بالحكم العقلي الذي لا يمكن طروّ الشك فيه نفس إذعان العقل وتصديقه ، وهو كذلك إلّا أنّ هذا كلام بديهي خال عن الفائدة ، ثم اشتبه عليه الأمر واختار عدم جواز استصحاب حكم العقل بمعنى المحكوم به للعقل وهو صفة الحسن والقبح ، لأنه زعم عدم إمكان حصول الشك فيه فتأمّل وافهم واستقم.

قوله : مع أنك ستعرف في مسألة اشتراط بقاء الموضوع (١).

هذا دليل آخر على عدم جريان استصحاب حكم العقل ، وقد اقتصر عليه عند تعرّضه للمسألة في تقسيمات الاستصحاب ، وقد ذكرنا هناك وسنذكر أيضا أنّ تشخيص بقاء الموضوع بالعرف لا بالدقّة العقلية حتى بالنسبة إلى الأحكام

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢١٦.

٢٤٥

العقلية ، وعلى هذا فكلّما صدق عرفا بقاء موضوع الحكم السابق لا مانع من استصحابه من هذه الجهة.

ثم اعلم أنّ الاستدلال بهذا الدليل إنما يصح على تقدير الاغماض عن الدليل الأول ، فكأنه استدلّ على المطلب أوّلا بعدم تحقق فرض الشك في الأحكام العقلية ، ثم استدل ثانيا بأنه لو سلّمنا فرض الشك وأغمضنا عمّا ذكر في الدليل الأول يرجع الشك في الحكم إلى الشك في الموضوع ولا يجوز استصحاب الحكم إلّا مع العلم ببقاء الموضوع.

قوله : فإن قلت (١).

أورد هذا السؤال في تقسيمات الاستصحاب على وجه يعم جميع الأحكام الشرعية وأجاب عنه بما سيأتي في ذيل جوابه عنه هاهنا ، وظاهر كلامه هنا في السؤال والجواب اختصاص الايراد بالحكم الشرعي الذي يكون موردا للحكم العقلي ، والأولى التعميم.

قوله : مع أنه كاشف عن حكم عقلي (٢).

كان المناسب التعبير بأنه تابع لحكم عقلي كما عبّر بذلك فيما سبق.

قوله : إن كان موضوعه أعم من القطع والظن (٣).

يعني أعمّ من القطع والظن النوعي ، وحينئذ يرد عليه أنه على هذا لا يحتاج إلى الاستصحاب ، إذ لو فرض عدم حجية الاستصحاب وعدم كون الظن المفروض معتبرا ثبت الحكم المزبور للعقل لتحقق موضوعه وجدانا لا

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢١٦.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢١٦.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ٢١٧.

٢٤٦

استصحابا ، كما أنّ ما يوجد في بعض النسخ في ذيل العبارة من قوله إلّا أنّ النتيجة تكون ظنّية لظنية الصغرى ، مدخول بأنّ النتيجة على فرض كون موضوع حكم العقل أعم من القطع والظن قطعية لا ظنية ، نعم لو فرض كون موضوع الحكم العقلي المضر الواقعي وكان العلم أو الظن طريقا اندفع الايرادان ونحتاج إلى الاستصحاب ويصح أن يقال إنّ النتيجة ظنية ، لكن يرد عليه أنّ صحة الاستصحاب عليه مبنية على حجية الأصل المثبت كما هو كذلك بناء على كون حجيته من باب التعبد على ما سيأتي في المتن مع جوابه.

قوله : نعم يثبت الحرمة الشرعية الخ (١).

هذا هو الحق الموافق للتحقيق ، لكن يبقى سؤال الفرق بين ما ذكره هنا في الشبهة الموضوعية وبين الشبهة الحكمية التي منع عن استصحاب الحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي فيها ، والتحقيق جريان الاستصحاب فيها أيضا ، وإشكال عدم تحقق الحكم العقلي في مورد الشك مشترك بين المقامين ، مع أنه ليس مانعا عن جريان الاستصحاب كما إذا فرض ثبوت الحكم في الزمان الأول بالإجماع أو النص ثم حصل الشك في الزمان الثاني لعدم كونه مورد الإجماع والنص مع تغيّر بعض الأحوال فإنه غير مانع عن الاستصحاب ، فكذا لو ثبت الحكم بدليل العقل طابق النعل بالنعل والقذّة بالقذّة.

قوله : وممّا ذكرنا من عدم جريان الاستصحاب في الحكم العقلي ظهر الخ (٢).

عدم التكليف الثابت حال النسيان للجزء يحتمل وجهين : أحدهما أن يراد

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢١٧.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢١٨.

٢٤٧

به عدم تنجز التكليف حاله مع ثبوته في الواقع كما في الجاهل القاصر ، وعليه يكون المراد من إجزاء ما فعله الناسي للجزء بدلية المأتي به عن الواقع والاكتفاء به عنه لاشتماله على معظم مصلحة الواقع بحيث لا يبقى محل لادراك تلك المصلحة كاملا على ما مر بيانه غير مرة.

الثاني : أن يراد به عدم ثبوت التكليف من أصله واقعا حال النسيان بالجزء المنسي ، فيكون المراد من إجزاء ما فعله الناسي أنّ المأمور به في تلك الحال هو باقي الأجزاء وهي تمام المأمور به.

إذا تمهّد ذلك فنقول : إنّ من تمسك باستصحاب عدم التكليف الثابت حال النسيان لاثبات إجزاء ما فعله الناسي للجزء أو الشرط ، إن أراد المعنى الأول فلا وجه له ، لأنّ الاجزاء بالمعنى المذكور يحتاج إلى دليل مفقود بالفرض والأصل عدم البدلية فيجري استصحاب بقاء ذلك التكليف الواقعي إلى أن يحصل العلم بالبراءة ، فلا بدّ أن يحمل كلامه على المعنى الثاني ويفرض سقوط أصل التكليف واقعا حال النسيان لأجل النسيان بحكم العقل ، فلو شك بعد زوال النسيان في تجدد التكليف أو بقاء السقوط فيقال إنه يستصحب عدم التكليف الثابت حال النسيان ، ويتوجّه عليه إيراد المصنف بعدم جواز استصحاب الحكم العقلي والحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي ، ونحن نقول يرد عليه أوّلا : ما أوردنا سابقا من صحة إجراء استصحاب الحكم العقلي والحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي بدفع ما تمسك به المصنف له. وثانيا : أنّ المبنى فاسد فإنّ حكم العقل بنفي التكليف في حال النسيان ليس أزيد من نفي تنجزه فإنّ ثبوت أصل التكليف في الواقع مع عدم ترتب عقاب على مخالفته حال النسيان لا دافع له في حكومة العقل كالجاهل المعذور بعينه.

ثم لا يخفى أنّ ما ذكره المصنف من كون الاستصحاب المذكور من قبيل

٢٤٨

استصحاب الحكم العقلي إنما يتم لو فرض النسيان في أثناء الوقت بعد الذكر وإلّا فلو فرض النسيان من أول الوقت نتمسك باستصحاب عدم التكليف الثابت قبل الوقت إلى ما بعد زمان الذكر فإنه ليس مستندا إلى حكم العقل حتى يمنع من استصحابه ، بل هو نظير استصحاب عدم التكليف الأزلي الثابت من غير جهة العقل قبل البلوغ إذا شك فيه بعد البلوغ فإنه صرح بجريانه في المتن قبيل هذا.

قوله : وما في اعتراض بعض المعاصرين على من خص من القدماء والمتأخرين (١).

يعني ويظهر مما ذكرنا فساد اعتراض بعض المعاصرين وهو صاحب الفصول (٢) على من خص استصحاب حال العقل بالعدم وهو البراءة الأصلية بأنه لا وجه للتخصيص الخ ، وهذا الكلام يحتمل وجهين ، الأول : أن يراد به فساد التعميم الذي ذكره ، بل الحق مع من خص استصحاب حال العقل باستصحاب العدم لأنه داخل فيما ذكرنا ممّا يكون قد ورد حكم شرعي في مورد حكم العقل وقلنا بجريان الاستصحاب فيه ، وبالجملة المستصحب فيه هو العدم الأزلي غير المستند إلى حكم العقل ، وهذا بخلاف استصحاب حال العقل في الوجودي كالأمثلة المذكورة فإنه ليس هناك إلّا الحكم المستند إلى العقل فقط ولا يجري الاستصحاب فيه ، وعلى هذا الاحتمال يمكن أن يورد عليه بمنع عدم وجود الحكم غير المستند في الوجوديات فإنه قد ورد في الشرع أيضا حرمة التصرف في مال الغير ووجوب ردّ الأمانة وشرطية العلم للتكليف كما حكم بها العقل أيضا.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢١٨.

(٢) الفصول الغروية : ٣٦٦.

٢٤٩

الثاني : أن يراد منه فساد ما التزم به من صحة جريان استصحاب حال العقل مطلقا لما مر من بطلانه في النفي والاثبات مطلقا ، وهذا الاحتمال أنسب بسياق الكلام بملاحظة سابقه ولا حقه ، لكن يمكن دفعه بأنّ مراد صاحب الفصول أنّ تخصيص صحة جريان استصحاب حال العقل بالعدم لا وجه له ، فإمّا أن يحكم بجريانه في الوجودي والعدمي كليهما أو بعدم جريانه في كليهما لاشتراكهما في الإشكال وعدمه ، فمن يجريه في العدمي لازمه أن يجريه في الوجودي أيضا فتدبّر.

قوله : وأمّا المثال الثالث فلم يتصوّر فيه الشك في بقاء شرطية العلم (١).

يمكن تصوير الشك فيما إذا كان باب العلم منفتحا على الشخص في زمان وحكم عقله بشرطية العلم التفصيلي في ثبوت التكليف الفعلي ثم فرضنا أنه انسدّ عليه باب العلم التفصيلي مع تحقق العلم الاجمالي ، فيحصل الشك في بقاء شرطية العلم التفصيلي فيحكم بسقوط التكليف أو عدمه فيحكم بثبوته.

قوله : ويظهر أيضا فساد التمسك باستصحاب البراءة والاشتغال (٢).

يعني وممّا ذكرنا من عدم صحة استصحاب حكم العقل يظهر فساد التمسك باستصحاب البراءة والاشتغال الخ ، لكن لا يخفى أنه ذكر في بيان فساد التمسك بالاستصحاب في المثالين وجها آخر غير ما تقدم من فساد استصحاب حكم العقل مطلقا ، فتفريعه على ما تقدم في غير محله.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢١٨.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢١٩.

٢٥٠

قوله : ولا حاجة إلى إبقاء البراءة السابقة (١).

هذا إنّما يتم على مذاق المصنف من أنّ حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان يشمل موارد عدم وصول البيان مطلقا وإن احتمل ثبوت البيان واقعا ، ونحن قد ذكرنا في غير موضع منع استقلال العقل بقبح العقاب إلّا مع العلم بعدم البيان ومع عدم مانع من البيان من تقية ونحوها ، وأمّا إذا احتملنا صدور البيان واختفاءه عنا بظلم الظالمين كما هو كذلك في حقّنا ، أو احتمل تحقق مانع من البيان فنمنع استقلال العقل بقبح العقاب ، وحينئذ نقول لعل المتمسك بالاستصحاب في مثال ما نحن فيه من يقول باختصاص حكم العقل بما قبل الشرع الذي علم فيه عدم البيان ، وأمّا بعد الشرع فاثبات البراءة محتاج إلى الاستصحاب لعدم العلم بعدم البيان واحتمال صدور البيان واختفائه فلا يستقل العقل بالبراءة فيه.

قوله : نعم لو اريد إثبات عدم الحكم أمكن إثباته باستصحاب عدمه (٢).

الظاهر أنّ المراد إثبات عدم الحكم الأزلي باستصحابه وإلّا لم يثبت في الزمان الأول بالبراءة العقلية عدم الحكم حتى يستصحب ، بل لو ثبت العدم بها كان باقيا بالوجدان ولا يحتاج إلى الاستصحاب ، وحينئذ نقول هذا الاستصحاب خارج عمّا نحن فيه من استصحاب حكم العقل ، وكيف كان ما أورده عليه من تقديم أصالة البراءة على استصحاب العدم محل نظر بل منع ، وقد تكرر من المصنف هذا الكلام في مباحث البراءة والاستصحاب وقد ذكرنا ما فيه غير مرة من منع تقدم أحدهما على الآخر ، فإنه إذا حصل الشك في الفرض يحصل موضوع حكم العقل بالبراءة ، وكذا موضوع حكم العقل بعدم الاشتغال المترتب

__________________

(١ ، ٢) فرائد الاصول ٣ : ٢١٩.

٢٥١

على إبقاء العدم السابق الثابت بالشرع في عرض واحد لا ترتب بينهما.

وما يتوهم من أنّ الاستصحاب لمّا كان متوقفا على ملاحظة الحالة السابقة بعد الشك ثم إسراء حكم الحالة السابقة كان متأخرا عن الشك الذي هو موضوع حكم العقل بالبراءة ، مدفوع بأنّ نفس حكم الاستصحاب مجعول في هذا الموضوع في الواقع وإن توقف العلم به على إعمال روية والتفات إلى الحالة السابقة فافهم.

واعلم أنّ المصنف (رحمه‌الله) تعرض لحال هذا الاستصحاب والايراد عليه في أوائل رسالة البراءة جاعلا له من أدلّة البراءة ناقلا عن غيره ، وتعرض للإشكال عليه ببيان أبسط ممّا هنا ، وذكرنا نحن أيضا ما عندنا عليه فراجع.

ثم اعلم أنّ استصحاب البراءة الثابتة قبل ورود الشرع ممّا لا نتعقله ، إذ ليس المراد منها نفس البراءة الراجعة إلى عدم التكليف الأزلي ، بل المراد منها كما هو صريح المتن قاعدة البراءة الثابتة بحكم العقل من جهة قبح التكليف بلا بيان ، وهو فرع حصول الشك فيما يحتاج إليه من حكم العمل ، ولا ريب أنّ حال قبل الشرع ليست محلا لحاجتنا في تكاليفنا حتى يحكم العقل بقبح العقاب والبراءة ثم يستصحب هذه البراءة إلى زماننا هذا ، نعم يمكن تعقله لمن كان مدركا للزمانين وفرضنا أنه حصل له الشك في وجوب غسل الجمعة أو في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال مثلا في الزمان الأول أعني قبل ورود الشرع ، فحكم عقله بالبراءة وقبح العقاب عليه ، ثم فرضنا أنه حصل له الشك أيضا في الزمان الثاني أعني بعد ورود الشرع فيستصحب البراءة الثابتة له قبل ورود الشرع ، وكيف كان لا مجرى لاستصحاب البراءة العقلية فيما هو محل ابتلائنا من الامور ، وظنّي أنّ من تمسك باستصحاب البراءة أراد بها البراءة الواقعية بمعنى عدم التكليف الأزلي ، وتوهم المصنف أنه أراد قاعدة البراءة العقلية وأورد عليه بما أورد.

٢٥٢

قوله : وفيه أنّ الحكم السابق لم يكن إلّا بحكم العقل الخ (١).

يمكن أن يدفع هذا الجواب بأن المتمسك باستصحاب الاشتغال لعلّه ممّن لا يحكم عقله بوجوب الموافقة القطعية للعلم الاجمالي ، بل يحكم بمجرد حرمة المخالفة القطعية ، فيحتاج في إثبات وجوب الموافقة القطعية إلى استصحاب الاشتغال ، لفرض عدم الحكم للعقل إلّا بحرمة المخالفة القطعية.

قوله : لكن مجرد ذلك لا يثبت وجوب الاتيان (٢).

لا يحتاج إلى إثبات وجوب الاتيان بالمحتمل الباقي ، بل باستصحاب شغل الذمة يحصل موضوع حكم العقل بوجوب تفريغ الذمة ، إذ لا فرق في حكم العقل بوجوب تفريغ الذمة عن الشغل بين أن يكون الشغل ثابتا بالعلم أو بالظن المعتبر أو بالأصل المعتبر.

قوله : قد يطلق على بعض الاستصحابات الاستصحاب التقديري الخ (٣).

قد يتصور استصحاب الحكم التعليقي في الشبهة الحكمية ، وقد يتصور في الشبهة الموضوعية ، وقد يتصور استصحاب الموضوع على نحو التعليق.

أما الأول ، فكاستصحاب حرمة العصير بعد صيرورته زبيبا كما في المتن ، وكاستصحاب بطلان التيمم بوجدان الماء في أثناء الصلاة ، فيقال إنّ المكلف المتيمم لو وجد الماء قبل الصلاة بطل تيممه قطعا ولو وجد الماء في أثناء الصلاة يشك في البطلان كما هو محل الخلاف ، فيستصحب الحكم المعلّق ويحكم ببطلان التيمم والصلاة. وقد يعارض ذلك بجريان استصحاب الصحة التعليقية في الصلاة

__________________

(١ ، ٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٢٠.

(١ ، ٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٢٠.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ٢٢١.

٢٥٣

فيقال كان المكلف بحيث لو أتم صلاته قبل وجدان الماء كانت صلاته صحيحة قطعا ويشك في الصحة بعد الوجدان فيستصحب الصحة التعليقية. وفيه تأمل ، لأنّ الأول حاكم. وكاستصحاب جواز الدخول في الصلاة على تقدير دخول الوقت لمن كان عليه فائتة في مسألة جواز تقديم الحاضرة على الفائتة أو وجوب تقديم الفائتة على الخلاف ، فيقال إنّ المكلف كان قبل اشتغال ذمته بالفائتة بحيث كلما دخل عليه الوقت جاز له الصلاة في أول الوقت فإذا اشتغلت ذمته بالقضاء يشك في جواز الدخول في الصلاة إذا دخل عليه الوقت

في أول الوقت فيستصحب الوجوب المعلّق.

وأمّا الثاني ، أعني استصحاب الحكم في الشبهة الموضوعية فكاستصحاب وجوب الصلاة لمن رأى دما مرددا بين الحيض وغيره ، فيقال إنّ المرأة كانت بحيث لو دخل عليها الوقت قبل رؤية الدم الكذائي وجبت عليها الصلاة قطعا ويشك بعد رؤيتها ذلك الدم فيستصحب الوجوب التعليقي. وكاستصحاب وجوب الحج لمن حصل له الزاد والراحلة عند الشك في سقوط الوجوب عنه لمرض ونحوه فيقال إنّ المكلّف كان قبل طريان هذا العارض بحيث لو حصلت له الاستطاعة بوجدان الزاد والراحلة وجب عليه الحج ويشك في وجوبه التعليقي بعد حصول هذا العارض فيستصحب الوجوب التعليقي. وكاستصحاب وارثية الشخص إذا شك فيها لشبهة كفر أو قتل ونحوه فيقال إن وارثية الشخص لمورّثه كانت ثابتة على تقدير موت المورث قبل عروض سبب الشبهة قطعا ويشك بعد عروضه فيستصحب الحكم التعليقي ويحكم بثبوت الارث.

وأمّا الثالث ، فكاستصحاب تحقق القتل بقدّ الكساء الملفوف به إنسان في السابق وشك في بقائه في الكساء فيقال إنّ الكساء كان بحيث لو قدّ نصفين حصل

٢٥٤

به قتل الانسان الملفوف فيه والأصل بقاء موضوع القتل التعليقي ، فافهم.

قوله : وهذا الوجود التقديري أمر متحقق في نفسه في مقابل عدمه الخ (١).

هذا إنما يتم على القول بمعقولية الحكم المشروط وأنه حكم حقيقة فإنّ له وجودا على نحو خاص قبل حصول الشرط بل مع عدم حصول الشرط أبدا ، وأمّا على القول بعدم معقوليته كما ينسب إلى المصنف وقد مر بيانه مفصلا في ذيل التعرض لكلام الفاضل التوني (رحمه‌الله) فلا معنى لوجود الحكم التقديري ليمكن استصحابه.

فإن قلت : إنّ من ينكر الواجب المشروط يقول برجوع الواجبات المشروطة الواردة في الشرع إلى الواجب المعلّق ، وأنّ الوجوب الفعلي المنجز ثابت قبل حصول الشرط وإن كان زمان فعل الواجب عند حصول الشرط المعلّق عليه الحكم ، فيكون المقام أولى بجريان الاستصحاب فيه.

قلت : نعم ، ولكن الحكم ليس بثابت من الأول إلّا في صورة تحقق المعلّق عليه فيما سيأتي ، ففي مثال ما نحن فيه نقول إنّ الحرمة ثابتة لماء العنب في صورة تحقق الغليان والاشتداد فيما بعد لا فيما لم يتحقق ذلك فيه أصلا وشربه عصيرا.

لا يقال : إنّ المفروض حصول الغليان بعد صيرورته زبيبا ، فالمعلّق عليه حاصل ولازمه تحقق حكم الحرمة من الأول.

لأنّا نقول : حصول الغليان في هذه الحالة لا يفيد ثبوت الحرمة من الأول ، لأنه مشكوك بالفرض ، وإنما المتيقن ترتب الحرمة على الغليان في حال كونه ماء العنب لا ماء الزبيب.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٢٣.

٢٥٥

وبالجملة : إشكال سيد المناهل أنه يلزم في ميزان الاستصحاب وجود أمر ثابت محقق في السابق بالجزم واليقين ويشك في بقائه ، وهاهنا ليس كذلك لأنّ التحريم على تقدير غليانه هذا أعني في حالة كونه ماء الزبيب ليس بمتيقن بل مشكوك فيه من الأول ، فلا شيء هنا يمكن استصحابه ، فانحصر صحة تصوير الاستصحاب التعليقي في الحكم المشروط الذي لا يتعقله المصنف فكأنه تكلّم على غير مذاقه ، بل نقول إنّ ما جعله سليما عن الإشكال من استصحاب الملازمة أيضا لا يتم على مذاقه من إنكاره للأحكام الوضعية وارجاعها إلى الأحكام التكليفية ، وقد عرفت حال الحكم التكليفي الذي يمكن أن ينتزع منه هذا الوضع أعني الملازمة وهو الحرمة على تقدير الغليان في المثال.

ثم إنه قد أورد بعض المحققين على استصحاب الملازمة أعني سببية الغليان للحرمة بأنّ استصحابها مثبت ، لأنّ الحكم شرعا مترتب على وجود سببه لا على سببيته له ، وإنما يترتب عليها مع وجود السبب فعلا فافهم ، انتهى.

وفيه : أنّ استصحاب السببية كاف في ترتّب الحكم لا يحتاج إلى أمر آخر ، وليس هذا إلّا كاستصحاب الطهارة لترتيب حكم صحة الصلاة عليها ، ولا يمكن أن يقال إنّ الصحة مترتبة على الطهارة ووجود الصلاة لا الطهارة وحدها ، وحلّه : أنّ معنى الملازمة المستصحبة أنه إذا غلا يحرم ، كما أنّ معنى استصحاب الطهارة أنه لو صلّى في هذا الحال تصح صلاته ، فترتّب المسبّب على وجود السبب مأخوذ في لسان الدليل ليس شيئا خارجا عنه فتدبّر.

قوله : والثاني فاسد لحكومة استصحاب الحرمة على تقدير الغليان على استصحاب الاباحة (١).

أورد عليه : بأنّ الاباحة بعد الغليان وعدمها ليسا من آثار الحرمة على

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٢٣.

٢٥٦

تقديره وعدمها بدونه كي يكون الشك فيهما ناشئا عن الشك فيهما وبدونه لا يكاد أن يكون بينهما حكومة أصلا بل يكونان على تقديره متضادّين انتهى ، يعني أنّ الاباحة والحرمة حكمان متضادان لا يجتمعان في موضوع واحد ، فكلّما ثبت أحدهما ارتفع الآخر بحكم العقل لقضية المضادة ، فليس أحدهما مترتبا على الآخر شرعا نفيا واثباتا ليكون محكوما بالنسبة إلى الآخر.

وفيه : أنّ الشارع قد جعل الحرمة على تقدير الغليان رافعا لحكم الاباحة السابقة ، فلا جرم يكون الشك في بقاء الاباحة السابقة ناشئا عن تحقق الرافع وعدمه ، فإن أثبتنا تحقق الرافع بالاستصحاب يرتفع الشك في الاباحة ويحكم بعدمها شرعا وليس معنى الحكومة إلّا ذلك ، فتدبّر.

قوله : وقد يقع الشك في وجود الملزوم في الآن اللاحق إلخ (١).

إنّ الشك في وجود الملزوم كالغليان إن كان من جهة احتمال مدخلية كونه مضافا إلى عصير العنب بالخصوص فيكون الغليان المضاف إلى عصير الزبيب مشكوك السببية للحرمة ، فهو راجع إلى إشكال بقاء الموضوع ليس وراءه شيء ، ويجاب إمّا بأنّ صدق بقاء الموضوع عرفي وهو حاصل هنا ، وإمّا بأن نفرض الشك في أصل المسألة بالنسبة إلى بعض حالات العنب الطارئة عليه مع بقاء العنب باسمه ووصفه ، وإن كان من جهة احتمال مدخلية وصف آخر غير كونه مضافا إلى موضوع العنب فالأمر كما ذكره المصنف لا يفيد استصحاب الحرمة التعليقية في إثبات الحرمة الفعلية فلا يجري فافهم.

وقد يورد على الاستصحاب التعليقي إشكال آخر وهو أنّ الشك في موارده من قبيل الشك في المقتضي ولا يقول المصنف بحجية الاستصحاب فيه ،

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٢٤.

٢٥٧

مثلا الشك في كون غليان العصير الزبيبي سببا للحرمة مرجعه إلى الشك في اقتضاء الغليان للحرمة حتى بعد ما صار العنب زبيبا ، أو مقصور على الغليان حال العنبية فقط. وبعبارة اخرى يرجع الشك إلى أنّ المجعول الشرعي سببية الغليان للحرمة في جميع الحالات الطارئة على العنب أو المجعول سببيته له ما لم يصل إلى حدّ الزبيبية ، وهذا الإشكال وارد على المصنف ومن يقول بعدم حجية الاستصحاب في الشك في المقتضي ، اللهمّ إلّا أن يتكلّف ويقال إنّ شكه يرجع إلى الشك في رافعية وصف الزبيبية لحكم الحرمة التعليقية الثابتة قبله وعدمها.

ثم اعلم أنّ الاستصحاب التعليقي بمعنى استصحاب الحكم على تقدير أو بمعنى استصحاب الملازمة والسببية بناء على معقولية الحكم المشروط وثبوت الأحكام الوضعية كما عرفت إنما يجري فيما إذا أحرزنا أنّ المجعول الشرعي هو الحكم المشروط أو السببية كما هو ظاهر قوله «إذا غلى واشتدّ العصير يحرم» (١) وأمّا إذا كان ذلك من انتزاع العقل للملازمة بين الحكم وموضوعه كما لو قال يجب الحج على المستطيع ، فينتزع العقل منه أنّ الاستطاعة سبب لوجوب الحج وأنّ زيدا بحيث لو استطاع وجب عليه الحج ، فلا ينفع في جريان الاستصحاب التعليقي عند الشك في وجوب الحج بالاستطاعة في خصوص حال من الحالات ، إذ ليس هنا حكم شرعي قابل للاستصحاب ، وهذا واضح بعد التنبيه عليه ، وكثيرا ما يشتبه الأمر لأجل عدم التفطّن لهذه الدقيقة ، وأغلب الأمثلة التي ذكرناها في صدر المبحث من قبيل الحكم الانتزاعي ليس مجرى للاستصحاب فلا تغفل.

__________________

(١) الوسائل ٢٥ : ٢٨٧ / أبواب الأشربة المحرّمة ب ٣.

٢٥٨

قوله : إذ المقتضي موجود وهو جريان دليل الاستصحاب (١).

يمكن منع جريان أدلّة الاستصحاب ، إذ لو قلنا بحجيته من باب الظن لأجل بناء العقلاء فنمنع كون بناء العقلاء على إبقاء أحكام شريعة بعد العلم بنسخ تلك الشريعة وإن احتمل بقاء بعض أحكامها ، وكذا لو جعلنا مستند الظن الغلبة لأنّا نمنع بقاء غالب الأحكام للشريعة المنسوخة ، بل الأمر بالعكس ، وغلبة بقاء مطلق الموجودات لا ينفع بعد كون الغلبة في الصنف المخصوص على خلافه ، وإن قلنا بحجيته من باب التعبّد ندّعي انصراف أخباره إلى أحكام شريعتنا بالخصوص دون غيره من الشرائع (٢).

قوله : وعدم ما يصلح مانعا عدا امور (٣).

ولا بأس بأن نشير أوّلا إلى ما عندنا في وجه المنع ، يحتمل أن يكون الوجه الثاني من الوجوه المذكورة في المتن من أنّ شريعتنا ناسخة لغيرها من الشرائع راجعا إليه ، فليكن هذا بيانا له وهو أنّ الشرائع المنسوخة محدودة واقعا إلى مجيء الشريعة الناسخة وإن كان ظاهرها الدوام ، وبملاحظة هذا الظهور يقال إنّ الشريعة السابقة نسخت ورفعت إلّا أنّها واقعا محدودة وإلّا لزم البداء المحال ، والمراد من نسخ الشريعة نسخ جميع أحكامها لأنه الظاهر من النسخ المضاف إلى

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٢٥.

(٢) أقول : الإنصاف أنّ منع جريان أدلة الاستصحاب في غير محله ، والعمدة فيها هي الأخبار الدالة على عدم نقض اليقين بالشك ، وهي عامة شاملة لما نحن فيه ، والانصراف المدّعى ممنوع ولذا كان أهل الشرائع السابقة يعملون بكل حكم من الشريعة السابقة ما لم يعلموا نسخه في الشريعة اللاحقة ، فتأمّل.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ٢٢٥.

٢٥٩

الدين والشريعة والملة ونحوها كما ورد في الأخبار ، فيلزم أن يكون جميع أحكام الشريعة المنسوخة محدودة إلى مجيء الشريعة الناسخة ، ولا ينافي ذلك تطابق جملة من أحكام الشريعتين كحرمة الظلم والسرقة والزنا وشرب الخمر ونحوها مثلا ، إذ يمكن نسخها بملاحظة الشريعة السابقة وجعلها وانشاؤها ثانيا بملاحظة الشريعة اللاحقة ، بمعنى أنّ الشارع أمر باتّباع شريعة موسى (عليه‌السلام) أو عيسى (عليه‌السلام) مثلا إلى زمان محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومن جملة أحكامها حرمة الظلم والسرقة ، ثم أمر عند مجيء محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) باتّباع شريعته التي من أحكامها حرمة الظلم والسرقة أيضا ، غاية الأمر أنّ بعض أحكام الشريعة اللاحقة مماثلة لأحكام الشريعة السابقة لا أنه لم ينسخ الشريعة السابقة باعتبار هذا الحكم.

إذا تحقق ذلك فنقول : لا معنى لاستصحاب حكم من أحكام الشريعة السابقة ، لأنّ نفس ذلك الحكم مقطوع الارتفاع بحصول غاية الشريعة السابقة وحدّها ، وحدوث مثله في الشريعة اللاحقة لو فرض ليس ببقاء له ، فلو شك فيه فالأصل عدمه ، والحكم بثبوته قياس لا استصحاب ، ويشهد لما ذكرنا أنه لم يحتمل أحد جواز التمسك باطلاقات أدلة أحكام الشرائع السابقة عند الشك في نسخها لو كان فيها إطلاق أزماني نظير قوله (عليه‌السلام) «الناس مسلّطون على أموالهم» (١) بل يتمسكون بأصالة الاباحة قبل الشرع أو أصالة الحظر على الخلاف ، ودعوى أنّ ذلك حيث لم يكن إطلاق دليل من الشرع السابق وإلّا فلعلّهم يتمسكون بالاطلاق ، مدفوعة بأنّ الأخذ بجانب الأصل مشروط بالفحص عن الدليل وعدم الظفر به ، ولم يعهد من أحد الفحص أوّلا عن أحكام الشرائع

__________________

(١) عوالي اللآلي ٣ : ٢٠٨ ح ٤٩ ، بحار الأنوار ٢ : ٢٧٢.

٢٦٠