حاشية فرائد الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-091-8
الصفحات: ٥٥٦
الجزء ٢ الجزء ٣

باقي الأجزاء فإنّ الأجزاء كانت واجبة قبل طروّ الطارئ ولو لأنه كان إتماما والأصل بقاؤها على الوجوب ، نعم يرد على الاستصحابين أنّهما غير نافعين في تحقق الامتثال بالنسبة إلى الطبيعة المأمور بها إلّا على القول بالأصل المثبت ، لأنّ حرمة الإبطال ووجوب الاتمام إنما تعلق بفرد الطبيعة بعد الشروع فيه وهو تكليف نفسي مستقل ولا ربط له بالتكليف المتعلق بأصل طبيعة العمل ، ولذا لو أبطله وأتى بالفعل ثانيا عصى بالإبطال وصح بالنسبة إلى أصل التكليف ، ومن ذلك قال بعض كما حكاه المصنف في أصل البراءة إنّ مقتضى القاعدة وجوب إتمام هذا العمل ثم الاعادة عملا باستصحاب حرمة الإبطال وقاعدة الاشتغال بأصل التكليف بالصلاة ، نعم هنا استصحاب آخر ينفع المقام وهو استصحاب جواز المضي وجواز الاتمام بعنوان امتثال الأمر المتعلق بالطبيعة ، وهذا جواز غيري قد جاء من قبل الأمر بالطبيعة فلا جرم يتحقق به الامتثال ويسقط الأمر الأول بالاتمام هذا ، وقد تعرّض المصنف لوجوه المسألة في أصل البراءة ببيان أوفى وأبسط وذكرنا ما عندنا هناك أيضا فراجع.

قوله : وأمّا الشرعية الاعتقادية (١).

لا بأس بأن نشير أوّلا إلى ما يمكن أن يكون محلا للبحث ثم نتعرّض لما في المتن فنقول : إنّ المستصحب في الاعتقاديات إمّا أن يكون نفس وجوب الاعتقاد أو يكون موضوعه ومتعلقه وهو المعتقد ، وقد عرفت في آخر رسالة الظن أنّ وجوب الاعتقاد بالنسبة إلى بعض المعارف مطلق كالاعتقاد بالاصول الخمسة ، وبالنسبة إلى بعضها مشروط بالعلم بها كتفاصيل البرزخ والصراط والميزان ونحوها ، ولا يتصوّر محل للاستصحاب من غير جهة النسخ في شيء من

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٥٩.

٣٠١

الامور المذكورة ، لأنه ليس في الواجبات الاعتقادية مطلقا أو مشروطا ما يكون وجوبه مغيّا بغاية زمانية يشك في حصول الغاية مثلا حتى يكون محلا للاستصحاب ، بل لو حصل شك يكون شكا في أصل وجوب الاعتقاد من الأول لا في بقائه فهو داخل في الشك الساري. وبالجملة ، ليس هناك ما علمنا بوجوب الاعتقاد به في زمان ثم شككنا في بقاء ذلك الوجوب حتى يستصحب.

وكذا نقول في المعتقدات ليس أمر يكون متحققا في زمان واحتملنا تغيّره وتبدله إلى خلافه ليجري الاستصحاب فيه لأنها امور واقعية غير زمانية ، ما عدا النبوّة والإمامة فإنهما زمانيان ويمكن فرض غاية لهما بنسخ الشريعة في الأول وموت الإمام في الثاني ، وحينئذ يتصوّر الشك في البقاء فيهما ، والثاني ليس محلا لابتلاء أحد في أمثال زماننا ، فانحصر ما يمكن أن يكون محلا للاستصحاب في الشك في النسخ ، ويتصوّر الشك بالنسبة إلى بقاء وجوب الاعتقاد بنبوّة موسى (عليه‌السلام) مثلا في زماننا هذا ، وكذا بالنسبة إلى بقاء نفس نبوّته إلى هذا الزمان ، وكذا بالنسبة إلى بقاء كل واحد من أحكام شرعه ، ولا مانع من جريان الاستصحاب في المقامات الثلاثة سواء قلنا بحجية الاستصحاب من باب الظن أو الأخبار ، وما استند إليه لعدم اعتبار الاستصحاب هنا ستعرف ما فيه ، نعم يمكن أن يدّعى انصراف أخبار الاستصحاب إلى الأحكام الفرعية العملية دون الاصولية الاعتقادية فتدبّر.

قوله : لأنه إن كان من باب الأخبار (١).

الظاهر أنّ نظره إلى منع كون وجوب الاعتقاد فيما كان مشروطا بالعلم قابلا لشمول الأخبار له ، وقد عرفت أنّ الحكم الاعتقادي أعم من ذلك ، وأنه إن كان

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٥٩.

٣٠٢

الشك في غير جهة النسخ فلا محل للاستصحاب فيه ، وإن كان من جهة النسخ فلا مانع منه في المقامات الثلاثة المتقدمة ويشمله أخبار الباب أيضا.

قوله : لزوال الاعتقاد فلا يعقل التكليف (١).

لا ريب أنّ الاعتقاد بشيء بمعنى عقد القلب عليه والتديّن والالتزام به معقول مع الشك فيه ، كما أنه يعقل عدم الاعتقاد مع العلم به ، وإن أراد من الاعتقاد العلم فلا معنى لوجوب العلم بالشيء على تقدير اليقين به كما أنه لا معنى لوجوب العلم به على تقدير الشك فيه ، وبالجملة لا تخلو العبارة عن اضطراب وإجمال واختلال فتدبّر.

قوله : لأنّ نسخ الشرائع شائع (٢).

سلّمنا شيوع نسخ الشرائع لكن لا يحصل نسخ كل شريعة إلّا مرة واحدة في زمان واحد لا في أغلب الأوقات ، بل الأغلب بحسب الأوقات والأزمان عدم النسخ فيظن عدم النسخ في زمان الشك ، هذا مضافا إلى أنّ الظن الذي يدّعى كون الاستصحاب مفيدا له هو الظن النوعي الذي يستفاد من الحالة السابقة نوعا لا الظن الشخصي ولا الظن النوعي بحسب أصناف المستصحبات في خصوص صنف كل مستصحب ، وأيضا لا اختصاص لهذا الإشكال باستصحاب الحكم الاعتقادي بل يجري في جميع الاستصحابات بناء على اعتباره من باب الظن.

قوله : والدليل النقلي الدالّ عليه لا يجدي إلخ (٣).

التحقيق أنّ الدليل النقلي على حجية الظن مطلقا أو خصوص الظن

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٥٩.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٦٠.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ٢٦٠.

٣٠٣

الاستصحابي أو على حجية الاستصحاب من غير جهة الظن يجدي سواء كان ذلك الدليل ثابتا في كلتا الشريعتين أو في خصوص الشريعة السابقة أو في خصوص اللاحقة ، أمّا الأول فواضح ، لأنّ حكم الاستصحاب على هذا الفرض حكم إلهي في جميع أزمنة الشريعتين وزمان الشك لا يخلو منهما ، فيعلم أنّ حكمه الفعلي الظاهري هو البناء على الشريعة السابقة ، وأمّا على الثاني فلأنّا لو فرضنا أنّ من أحكام شرع النبي (عليه‌السلام) السابق البناء على اليقين السابق عند الشك فكأنه قال ذلك النبي (عليه‌السلام) إذا شككتم في نسخ شريعتي فابقوا على شريعتي حتى تعلموا نسخها ، وإذا وجب العمل بقوله هذا يتعيّن به تكليف الشاك. فإن قلت : الشاك في النسخ شاك في نسخ هذا الحكم أيضا فكيف يتمسك به. قلت : هذا الحكم غير قابل للنسخ ، إذ مورده الشك في النسخ فلو كان منسوخا بالنسبة إلى الشاك لم يبق له مورد ويصير لغوا. وبعبارة اخرى لا يجوز النسخ قبل وقت العمل على ما حقق في محله ، نعم هذا إنما يتم فيما لو دل الدليل على البناء على الشرع السابق عند الشك فيه صريحا ، وأمّا إذا كان دالا على البناء على الحالة السابقة على نحو العموم فيمكن كونه منسوخا ، ولا يلزم النسخ قبل وقت العمل لأنه قد حضر وقت عمله في سائر أفراد العام غير الشك في النسخ وهو كاف في صحة النسخ.

وأمّا على الثالث فلدوران الأمر واقعا بين بقاء الشرع السابق في زمان الشك أو نسخه بثبوت الشرع اللاحق ، والآخذ بالشرع السابق حال الشك مصيب على كلا الاحتمالين ، فإنه إن كان الشرع السابق باقيا غير منسوخ فقد أخذ به وإن كان منسوخا بالشرع اللاحق فقد أخذ بمقتضى الاستصحاب الثابت في الشرع اللاحق ، فأخذه بالشرع السابق يشبه الاحتياط والأخذ بالطريق المأمون فيه.

ويؤيد أصل المطلب : أنّ بناء العقلاء عند الشك في نسخ الشريعة بدعوى

٣٠٤

من يدّعي النبوّة ونسخ الشريعة السابقة على العمل على الشريعة السابقة حتى يعلم نسخها.

ثم لا يخفى أنّ ما ذكرنا كله إنما ينفع لمن شك في حقّية الشريعة اللاحقة بعد العلم بحقّية الشريعة السابقة واستمرارها إلى أن ينسخ فلا ينفع من كان متيقنا بإحدى الشريعتين فافهم.

قوله : فعلم مما ذكرنا أنّ ما يحكى من تمسك بعض أهل الكتاب في مناظرة بعض الفضلاء السادة (١).

قيل أنّ المناظر هو بحر العلوم السيد مهدي الطباطبائي وهو بعيد ، لأنه أجلّ شأنا من مثل هذه المناظرة وإفحامه كما حكاه في القوانين (٢) وقيل إنه السيد حسين أو السيد محسن القزويني ، وكيف ما كان الظاهر أنّ الكتابي لم يرد الاستدلال على حقّية دينه بالاستصحاب الظنّي الثابت في الشريعة التي ينكرها الكتابي جزما فإنه من أقبح الفساد ، بل عرفت أنه غير شاك في دينه ، وكذا السيد المناظر له ، بل غرضه إلزام المسلمين بما يعترفون به ويسلّمونه من الكتابي ومطالبة البيّنة على خلافه ، تقريره : أنّ المتسالم بيننا وبينكم أنّ موسى (عليه‌السلام) أو عيسى (عليه‌السلام) كان نبيا ، وأنّ نبوّته باقية إلى زماننا على تقدير عدم صحة نبوّة محمد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، وإنّما اختلفنا في صحة نبوّة محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، فعلى المدّعي الاثبات ، وهذا من دأب المناظرة فإنّ كل من يدّعي أمرا حادثا وقضية جديدة يطالبونه بالبيّنة ، فإن أقام غلب على خصمه وإن عجز انقطع لسانه في المناظرة ، ولا يدل ذلك على بطلان مدّعاه وحقّية مقالة الخصم ، بل

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٦٠.

(٢) القوانين ٢ : ٧٠.

٣٠٥

يمكن حقّية مدّعاه بدليل لا يحسنه المدّعي ، ولا يخفى أنّ هذا التقرير غير مبني على الاستصحاب وحجيته.

قوله : إلّا أن يريد جعل البيّنة على المسلمين (١).

قد أورد عليه بعض المحققين بأن جعل البيّنة على المسلمين أيضا مبني على الاستصحاب ليكون قول المسلمين مخالفا لأصل الاستصحاب ، فالكتابي متمسك بالأصل ويطلب البيّنة ممّن خالف قوله الأصل ، وإلّا فكل منهما مدّع يحتاج في إثبات حقّية دينه إلى بيّنة.

وفيه : ما عرفت من أنه يمكن الكتابي أن يجعل البيّنة على المسلمين أخذا بالمتسالم عليه في البين بحسب آداب المناظرة ، نعم ظاهر ما حكي عن الكتابي هو التشبّث بذيل الاستصحاب فيما أراده من الالزام أو جعل البيّنة على المسلمين ، ولعل الكتابي قد غفل عن معنى الاستصحاب وأنه حكم الشاك وظن أنّ البناء على الأمر السابق بأي وجه كان هو معنى الاستصحاب.

قوله : وقد أوضحنا فساده بما لا مزيد عليه (٢).

وأيضا يمكن أن يورد عليه بأنّ ما نحن فيه وهو الشك في النسخ من قبيل ما سلّم فيه جريان الاستصحاب وعدم حصول التعارض وهو الشك في الرافع بناء على كون النسخ من قبيل الرفع لا الدفع.

قوله : وثانيا : أنّ ما ذكره من أنّ الاطلاق غير ثابت لأنه في معنى القيد غير صحيح (٣).

الانصاف عدم ورود هذا الايراد عليه ، لأنّ فرض المحقق القمي (رحمه‌الله)

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٦٠.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٦٢.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ٢٦٣.

٣٠٦

أنه لم يثبت ما سوى مطلق النبوّة بدليل لبّي أو لفظي مجمل مردّد بين المحدودة والمستمرّة لا بلفظ مطلق في مقام البيان حتى يكون الأصل عند عدم ذكر القيد إرادة الاطلاق بمقدّمات الحكمة.

قوله : والحاصل أنّ هنا في الواقع الخ (١).

لا يخفى أنّ هذا الكلام ليس حاصل ما سبق بل هو وجه مستقل لردّ كلام المحقق إذ ما سبقه ليس إلّا أنّ الاطلاق موافق للأصل ولا يحتاج إلى الاثبات ، ومحصّل هذا الكلام أنّ واقع النبوّة مردّد بين المحدودة والمستمرة ، ولا فرق بين مطلق النبوّة والنبوّة المطلقة في تردّد واقعها بين الأمرين ، فلا وجه لاجراء الاستصحاب على أحدهما دون الآخر ، وهذا المطلب لا يرتبط بأنّ الاطلاق موافق للأصل.

ثم إنّ ما ذكره من عدم الفرق بين مطلق النبوّة والنبوّة المطلقة في إجراء الاستصحاب مدخول بوضوح الفرق ، فإنّ الأول مجمل مهمل لا يقتضي الاستمرار بخلاف الثاني فإنه يقتضي الاستمرار بظاهر الاطلاق فيجري الاستصحاب على تقديره ، نعم يرد عليه أنّ هذا يرجع إلى التمسك بالاطلاق دون الاستصحاب ، وهو كلام آخر سيجيء في المتن إيراده عليه مستقلا.

قوله : إلّا أن يريد بقرينة ما ذكره الخ (٢).

لا يحتمل كلام المحقق غير ذلك فتدبّر.

قوله : وأمّا ثانيا : فلأنّ الشك في رفع الحكم الشرعي إنما هو بحسب ظاهر دليله (٣).

لقائل أن يقول يكفي في إجراء الاستصحاب بمذاق المحقق ظهور دليل

__________________

(١ ، ٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٦٣.

(١ ، ٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٦٣.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ٢٦٤.

٣٠٧

الحكم في الاستمرار وإحراز الاستعداد بظاهر الدليل.

قوله : أمّا أوّلا : فلأنّ نسخ أكثر النبوّات لا يستلزم تحديدها (١).

وفيه : أنه بعد ما علمنا بنسخ أكثر النبوّات لا يبقى الظن باستمرار النبوّة المشكوكة البقاء وإن كان ظاهر أدلتها طرّا الاستمرار من الأول قبل النسخ ، وأيضا مجرّد دعوى الخصم ظهور أدلة النبوّات في الاستمرار لا يقبل منه من دون بيّنة ، فلم يحرز الاستعداد حتى يجري الاستصحاب على مذاق المحقق.

قوله : وأمّا ثانيا : فلأنّ غلبة التحديد في النبوّات غير مجدية (٢).

وفيه : أنّ غلبة التحديد مجدية في مقصود المحقق وهو منع إحراز استعداد البقاء في نبوّة يراد استصحابه لعدم إحراز غلبة الاستمرار ، وأيضا حصر مورد قاعدة الحمل على الأغلب فيما كان هناك أصناف ثلاثة غالب ونادر ومشكوك ممنوع بل مناطه وهو رجحان الظن في جانب الغالب يجري فيما كان هنا صنفان غالب ونادر ويشك في فرد أنه عين الفرد النادر أو من الأفراد الغالبة فلا ريب أنه يظن أنه من الغالب.

قوله : وأجاب بأنّ إطلاق الأحكام مع اقترانها ببشارة مجيء نبيّنا (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لا ينفعهم (٣).

كان المناسب أن يجيب بأنّ أحكام شرع النبي المفروض تابعة لنبوّته في النسخ والبقاء ، واستعداد بقائها تابع لاستعداد بقاء النبوّة ، فإن لم يحرز استعداد بقاء النبوّة كما هو المفروض لم يحرز استعداد بقاء ما يتبعه أيضا.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٦٥.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٦٥.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ٢٦٦.

٣٠٨

قوله : فاسد جدّا لأنّ العمل به على تقدير تسليم جوازه الخ (١).

منع بقاء الشاك على شكه بعد الفحص كلية ولو في فرد نادر خلاف الانصاف ، سلّمنا لكن يكفي في البناء على الاستصحاب أنّ الفحص يحتاج إلى زمان طويل في مثل مسألة النبوّة سيّما مع فصل طويل بين زمان بعث النبي (عليه‌السلام) وزماننا ، فهل ترضى أن تقول إنّ الشاك في مدّة الفحص ولو بلغت سنة وأزيد يترك دينه السابق ويبقى غير متديّن بدين ويشتغل بالفحص حتى يحصل له العلم بالدين الناسخ كلا ، بل المركوز في العقل وبناء العقلاء على الالتزام بالدين السابق حتى يعلم نسخه بالدين اللاحق ، نعم بالنسبة إلى أحكام الشريعتين لا يبعد دعوى أنّ حكم العقل فيها الاحتياط إن أمكن وإلّا فالعمل على الشريعة السابقة أيضا.

قوله : الثاني أنّ اعتبار الاستصحاب إن كان من باب الأخبار (٢).

قد عرفت سابقا أنه إن كان اعتبار الاستصحاب من باب التعبّد ينفع الكتابي ولو كان اعتباره في خصوص شرعنا ، بتقريب أنّ الواقع لا يخلو من حقّية إحدى الشريعتين ، فالأخذ بالشريعة السابقة مأمون الخطر لأنه الحكم الواقعي على تقدير حقّية الشريعة السابقة ، والظاهري على تقدير حقّية الشريعة اللاحقة ، وكذا إن كان اعتباره من باب الظن ينفع الكتابي ، وما أورد عليه من عدم حصول الظن قد عرفت ما فيه فإنّ المراد حصول الظن النوعي من جهة اليقين السابق كلية ، ومنع العمل بالظن في مسألة النبوّة أيضا في غير محلّه بالنسبة إلى الشاك الذي لم يقم له بيّنة بعد ، ومنع قيام الدليل على حجية هذا الظن سوى دليل الانسداد أيضا

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٦٦.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٦٧.

٣٠٩

غير واضح ، لما عرفت من حكم العقل وبناء العقلاء في خصوص مسألة النبوّة كما حكاه في المتن عن بعض معاصريه وهو صاحب الفصول (رحمه‌الله) وإن منعنا ذلك في غير هذه المسألة من موارد الاستصحاب.

قوله : الثالث أنّا لم نجزم بالمستصحب الخ (١).

لمانع أن يمنع حصر سبب علمنا بنبوّة موسى (عليه‌السلام) وعيسى (عليه‌السلام) في إخبار نبيّنا (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ، بل هي كسائر المتواترات من قصص القرون الخالية والأمم الماضية معلوم ثبوتها بالأخبار والتظافر وليست بأقل من شجاعة رستم وجود حاتم وعدالة أنوشيروان وسلطنة الأكاسرة والقياصرة وأمثالها من معلوماتنا المتواترة (٢).

قوله : وإلّا فأصل صفة النبوّة أمر قائم بنفس النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لا معنى لاستصحابه (٣).

لا شك أنّ النبوّة والإمامة رئاسة عامّة دينية إلهية قد أوجب الله تعالى على عباده الاعتقاد بهما لأشخاص خاصة ، وهذا المعنى قابل للبقاء كما أنه قابل للنسخ بالاضافة إلى أهل الأزمنة المتأخرة ، وبذلك يصح للمسلمين أن يقولوا إنّ نبينا محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) دون موسى (عليه‌السلام) وعيسى (عليه‌السلام) مع أنهم

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٦٩.

(٢) أقول : الإنصاف أنّ نبوّة الأنبياء السلف غير معلومة لنا من غير جهة إخبار نبيّنا (صلى‌الله‌عليه‌وآله) وإن كان وجودهم ودعواهم النبوّة معلوما بالتواتر ، وذلك لأنّ العلم بنبوّتهم موقوف على العلم بجريان المعجزات على أيديهم وأشياء أخر غير ذلك ، ونحن لم نعلم بهذه الجملة من غير جهة إخبار نبينا (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

(٣) فرائد الاصول ٣ : ٢٦٩.

٣١٠

معترفون بنبوة موسى (عليه‌السلام) وعيسى (عليه‌السلام) وسائر الأنبياء ، ويصح لنا اليوم أن نقول إمامنا في هذا العصر ابن العسكري (عليهما‌السلام) عجل الله تعالى فرجه دون علي بن أبي طالب (عليه‌السلام) والحسن (عليه‌السلام) والحسين (عليه‌السلام) مع اعترافنا بإمامتهم ، والمعنى أنّ رئاسة الأنبياء السلف بكونهم مبلّغي الأحكام وواسطة بين الله تعالى والخلق قد انقضت وانتقلت الرئاسة والرسالة إلى نبيّنا (صلى‌الله‌عليه‌وآله) من زمن بعثه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) بالاضافة إلى أهل زمانه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) ومن بعده ، وهكذا إمامة الأئمة (عليهم‌السلام) السابقة على الإمام الثاني عشر (عليه‌السلام) كانت بالاضافة إلى أهل زمانهم وانتقل تلك الامامة والرئاسة بعدهم إلى الامام المنتظر (عليه‌السلام) بالاضافة إلى أهل زمانه وإمامته (عليه‌السلام) باقية إلى زماننا هذا ، يجب الاعتقاد بذلك كلّه ، فقوله في المتن لا معنى لاستصحاب وصف النبوّة لعدم قابليته للارتفاع ، إن أراد به ارتفاع وصف النبوّة عن النبي بالاضافة إلى خصوص امته فهو كذلك ولا كلام فيه ، وإن أراد ارتفاعه بالاضافة إلى مطلق أهل الأزمنة المتأخرة فقد عرفت أنه قابل للارتفاع بأن يبعث الله إليهم غيره ويوجب عليهم الاعتقاد بنبوته عليهم دون النبي السابق ، وذلك واضح إن شاء الله تعالى.

قوله : ولا ريب أنّا قاطعون بأنّ من أعظم ما جاء به النبي الخ (١).

هذا الجواب وإن صح في مقام المجادلة مع الخصم إلّا أنه لا يحسم مادّة الشبهة في إجراء استصحاب الشريعة السابقة ، فلو ادّعى أحد بأنّي عالم بجميع ما جاء به النبي السابق من الأحكام ما عدا البشارة المذكورة فإنّي شاك فيها ، أو سلّم ذلك أيضا وقال إنّي شاك في أنّ النبي المبشّر به هو هذا أو لم يوجد بعد ، لم يمنع

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٦٩ ـ ٢٧٠.

٣١١

مانع من أن تستصحب الأحكام المزبورة حتى يعلم نسخها ، نعم ليس للكتابي أن يلزمنا بذلك لأنّا لا نشك في تحقق البشارة المذكورة وأن المبشّر به هو نبينا (صلى‌الله‌عليه‌وآله).

قوله : الخامس أن يقال إنّا معاشر المسلمين الخ (١).

لا يخفى أنّ إيراد الكتابي وهو أنّ موسى بن عمران (عليه‌السلام) أو عيسى ابن مريم (عليه‌السلام) شخص معيّن وجزئي حقيقي اعترف المسلمون بنبوّته على أي نحو كان فتستصحب نبوّته إلى أن يعلم النسخ وارد عليه ظاهرا. ويمكن أن يوجّه بوجه لا يرد عليه ذلك ، وهو أن يقال إن ما اعترف به المسلمون ليس إلّا النبوّة المغيّاة بمجيء محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) لا النبوّة المطلقة أو المجملة المحتملة للبقاء ، بل المقيّدة بالغاية التي لا تحتمل البقاء بعدها ، فلم يبق محل للاستصحاب ، وأنت خبير بأنّ هذا الجواب أيضا بعد اللتيا والتي إنما يصح في مقام المجادلة وإلّا فليست النبوّة المقيّدة بالغاية نوعا من النبوّة والنبوّة غير المقيّدة بها نوعا آخر كي يصح الاعتراف بأحدهما وإنكار الآخر ، بل هي حقيقة واحدة قد تنسخ وقد لا تنسخ.

وحينئذ فالتحقيق في جواب الكتابي أن يقال : إنّ الاستصحاب حكم الشاك بعد الفحص المعتبر ولا شك للمسلمين في حقّية دينهم بل وكذا أهل الكتاب في الأغلب ، ولو فرض حصول الشك لأحد من أهل الفريقين علينا أن نقيم البيّنة حتى يرتفع شكّه ، وعليه أن ينظر في صحة بيّنتنا حتّى يزيل الشك عن نفسه ، ولا محل للعمل بالاستصحاب قبل ذلك ، ولو فرض أنه لم يرتفع شكه بعد كمال الفحص والنظر وبذل غاية الجهد فلا غائلة في استصحاب الشريعة السابقة على

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٧٠.

٣١٢

تقدير العلم بها بالبيّنة في هذا الفرض النادر على أحد الوجوه التي قررناها من ثبوت حجية الاستصحاب عنده في كلتا الشريعتين أو إحداهما أو ثبوت حجية خصوص هذا الاستصحاب بحكم العقل وبناء العقلاء كما عرفت الوجه فيه سابقا ، وليس هذا دليلا على حقّية مذهب الكتابي في هذا الزمان كما أراده بل هذا حكم عمل الشاك الكذائي الذي لم يتحقق وجوده إلّا في فرض نادر غاية الندرة.

قوله : الحق هو التفصيل في المقام (١).

قد أشار إلى هذا التفصيل في بحث خيار الغبن من كتاب المكاسب (٢) ببيان أبسط وأوفى ، ومن جملة ما فرّق بين القسمين هناك أنّ الزمان قد اخذ في القسم الأول الذي لا يجري فيه الاستصحاب قيدا وفي القسم الثاني الذي لا يرجع إلى العموم ظرفا فليكن هذا على ذكر منك.

ثم إنه يرد على البيان الذي ذكره هنا أوّلا : أنّا لا نجد فرقا بين قوله أكرم العلماء في كل يوم وقوله أكرم العلماء دائما في كون الخطاب ناظرا إلى جميع أزمان الأيام ، غاية الأمر أنّ كل يوم ملحوظ في الأول بلحاظ الاستقلال بالعموم الأفرادي وفي الثاني بلحاظ غير الاستقلالي في ضمن الدوام والاستمرار نظير العام المجموعي ، وأنت خبير بأنه لا يتفاوت الأمر في ذلك من حيث شمول اللفظ لجميع أفراد الأيام وظهوره في الجميع بحيث يكون خروج كل يوم منافيا لهذا الظهور ، ولو فرض خروج يوم مثلا يكون اللفظ ظاهرا في الباقي في كلتا الصورتين ، أما في الصورة الاولى فواضح ، وأمّا في الصورة الثانية فلأنّ إكرام زيد

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٧٤.

(٢) المكاسب ٥ : ٢٠٧ ـ ٢٠٩.

٣١٣

في كل جزء من أجزاء الزمان وكذا إكرام عمرو وبكر إلى غير ذلك من أفراد العالم في كل زمان قد وجب بهذا الخطاب بوجوب مستقل غير مرتبط بعضها ببعض بحيث لو خالف وترك الاكرام في بعض الأيام كان عاصيا مطلقا ، بل يكون عاصيا فيما ترك وممتثلا بالنسبة إلى الأيام الأخر التي لم يترك الاكرام فيها ، يوضّح ذلك ما لو قال أكرم زيدا دائما مثلا فإنّا لا نفهم منه أنّ إكرامه في جميع الأزمنة تكليف واحد ارتباطي بحيث لو ترك الاكرام في زمان ما لم يمتثل أصلا وإن أتى به في سائر الأزمنة ، بل ينحل هذا التكليف إلى تكاليف نظير الدوام المفهوم من النهي على القول به.

إذا عرفت ذلك عرفت أنه لا فرق بين العبارتين في أنه إذا خرج فرد من العام باعتبار يوم مثلا كان ظهور الخطاب بالنسبة إلى باقي الأيام باقيا ، فلو شك في خروج يوم آخر يدفعه ظهور الخطاب على التقديرين ، ولا وجه للتمسك بالعموم في العبارة الاولى دون الثانية.

وثانيا : أنّ ما يستفاد منه من أنّ مناط جريان الاستصحاب وعدمه ملاحظة حال العموم في اعتبار أجزاء الزمان أفرادا أو أمرا مستمرا على ما ذكره هنا ، أو اعتبار الزمان قيدا أو ظرفا كما ذكره في كتاب المكاسب ، مدخول بأنّ المناط ملاحظة حال المخصص ، لأنّ المستصحب حكم الخاص فلا بدّ أن ينظر إليه ، فإن اخذ الزمان في دليل المخصص قيدا لا يمكن استصحاب حكم ذلك الزمان إلى ما بعده لأنه من قبيل إسراء حكم موضوع إلى موضوع آخر ، وإن اخذ ظرفا يمكن استصحابه إلى ما بعد ذلك عند الشك سواء كان لسان دليل العام في الصورتين على الظرفية أو القيدية وهو واضح.

وأيضا يرد عليه على هذا المبنى إيراد آخر ، وهو أنّ ما ذكره من أنه في

٣١٤

صورة قيدية الزمان ليس محلا لاستصحاب حكم المخصص ولو لم يكن هناك عموم ، فيه : أنه لو لم يكن عموم فما المانع من استصحاب حكم المخصص.

وثالثا : أنّ ما ذكره من أنه لو كان الزمان مأخوذا لبيان الاستمرار كما هو كذلك في قوله : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١) على ما اختاره لم يكن محلا للرجوع إلى العموم ولو لم يجر الاستصحاب.

فيه : أنّ لازمه عدم جواز التمسك بعموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) في البيع أصلا ، لأنّ جميع أفراده قد خرج عن العموم في زمان ما باعتبار خيار المجلس في الكل وباعتبار خيار الحيوان والشرط والعيب في الأغلب ، وعلى ما ذكره إذا خرج فرد عن العموم في هذه الصورة ولو في زمان ما لا يمكن دخوله في العام ثانيا ، فيبقى لزوم العقد بعد انقضاء زمان الخيار خاليا عن الدليل.

فإن قلت : أدلة خيار المجلس والحيوان والشرط ونحوها مقيدة لاطلاق العقود ليس من باب التخصيص ، فكأنه قال أوفوا بالعقود بعد المجلس وبعد الثلاثة في الحيوان وهكذا.

قلت : فيلتزم مثل ذلك في خيار الغبن وإلّا فما الفارق حيث جعله من باب التخصيص ليمنع من التمسك بالعموم. والتحقيق في فقه المسألة ما حكي عن الشيخ أسد الله التستري من أنّ المسألة مبنية على استفادة العموم الزماني من قوله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) وأنه في قوة أن يقال أوفوا بالعقود دائما بشهادة فهم العرف وأنّ قصد المتعاطيين هو ذلك ، وليس المراد بالوفاء سوى الجري على مقتضى ما أنشأه المتعاطيان في قصدهم ، فلو خرج جزء من الزمان عن حكم وجوب الوفاء بدليل بقي الباقي تحت العام ، وعند الشك فالمرجع العموم ، أو عدم استفادة هذا

__________________

(١) المائدة ٥ : ١.

٣١٥

العموم في أوفوا وأنّ مفاد العقد الصادر من المتعاملين هو مطلق التمليك والتملّك في آن تحقق العقد ، وأمّا بقاء ملكية الطرفين فمستند إلى الاستصحاب ، فحينئذ نقول في مسألة ما نحن فيه لو شك في بقاء خيار الغبن بعد زمان الفور يتعارض استصحاب الخيار مع استصحاب الملكية ويقدم عليه لحكومته لأنّ الشك في بقاء الملك ناش عن تأثير الفسخ وعدمه ، والأقوى هو الأول.

قوله : ثانيها ما ذكره بعض من قارب عصرنا من الفحول (١).

قيل هو بحر العلوم (رحمه‌الله) (٢).

قوله : على ما لخّصه بعض المعاصرين (٣).

هو صاحب الفصول (رحمه‌الله) حكى ذلك في آخر فصل تخصيص الكتاب بخبر الواحد من مباحث العام والخاص ، ثم قال : ولا يخفى ما فيه ، بل التحقيق أنّ هنا مقامين : الأول تخصيص العام ورفع شموله لبعض ما يتناوله بالاستصحاب ، والثاني إبقاء حكم التخصيص بعد قيام دليله في بعض ما يتناوله العام بالاستصحاب ، ثم شرع في تحقيق حكم المقامين ببيان طويل ملخّصه أنه في المقام الأول لا وجه لحجية الاستصحاب ، لأنّ أدلة حجيته مقصورة على صورة عدم الدليل على الحكم ، والعام الاجتهادي في الفرض دليل ، وفي المقام الثاني لا ريب في حجية الاستصحاب لو كان جامعا لشرائط الحجية لكنه ليس من تخصيص العام بالاستصحاب في شيء ، ثم قال فاتّضح مما حقّقنا أنّ الفاضل المذكور قد خلط بين المقامين من حيث إنّ صدر كلامه يدل على مصيره إلى

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٧٦.

(٢) فوائد السيّد بحر العلوم : ١١٦ ـ ١١٧.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ٢٧٧.

٣١٦

الجواز في المقام الأول وذيله يدلّ على إثبات الجواز في المقام الثاني (١) انتهى.

والتحقيق أن يقال إنّ هنا مقامات ثلاثة : الأول أن يراد تخصيص العام الاجتهادي بمجرد الاستصحاب كما إذا اريد تخصيص عموم قوله كل ملح حلال وطاهر باستصحاب حرمة الملح المستحيل من الكلب ونجاسته ، وكما إذا اريد تخصيص عموم قوله بول الغنم طاهر وقوله دم البق والبرغوث طاهر باستصحاب نجاسة البول أو الدم الذي شربه الغنم أو امتصه البق من بول غير المأكول ودمه ، وكما إذا اريد تخصيص عموم قوله إذا بلغ الماء قدر كرّ لم يحمل خبثا بناء على أنه أعم من الرفع والدفع باستصحاب نجاسة الماء النجس المتمم كرا ، إلى غير ذلك من الأمثلة.

الثاني : أن يراد إبقاء حكم المخصص بالاستصحاب فيما إذا ورد عام وورد مخصص ثم شك في بقاء حكم المخصص بعد ثبوته في برهة من الزمان كما إذا ورد أكرم العلماء في كل يوم أو دائما وثبت عدم وجوب إكرام فرد يوم الجمعة وشك في الحكم فيما بعد يوم الجمعة ، ومثله مسألة خيار الغبن بالنسبة إلى عموم (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.)

الثالث : أن يراد إبقاء موضوع المخصص بالاستصحاب كما إذا ورد أكرم العلماء إلّا فسّاقهم وكان زيد فاسقا وشك في بقاء فسقه ، وقد عرفت أنّ مختار صاحب الفصول في المقام الأول العمل على العموم وفي الأخيرين العمل بالاستصحاب.

ونحن نقول : أمّا المقام الأول فالحق معه لما ذكره من أنّ العام دليل ولا مجرى للاستصحاب إلّا مع فقد الدليل ، وهكذا نقول في المقام الثاني مع فرض

__________________

(١) الفصول الغروية : ٢١٤ ـ ٢١٥.

٣١٧

وجود العموم الأزماني بعين ما ذكره من الدليل ، وأمّا المقام الثالث ، فالمسألة مبنية على القول بجواز التمسك بالعموم في الشبهات المصداقية وعدمه فعلى الأول فالمرجع العموم أيضا وعلى الثاني يرجع إلى الاستصحاب.

قوله : وغرضه أنّ مؤدّى الاستصحاب (١).

لا يخفى ما في هذه العبارة إلى آخره من الاضطراب وسوء التأدية ، وفي بعض النسخ يوجد أو غرضه بدل الواو ، وبدل قوله وكذلك الاستصحاب بالنسبة إلى العمومات الاجتهادية الخ ، فكذلك بالفاء ، والأظهر ما في نسختنا إذ على نسخة أو يكون قوله غرضه الخ توجيها آخر لكلام بحر العلوم مع أن ما عقّبه به تتمة للتوجيه الأول كما لا يخفى ، نعم قوله وكذلك إلى آخره توجيه آخر وكان المناسب أن يعطفه على الأول بأو.

قوله : فافهم (٢).

لعلّ وجهه أنّ هذا الكلام الأخير عين ما أنكره أوّلا على بحر العلوم قائلا إنّ مورد جريان الاستصحاب والأخذ بالعموم متغايران لا يجتمعان فكيف يجعله توجيها لكلامه ويرتضيه فافهم.

قوله : فيما إذا تعذّر بعض أجزاء المركّب فيستصحب وجوب الباقي (٣).

ظاهر العنوان أنّ مورد الكلام في هذا البحث تعذّر الجزء المعلوم الجزئية ، والحق أنه إذا تعذّر الجزء المشكوك الجزئية أيضا يدخل في هذا البحث وإن قلنا بالبراءة من الجزء المشكوك قبل تعذّره ، وذلك لأنّ المركّب الخالي عن الجزء

__________________

(١ ، ٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٧٨.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ٢٧٩.

٣١٨

المشكوك قبل تعذّر المشكوك معلوم الوجوب على كل تقدير مردّدا بين النفسي والغيري ، وإنما الشك متعلق بالجزء المشكوك ، فيمكن الحكم بعدم وجوبه بأصالة البراءة ، أمّا إذا تعذّر الجزء المشكوك فالأجزاء المعلومة الجزئية غير معلومة الوجوب لمكان احتمال جزئية المشكوك وسقوط الوجوب بتعذّره من أصله ، فاثبات وجوب بقية الأجزاء حينئذ لا يمكن إلّا بجريان الاستصحاب كما في صورة تعذّر الجزء المعلوم الجزئية.

ثم اعلم أنه قد يعارض استصحاب وجوب الأجزاء الميسورة على تقدير جريانه باستصحاب عدم وجوب تلك الأجزاء منفردة قبل التعذّر وإنما كانت واجبة بقيد الانضمام إلى الجزء المتعذّر ولم تكن واجبة بدون الانضمام إلى المتعذّر ، ومرجعه إلى استصحاب جزئية المتعذّر ويترتّب عليه سقوط التكليف.

قوله : ويمكن توجيهه بناء على ما عرفت من جواز إبقاء القدر المشترك (١).

هذا التوجيه مضافا إلى إشكال استصحاب الكلّي فيه إشكال آخر في بعض موارده ، وهو أنه قد يتبدّل عنوان موضوع المستصحب فيه ، مثلا إذا تعذّر بعض أجزاء الصلاة فربما لا يصدق على بقية الأجزاء عنوان الصلاة ، ولا ريب أنّ وجوب تلك الأجزاء سابقا كان من حيث عنوان الصلاة وكونها مما يتحقق به الصلاة فلو فرضنا أنّ هذه الأجزاء لا يصدق عليها عنوان الصلاة فلا بدّ أن يكون وجوبها إن ثبت باعتبار آخر غير عنوان الصلاتية ، وحينئذ يقال إنّ وجوبها بعنوان الصلاتية معلوم الانتفاء وبغير ذلك العنوان مشكوك الحدوث ، وهذا نظير ما لو ثبت وجوب إكرام الفقراء وكان زيد فقيرا فكان واجب الاكرام ثم صار غنيا واحتملنا

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٧٩.

٣١٩

بقاء وجوب إكرامه من حيث إنه عالم ونحتمل وجوب إكرام العلماء أيضا كالفقراء فيقال الأصل بقاء وجوب إكرام زيد. وفيه : أنّ وجوب إكرامه بعنوان الفقر مقطوع العدم وبعنوان أنه عالم مشكوك الحدوث.

قوله : إلّا أنّ العرف لا يرونها مغايرة في الخارج لمطلوبية الجزء في نفسه (١).

دفع لما يقال من أنّ هذا الاستصحاب على هذا التوجيه يدخل في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي ولم نقل بحجيته ، فأجاب بأنه من قبيل السواد الشديد والضعيف وقد مر أنه يصح إثبات الثاني باستصحاب الأول بعد القطع بارتفاعه ، لأنهما يعدّان شيئا واحدا في نظر العرف وإن كانا متباينين بالدقة العقلية.

بقي شيء : وهو أنه قد سبق في محله أنّ استصحاب الكلي إنما يجري فيما إذا كان القدر المشترك ذا أثر شرعي ، وحينئذ فقد يورد على استصحاب القدر المشترك فيما نحن فيه بأنّ القدر المشترك بين الوجوب الغيري والنفسي لا أثر له شرعا ليصح استصحابه.

والجواب : أنه لا يلزم في استصحاب نفس الحكم الشرعي وجود أثر يترتب عليه ، بل يكفي أنه يتحقق به موضوع حكم العقل بوجوب الاطاعة.

قوله : ويمكن توجيهه بوجه آخر (٢).

هذا الوجه وإن اختاره المصنف أزيف الوجوه ، حيث إن عدّ المركّب الفاقد للجزء المتعذّر عين الواجد له في نظر العرف بالمسامحة كما ترى ، ولا اعتبار بهذا

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٨٠.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٨٠.

٣٢٠