حاشية فرائد الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-091-8
الصفحات: ٥٥٦
الجزء ٢ الجزء ٣

قوله اجلس إلى الغروب كاف في رفع الشك ، مدفوع بما عرفت من أنّ النسخ رافع للحكم الثابت بدليله فلا ينافي النسخ دليل أصل الحكم ، نعم لو شك في خروج بعض أجزاء الوقت من الدليل وإرادة وجوب جلوس بعض المدة المفروضة من الدليل يدفعه ظاهر الدليل فليتأمّل فإنه دقيق.

قوله : وإلّا لم يجر استصحاب الحكم التكليفي لأنه كان متحققا بقيد ذلك الوقت (١).

ويرد عليه أنه قد لا يكون الوقت في الموقت قيدا للواجب بل يكون ظرفا له ، وحينئذ يجوز استصحاب حكمه من غير احتياج إلى إثبات الوقت ، لأنّ المطلوب مطلق الفعل من دون قيد.

فإن قلت : لا معنى للموقت إلّا ما يكون الوقت فيه قيدا وإلّا لجاز فعله في غير الوقت المضروب له ، ولكان كل واجب موقتا ضرورة احتياجه إلى ظرف الزمان فاندفع الايراد.

قلت : لا يلزم في الموقت أن يكون الوقت قيدا للواجب بل يمكن أن يكون قيدا للطلب ويكون الواجب بلا قيد فيصح استصحاب حكمه والاتيان به ، وعلى هذا فمحصّل الايراد أنه لو فرض كون الوقت قيدا للواجب كما يستفاد من كلام الماتن في التنبيهات من أنّ جميع القيود المأخوذة في الحكم يرجع إلى قيد الموضوع فالأمر كما ذكره من أنّه لا ينفع استصحاب الحكم حتى بناء على الوجه الأخير الذي أشار إليه بقوله اللهمّ إلّا أن يقال إنّه يكفي في الاستصحاب تنجّز التكليف سابقا الخ ، لأنّ استصحاب الوجوب لا ينفع في تحصيل قيد الواجب البتة ، فلو فرض أنّ الواجب هو الامساك النهاري فعند الشك في كون الزمان نهارا

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٣٤ ـ ١٣٥.

١٦١

لا يمكن للمكلّف أن يأتي بالامساك ويقول إنه امساك نهاري ، لكن هذا المبنى ضعيف أعني إرجاع جميع القيود إلى قيد الموضوع ، وسيأتي توضيحه عند تعرّض المصنف له في المتن إن شاء الله تعالى ، وإن فرض كون الوقت قيدا للوجوب فلا وجه لمنع استصحاب الوجوب.

فإن قلت : إنّ الوجوب السابق المستصحب كان مقيدا بالوقت وبعد استصحابه لا يعلم أنّ هذا الوجوب الثابت في الزمان الثاني عين الوجوب السابق لعدم العلم بقيده أي الوقت ، فإمّا أن يستصحب قيده أيضا وهو مغن عن استصحاب الحكم ، وإمّا أن لا يستصحب وقته فلا يمكن أن يثبت الوجوب السابق باستصحابه.

قلت : لا يلزم أن يعلم أنّ الوجوب المستصحب عين الوجوب السابق بجميع قيوده وإلّا لم يكن مشكوكا ، فكلّما يشك في بقاء حكم وجوبا كان أو غيره يكون منشأ الشك فقدان بعض الامور المشكوكة الشرطية أو عروض بعض الامور المحتملة المانعية ، وهذا المقدار من التغيير ممّا لا بدّ منه في عروض الشك فافهم.

قوله : وأصالة بقاء الحكم المقيّد بالنهار في هذا الزمان لا يثبت كون هذا الزمان نهارا (١).

لا نحتاج إلى إثبات كون الزمان نهارا لو كان الوقت قيدا للحكم دون الموضوع كما عرفت ، بل يكفي بقاء الحكم الخاص أي المقيد بالنهار باستصحابه ، وقد مر نظيره في استصحاب زوجية زيد عند الشك في حياته فتذكّر.

قوله : اللهمّ إلّا أن يقال الخ (٢).

إن اريد استصحاب التكليف الذي كان مقيدا بالوقت وكان منجّزا بحضور

__________________

(١ ، ٢) فرائد الاصول ٣ : ١٣٥.

١٦٢

وقته فهو عين ما منعه في سابقه وقد عرفت أنّ المنع كان في غير محله ، وهل يكون مراد المورد إلّا هذا ، وإن اريد استصحاب التكليف الذي كان موضوعه مقيدا بالوقت فقد عرفت أنّه غير نافع في تحصيل قيد الفعل.

قوله : نعم لو فرض في مقام عدم جريان الاستصحاب في الشكّ في الوقت الخ (١).

التحقيق جريان استصحاب الوقت ، إذ لا فرق بين الشبهة الموضوعية التي سلّم جريان الاستصحاب فيها وبين الشبهة الحكمية في توقيت الحكم أو الموضوع بوقت واقعي شك في بقائه ، والعلم بمفهوم الوقت الكلّي لا يمنع جريان استصحابه في مصاديقه. ثم إن لم يجر استصحاب الوقت لزم الماتن أن يقول بعدم جريان استصحاب الحكم أيضا لما ذكره قبيل هذا من أنه كان مقيدا بالوقت إلى آخر ما ذكره ، اللهمّ إلّا بما وجّهه بقوله اللهم الخ.

وقد يقال في الفرق بين الشبهة الموضوعية والحكمية ، حيث إنه سلّم جريان استصحاب الوقت في الأول دون الثاني ، أنّ الشك في الثاني من قبيل الشك في المقتضي وفي الأول من قبيل الشك في الرافع.

وفيه أوّلا : أنّ الشك في كليهما في المقتضي بحسب الدقة ، ويمكن إرجاع كل منهما إلى الشك في الرافع بالتقريب الآتي في المتن في تنبيهات المسألة.

وثانيا : أنّ المصنف يسلّم جريان استصحاب الحكم في الثاني بعد منع جريان استصحاب الوقت مع أنّ الشك فيه من قبيل الشك في المقتضي أيضا هذا ، ولعل المصنف أشار إلى بعض ما ذكرنا هنا وفي الحاشية السابقة بقوله فتأمّل في آخر الكلام.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٣٥.

١٦٣

قوله : قد يورد عليه النقض بما عرفت حاله في العبارة الاولى (١).

الذي يمكن توجيهه من الايرادات الثلاثة التي أوردت نقضا على العبارة الاولى أوسطها ، وأمّا النقض الأخير فلا يتوجّه قطعا كما لا يخفى ، وأمّا النقض الأول وهو الشك في النسخ فقد يقال بتوجّهه هنا أيضا إلّا أنه يكون نسخا قبل حضور وقت العمل ، وعدم جوازه معروف فليتأمّل.

قوله : إمّا أن يراد به المسارعة في أول أزمنة الامكان (٢).

التحقيق من هذه الوجوه الثلاثة هو الوجه الأول إن قيل بالفور من جهة قيام الدليل الخارجي عليه من مثل قوله تعالى (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)(٣) وقوله تعالى (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ)(٤) والوجه الثاني إن قيل بالفور من جهة دلالة الأمر عليه ، وسرّه أنه على الأول يكون من باب تعدّد المطلوب فإن عصى أمر المسارعة يبقى الأمر المطلق بالفعل على حاله ويتوجّه إليه أمر المسارعة ثانيا فإن عصاه أيضا فيتوجّه إليه ثالثا وهكذا ، وعلى الثاني يكون هناك أمر واحد مستعمل في معنى واحد هو طلب الفعل مقيّدا بالفور فلا أمر بعده ، وبالجملة إرادة الوجه الأول أو الأخير لا يمكن إلّا بوجه تعدد المطلوب ولا يستعمل الصيغة الواحدة في معنيين ، اللهم إلّا أن يدّعى أنّ المطلوب الأول أعني طلب أصل الفعل يفهم من الأمر والفورية تفهم من إطلاقه وهو أيضا كما ترى لا يساعده كلماتهم وإن احتمله الشيخ محمد تقي في حاشية المعالم.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٣٧.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ١٣٨.

(٣) آل عمران ٣ : ١٣٣.

(٤) البقرة ٢ : ١٤٨.

١٦٤

ثم إنّ لصاحب الحاشية (١) هنا مسلكا لا بأس بالاشارة إليه فإنه قال ما محصّله : إنه لو دل الأمر على الفور يمكن أن تكون الفورية قيدا للطلب وأن تكون قيدا للمطلوب ، وعلى التقديرين يكون مفاده وجوب الواجب ووجوب فوريته على معنى فورا ففورا ، وليس مثل قوله صم غدا في سقوط التكليف فيما بعد الغد ، ثم اختار كون الفور قيدا للطلب وبيّنه ببيان طويل تمسك له بفهم العرف ذلك ، فمن أراده فليراجع كلامه.

ولكن قد عرفت أنه بناء على كون الفورية مستفادة من صيغة الأمر لا يمكن أن يكون من باب تعدد المطلوب ولا فرق بينه وبين قوله صم غدا.

ثم إنّ كون الفورية قيدا للطلب لا نعقله سيما مع تصريحه بأنّ الطلب كما تعلق بالواجب تعلق بالفورية أيضا.

قوله : كما إذا شككنا في أنّ الأمر بالغسل في يوم الجمعة الخ (٢).

كون المسألة وكذا مسألة زكاة الفطرة من قبيل تردّدها بين الموقت والمطلق محل تأمّل بل منع ، لأنّها من قبيل الموقت المردّد وقته إلى غاية كذا أو غاية كذا.

قوله : كحرمة الوطء للحائض الخ (٣).

فيه سؤال الفرق بين هذا المثال والمثال الذي ذكره قبيل هذا في قوله وكذا لو أمر المولى بفعل له استمرار في الجملة كالجلوس في المسجد ولم يعلم مقداره ، حيث اختار فيه أنه مجرى للبراءة دون الاستصحاب ، وفي هذا المثال سلّم أنه مجرى للاستصحاب ، مع أنه لا فرق بينهما ، واحتمال كون الفعل في جميع الوقت مطلوبا واحدا أو مطلوبات متعددة بحسب أجزاء الوقت آت فيهما.

__________________

(١) هداية المسترشدين ٢ : ٧٣ ـ ٧٥.

(٢ ، ٣) فرائد الاصول ٣ : ١٣٩.

١٦٥

قوله : الظاهر أنّ مراده من سببية السبب تأثيره لا كونه سببا في الشرع وهو الحكم الوضعي (١).

نعم الظاهر ذلك ، إلّا أنّ مقدار تأثير سببية السبب أيضا يرجع إلى الحكم الوضعي بل عينه ، فإنّ كيفية سببية السبب لها جهتان : إحداهما من حيث إنّها جارية في جميع أفرادها التي توجد في تمادي الأيام إلى يوم القيامة ، وهذه الجهة غايتها النسخ ، الثانية من حيث إنّها في كل فرد يوجد من أفراد السبب هل هي ثابتة على الاطلاق أو مختصّة بالوقت الأول مثلا.

قوله : وإن أراد من ذلك نفي مورد يشك في كيفية سببية السبب ليجري الاستصحاب في المسبب (٢).

هنا شق ثالث وهو مراد الفاضل ظاهرا بل قطعا ، وهو أنه أراد نفي مورد يشك في كيفية سببية السبب ليجري استصحاب السببية التي هي نفس الحكم الوضعي فلا داعي على حمل كلامه على نفي مورد يجري فيه استصحاب المسبب.

قوله : لم أعرف المراد من إلحاق الشرط والمانع بالسبب (٣).

مراده واضح ، فإنّ كلا من الشرط والمانع له دخل في تحقق المشروط وإن لم يكن مؤثّرا كتأثير السبب بل يكون له حظ من التأثير ، وهذه المدخلية والتأثير يجري فيها الأقسام المذكورة في السبب بعينها ولم نعرف وجه عدم جريانها ، وأيضا يكفي في صحة جريان الأقسام ما ذكره في المتن من ملاحظة كون المانع

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٣٩.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ١٤٠.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ١٤٠.

١٦٦

سببا للعدم ، وكون عدم الشرط أيضا سببا للعدم ، قوله إنه بهذا الاعتبار داخل في السبب ، فيه أنه لا يدخل بذلك في السبب الاصطلاحي الذي يجعل قسيما للشرط والمانع.

قوله : فإنه لم يظهر من كلامه جريان الاستصحاب في الأحكام الوضعية (١).

بل قد ظهر من كلامه ذلك على تقدير صحته ، إذ لو صح عدم وقوع الشك في أقسام الأحكام التكليفية وكذا أقسام الأحكام الوضعية ، ولم يبق إلّا نفس الأسباب والشرائط والموانع التي هي موضوعات للأحكام الوضعية ، فلا مناص إلّا أن يكون الاستصحاب المختلف فيه منحصرا فيها وإلّا لم يكن مورد لمحل الخلاف أصلا.

قوله : فبقي أمران أحدهما الخ (٢).

لم يبق إلّا أمر واحد وهو موضوعات الأحكام الوضعية ، لما عرفت من أنّ مراده من تقسيمه الأحكام الوضعية إلى أقسامه ونفي الشك فيها أنها ليست موردا للاستصحاب في شيء ، والمصنف (رحمه‌الله) لمّا حمل كلامه هناك على نفي جريان الاستصحاب في المسببات زعم أنه بقي أمران.

قوله : إن كان أمرا غير شرعي الخ (٣).

يرد عليه أنه لو كان محل الكلام في الاستصحاب المختلف فيه هي الامور الشرعية فقط كان ما أورد على العبارة الاولى من كلام الفاضل التوني من

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٤٢.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ١٤٢.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ١٤٢.

١٦٧

استصحاب الوقت في غير محلّه ، لأنّ الوقت أمر غير شرعي.

قوله : وقد سبق منه المنع عن جريان الاستصحاب في المسبب (١).

وقد سبق أنه إنّما منع من جريان استصحاب السببية التي من الأحكام الوضعية.

قوله : مدفوعة بأنّ النجاسة كما حكاه المفصّل عن الشهيد (رحمه‌الله) (٢).

لعلّ المفصّل (رحمه‌الله) لا يسلّم هو ما حكاه عن الشهيد (رحمه‌الله) من أنّ النجاسة عبارة عن وجوب الاجتناب ، وحينئذ يصح له أن يفصّل في المسألة كما فصّل.

قوله : إنّ استصحاب النجاسة لا يعقل له معنى إلّا ترتيب أثرها (٣).

قد عرفت سابقا أنّ استصحاب النجاسة بل سائر الموضوعات حتى الامور الخارجية معقول ، بمعنى الحكم ببقائها تنزيلا ، لكن لغرض ترتّب أحكامها ، وليس معنى استصحاب الموضوع إلّا ذلك ، إلّا أنّ الايراد على هذا المسلك أيضا وارد على التوني (قدس‌سره) كما لا يخفى ، وإنما يختلف كيفية تقريره على المسلكين وهو هيّن.

قوله : لأنّ النجس هو الموضوع لوجوب الاجتناب (٤).

قد عرفت سابقا وستعرف في آخر المبحث أنّ المراد من الموضوع الذي

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٤٣.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ١٤٣.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ١٤٣.

(٤) فرائد الاصول ٣ : ١٤٤.

١٦٨

يشترط بقاؤه في جريان الاستصحاب هو معروض المستصحب وهو في مثال المتن الماء لا العنوان الذي هو مأخوذ في الدليل أي النجس ، فالموضوع هنا باق لا إشكال من جهته.

قوله : توضيح الاندفاع أنّ القيد في الحقيقة راجع إلى الموضوع ، وتقييد الطلب به أحيانا مسامحة في التعبير كما لا يخفى (١).

وحاصله يرجع إلى إنكار الطلب المشروط وقد صرح بانكار الواجب المشروط في مواضع من مباحث مسألة مقدمة الواجب على ما حكاه عنه بعض المحققين من تلامذته ، ويظهر منه إرجاع الواجبات المشروطة بأسرها إلى الواجب المعلّق ، وعكس بعض آخر وأنكر الواجب المعلّق ، ولا بأس بالاشارة إلى تصوير أقسام الواجب من المطلق المنجّز والمعلق والمشروط أوّلا ، ثمّ نتعرّض لما استدل به على القولين المتعاكسين والجواب عنه.

فنقول : إنّ الآمر قد يأمر بفعل من دون أن يكون طلبه ولا مطلوبه معلّقا على أمر غير حاصل كأن يقول اجلس الآن ، وهذا هو الطلب المطلق المنجّز ولا إشكال في تعقّله وثبوته في الشرع والعرف ، وقد يأمر بالفعل المقيد بقيد وجودي أو عدمي أو بقيود كذلك غير حاصل فيجب على المكلف الاتيان بالفعل الكذائي ويجب عليه تحصيل قيده أيضا إذا كان داخلا تحت قدرته كأن يقول صلّ متطهّرا أو حج مستطيعا ونحو ذلك ، فإنّ أصل الطلب في هذا القسم مطلق والمطلوب مقيد ، فقبل حصول القيد في الخارج تحقق الطلب والايجاب والوجوب فيجب تحصيل القيد مقدمة للامتثال ، فزمان الوجوب مغاير لزمان الفعل الواجب مقدّم عليه ، ويسمّى هذا القسم بالواجب المطلق المعلّق ، وقد يأمر بالفعل المطلق أو

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٤٦.

١٦٩

المقيّد لكن على تقدير أمر غير حاصل ، كأن يقول إن استطعت حج أو إذا قدم الحاج فزرهم ، فإنّ أصل الطلب هنا معلّق على حصول الشرط وقبله لا طلب ولا إيجاب ولا وجوب ، ولذا لا يجب على المكلّف تحصيل المعلّق عليه ، لأنّ وجوبه لا يكون إلّا فرعا لوجوب أصل الفعل ولم يتحقق وجوبه بعد بالفرض ، وإذا تأمّلت بعين الانصاف تجد مغايرة هذه الأقسام الثلاثة بعضها مع بعض. ونظير الواجب المشروط في إنشاء المعاملات الوصية فإنّ تأثيرها مشروط بالموت وقبله لا تكون شيئا من الملكية والسلطنة وغيرهما مما أنشأها الموصي ، ونظير الواجب المعلّق في المعاملات إجارة العين المستأجرة للسنة الآتية أو الشهر الآتي مثلا فإنّ المستأجر يملك منفعة السنة الآتية حين العقد وإن كان استيفاؤها موقوفا على مجيء الزمان الآتي ، وسيتضح الفرق أزيد من ذلك في بيان دفع شبه المخالف.

حجة منكر الواجب المشروط على ما استفيد من كلام المصنّف في مبحث مقدمة الواجب امور :

الأول : الوجدان ، بتقريب أنّ ما يذكر في الفرق بين الواجب المشروط والمعلق يرجع إلى الاختلاف في التعبير ، فإن معنى قول القائل إذا كان كذا فافعل كذا وقوله افعل كذا في وقت كذا شيء واحد في اللب ، فإن الموجود في نفس الآمر والطالب شيء واحد لا اختلاف فيه بحسب لب المعنى وإن اختلفا بحسب التركيب النحوي كما يرى ذلك فيما هو ثابت لشيء كالركوب لزيد فإنه قد يجعل خبرا عنه ، وقد يجعل صفة عنه ونعتا له ، وقد يجعل حالا عنه ، مع أنّ الواقع في جميع الصور هو ثبوت الركوب لزيد وإن اختلف التعابير ، وذلك ظاهر لمن راجع وجدانه وأنصف من نفسه ، وما نحن فيه بعينه من هذا القبيل ، ويتضح ذلك غاية الوضوح فيما لو تجرد الطلب عن الكواشف اللفظية وثبت تحققه بدليل لبّي ، فهل تجد من نفسك فرقا فيما علمت بوجوب شيء في زمان بين الوجهين كلا ، وقد

١٧٠

أطال في توضيح هذا المعنى والنقض والابرام فيه ومحصّله ما ذكرنا.

وفيه : أنّا إذا راجعنا وجداننا نجد الفرق بين إيجاب الحج مع الاستطاعة وبين إيجاب الحج على تقدير الاستطاعة ، فإنّ الطلب على الأول مطلق متعلق بالفعل المقيد ويلزمه تحصيل الاستطاعة لو لم تكن حاصلة لأنه يجب الاتيان بالفعل المقيد ، وإذا كان القيد أمرا اختياريا يجب تحصيله كنفس المقيد وليس هو إلّا كقوله يجب الصلاة مع الوضوء فإنه يجب تحصيل الوضوء أيضا كنفس الصلاة وكلاهما في حيّز الأمر ، وأمّا على الثاني فإن نفس المأمور به مطلق الفعل بلا قيد وإنما يكون طلبه على بعض تقادير الأحوال وهو تقدير حصول الاستطاعة فلا جرم يكون أصل الطلب مقيدا بالاستطاعة غير متحقق قبل حصولها فلذا لا يلزم تحصيل الاستطاعة.

وبالجملة لازم القول برجوع الواجبات المشروطة إلى المعلق وإرجاع الشرط إلى قيد المطلوب الالتزام بوجوب مقدّمات الواجبات المشروطة التي باعتبارها يقال إنّها مشروطة ، وهو كما ترى مما يقصم ظهر هذا القول ، ويؤنسك فيما ذكرنا ملاحظة الأمثلة العرفية في نحو طلبنا أهل العرف بعضنا بعضا فإنه لو قال إذا مرضت فاشرب الدواء وإذا ابتليت بوجع الضرس فاقلعه ، فإنّ المطلوب ليس شرب الدواء مع المرض ويكون الطلب مطلقا وإلّا لزم تحصيل موجب المرض مقدمة لفعل شرب الدواء المقيد ، بل المطلوب شرب الدواء على تقدير حصول المرض ، ولا دخل لحصول المرض في المطلوب بل هو مبغوض لكن الطلب معلّق عليه وعلى تقديره.

وما يقال من أنّ القيد في هذه الأمثلة راجع إلى المكلف لا الطلب فشرب الدواء مطلوب مطلقا لموضوع المكلف المريض ، وهكذا وجوب الحج مطلقا مطلوب للمستطيع ، فقبل حصول الاستطاعة لم يتحقق موضوع المكلف بعنوانه

١٧١

الذي تعلق به الطلب ، وبذلك يندفع النقض باشتراط جميع الواجبات باشتراطها بالشرائط العامة التي لا تقبل الانكار كالبلوغ والعقل والعلم والقدرة بل أصل وجود المكلف ويقال لو لم يكن الواجب مشروطا بها لزم أن يتحقق الوجوب وسائر الأحكام في الأزل على نحو الوجوب التعليقي مع أنه بيّن الفساد.

مدفوع بأنّا نفرض القيد بحيث لا يمكن إرجاعه إلى قيد المكلف ، كأن يقول أشبع زيدا إن كان جائعا ، فإنّ هذا الشرط لا يرجع إلى قيد المكلف البتة ، فلو لم يكن قيدا للطلب وكان قيدا للمطلوب لزم تحصيله لكونه في حيّز الأمر وهو بديهي الفساد.

فإن قلت : لنا أن نمنع وجوب تحصيل القيد بدعوى كون المطلوب مقيدا بهذا القيد بوجوده الاتفاقي فكأنه قال في المثال المذكور أشبع زيدا الجائع بالجوع الاتفاقي الذي حصل من غير استناد إليك ، فيكون الجوع قيدا للمأمور به ولا يجب تحصيله.

قلت : لا معنى لكون الشيء بوجوده الاتفاقي قيدا للمطلوب بوصف مطلوبيته وإنّما يعقل أن يكون علة لمطلوبيته ومن هنا جاء الاشتباه فإنّ الجوع في المثال علة لمطلوبية الاشباع بعد حصوله فيرجع إلى قيد الطلب وأنّ الطلب يكون على تقديره ، وبالجملة كما أنّه يمكن أن يكون الشيء قيدا للمكلف وأن يكون قيدا للمكلف به كذلك يمكن أن يكون قيدا للتكليف يتضح ذلك بملاحظة صحة كون القيد قيدا للنسبة في القضية الخبرية فإنّ الاخبار والانشاء في ذلك سواء ، مثلا يقال إن جاءني زيد فأكرمه والمقصود الاخبار بتحقق إكرام زيد من المخاطب عند مجيئه ، ولا شك أنّ المجيء ليس قيدا للموضوع أعني زيد ولا للمحمول أعني الاكرام ، بل هو قيد لنسبة الاكرام إلى زيد وشرط لها ، وهكذا يكون في النسبة الانشائية إذا قال إن جاءك زيد فاكرمه.

١٧٢

ويوضّح ما ذكرنا أيضا : أنه قد تكون المصلحة في الفعل المقيد بحيث يكون القيد دخيلا في المصلحة بمعنى كونه معروض المصلحة والمصلحة قائمة بالفعل مع قيده ، وهذا كالصلاة مع القبلة والطهارة والستر وغيرها ، وقد تكون المصلحة في الفعل بلا قيد فيه إلّا أن الشيء يكون علة لعروض المصلحة للفعل كشرب الدواء حال المرض فإنّ المرض ليس قيدا للشرب بحيث يكون معروضا للمصلحة بل علّة لعروض المصلحة للشرب ، فاعتبار المرض ليس إلّا لأجل أنّ المصلحة تحصل به ، وعلى تقديره فيحسن شرب الدواء عنده ، ويتبعه أمر المولى بناء على القول بتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد النفس الأمرية للمأمور به.

ومما ذكرنا يندفع ما قد يفصّل في المقام من أنه لو قلنا بتبعية الأحكام لحسن المكلف به فالأمر كما ذكره المستدل من رجوع القيود بأسرها إلى قيد المطلوب ، وأمّا لو قلنا بتبعيتها لحسن التكليف أو قلنا بمقالة الأشاعرة من عدم لزوم وجود حسن وقبح في المكلف به أو التكليف بل يصح التكليف جزافا فيمكن أن يكون القيد قيدا للطلب ، وذلك لما عرفت من أنّ الأمر على القول بتبعية الحكم لمصلحة المأمور به وحسنه أوضح من القولين الآخرين في صحة كون القيد قيدا للطلب.

الثاني : أنّ تقييد الأمر والطلب بالشرط في الكلام الانشائي ليس إلّا كتقييد الخبر بالشرط في الكلام الاخباري ، وكما أنّ الشرط في الكلام الاخباري قيد للمخبر به لا الاخبار كذلك يكون الشرط والمعلّق عليه الأمر والطلب قيدا للمطلوب لا الطلب ، توضيحه أنّ القضية الشرطية في الاخبار كقولنا إن جاء زيد أكرمته إمّا أن يكون المقصود منه الاخبار بالملازمة بين مجيء زيد وإكرامه ، وإمّا أن يكون المعنى الاخبار بوقوع إكرام زيد في المستقبل ، لكن لا مطلقا على جميع التقادير بل على بعض التقادير وهو تقدير مجيئه ، وهذا في مقابل القضية الخبرية

١٧٣

الحملية فإنها تفيد ثبوت المحمول للموضوع على جميع التقادير ، وعلى أي تقدير يرجع الشرط إلى المخبر به ويفيد تقييده لا الاخبار وإلّا لحصل عند وقوع الشرط في الخارج إفادة وعلم للسامع من الكلام وهو كما ترى ، وبملاحظة ذلك يتضح حال التقييد بالشرط في الانشاءات والكلام المشتمل على الأمر فإنّ الشرط فيه أيضا لا يمكن أن يكون قيدا للأمر والوجوب بل يكون قيدا للواجب وهو المدّعى.

وفيه : أنّ مقايسة ما نحن فيه بالشرط في القضية الاخبارية مما يؤيّد ثبوت الواجب المشروط.

قوله : «إنّ الشرط ليس قيدا للاخبار بل المخبر به» مسلّم لأنّ نفس الاخبار أعني انشاء الاخبار لا يقبل التعليق كما أنّ مطلق الانشاء لا يقبل التعليق وإنّما التعليق يكون بالنسبة إلى المنشئ وهو الطلب والايجاب ، لكن لا يلزم من ذلك نفي مشروطية الوجوب الذي هو المنشأ. قوله «إنّ القضية الاخبارية مفادها اما الاخبار بالملازمة أو الاخبار بثبوت المحمول للموضوع على بعض التقادير» نختار الثاني لأنه مفاده لغة وعرفا وإن لزمه الاخبار بالملازمة التزاما لكنه غير مخبر به بنفس الخبر بمدلوله إلّا أنه لا ينتج ما أراده من نفي مشروطية الوجوب في الأمر المعلق على الشرط لأنّ الشرط على التحقيق قيد للنسبة المأخوذة في الكلام إخبارا كان أو إنشاء لا للموضوع ولا للمحمول ، ألا ترى أنه ليس المراد من قوله إذا كانت الشمس طالعة فالنهار موجود إثبات الوجود المقيد بطلوع الشمس للنهار ولا إثبات الوجود للنهار المقيد بطلوع الشمس بل المراد اثبات الوجود للنهار ولكن نفس الحكم بالثبوت يكون على تقدير طلوع الشمس لا مطلقا ، وهكذا يكون تقييد الأمر والطلب بالشرط فإن تعلّق الوجوب المنشأ بالأمر مقيد ببعض التقادير في مقابل الوجوب المطلق المتعلّق بالفعل على جميع

١٧٤

التقادير.

الثالث : أنّ الطلب والوجوب مفاد هيئة الأمر لا المادة وهذا ممّا لا كلام فيه.

والتحقيق أنّ وضع هيئة الأمر من قبيل أوضاع الحروف ، أمّا الموضوع له فيها خاص كما هو الحق أو المستعمل فيه على ما هو رأي القدماء من أهل العربية وعلى أي تقدير يكون المعنى جزئيا حقيقيا بكل وجه فليس قابلا للتقييد بوجه من الوجوه.

وفيه أوّلا : النقض بمثل قول القائل اغتسل للجمعة ندبا وللجنابة وجوبا فلا ريب في صحة هذا الاستعمال ولا شك أنّ الوجوب والندب في الكلام قيد للطلب دون المطلوب. وثانيا : بالحل وهو أنّ المعنى الربطي الذي وضع الهيئة بازائه هو نفس الانشاء ، ولا ريب أنّ التعليق بالنسبة إلى نفس الانشاء غير معقول وإلّا يلزم من وجوده عدمه وهو الذي يقال إنه خاص وجزئي حقيقي بخلاف الطلب الذي هو المنشأ فإنه قابل للاطلاق والتقييد. وإن شئت لاحظ قوله أوجبت عليك كذا إن كان كذا ، فلا ريب أنّ الشرط قيد لمادة الايجاب في الكلام ولا فرق بينه وبين افعل كذا إن كان كذا ، وأيضا لا فرق في التعليق المتعلق بالكلام الانشائي بين صيغة الأمر وصيغة إنشاء المعاملة كقوله بعت ، فإن المصنف قد سلّم في باب البيع من كتاب المكاسب صحة التعليق فيه عقلا ردّا على من منع ذلك بزعم عدم معقولية التعليق في الانشاء قائلا إنّ التعليق يرجع إلى المنشأ دون الانشاء.

وتحصّل مما ذكر من أول المسألة إلى هنا : أنّ تقيد الحكم بالقيد أمر معقول فيمكن تعلق الشك بالحكم ، ولا يرجع الشك فيه إلى الشك في الموضوع كما أراده

١٧٥

المصنف (١).

قوله : وقد يتوهم أنّ مورد صحيحة زرارة الاولى (٢).

المتوهم صاحب الضوابط ، وقد أبدل صاحب الفصول هذا الايراد بايراد آخر أشار المصنف في المتن إليه وإلى دفعه بقوله : وإنما سئل فيها بعد ذلك عن حكم ما إذا وجدت أمارة على النوم الخ ، فتدبّر.

قوله : حجّة القول الحادي عشر (٣).

لا يخفى أنّ المصنف أسند إلى المحقق الخونساري عند تعداد الأقوال القول بحجية الاستصحاب في الشك في وجود الغاية وفي الشك في مصداق الغاية من جهة الاشتباه المصداقي دون المفهومي مع أنّ ما يظهر من كلام المحقق المذكور المحكي هنا حجيته في الشك في مصداق الغاية من جهة الاشتباه المفهومي أيضا على ما هو صريح كلامه أخيرا في ذيل قوله والحاصل الخ ، وإنما يظهر منه حجية الاستصحاب في الشك في الرافع مطلقا ما عدا الشك في كون الموجود رافعا مستقلا مغايرا للرافع المعلوم مفهوما كالشك في رافعية المذي مثلا للطهارة.

قوله : فنقول إنّ الاستصحاب بهذا المعنى لا حجية فيه أصلا بكلا قسميه (٤).

يعني أنه لا حجية في الاستصحاب بمعنى إثبات الحكم في زمان لوجوده

__________________

(١) أقول : هذا كلّه حق إلّا أنّ ما نسب إلى المصنف من إنكاره الواجب المشروط محل نظر على ما ظفرنا من حكاية كلماته في مقدمة الواجب ، فليتأمل.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ١٦٨.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ١٦٩.

(٤) فرائد الاصول ٣ : ١٧٠.

١٧٦

في زمان سابق عليه ، ويرجع ذلك إلى منع حجيته من باب الظن ، فلا ينافي كلامه هذا ما اختاره من حجيته في القسم الأول بمعنى إثبات الحكم في زمان تعويلا على كون دليله مقتضيا للاستمرار إلى حال أو إلى غاية. ولا يخفى أنّ هذا المعنى مغاير للمعنى الأول فتدبّر بدليل قاعدة الاشتغال والأخبار.

قوله : أحدهما أنّ هذا الحكم إمّا وضعي أو اقتضائي الخ (١).

محصّل هذا الدليل تقرير قاعدة الاشتغال ، وليت شعري كيف يوجّه قاعدة الاشتغال على حجية استصحاب الوضوء وأشباهه عند الشك في رافعها مع أنها منتجة للعكس ، اللهم إلّا أن يقال إنّ القاعدة دليل على المدّعى في بعض الموارد وتمامه يثبت بالأخبار كما يظهر من آخر كلام المحقق في الحاشية الثانية أنّ تمام المدّعى يثبت بمجموع الدليلين.

قوله : وأمّا على الثاني فالأمر أظهر (٢).

الظاهر أنّ المراد أنه يستند في استصحاب الحكم التخييري إلى قاعدة البراءة المسلّمة عند الكل في الجملة كما سيشير اليه المصنف في المتن.

قوله : الأول أن يلاحظ الفعل إلى زمان كذا موضوعا واحدا الخ (٣).

وكذا إذا وجب الفعل موقتا إلى غاية معينة موسعا أي لا يكون زمان الفعل منطبقا عليه بل يكون أوسع منه ، ويكون الغرض من التوقيت عدم خروجه عن الوقت المضروب كصلاة الظهر مثلا.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٧٠.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ١٧١.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ١٧٩.

١٧٧

قوله : الثاني أن يلاحظ الفعل في كل جزء يسعه من الزمان المغيّى (١).

وكذا إذا لوحظ الفعل واحدا بالنسبة إلى مجموع الزمان إلّا أنه لم يكن أجزاؤه مرتبطا بعضها ببعض بحيث يبطل الجزء المأتي به بفوات الجزء غير المأتي ، بل يكون الجزء المأتي به صحيحا مجزئا بقدره وإن عصى المكلف بعدم إتيان باقي الأجزاء ، وبالجملة يكون الفعل الواحد المنطبق على الوقت مركبا غير ارتباطي ، فإنّ ما أراده المصنف من كون هذا القسم مجرى للبراءة كما أنّ القسم الأول مجرى لقاعدة الاشتغال جار فيه كما لا يخفى.

قوله : لكن يجب تقييده بما إذا لم يعارضه تكليف آخر (٢).

فيه أوّلا : أنّ مثل هذا التقييد مما لم يعهد تعرّضه في خلال بيان المطلب من أحد حتى يكون إيرادا على الخونساري (رحمه‌الله) وإلّا لزم في بيان كل دليل أن يقال إذا لم يعارضه دليل آخر ، وبالجملة قضية معارضة الأدلة بعضها مع بعض ملحوظة بعد تمامية الدليل في حد نفسه.

وثانيا : أنّ ما ذكره من معارضة الاشتغال بالاشتغال في الصورة التي فرضها إنّما يتم إذا كان التكليف بوجوب الخروج فيما بعد الزوال ثابتا قبل الزوال بأن يكون الواجب معلّقا ، وأمّا إذا كان الواجب مشروطا كما هو ظاهر المثال فمع الشك في تحقق الشرط أعني الزوال ليس هنا محل لقاعدة الاشتغال حتى تعارض الاشتغال بالنسبة إلى التكليف بوجوب الجلوس قبل الزوال ، بل هنا محل لقاعدة البراءة ، وبالجملة لا معنى لمعارضة التكليف المشكوك الحدوث للتكليف المتيقن الحدوث ، فافهم.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٧٩.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ١٧٩.

١٧٨

فإن قلت : إنّ مراده أنّ المقام من دوران الأمر بين المحذورين لتردد الأمر في الزمان المشكوك بين وجوب الجلوس ووجوب الخروج ، وفي مثله لا محل لقاعدة الاشتغال على ما هو مسلّم مقرر في محله.

قلت : مع أنّ هذا المعنى خلاف ظاهر كلامه بل خلاف صريحه حيث صرّح بأنّ وجوب الاحتياط معارض بوجوب الاحتياط ، فيه أنّ ذلك حيث يكون الاحتمالان في عرض واحد كتردد الشيء المعيّن بين أن يكون واجبا أو حراما مع العلم بأحدهما ، وهذا بخلاف ما نحن فيه فإن التكليف الثاني أعني وجوب الخروج في طول الأول أي وجوب الجلوس ، والعلم الاجمالي المتحقق هنا كأنه ينحل إلى العلم التفصيلي بوجوب الجلوس المتعلق بالمكلف قطعا والشك البدوي بوجوب الخروج ، إذ لم يعلم تعلقه بعد للشك في وجود الزوال الذي هو شرطه. وبعبارة اخرى أحد الاحتمالين مجرى أصالة الاشتغال دون الآخر ، ولا أثر للعلم الاجمالي إذا كان أحد طرفيه مجرى أصل من الاصول دون الآخر ، فتدبّر.

قوله : مثل أصالة عدم الزوال (١).

اورد عليه وعلى أصالة عدم حدوث التكليف بالخروج بأنّهما من الاصول المثبتة التي لا نقول بها ، فإنّ عدم الزوال لا يترتّب عليه وجوب الجلوس إلّا بالملازمة العقلية بينه وبين بقاء وقت الواجب ، وكذا في أصالة عدم حدوث التكليف بالخروج فإنه لا يترتّب عليه وجوب الجلوس إلّا بحكم العقل بأنّ رفع أحد الضدّين لا ينفك عن وجود الضد الآخر.

وقد يجاب في الأول بأنّ الواسطة خفية فإن عدم الزوال وبقاء الوقت في نظر أهل العرف شيء واحد وحكم أحدهما يعدّ حكما للآخر عرفا ، وهذا نظير

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٨٠.

١٧٩

قولهم بترتب أثر المقتضي عليه بعد إجراء أصالة عدم المانع ، مثلا لو أجرى الماء على يده مع الشك في وجود مانع عن وصول الماء إلى البشرة يقال الأصل عدم المانع ويثبت به حصول عنوان الغسل المأمور به في الوضوء ، فتأمّل.

ويمكن أن يدفع إشكال الاثبات عن كلا الأصلين بأن يقال إنّ أصالة عدم الزوال يترتّب عليه بلا واسطة عدم تعلق التكليف الثاني بالنسبة إلى ما بعد الغاية أو عدم تنجزه على الوجهين السابقين ، فإذا انتفى التكليف الثاني بالأصل المذكور فأصالة الاشتغال بالنسبة إلى التكليف الأول تنهض قائما من غير معارض ، وهذا التقرير بالنسبة إلى إجراء أصالة عدم حدوث التكليف الثاني أوضح كما لا يخفى. نعم ربما يقال إنّ ظاهر المتن تساقط أصالتي الاشتغال من الجانبين والرجوع إلى الأصل الآخر لا إجراء الأصل لدفع مزاحم أصالة الاشتغال بالنسبة إلى التكليف الأول ، وهو هيّن لا بأس بارتكاب هذا المقدار من مخالفة الظاهر ، وما ذكرنا في دفع الإشكال نظير ما يقال في مسألة ما إذا كان المكلف مالكا للزاد والراحلة ويشك في دين يسقط به الاستطاعة من أنّ أصالة عدم الدين تثبت الاستطاعة الشرعية ، بمعنى أنّ إجراء أصالة عدم الدين يوجب تحقق عنوان الاستطاعة حقيقة عرفا ، فإنّا لا نعني بالمستطيع إلّا من يملك الزاد والراحلة ولا يجب عليه صرفه في غير الحج.

ولا يخفى أنّ المصنف لو أبدل هذين الأصلين بأصالة بقاء الوقت للتكليف الأول سلم عن الإشكال وهذه المتعبة في دفعه ، فإن استصحاب الوقت من الاستصحابات المسلّمة عنده.

بقي الكلام في أصالة عدم الخروج عن عهدة التكليف بالجلوس التي أشار إليها في المتن ، والإنصاف أنّ حالها حال أصالة الاشتغال فإنها معارضة بمثلها ، فكما أنّ أصالة عدم الخروج عن عهدة التكليف الأول تقتضي وجوب الجلوس

١٨٠