حاشية فرائد الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-091-8
الصفحات: ٥٥٦
الجزء ٢ الجزء ٣

من الشارع الردع عنه. ويمكن أن تكون الآيات والأخبار الناهية عن العمل بالظن في مقام الردع عن العمل بهذا الظن أيضا وهو كاف في عدم حجية بناء العقلاء الكذائي ، انتهى الملخّص من كلامه (رحمه‌الله).

وفيه أوّلا : أنّ ما ذكره من عدم الحكومة بين الطرق إلّا إذا كان الحاكم ناظرا أو شارحا للمحكوم بلسانه ، مدخول فيه بأنه قد يكون اعتبار بعض الطرق مقيدا بعدم طريق آخر كما في الغلبة فإنه طريق حيث لا طريق ، وكالاستصحاب بناء على حجيته من باب الظن فإنه حجة وطريق حيث لا دليل ، فإذا وجد دليل في مقابلهما يكون حاكما عليهما لا محالة ، نعم الظاهر أنّ حجية أصالة العموم ليست من قبيلهما ، ففيما نحن فيه الحق معه من عدم الحكومة فتدبّر.

وثانيا : أنّ ما ذكره من أنّ أدلة حجية الأمارات مقيدة بصورة عدم وجود المعارض ، أيضا مخدوش بأنّ الحق أنّ أدلة حجية الأمارات شاملة للمتعارضين كما سيأتي بيانه في محله ، ولا ينافي ذلك تقديم أحدهما وطرح الآخر بأحد المرجّحات في مقام العمل وسيأتي توضيحه.

وثالثا : أنّ ما استند إليه في وجه اعتبار الاصول اللفظية من الإجماع فهو ممنوع إن اريد منه الإجماع على التعبّد به ، لأنّا نعلم أنّ عمل العلماء وبناءهم على اعتبارها ليس من جهة ما وصل إليهم حكم تعبّدي من إمامهم على ذلك ، بل من جهة ما ارتكز في أذهانهم من بناء العقلاء فإنهم يبنون عليها كما يبني عليها غيرهم ممّن لا يعتقد بشرع ولا دين.

ورابعا : أنّ ما ذكره من عدم حجية بناء العقلاء عند ثبوت الردع عنه بالأدلة الناهية عن العمل بالظن مردود ، بأنّ المتبادر من الظن المنهي عن العمل به هو الظن الحاصل من الخرص والتخمين والاستحسان والقياس ونحوها لا مثل هذا الظن الذي أطبق العقلاء والعلماء على متابعته ، ويشهد لذلك أنّ هذه الآيات

٤٤١

والأخبار الناهية كان بمرأى منهم ومسمع ومع ذلك لم يحصل لأحد الترديد في حجية الظواهر فضلا عن ارتداعه وطرح العمل بها ، وأيضا دلالة الآيات والأخبار الناهية على تقدير شمولها لما نحن فيه فلا ريب أنّها بالظهور لا النصوصية ، فلو كان دليل حجية الظهور منحصرا في الإجماع كما ذكره وهو لبّي فيقتصر على القدر المتيقن منه ، وهو غير ما إذا كان في مقابل الظهور بناء العقلاء على خلاف هذا الظاهر ، فإنّ بناء العقلاء على العمل بهذا الظن بالخصوص. وبالجملة يلزم من أخذ ظواهر الآيات الناهية أعني طرح كل الظنون عدم الأخذ بها ، لأنّها من الظنون ، وما يستلزم وجوده عدمه فهو محال وباطل فليتأمل.

قوله : ثم إنّ التعارض على ما عرفت من تعريفه لا يكون في الأدلة القطعية (١).

اعلم أنّ عقد باب التعارض عندهم لأجل بيان أحكام تعارض أخبار الآحاد بعضها مع بعض ، وإنما يذكر باقي أقسام التعارض المتصوّرة تطفّلا ويبيّن أنّ بعضها غير ممكن كالتعارض بين القطعيين والظنّيين الفعليين وبعضها ممكن غير واقع أو واقع ، لكن لا يخفى أنّ المصنف لم يستوف جميع الأقسام فإنّ منها تعارض القطعي مع الظنّي الشأني ، ويظهر من صاحب الفصول إمكان هذا القسم ووقوعه كما في ظواهر بعض الأخبار المعارض لحكم العقل القطعي أو الاجماع القطعي.

واورد عليه : بأنّه لا حجية في الخبر الذي حصل القطع على خلافه فلا تعارض.

واجيب : بأنّ التعارض حاصل غاية الأمر أنه يجب تقديم القطعي وطرح

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ١٧.

٤٤٢

الظنّي في قباله ، وهذا لا يوجب سلب عنوان التعارض عن المورد كما هو حال المتعارضين دائما لأنه يقدّم الراجح منهما ويطرح المرجوح مع أنّهما متعارضان.

لكن الانصاف أنّ الحق مع المورد ، لأنّ حجية أخبار الآحاد إنما تكون عند عدم العلم بالواقع ، فالخبر المخالف للمعلوم لا تشمله أدلة الحجية ، وهذا بخلاف المرجوح من الخبرين المتعارضين فإنه حجة في نفسه قد سقط عن الحجية الفعلية لأجل المعارضة ، وبالجملة كل دليل تكون حجيته معلّقة على عدم الدليل الآخر المعيّن أو غير المعيّن لا يكون معارضا لذلك الدليل الآخر ، ومنها تعارض الظني الفعلي والشأني فإنه أيضا ممكن.

ثم إنه قد يقال إنه كما لا يمكن التعارض بين القطعيين كذلك لا يمكن وقوع التعارض بين فردين من أمارة ثبتت حجيتها بالدليل العقلي القطعي ، لأنّ العقل إذا حكم بحجية أمارة لا بدّ أن يتصوّر جميع جهات موضوع حكمه حتى يتمكن من الحكم فيه ، وحينئذ إمّا أن لا يحكم في المتعارضين بالحجية أصلا ، أو يحكم بحجية الراجح منهما دون المرجوح ، وكيف ما كان لا يتحقق التعارض بين الدليلين. وفيه : أنه يمكن أن يدرك العقل جهة تقتضي حجية الأمارة من حيث نفس طبيعته السارية في جميع أفرادها ، ولا يدرك جهة علاج التعارض الواقع في بعض أفرادها مع بعض ، فإنّ هذا أمر معقول.

وأيضا ربما يقال إنه لا يتصور التعارض بين الأدلة بناء على حجية الظن المطلق من باب دليل الانسداد المعروف. والتحقيق أنه إن قلنا بأنّ دليل الانسداد ينتج حجية الظن الفعلي بالواقع على ما اختاره جماعة فهو كذلك لعدم إمكان حصول ظنين فعليين على طرفي النقيض ، وأمّا إن قلنا بأنّ نتيجته حجية الظن بالطرق كما اختاره صاحب الفصول فيمكن تحقق التعارض بين طريق وطريق آخر أو بين فردي طريق واحد ، وكذا إذا قلنا بانتاجه حجية الظن بالطريق والواقع

٤٤٣

كليهما كما اختاره المصنف فإنه يمكن التعارض بين الظن بالواقع والطريق القائم على خلافه وكذا بين الطرق كما عرفت.

قوله : ومثل هذا في القطعيات غير موجود (١).

يمكن دعوى وجوده في مثل الوسواسي وصاحب الجربزة اللذين لا يستقر رأيهما على شيء على سبيل القطع ، فيقال إنه لا بدّ لهما بحكم العقل البناء على الأدلة التي تفيد القطع عند العقلاء غالبا فيما يطلب فيه تحصيل القطع كمسائل اصول الدين فإنّ التكليف بوجوب الاعتقاد في الاصول غير ساقط عن مثل هذا الشخص.

ثم قبل الشروع في أحكام التعارض لا بأس بأن نشير إلى إمكان وقوع التعارض والتعادل عقلا ووقوعهما في الأدلة الشرعية فنقول : قيل بعدم إمكان وقوع التعارض عقلا متمسكا بأنه يؤدّي إلى الجمع بين المتنافيين ، يعني لو كان كل من المتعارضين حجة في الواقع لزم صحة ثبوت المتنافيين في الواقع مع أنه محال.

وقيل بعدم جواز وقوعه شرعا مستدلا بأنه إن وجب العمل بهما يلزم التكليف بالمحال ، وإن لم يجب العمل بواحد منهما لزم لغوية جعلهما أمارة وحجة ، وإن وجب العمل بأحدهما دون الآخر لزم الترجيح بلا مرجح.

وقيل في الاستدلال على نفي التعارض أنه لا يجوز تبليغ الشريعة على وجه يؤدّي إلى وصول أمارتين متعارضتين. واستظهر صاحب الفصول من هذا الاستدلال أنّ مراد المستدل عدم إمكان وقوع التعادل وإلّا فمع حصول الرجحان لأحد المتعارضين يتعيّن الراجح للأخذ به ولا يحصل قصور في التبليغ ، وكيف

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ١٨.

٤٤٤

كان لا خفاء في أنّ التعارض والتعادل في نظر المجتهد عقلا وشرعا ممكن بل واقع في غاية الكثرة ، إنما الإشكال في أنه هل يمكن جعل أمارتين متعارضتين واقعا بحيث تكونان حجتين فعليتين في الواقع لا أن يكون أحدهما حجة والآخر غير حجة في الواقع لكن أخطأ من تخيل حجيته فإنّ ذلك ممكن واقع قطعا.

والتحقيق أن يقال : إنه إن قلنا بأنّ مؤدّى الأمارة المخالفة ليس بحكم شرعي بل هو مجرد العذر فلا إشكال ، وإن قلنا بأنّ المؤدّى حكم شرعي ظاهري ، فإن قلنا بحجية الأمارة من باب الموضوعية كأن يكون في متابعة قول العادل من حيث إنه عادل مصلحة أوجبت جعلها حجة ، فلا إشكال في إمكان وقوع التعارض لكنّه يكون في الحقيقة من باب التزاحم ، لأنّ هناك حكمين مجعولين في الواقع لا يمكن العمل بهما فيحكم بالتخيير بينهما أو يؤخذ بالأهم منهما لو فرض العلم بالأهمية ، وإن قلنا باعتبارها من حيث الطريقية المحضة فربما يتوهم أنّ ذلك قبيح من الشارع الحكيم العالم بالعواقب ، وفيه منع القبح إذا اقتضت المصلحة جعل تلك الأمارة ولو في صورة التخلّف عن الواقع ، لأنّ هذا التخلّف من شأن الأمارة وإلّا كان اللازم العمل بالعلم ليس إلّا.

قوله : لا بدّ من الكلام في القضية المشهورة وهي أنّ الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من الطرح (١).

ظاهرهم أنّ المراد بالدليلين ما يقابل الأمارات الجارية في الموضوعات كخبرين أو آيتين ونحوهما لا مثل البينتين ويدين ونحوهما ، إلّا أنه يظهر من الشهيد الثاني (رحمه‌الله) في تمهيد القواعد أنّ مورد القاعدة أعم حيث جعل من فروع القاعدة تعارض البينتين وسيأتي توضيحه.

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ١٩.

٤٤٥

ثم لا يخفى أنّ ظاهرهم أنّ المراد من الجمع إنما هو الجمع بحسب الدلالة بأن يصرف أحدهما عن ظاهره إلى ما لا ينافي الآخر أو يتصرف في كليهما بحيث لا يتنافيان كما في العام والخاص أو العامين من وجه ، لا أنه يعمل بأحدهما في بعض مدلوله وبالآخر في البعض الآخر مع عدم التصرف في واحد منهما كما في البينتين ، فإنّ معنى الجمع فيه ليس بتصرف في لفظ إحدى البينتين بأنه أراد من قوله إنّ الدار لزيد كون نصفه له والاخرى بأنّ قوله إنه لعمرو كون نصفه الآخر لعمرو ، بل معناه أنه يعمل بقول كل منهما في نصف ما شهدتا عليه ولا يعمل في النصف الآخر. ولا يخفى أنّ النسبة بين الجمع الدلالي والعملي التباين مفهوما والعموم من وجه موردا ، إذ قد يكون الجمع الدلالي ممكنا دون العملي كما لو ورد أمر بشيء في خبر والنهي عنه في آخر فإنه يمكن فيه الجمع بحمل الأمر على الرخصة والنهي على الكراهة ، ولا يمكن الجمع في العمل مع عدم تصرف في الدلالة ، وقد يكون بالعكس كما إذا كان المتعارضان نصين في مدلولهما فلا يمكن التصرف في الدلالة ، ويمكن الجمع العملي بأخذ بعض مدلول كل منهما ، وقد يمكن الجمع بكلا الوجهين كما في قوله (عليه‌السلام) «ثمن العذرة سحت» (١) ، و «لا بأس ببيع العذرة» (٢) فيمكن التصرف بحسب الدلالة بأن يقال المراد من الأول عذرة غير المأكول ومن الثاني عذرة مأكول اللحم ، ويمكن إبقاؤهما على ظاهرهما ويعمل في كل منهما ببعض مدلوله.

ثم إنّ الدليلين أعم من ظنيي السند وقطعيي السند كآيتين أو خبرين متواترين ، فإنّ قاعدة الجمع لو تمّت جارية في الكل ، وتخصيص صاحب العوالي

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ١٧٥ / أبواب ما يكتسب به ب ٤٠ ح ١ (باختلاف يسير).

(٢) الوسائل ١٧ : ١٧٥ / أبواب ما يكتسب به ب ٤٠ ح ٣.

٤٤٦

باجراء القاعدة في خصوص الحديثين لعله من جهة كون بحثه في تعارض الأخبار ولا يريد الاختصاص.

ثم إنّ الجمع بين الدليلين قد يكون بحمل الظاهر على النص أو الأظهر ممّا يساعده فهم العرف لا يحتاج إلى شيء من الخارج ، وقد يكون جمعا بشاهد كما إذا ورد أنّ العاري يصلّي قائما موميا ، وورد أيضا أنّ العاري يصلّي جالسا فإنّهما بحيث لا يعرف العرف وجه جمع بينهما ، لكن لو فرض أنه ورد أيضا أنّ العاري يصلّي قائما مع الأمن من المطّلع وجالسا مع عدم الأمن صار هذا شاهدا للجمع بين الأوّلين بهذا التفصيل ويساعده العرف أيضا. ويمكن إرجاع هذا القسم إلى القسم الأول بملاحظة مجموع الثلاثة ، وقد يكون جمعا بالتأويل وذلك كما إذا تعارض دليلان بالتباين وكان بحيث لو قطع بصدورهما يحكم العقل بلزوم إرادة ذلك المعنى التأويلي صونا لكلام الحكيم عن التناقض ، ثم إنّ ذلك المعنى التأويلي قد يكون متّحدا وقد يكون متعدّدا بعضها أقرب من الباقي أو يكون الكل على السوية في القرب والبعد ، إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ محل النزاع في القاعدة ما عدا القسمين الأوّلين كما لا يخفى.

ثم إنّ المراد من أولوية الجمع هو اللازم المستحق نظير قوله تعالى (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ)(١) كما هو واضح ، نعم الجمع التبرّعي الذي يستعمله الشيخ الطوسي (رحمه‌الله) في كتاب التهذيب بعد الترجيح لبعض الأغراض الذي أشار اليه فيه فإنه أولى بمعناه الحقيقي ، لكنه غير منظور إليه هنا.

ثم إنه يظهر من كلام العوالي أنّ أولوية الجمع بالنسبة إلى الترجيح ، والأظهر أنه إن تمّت القاعدة يحكم بأولوية الجمع على كل ما يلزم على تقدير عدم الجمع

__________________

(١) الأنفال ٨ : ٧٥.

٤٤٧

من التساقط والتخيير العقلي أو الشرعي أو الترجيح العقلي أو التعبّدي.

ثم لا يخفى أنّ الجمع لا ينحصر في التخصيص بل أعم منه ومن التقييد والمجاز والنسخ والاضمار كل بحسب ما يقتضيه مورده ، بل الحمل على التقية أيضا من وجوه الجمع لو فرض كون أحد المتعارضين موافقا للعامة فإنه كما يمكن الجمع بحمل أحد المتعارضين على الضرورة من غير جهة التقية والآخر على حال الاختيار ، كذلك يجمع بحمل ما يوافق العامة على التقية فإنها من أفراد الضرورة وأي ضرورة أعظم منها.

قوله : واستدل عليه تارة (١).

قد عرفت أنّ الظاهر من كلماتهم أنّ محل الكلام في الظنيين ، إلّا أنّ قاعدة الجمع كما تجري في الظنيين كذلك تجري في القطعيين والمختلفين ، ولنتكلّم أوّلا في القطعيين فنقول : لا إشكال في وجوب الجمع إذا أمكن الجمع العرفي ، وفي حكمه الجمع بشاهد ، وأمّا في غيرهما فإن كان المعنى التأويلي الذي يحصل به الجمع متحدا لا يحتمل غيره يجب الأخذ به ، لأنّ المفروض قطعية السند لا يمكن طرحه والدلالة منحصرة بعد عدم إمكان أخذ الظاهرين ، والمناقشة بأنه يمكن أن يكون وجه صدور هذا الكلام من المعصوم مصلحة اخرى غير إفادة معنى كالتقية ونحوها ، مدفوعة بأنّ هذا الاحتمال قائم في جميع الأدلة اللفظية ولا يعتد به أهل المحاورة أبدا ، وإن كان المعنى التأويلي متعددا وكان واحد منهما أقرب من الباقي فلا يبعد الأخذ به أيضا وهو من باب تقديم أقرب المجازات ، نعم لو كان الكل متساويا لا ترجيح بينها يحكم بالإجمال ، وهل الحكم حينئذ في مقام العمل التخيير أو التساقط والرجوع إلى الأصل؟ وجهان ، أقربهما الثاني ، هذا.

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ٢٠.

٤٤٨

وفي النفس في القسمين الأوّلين شيء من قبل المناقشة التي ذكرناها ، لأنّا نعلم أنّ المتكلّم قد خالف بناء العقلاء في طريق المحاورة ، إمّا بعدم كونه في كلامه هذا بصدد بيان معنى أصلا بل تكلّم لغرض آخر ، وإمّا بأنه قصد بيان مراده بغير الطريق المتداول عند أهل المحاورة من تفهيم مقاصدهم بظواهر الألفاظ المعروفة المألوفة ، وأحدهما ليس بأولى من الآخر فيجب التوقّف ، فليتأمّل.

ثم إنه هل يحكم بنفي الثالث في صورة التردد بين المعنيين والحكم بالإجمال؟ وجهان مبنيان على كون الأصل فيه التخيير مستندا إلى كون حجية الظواهر كلية من باب التعبّد ولمّا لم يمكن في الفرض الأخذ بكلا الظاهرين جاء التخيير ، فلا ريب في دلالتهما على نفي الثالث لعدم التعارض من هذه الجهة ، أو كون الأصل التساقط مستندا إلى أنّ حجية الظواهر من باب الإجماع والسيرة أو بناء العقلاء ، وعلى التقديرين يكون القدر المتيقن منه غير صورة المعارضة ، وعليه فلا دليل على نفي الثالث. ودعوى أنه لا تعارض بين الدليلين من حيث كونهما دالّين على نفي الثالث فيجب الأخذ بهما في هذا القدر من المدلول ، مدفوعة بأنّ الأخذ بالمدلول التضمّني أو الالتزامي فرع الأخذ بالمدلول المطابقي فلا اعتداد بهما عند طرحه.

لكنّ التحقيق أن يحكم بنفي الثالث بأخذ القدر الجامع بين الظاهرين وإن حكمنا بطرح الظاهرين ، ومثله غير عزيز في أدلة الأحكام الظاهرية ، ألا ترى أنه لو ادّعى زوجية امرأته وأنكرتها المرأة يحكم بنفوذ إقراره على نفسه بوجوب الانفاق عليها عليه وحرمة تزويج اخت المرأة والخامسة ويحكم بحرمة تمكين المرأة منه وجواز نكاحها من غيره وهكذا ، وبالجملة يحكم بتحقق الزوجية بالنسبة إلى آثار وعدم تحققها بالنسبة إلى آثار أخر ، وكذا يحكم بثبوت السرقة بشاهد ويمين بالنسبة إلى المال وعدم ثبوتها بالنسبة إلى قطع اليد ، وكذا لو باع

٤٤٩

مال نفسه مع مال غيره يحكم بصحة البيع بالنسبة إلى مال نفسه وبفساده بالنسبة إلى مال غيره ، فكذا فيما نحن فيه نقول نأخذ بالظهورين بالنسبة إلى نفي الثالث ونطرحهما بالنسبة إلى نفس مدلولهما.

فإن قلت : إنّ ذلك مسلّم فيما كان دليل اعتباره تعبّديا محضا ، ولمّا كان دليل اعتبار الظهور بناء العقلاء نمنع مثل هذا التفكيك في بنائهم.

قلت : لا ريب أنّ بناءهم على اعتبار الظواهر من باب الظن النوعي ، فيؤخذ بذلك الظن النوعي مهما أمكن ويطرح فيما لا يمكن ، فينتج ما ذكرنا ، هذا كلّه حال القطعيين.

وأمّا معارضة القطعي والظنّي ، فإن كان هناك جمع عرفي أو جمع بشاهد فلا ريب في وجوبه كالقطعيين سواء كان القطعي هو النص أو الأظهر أو كان بالعكس ، وخلاف من خالف في جواز تخصيص الكتاب أو الخبر المتواتر بخبر الواحد مستندا إلى أنّ الظني لا يعارض القطعي ، أو إلى الأخبار الآمرة بطرح الخبر المخالف للكتاب ، ضعيف كما تقرّر في محلّه.

وإن لم يكن هناك جمع عرفي ولا جمع بشاهد فحينئذ يؤخذ بالقطعي ويطرح الظني مطلقا سواء اتّحد المعنى التأويلي أو تعدّد ، كان بعضها أقرب من الباقي أو لم يكن ، وذلك لفحوى ما يستفاد من الأخبار العلاجية في وجه الترجيح من الأصدقية والأورعية ونحوها ممّا يوجب غلبة الظن بالصدور ، فالقطع بالصدور أولى بأن يكون مرجّحا ومعيّنا للأخذ بالراجح وطرح المرجوح.

وأمّا الكلام في الظنيين فالحق وجوب الجمع فيهما أيضا في النص والظاهر والأظهر والظاهر ، وكذا إذا كان هناك شاهد للجمع لما مرّ في القطعيين وللإجماع

٤٥٠

وسيرة العلماء من زمن الصحابة إلى يومنا ، ويومئ إليه جملة من الأخبار (١) الدالة على أنّ الحديث مثل القرآن فيه عام وخاص وناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه ، وربما ينسب الخلاف هنا إلى الشيخ الطوسي (رحمه‌الله) حيث قدّم الترجيح على مثل الجمع المذكور مطلقا ولكن قدّم الجمع على التخيير ، وإلى صاحب الحدائق حيث قدّم الترجيح على الجمع بين النص والظاهر أو الأظهر والظاهر في غير العام والخاص والمطلق والمقيّد مستندا إلى أنه لا شاهد لهذا الجمع في الأخبار ، وإلى المحقق القمي أيضا على ما استظهر من بعض كلماته ، ولعله لأنّ مذهبه البناء على مطلق الظن كيف ما حصل أين ما كان ، فربما يحصل من الظاهر بملاحظة رجحان السند دون النص أو الأظهر ، وكيف كان لا ريب في ضعف ذلك كله يظهر وجهه مما ذكرنا.

بقي أمران ، أحدهما : أنه قد يكون الدليلان ظاهرين ليس أحدهما نصا أو أظهر من الآخر إلّا أنّ المفهوم منهما عرفا عند اجتماعهما وتعارضهما معنى ثالث مخالف لظاهرهما جميعا ، وهذا الجمع أيضا مقدّم على الترجيح. الثاني : أنه قد يكون النص أو الأظهر صارفا للظاهر عن ظاهره لكن لا يتعيّن به المراد من الظاهر بل يبقى مرددا بين معنيين أو أزيد من دون ترجيح بينها ويبقى اللفظ مجملا ، وربما تترتّب عليه فائدة ، والمصنف يرى أنه لا معنى لوجوب التعبّد بالخبر والحكم باجماله أو طرحه وسيأتي الكلام فيه.

ثم إنه قد يكون الدليلان متباينين ظاهرا لكن يكون أحدهما نصا في بعض مدلوله ظاهرا في البعض الآخر والآخر بالعكس ، فيطرح ظاهر كل منهما بنص الآخر كما لو ورد أكرم العلماء في جواب السؤال عن عدول العلماء فإنه نص في

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٢ / باب اختلاف الحديث ، بحار الأنوار ٢ : ١٨٥.

٤٥١

وجوب إكرام عدول العلماء ظاهر في وجوب إكرام فسّاقهم ، وذلك لعدم جواز إخراج مورد السؤال عن العموم ، وورد أيضا لا تكرم العلماء في جواب السؤال عن فسّاق العلماء فإنه نص في حرمة إكرام فسّاق العلماء ظاهر في حرمة إكرام عدولهم ، فيحكم نص كل منهما على ظاهر الآخر ، وربما يجعل من هذا القبيل قوله (عليه‌السلام) «ثمن العذرة سحت» (١) و «لا بأس ببيع العذرة» (٢) فإنّ القدر المتيقن من الأول عذرة الانسان فهو نص فيها أو مطلق غير المأكول ، ومن الثاني عذرة المأكول فهو نص فيها أيضا ، فيقدّم كل منهما بالنسبة إلى ما هو نص فيه على الآخر بالنسبة إلى ما هو ظاهر فيه ، وفيه نظر لأنّ القدر المتيقن الخارجي لا يصير منشأ لقوة الدلالة من حيث اللفظ ، وهذا بخلاف المثال الذي ذكرنا فإنّ كون العام جوابا للسؤال المذكور يجعله نصا فيما ذكر بالدلالة اللفظية كما لا يخفى.

قيل إنه يجب الجمع بين قوله أكرم العلماء ولا تكرم العلماء بحمل الأول على عدولهم ، والثاني على فسّاقهم مطلقا وإن لم يكن هناك قرينة السؤال المذكور ، وذلك بحكم العقل بملاحظة مناسبة الحكم والموضوع فإنّ العدالة مناسبة لحكم وجوب الاكرام والفسق لحرمة الاكرام.

وفيه : أنّ أمثال هذه الامور استحسانات عقلية لا توجب دلالة لفظية بحيث يفهمها أهل العرف من محض دلالة الألفاظ ، وبالجملة لا إشكال في وجوب الجمع إذا ساعده فهم العرف بأحد الوجوه الأربعة المذكورة ، وإنما الإشكال والخلاف في الجمع بمعنى الحمل على المعنى التأويلي الذي لا يساعده العرف سواء كان المعنى التأويلي متحدا أم متعددا ، كان بعضها أقرب من الباقي أو لم

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ١٧٥ / أبواب ما يكتسب به ب ٤٠ ح ١ (باختلاف يسير).

(٢) الوسائل ١٧ : ١٧٥ / أبواب ما يكتسب به ب ٤٠ ح ٣.

٤٥٢

يكن.

فنقول تارة نتكلّم فيه مع ملاحظة وجود الأخبار العلاجية ، وتارة مع قطع النظر عنها وفرض عدمها ، وتظهر الثمرة فما إذا كان المتعارضان غير الخبرين فإنّ الأخبار العلاجية واردة في خصوص تعارض الخبرين لا تشمل غيره ، أمّا الأول فالحق والتحقيق عدم وجوب الجمع بل المرجع أخبار التراجيح بوجوه : أحدها أنّ أخبار التراجيح أخصّ مطلقا من أدلة حجية أخبار الآحاد مطلقا فإنّها دالة على حجية جنس الخبر فتشمل المتعارضين جميعا ، لكن المستفاد من أخبار التراجيح وجوب طرح أحد المتعارضين تعيينا أو تخييرا ، فيخصص بها عموم دليل حجية الأخبار.

ثانيها : السيرة المستمرة من زمن أصحاب الأئمة (عليهم‌السلام) إلى يومنا هذا فإنهم لم يزالوا يعملون بالترجيحات عند المعارضة ويقدّمونها على الجمع المذكور مع إمكانه دائما أو غالبا ، إذ قلّ ما يكون مورد لم يمكن الجمع التأويلي بالنسبة إلى المتعارضين بالحمل على الوجوه المحتملة ولو كانت بعيدة.

ثالثها : أنه لو بني على الجمع المذكور تبقى أخبار التراجيح بلا مورد أو يجب حملها على الفرد النادر ، لما عرفت من إمكان التأويل في أكثر الموارد لو لم يمكن في جميعها.

رابعها : أنه على الجمع المذكور يلزم الهرج والمرج في الأحكام بحيث لو بني عليه لزم تأسيس فقه جديد.

وأمّا الثاني فالحق فيه أيضا عدم الجمع بل يرجع فيه إلى التساقط أو التخيير ، وذلك لأنّ دليل السند ليس متكفّلا لحال الدلالة ، وبناء العقلاء الذي هو مستند الأخذ بمداليل الألفاظ مختص بما يكون اللفظ ظاهرا فيه لا يشمل المعنى التأويلي ، وبالجملة لا دليل على اعتبار المعنى التأويلي.

٤٥٣

فإن قلت : قد ذكرت في القطعيين أنه يؤخذ بالمعنى التأويلي إن كان متحدا وعلى فرض التعدد أيضا يحكم بارادة أحدهما وينفى به الثالث ، ولازم ذلك أن تقول هنا أيضا بأخذ المعنى التأويلي ، لأنّ دليل حجية المتعارضين يجعلهما كالقطعيين تنزيلا. وبعبارة اخرى القطع الشرعي حكمه حكم القطع الوجداني بالنسبة إلى الأمر المقطوع به.

قلت : إنّما قلنا بالأخذ بالمعنى التأويلي في القطعيين لأجل حصول القطع بالمراد وليس وراء عبّادان قرية ، لا من جهة أنه يستفاد من اللفظ ويفهم منه عرفا ، ومن المعلوم أنّ القطع الوجداني بالمراد الواقعي غير موجود فيما نحن فيه ، فلا وجه لوجوب الأخذ بالمعنى التأويلي ، فحال ما نحن فيه حال النصّين المتعارضين القطعيين فنذره في سنبله ونردّ فهمه إلى الإمام (عليه‌السلام) (١).

قوله : فإنّ العمل بالدليلين مهما أمكن خير من ترك أحدهما وتعطيله بإجماع العلماء (٢).

يمكن حمل كلام العوالي على الجمع العرفي أو بشاهد ، ونحوهما مما ذكرنا من أقسام الجمع المقبول دون الجمع بالتأويل ، ويشهد له دعواه الإجماع عليه

__________________

(١) أقول : فيه بحث وهو أنّ الأخذ بالمعنى التأويلي في القطعيين إنما هو من جهة كون القطع بصدورهما حاكما بارادة المعنى التأويلي من اللفظ وكونه قرينة عقلية قطعية على المراد ، فإذا تعبّدنا الشارع بالحكم بصدور المتعارضين وصارا كالقطعيين بحكم الشارع يلزم الأخذ بلازمه أعني إرادة المعنى التأويلي وهو المدّعى ، لكن قد عرفت أنّ هذا مع قطع النظر عن الأخبار العلاجية وإلّا فبمقتضاها يتعيّن طرح أحدهما معيّنا عند الترجيح ومخيّرا عند عدمه.

(٢) فرائد الاصول ٤ : ١٩.

٤٥٤

وإلّا فيبعد كل البعد أن يدّعي الإجماع على خلاف ما اتّفق العلماء عليه ما عدا نادر يحتمل توجيه كلامه إلى ما لا يخالف كلام الباقين فتدبّر.

قوله : لاستحالة الترجيح من غير مرجّح (١).

الظاهر كما قيل إنّ هذا التعليل مستدرك في هذا الدليل ، لأنه إذا كان الأصل في الدليلين بمقتضى عموم أدلة الحجية الإعمال ينتج ما أراده المستدل من وجوب الجمع ، ويمكن توجيهه إمّا بأنه أراد أن يستند للأصل المذكور إلى هذا التعليل دون عموم أدلة حجية مطلق الدليل كما ذكرنا ، وإمّا بأنه أراد دفع احتمال طرح أحدهما ، وحاصل الدليل على هذا أنّ الأصل في الدليلين هو الإعمال ، ولمّا لم يمكن بظاهرهما ودار الأمر بين طرح أحدهما رأسا أو الجمع بينهما تعيّن الثاني وإلّا فعلى الأول يلزم الترجيح من غير مرجح.

ويرد على الأول : أنه يحتمل طرح كليهما أو الأخذ بأحدهما تخييرا فلا يلزم الترجيح بلا مرجح ، وعلى الثاني أيضا أنه يحتمل الأخذ بأحدهما تخييرا.

قوله : واخرى بأنّ دلالة اللفظ على تمام معناه أصلية وعلى جزئه تبعية (٢).

لم يتعرّض المصنف للجواب عن هذا الدليل ولعلّه لوضوح فساده ، أمّا أوّلا : فلأنّ ظاهر هذا الدليل هو الجمع العملي مع أنّ المدّعى الجمع الدلالي ، وذلك لأنّ ظاهره أنّ في الجمع طرح بعض المدلول والأخذ ببعضه ، مع أنّ مقتضى الجمع الدلالي هو حمل اللفظ على خلاف ظاهره مجازا ، ويكون ذلك تمام مدلوله ، ويكون الأخذ به أخذا بتمام المدلول دون بعضه.

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ٢٠.

(٢) فرائد الاصول ٤ : ٢٠.

٤٥٥

وأمّا ثانيا : فبمنع الأولوية في طرح الدلالة التبعية.

وأمّا ثالثا : فبمنع حجية هذه الأولوية على فرض تسليمها.

وأمّا رابعا : فبما أورد عليه العلّامة (رحمه‌الله) في محكي النهاية (١) بأنّ في الجمع عملا بدلالتين تبعيتين وفي الطرح بأصلية وتبعية وهو الأولى.

لكن أورد عليه السيد العميد في شرح التهذيب (٢) بأنّ أولوية الأخذ بتبعية وأصلية إنما تسلّم إذا كانا من دليلين ، أمّا إذا كانا من دليل واحد وكان التبعيتان من دليلين فلا ، لأنه مستلزم لتعطيل اللفظ الآخر وإلغائه بالكلية ، ومن المعلوم أنّ التأويل أولى من التعطيل.

وفيه : أنّ منع أولوية الطرح على الجمع لا يضرّ العلّامة (رحمه‌الله) فيما هو بصدده من ردّ دليل الخصم ، إذ يكفي فيه منع أولوية الجمع غاية الأمر تساويه مع الطرح وهو كاف في غرضه ، هذا كلّه بالنسبة إلى الجمع التأويلي الذي لا يساعده العرف وليس عليه شاهد.

وأمّا بالنسبة إلى الجمع العرفي والجمع بشاهد فالأولوية مسلّمة لا لما ذكره المستدل بل لما ذكرنا فتذكّر.

قوله : ولا ريب أنّ التعبّد بصدور أحدهما المعيّن إذا كان هناك مرجّح الخ (٣).

لا يخفى أنّ هذا البيان إنما يتم إذا لاحظنا المتعارضين بملاحظة الأخبار العلاجية وفي قبالها ، أو قلنا بأنّ الأصل في المتعارضين هو الترجيح إذا كان

__________________

(١) نهاية الوصول : ٤٥٣.

(٢) منية اللبيب : ١٦٩ (مخطوط).

(٣) فرائد الاصول ٤ : ٢١.

٤٥٦

لأحدهما مزية على الآخر أو التخيير إن لم يكن ، وأمّا مع الاغماض عن الأخبار العلاجية والقول بأنّ الأصل في المتعارضين التساقط فلا يجري ، إذ لا متيقن في البين من السندين.

وأيضا يرد عليه : أنّ هذا البيان مستدرك غير محتاج إليه في إثبات مطلوبه ، إذ يكفي في ردّ قاعدة الجمع ما ذكره قبل هذه العبارة من أنّ دليل الأخذ بالسندين معارض بدليل الأخذ بالظاهر ، مع أنّ هذا البيان في نفسه غير تامّ ، لأنّ الواحد المتّفق على التعبّد بصدوره لو كان متيقن التعبّد باليقين الوجداني صح أن يقال إنّ الأمر يدور بين الأخذ بظاهره وسند الآخر ، لكن الأمر ليس كذلك ، فيكون دليل التعبّد به إمّا نفس ذلك الاتّفاق أو عموم دليل التعبّد بالسند مطلقا ، أمّا الثاني ففيه أنّ نسبة الدليل إلى المتعارضين سواء ، وأمّا الأول ففيه : أنه يرجع إلى الإجماع التقييدي الذي لا نقول بحجيته ، لأنّ القائل بالجمع يأخذ بالسند بلا ظهور ، والقائل بالترجيح يأخذ بأحد السندين وظهوره مع طرح الآخر ، فكل منهما يقيد الجامع بشيء مشكوك فيه عندنا (١).

قوله : لكنّه فاسد من حيث إنّ ترك التعبّد الخ (٢).

الظاهر أنّ الحق مع المتخيّل ، لأنّ ترك التعبّد بظاهر ما عدا الواحد المتفق عليه مخالف للأصل بعد الأخذ بسنده على ما يقول به الجامع ، وليس مخالفا

__________________

(١) أقول : فيه تأمّل ، لأنّ تساوي نسبة دليل حجية السند إلى المتعارضين لا ينافي الأخذ بأحدهما لامكانه ، وعدم الأخذ بكليهما لعدم إمكانه ، وكذا الأخذ بسند واحد عند من يقول بالجمع أو الترجيح ليس مقيدا بشيء بل مقارن لعدم الأخذ بالظاهر عند الجامع ولعدم الأخذ بالسند الآخر عند القائل بالترجيح.

(٢) فرائد الاصول ٤ : ٢١.

٤٥٧

للأصل لو لم يؤخذ بسنده كما يقول به من يقول بالطرح ، وبالجملة لازم الجمع طرح ظاهرين ولازم الطرح طرح سند واحد.

ثم إنه يظهر من تمام بيانه هذا أنّ التعارض واقع بين ظاهر الخبر المتفق على صدوره وبين سند الآخر ، وليس كذلك بل التعارض حقيقة بين الخبرين ويقع التعارض بين سنديهما بالتبع ، نعم علاج التعارض يحصل برفع اليد عن ظاهر المتفق على صدوره أو برفع اليد عن سند الآخر ، وهذا لا يجعل التعارض بينهما ، فإنّ التعارض معنى وعلاج التعارض معنى آخر لا يلزم أن ينطبق مورد أحدهما على مورد الآخر.

قوله : توضيح الفرق وفساد القياس (١).

الإنصاف أنّ القياس في محله ، ودعوى أنّ قطعية الصدور قرينة على إرادة خلاف الظاهر مدفوعة بأنه إن كانت قرينة بحيث يفهم منه العرف المعنى التأويلي فلا كلام ، ونفرض في الظنيين مثله بأن يفهم العرف بملاحظة التعبّد بصدور الخبرين المعنى التأويلي ، وإن كانت قرينة بمعنى حصول القطع بارادة المعنى التأويلي وجدانا فالفرق بينه وبين الظنيين وإن كان حاصلا بحصول صفة القطع فيه دون الظنيين إلّا أنّ الحجة في الحقيقة في الأول نفس القطع دون الخبر ، وإن كانت قرينة بمعنى أنّ العقل يحكم بأنه لو اريد من المتعارضين معنى تعيّن أن يكون هو هذا المعنى التأويلي فنمنع حجية هذا المعنى بل نذره في سنبله.

قوله : وهما حاكمان على ظهوره (٢).

يمكن أن يقال في الظاهرين أيضا سند كل منهما حاكم على ظهور الآخر ،

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ٢٢.

(٢) فرائد الاصول ٤ : ٢٣.

٤٥٨

لأنّ الشك في إرادة الظاهر من كل منهما إنّما نشأ من الشك في صدور الآخر ويلزم ذلك الحكم بصدورهما وطرح ظاهرهما والحكم بارادة المعنى التأويلي المعيّن أو غير المعيّن والحكم بالإجمال.

ويمكن أن يقال في النص والظاهر أنّا نمنع كون المعارضة بين سند النص ودلالته مع ظهور الظاهر ، بل المعارضة بين سند النص وسند الظاهر ، كما أنّ دلالتهما أيضا متعارضة ، نظير ما مرّ في الظاهرين فتأمّل.

قوله : لكن ظاهره مخالف للإجماع الخ (١).

إن كان الإجماع القائم على عدم إرادة ظاهر الخبر قرينة عرفية على إرادة المعنى التأويلي فالقياس في محله ، لكنه خارج عن محل النزاع ، إذ لا كلام فيه في المقيس أيضا إن ساعده العرف ، وإن قام الإجماع على عدم إرادة الظاهر ومع ذلك لا يفهم العرف من الخبر المعنى التأويلي وإنّما يحكم به العقل بأنه لو كان الخبر صادرا واريد منه معنى لكان المراد هو المعنى التأويلي ، فلا نقول باعتباره لعدم الدليل عليه فالحكم في المقيس عليه أيضا غير مسلّم.

قوله : وأمّا لو لم يكن لأحد الظاهرين مزية على الآخر الخ (٢).

في المسألة وجوه بل أقوال ستة : الأول ما في المتن من عدم الجمع ولو قيل بالجمع في القسم الأول وهو ما يتوقّف الجمع فيه على تأويلين ، واستند في ذلك إلى وجهين :

الأول : أنه لو جمع بينهما وحكم باعتبار سندهما وأنّ أحدهما لا بعينه مأوّل لم يترتّب عليه أزيد من الأخذ بأحدهما وحاصله : أنّ الجمع هنا يكون مساويا

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ٢٣.

(٢) فرائد الاصول ٤ : ٢٧.

٤٥٩

للطرح بحسب ما يفيد في مقام العمل ولا تفاوت بينهما ولا ثمرة فلا أولوية لمثل هذا الجمع على الطرح.

وفيه : مضافا إلى منع المساواة وحصول الثمرة في الرجوع إلى الأخبار العلاجية وعدمه وفي مثل النذر وشبهه ، أنّ عدم الفرق والمساواة في مقام العمل لا يوجب رفع اليد عمّا اقتضاه الدليل ، فإذا دلّ الدليل على الجمع دون الطرح يجب الأخذ بمقتضى الدليل وإن كان مطابقا لما يلزم العمل به على تقدير عدم الجمع ، وليس هذا إلّا مثل الدليل الدال على حكم مطابق للأصل في المسألة فلا يرفع اليد عن هذا الدليل لأجل كون مفاده يتحد مع الأصل في المسألة.

الثاني : أنه لا معنى للتعبّد بصدور المتعارضين والحكم باجمالهما.

وفيه : أنه لا محذور فيه ، فيكونان في عرض سائر الأخبار المجملة غير المتعارضة ، فلا ريب أنه يحكم بصدورها ويترتّب عليها بعض الآثار كنفي ما عدا محتملاتها ، كما أنه يحكم في المتعارضين بنفي الثالث.

الثاني : عكس الأول وهو القول بالجمع على تقدير عدم الجمع في القسم الأول مستندا إلى أنّ القول بعدم الجمع في القسم الأول مستند إلى كون الأخبار العلاجية أو الإجماع العملي على عدم الجمع مانعا عن العمل بأصالة الجمع ، والمانع فيما نحن فيه مفقود لاختصاص الأخبار العلاجية وكذا الإجماع بالقسم الأول.

وفيه : منع الاختصاص فيهما كما لا يخفى.

الثالث : ما أشار إليه في المتن في قوله : وقد يفصّل ـ إلى قوله ـ فيستبعد الطرح في مادّة الاجتماع.

وفيه : أنه لا استبعاد في التفكيك والقول بأنّ الخبر حجة في مادة افتراقه وليس بحجة في مادة الاجتماع ، ولذا قالوا إنّه إذا كان الخبر مشتملا على فقرات

٤٦٠