حاشية فرائد الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-091-8
الصفحات: ٥٥٦
الجزء ٢ الجزء ٣

كذلك أصالة عدم الخروج عن عهدة التكليف الثاني مع الجلوس في الزمن المشكوك تقتضي وجوب عدم الجلوس فيحصل التعارض ويحتاج إلى الرجوع إلى أصل آخر.

قوله : فإن قلنا بتحريم الاشتغال كما هو الظاهر الخ (١).

توضيحه : أنّ المحرم الموقت أي الموضوع الواحد الملحوظ فعلا واحدا بين حدّين من الزمان يحتمل وجهين ، أحدهما : أن يكون الاشتغال بذلك الفعل من أوّل الوقت محرّما واقعا مطلقا بحيث لو بدا له في إتمام الفعل إلى آخر الوقت كان القدر المأتي به من الفعل محرّما في الواقع.

ثانيهما : أن يكون مجموع الفعل من أوّل الوقت إلى آخره من حيث المجموع محرّما بحيث لو بدا له في الأثناء ولم يتمه لم يكن آتيا بالمحرّم واقعا بل كان تجريا ، ونظير ذلك ما ذكره المصنف في فقهه في مبحث حرمة عمل الصور المجسّمة من كتاب المكاسب من أنه يحتمل أن يكون معنى حرمة عمل الصورة حرمة الاشتغال به ولو لم يتمه ، ويحتمل أن يكون معناها حرمة مجموع الصورة من حيث المجموع حتى أنه لو اشتغل بعمل الصورة ثم بدا له في إتمامه لم يكن منه إلّا التجري ، ففيما نحن فيه على كلا التقديرين عند الشك في تحقق الغاية ليس مجرى لقاعدة الاشتغال كما كان كذلك فيما لو كان التكليف المتعلق بمثله أمرا.

ووجه عدم جريان القاعدة ، أمّا على الاحتمال الأول أنه إذا اشتغل المكلف بالفعل الكذائي من أول الوقت إلى الزمان المشكوك فقد فعل المحرم قطعا بالنسبة إلى ما أتى به ، وفي الزمان المشكوك لا يعلم أصل التكليف متعلقا به حتى يكون مجرى للاشتغال بل يكون المورد مجرى لاستصحاب الحرمة لكونها متيقنة في

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٨٠.

١٨١

سابقه ، ولو أغمضنا عن هذا الاستصحاب يكون مجرى لقاعدة البراءة.

وأمّا على الاحتمال الثاني أنه إذا اشتغل بالفعل من أول الوقت إلى زمان الشك فإنه وإن لم يعلم بعد بتحقق الحرام لاحتمال كون الزمان المشكوك داخلا في المحدود وبالاشتغال فيه مع سابقه يتحقق المحرم إلّا أنه يحتمل تحقق الحرام فيما قبل الزمان المشكوك وكون الفعل فيه مباحا ، فلا تجري قاعدة الاشتغال ولا الاستصحاب المصطلح أيضا لعدم تحقق الحرام في سابقه أيضا بالفرض ، بل يكون المرجع أصالة عدم استحقاق العقاب وعدم تحقق المعصية ، هذا غاية توجيه ما في المتن.

وفيه نظر من وجوه ، منها : أنّ الفعل الواحد المنطبق على الوقت المعيّن المحدود لا يتفاوت حاله بين كونه مأمورا به أو منهيا عنه في أنّ متعلق التكليف هو المجموع من حيث المجموع أمرا كان أو نهيا ، واحتمال أن يكون المتعلق مطلق الاشتغال في صورة النهي دون الأمر مع أنه تفكيك بلا جهة لا وجه له أصلا وإلّا خرج عن مفروض البحث وهو ما لوحظ الفعل إلى زمان كذا موضوعا واحدا تعلق به حكم واحد ، ضرورة أنّ بعض ذلك الفعل بحسب الزمان فيما نحن فيه وبحسب الأجزاء في مثل عمل الصور المجسّمة على هذا الفرض يكون موضوعا مستقلا آخر للحرمة وهذا خلف.

ومنها : أنّ قاعدة الاشتغال جارية على الاحتمالين لا وجه لمنعها ، ضرورة العلم بتعلق التكليف بالمكلف بالنهي الصريح المتعلق بالفعل المعيّن في الزمان المعيّن المحدود بالحدين المعينين بالفرض ، فيحكم العقل بالاحتياط بالترك في الزمان المشكوك أنه مصداق ما قبل الغاية أو ما بعدها ، توضيحه أنه إذا علم المكلف بتعلق التكليف به يجب بحكم العقل الخروج عن عهدته بلزوم الموافقة القطعية مهما أمكن وإلّا فلا أقل من عدم المخالفة القطعية ، فنقول فيما

١٨٢

نحن فيه لو علم بوجوب الجلوس من الصبح إلى الزوال فإن شك في دخول الوقت من أوّله أو خروج الوقت من آخره يجب الجلوس في الزمان المشكوك أيضا تحصيلا للموافقة القطعية الممكنة ، ولو فرض أنه ترك الجلوس في الزمان المشكوك من الأول يجب عليه الجلوس في الزمان الباقي إلى الزوال تحصيلا للموافقة الاحتمالية وتحرّزا عن المخالفة القطعية ، وهذا واضح مسلّم عند الماتن ، وهكذا لو علم بحرمة الجلوس من الصبح إلى الزوال لو شك في بعض الوقت من أوّله أو آخره يجب عليه أوّلا تحصيل العلم بالموافقة القطعية بأن يترك الجلوس في الزمان المشكوك منضما إلى الباقي وإن لم يمكنه فلا أقل عن أن يتحرّز عن المخالفة القطعية.

مثلا لو كان الشك في أوّل الوقت وجلس في الزمان المشكوك يجب عليه ترك الجلوس في مجموع الزمان الباقي تحصيلا للموافقة القطعية وتحرزا عن المخالفة القطعية ، وإن لم يجلس يجب عليه أيضا ترك الجلوس في الزمان الباقي فإنه إن جلس فيه وإن لم يحصل به القطع بالمخالفة لاحتمال أن يكون الزمان المشكوك داخلا في الحد واقعا ، ولا يتحقق المخالفة بالجلوس في الزمان الباقي لفرض ترك الجلوس في بعض الوقت من أوّله ، لكنه لما احتمل كون الزمان الباقي تمام الوقت وأن يكون الجلوس فيه محققا للحرام كان تركه لازما تحصيلا للموافقة القطعية لإمكانها.

ولو كان الشك في آخر الوقت فإن لم يجلس من أول الوقت إلى ذلك الحين فلا إشكال لحصول الموافقة القطعية قبل ذلك ، جلس في هذا الزمان المشكوك أو لم يجلس ، وإن جلس من أول الوقت إلى هنا فيحتمل حصول المخالفة حينئذ وكون الجلوس في الزمان المشكوك مباحا ، ويحتمل عدم حصول المخالفة بعد وكون الجلوس في الزمان المشكوك محققا لوجود الحرام بضميمة الجلوس

١٨٣

السابق فيجب تركه تحرزا عن القطع بالمخالفة وإن لم يحصل به القطع بالموافقة.

ثم لا يخفى أنّ تقرير الاشتغال بما ذكرنا على الاحتمال الثاني ممّا احتمله في المتن واضح ، وأمّا بناء على الاحتمال الأول وهو القول بتحريم الاشتغال بالمحرّم في فرض المسألة فلا يخلو عن خفاء لكنه يظهر فيه ذلك أيضا بالتأمّل.

ومنها : أنّ ما يستفاد منه من أنّ المرجع بعد عدم جريان قاعدة الاشتغال هو الاستصحاب بناء على الاحتمال الأول وأصالة عدم استحقاق العقاب وعدم تحقق المعصية دون الاستصحاب بناء على الاحتمال الثاني غير واضح ، إذ لا مانع من جريان الاستصحاب بناء على الثاني أيضا ، وذلك لأنّ المستصحب على الأول أيضا ليس هو الحرمة المتحققة في الجزء الأول من الزمان لقضية حرمة الاشتغال حتى يقال إنه لم يعلم بتحقق الحرام في الخارج على الاحتمال الثاني كي يمكن استصحابه ، بل المستصحب هو التكليف بترك الجلوس المتيقن في الزمان السابق على الشك ، ويكون الشك في سقوط ذلك التكليف بتحقق المخالفة وانقضاء الزمان أو بقائه وبقاء الزمان وعدم تحقق المخالفة فيجري استصحاب ذلك التكليف ، ولا ريب أنّ جريان الاستصحاب على هذا التقرير لا يتفاوت حاله على الاحتمالين فتدبّر.

والتحقيق حتى على مذاق المصنف الرجوع في المقام إلى الاستصحاب الموضوعي وهو استصحاب الوقت.

ثم ما ذكره من أنّ المرجع في القسم الثاني أصالة عدم استحقاق العقاب وعدم تحقق المعصية ، فيه أنّ استحقاق العقاب وتحقق المعصية ليس لهما أثر شرعي يترتب عليهما ليصح إجراء الأصل بملاحظته ، بل هما من اللوازم العقلية المتفرعة على المخالفة ، ولعل نظر المصنف إلى أصالة البراءة والاباحة وقد تسامح في التعبير عنها بلازمها.

١٨٤

ثم لا يخفى أنّ قاعدة الاشتغال جارية أيضا فيما أشرنا إليه سابقا وألحقناه بالقسم الأول ، وهو ما إذا تعلق التكليف بطبيعة الفعل كالجلوس في الوقت ، فإن كان ذلك التكليف أمرا كما لو أمر بطبيعة الجلوس من الصبح إلى الزوال وفرض أنّ المكلف ترك الجلوس إلى زمان الشك في الزوال يحكم بوجوب الجلوس حينئذ بحكم قاعدة الاشتغال ، وإن كان نهيا ولازم النهي عن الطبيعة كالجلوس في الوقت المحدود كالصبح إلى الزوال حرمة جميع أفراده فيه يحكم بحرمة الجلوس عند الشك في الزوال ، سواء كان تاركا للجلوس من أوّل الوقت إلى ذلك الحين أو تحقق منه العصيان بإيجاد طبيعة الجلوس في سابقه في فرد آخر ، لما عرفت من أنّ النهي عن الطبيعة يقتضي حرمة جميع أفرادها الواقعة في الوقت.

قوله : وإن كان تخييرا فالأصل فيه وإن اقتضى عدم حدوث حكم ما بعد الغاية الخ (١).

الإنصاف أنّا لا نجد فرقا بين صورة كون حكم ما بعد الغاية تكليفا منجزا يجب فيه الاحتياط كالوجوب والحرمة وبين غيرها ، فإن أصل عدم حدوث حكم ما بعد الغاية إن كان جاريا يكون جاريا مطلقا في الصورتين ، ولا تعارضه قاعدة الاشتغال كما لا تعارضه قاعدة البراءة على ما هو مقرر في محله عند تعارض الاستصحاب مع سائر الاصول وحكومته عليها.

قوله : وأمّا الثاني وهو ما لوحظ فيه الفعل امورا متعددة الخ (٢).

التحقيق أن يقال إنّ ما ذكره من كون المرجع في هذا القسم أصالة البراءة والاباحة إنما يتم فيما إذا علم أنّ مورد التكليف فيه نفس تلك الامور من حيث

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٨٠.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ١٨٠.

١٨٥

تعددها كأن يعلم أنّ مراده من قوله يجب صوم شهر رمضان صوم تسعة وعشرين أو ثلاثين يوما وإنما عبّر بالشهر لكونه عبارة جامعة أخصر ، وأمّا لو اريد تلك الامور من حيث عروض عنوان وحداني لها فلا ريب أنه مجرى لقاعدة الاشتغال ، مثلا قوله يجب صوم شهر رمضان وإن لم يقتض أن يكون صوم كل يوم جزءا من المكلف به بحيث يتوقف صحته على صوم باقي الأيام منه إلّا أنه يفهم منه أنّ المقصود عدم خلوّ يوم من الشهر من الصوم كما يدل عليه «صم للرؤية وأفطر للرؤية» (١) وبعبارة اخرى يفهم منه أنّ الواجب جميع ما يمكن من الصيام فيما بين الهلالين ناقصا كان الشهر أو تاما ، وبهذا الاعتبار يعدّ تكليفا واحدا ، وإن كان الصيام تكاليف في حد أنفسها يصح صوم كل يوم مع قطع النظر عن صحة صوم باقي الأيام ، وحينئذ يقال يجب صوم يوم الشك من آخر رمضان بقاعدة الاشتغال تحصيلا للعلم بحصول عنوان صوم الشهر على ما مرّ ، ولو فرضنا أنه علم بعدد الأفراد التي تقع بين الحدين وأنه ثلاثون مثلا وشك في حصول الغاية الراجع إلى الشك في الاتيان بتمام الأفراد المعلومة ثبوت التكليف بها كان جريان قاعدة الاشتغال فيه أظهر لا مجال لتوهم جريان البراءة هنا ، مع أنّ إطلاق كلام المصنف يقتضي جريان البراءة هنا أيضا فتدبّر.

قوله : فعلم ممّا ذكرنا ـ إلى قوله ـ لا يجري إلّا في قليل من الصور (٢).

قد علم مما قرّرنا أنّ جميع الصور التي ذكرها بل الصور التي أهملها ونحن أشرنا إليها مجرى للاشتغال ، بل قد مر سابقا منّا أنّ الأصل الأوّلي مع قطع النظر عن الاستصحاب وشبهه هو الاشتغال في مطلق الشبهات الموضوعية ولو لم يكن

__________________

(١) الوسائل ١٠ : ٢٥٥ و ٢٥٦ / أبواب أحكام شهر رمضان ب ٣ ح ١٣.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ١٨١.

١٨٦

أصل التكليف محدودا إلى غاية ، بل في الشبهات البدوية أيضا مع قطع النظر عن أخبار البراءة فراجع.

قوله : بقي الكلام في توجيه ما ذكره من أنّ الأمر في الحكم التخييري أظهر (١).

قد أشار المصنف إلى سند الحكم بالتخيير عند الشك في حصول الغاية ويسمّيه المحقق استصحاب التخيير ، لكن لم يبيّن وجه أظهرية كون البراءة سندا لاستصحاب التخيير على كون قاعدة الاشتغال سندا لاستصحاب الوجوب أو الحرمة ، ولعل وجهها أنّ قاعدة الاشتغال عند المحقق الخونساري ليست بمثابة قاعدة البراءة في الاعتبار ، لأنه قائل بصحة القاعدة بضرب من التردد فيها على ما يظهر من كلماته ، بخلاف قاعدة البراءة فإنها من المسلّمات عند الكل ، وقيل إنّ وجه الأظهرية أنّ قاعدة البراءة مستدل عليها بالعقل والنقل بخلاف الاشتغال فإنّ دليله العقل فقط ، فتأمّل.

قوله : وحينئذ فيرد عليه مضافا إلى أنّ التعارض الخ (٢).

لا حاجة إلى هذا البيان الطويل الذيل بل لا يصح أيضا ، إذ ليس في النص لفظ التعارض حتى يتكلم في تعيين الطرفين المتعارضين ، وإنما هو لفظ النقض وهو يقتضي على ما اختاره المصنف أن يكون هناك أمر فيه اقتضاء البقاء والاستمرار حتى يصدق النقض ، ولا فرق على هذا بين كون المنقوض صفة اليقين أو أحكامها تنزيلا على ما اخترنا في معنى لا تنقض اليقين ، أو كونه المتيقن أو أحكامه بواسطة اليقين على ما اختاره المصنف ، أو دليل المتيقن على ما يظهر من

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٨١.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ١٨٥.

١٨٧

المحقق الخونساري ، لكن الحق والتحقيق أنّ مفاد أخبار لا تنقض يساعد مختار المصنف بعد تسليم دلالة النقض على رفع اليد عمّا يقتضي البقاء والاستمرار ، والاغماض عمّا ذكرنا سابقا من أنّ النقض ليس إلّا حلّ الأمر المبرم وكل يقين يصدق عليه أنه أمر مبرم ورفعه نقض له سواء كان الشك في الرافع أو في المقتضي ، ومحصّل المقال هنا أن يقال هل المراد ممّا يقتضي الاستمرار المدلول عليه من لفظ النقض أن يكون المنقوض بذاته مقتضيا للدوام والاستمرار كالملكية والزوجية كما يدّعيه الماتن (رحمه‌الله) ، أو يكون الدليل الدال على ثبوت المستصحب مقتضيا للاستمرار ودالا عليه إلى غاية كما يدّعيه المحقق الخونساري ، والصواب ما يدّعيه المصنف بمعنى أنّ ملاك صدق النقض إنما يتحقق فيما كان في المنقوض اقتضاء الاستمرار إلى زمان الشك وفي زمان الشك أيضا ، لا ما إذا كان دليل المستصحب دالا على الاستمرار إلى غاية وشك في حصول الغاية ، لأنّ رفع اليد عن المستصحب عند الشك في حصول الغاية لا يعدّ نقضا للمستصحب ، لأنّ أصل الاقتضاء في هذا الحال غير معلوم ، نعم لو حصل الشك في الحكم قبل مجيء الغاية المفروضة فرفع اليد عنه نقض له وهو داخل في الملاك الأول ، فافهم.

قوله : وبين هذا وما ذكره المحقق (رحمه‌الله) تباين جزئي (١).

يعني تباين في الجملة ، إما بكون مختار المصنف أعم مطلقا من مختار المحقق لشموله للشك في رافعية الموجود أيضا بخلاف مختار المحقق فإنه مختص بالشك في وجود الرافع ، وإمّا بكون النسبة بينهما عموما من وجه بملاحظة أنّ مختار المحقق أيضا أعم من جهة اخرى وهي شموله لما إذا لم يعلم

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٨٦.

١٨٨

اقتضاء المقتضي بقاء المستصحب في زمان الشك ، أعني زمان الشك في وجود الغاية ، لأنه شك في وجود المقتضي حينئذ كما لا يخفى ، فليتأمّل.

قوله : خصوصا في مثل التخصيص بالغاية (١).

لعلّ وجه خصوصية التخصيص بالغاية أنّ الاقتضاء الأوّلي الموجود في العام المخصص بغير الغاية بحسب مدلوله مع قطع النظر عن المخصص مفقود في الدليل المغيّى ، لأنّ ذكر الغاية دليل على انتهاء اقتضاء المغيّى وأنّ حدّ الاقتضاء هو حصول الغاية فالتخصيص فيه يرجع في الحقيقة إلى التخصص.

قوله : فنسبة دليلي العموم والتخصيص إليه على السواء من حيث الاقتضاء (٢).

قد تكرّر هذا البيان من المصنف في فقهه واصوله دليلا على عدم جواز التمسك بالعام في الشك في مصداق المخصص ، وقد أشرنا في غير موضع إلى أنّ التحقيق خلافه بتقريب أنّ شمول العام للفرد المفروض معلوم وشمول المخصص له مشكوك ، فلا وجه لرفع حكم العام عن الفرد المعلوم الفردية له لأجل الشك في خروجه بكونه فردا للمخصص واقعا ، مثلا لو قال أكرم العلماء وقال لا تكرم فسّاقهم وشككنا في فسق زيد العالم فإنّ شمول العلماء بعمومه لزيد معلوم وشمول الفسّاق له مشكوك فيرجع الشك إلى الشك في خروجه عن العموم بحسب ظاهر الدليل. لا يقال إنّ العام بعد التخصيص صار منوّعا بنوعين نوع واجب الاكرام وهو عدولهم ونوع محرّم الاكرام وهو فسّاقهم ، وصار المحصّل من الخطابين هكذا أكرم عدول العلماء لا تكرم فسّاق العلماء فزيد المشكوك العدالة

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٨٧.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ١٨٧.

١٨٩

والفسق دخوله في أحدهما وخروجه عن الآخر ليس بأولى من العكس ، وهذا معنى قوله فنسبة دليلي العموم والتخصيص إليه على السواء ، لأنّا نقول سلّمنا التنويع المذكور بحسب لبّ مراد الآمر ، إلّا أنّ المكلف به بظاهر الدليل هو العنوان المأخوذ في الدليل وليس إلّا عنوان العالم المعلوم الشمول لزيد وعنوان الفاسق المشكوك الشمول له ، فنأخذ بظاهر العام إلى أن يعلم خلافه ونحكم على زيد بحكم العام.

قوله : مع أنّ ما ذكره في معنى النقض لا يستقيم الخ (١).

لأنّ اليقين بحصول الغاية لا يعارض الدليل الدالّ على الحكم المغيّى ، إذ لا اقتضاء للحكم المغيّى عند حصول الغاية لانتهاء حدّه حينئذ ، مع أنه عبّر هنا أيضا بالنقض ، فيعلم منه أنّ النقض ليس معناه التعارض على ما ذكره ، وأمّا على المعنى الذي اختاره في المتن فيصح بأن يكون الشيء بذاته مقتضيا لأثر وحصل اليقين بالمانع عنه فلم يترتّب الأثر ، وباعتبار وجود المقتضي يصدق التعارض بينه وبين المانع هذا ، لكن قد عرفت في الحاشية السابقة أنّ التعارض لا يتحقق مع الشك في حصول الغاية أيضا لعدم إحراز المقتضي فضلا عن العلم بحصولها.

قوله : ومن المعلوم أنّه ليس في شيء منهما دليل يوجب اليقين لو لا الشك (٢).

فإن قلت : الدليل موجود وهو حكم العقل ببقاء الشغل إلى أن يعلم بالبراءة. قلت : مراد المحقق من الدليل هو الدليل الاجتهادي لا مثل قاعدة الاشتغال التي تعدّ من الاصول ، يشهد بذلك قوله بعد ذلك فإن قلت هب أنّه ليس داخلا في

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٨٧.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ١٨٨.

١٩٠

الاستصحاب المذكور لكن نقول قد ثبت بالإجماع إلى آخر ما ذكره في تقرير قاعدة الاشتغال ، فإن كان مراده من الدليل أعمّ من قاعدة الاشتغال لم يكن وجه للعدول عن الوجه الأول وهو التمسك بالأخبار إلى التشبّث بالإجماع وضميمة قاعدة الاشتغال وهو ظاهر.

قوله : وفي مثل هذا المقام لا يجري أصالة البراءة ولا أدلّتها الخ (١).

ونظيره ما حقّقه المصنّف في باب الوضوء لو فرض الشك في شرطية شيء أو جزئيته له من أنّ الأصل فيه الاحتياط دون البراءة وإن قلنا بالبراءة في مسألة الأقل والأكثر الارتباطي ، لأنّ المأمور به وهو الطهارة من الحدث أمر بسيط لا تركيب فيه ومفهومها غير مشتبه وإنّما الشك فيما يتحقق به ذلك المفهوم ، وأدلّة البراءة لا تتكفّل إلّا لبيان حكم الشبهة في الحكم الشرعي الذي لا بدّ أن يؤخذ من الشارع ومتعلّقه لا ما كان من مقدّمات حصول المأمور به ومحققه ، وهنا وجوب فعل الطهارة معلوم ، كما أنّ فيما نحن فيه وجوب تحصيل الطهارة من الخبث معلوم وإنما الشك في محققه وأنه هل تحصل بالتمسّح بشعب الحجر الواحد أم لا تحصل إلّا بثلاثة أحجار ، لكن التحقيق خلاف ما حقّقه وهو أن يقال إنّ ما يتحقق به المأمور به ويكون مقدّمة لحصوله إن كان من الامور العرفية فالأمر كما ذكره من لزوم العلم بتحققه ولو بالاحتياط ولا يجري فيه أدلّة البراءة ، وأمّا إذا كان من الامور الشرعية كالوضوء بالنسبة إلى الطهارة الحدثية والغسل مرتين بالماء الطاهر المطلق بشرط وروده على النجس مثلا بالنسبة إلى الطهارة الخبثية فلا مانع من جريان أدلّة البراءة ، وبالجملة أدلّة البراءة مسوقة لبيان حكم الشبهة فيما من شأنه أن يؤخذ من الشارع سواء كان نفس المأمور به أو ما يحققه إذا كان المحقق

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٨٨.

١٩١

أمرا شرعيا كالأمثلة المذكورة.

ومحصّل توضيح المقام أنه إن قلنا بنفي الأحكام الوضعية فالأمر بالطهارة أو إزالة النجاسة يرجع إلى الأمر بالوضوء أو الغسل والتمسّح ، فيكون ما شك فيهما راجعا إلى الشك في المأمور به ومجرى لأدلّة البراءة كما لا يخفى ، وإن قلنا بثبوت الأحكام الوضعية وأنّ الطهارة من الحدث أو الخبث أمر مجعول من الشارع أو أمر واقعي كشف عنه الشارع فلا ريب أنها حينئذ مجهولة الكنه والحقيقة عندنا ، ومحصّلها أيضا كذلك أمر لا نعرفه إلّا بما يبيّن لنا الشارع ويكشف عنه ، ولا قصور لأدلة البراءة في شمولها لمثله لو شك في شيء مما يحتمل جزئيته أو شرطيته له ، وليس ذلك إلّا مثل الصلاة إذا شك في جزئية السورة لها مثلا سيّما على مذهب الصحيحي فإنّ الماتن يذهب إلى أنه مجرى للبراءة ، وما يتشبّث به هنا من أنّ المأمور به وهو ازالة النجاسة المعلوم وجوبه لا بدّ من إحرازها بالاحتياط فيما يحققها وارد عليه هناك ، فإنّ عنوان الصلاة المأمور بها وهو مركب ارتباطي لو لم يكن تام الأجزاء والشرائط كان لغوا صرفا يجب إحرازه بالاحتياط ، والفرق بين المقامين تحكّم.

قوله : وينبغي التنبيه على امور (١).

ينبغي التنبيه على امور أخر أيضا لا بأس بأن نقدّم الاشارة إليها ثمّ نتعرّض لما في المتن :

الأول : أنّ المتيقن السابق إمّا أن يكون معلوما بالوجدان أو يكون معلوما بالعلم الشرعي بمثل البيّنة ونحوها أو يكون معلوما بالبناء عليه ظاهرا تعبّدا بأصل من الاصول العملية ، ولا شك أنّ القسم الأول مجرى للاستصحاب وكذا القسم

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٩١.

١٩٢

الثاني وإن كان اليقين بحقيقته غير متحقق فيه لكن لمّا كان اليقين المأخوذ فيما نحن فيه هو اليقين على وجه الطريقية لا الموضوعية كما سيأتي في الأمر الآتي وكان دليل جعل البيّنة ونحوها متكفلا لقيامها مقام اليقين الوجداني من حيث الطريقية كفى ذلك في شمول إطلاق أخبار الاستصحاب له أيضا ، وأمّا القسم الثالث فليس مجرى للاستصحاب ، مثلا لو حكمنا بطهارة شيء خاص بمقتضى قاعدة الطهارة ثم شككنا في بقاء طهارته للشك في ملاقاته للنجاسة بعد حكمنا بطهارته ظاهرا لم يجز التمسك ببقاء طهارته أعني الطهارة الظاهرية الثابتة بحكم القاعدة بدليل الاستصحاب ، وذلك لأنّ نفس القاعدة الأوّلية التي حكمنا بسببها بطهارة هذا المشكوك مغنية عن استصحابها ، لا لأنّ الاستصحاب غير محتاج إليه في الحكم بالطهارة لكفاية القاعدة عنه ، إذ يكفي في صحة جريانه أن يكون الدليل على الطهارة متعددا ، بل لأنّ المتيقن السابق باق على صفة اليقين بعد لم يطرأ عليه الشك ، لأنّ حكمنا بطهارته ظاهرا المستفاد من قوله «كل شيء طاهر» كان مغيّا بالعلم بالقذارة فما لم يحصل الغاية نعلم بالطهارة الظاهرية المفروضة ، فأين الشك بالنسبة إليها حتّى يكون مجرى للاستصحاب ، وإنما طرأ الشك الثاني أيضا بالنسبة إلى الطهارة الواقعية ، كما أنّ الشك الأول كان كذلك ، نعم يمكن فرض جريان الاستصحاب بالنسبة إلى مفاد الاصول أيضا فيما إذا لم يكن دليل حكم الأصل مغيّا بالعلم بالخلاف كما في قاعدة الطهارة وقاعدة البراءة وقاعدة الاستصحاب ، بل كان مثبتا لمدلوله في الجملة على نحو الاهمال ثم حصل الشك في الزمان المتأخر في بقاء ما ثبت ظاهرا في الزمان الأول فإنه لا مانع من جريان استصحابه من هذه الجهة ، مثاله أنا إذا شككنا في أنّ أصل التخيير التعبّدي الثابت في الخبرين المتعارضين المتعادلين بدوي أو استمراري ولم يظهر لنا من قوله (عليه‌السلام) «إذن فتخيّر» إرادة أحدهما نحكم ببقاء التخيير بعد اختيار أحد

١٩٣

الخبرين بحكم الاستصحاب ، وما يقال إنّ هذا الاستصحاب معارض باستصحاب بقاء الحكم المختار فهو كلام آخر لسنا بصدده الآن ، وإنّما المقصود أنّ كون المستصحب حكما ظاهريا واليقين بأنه كذلك غير مانع عن جريان الاستصحاب ولو حصل منه في المورد التعارض والتساقط ، ونظير المثال التخيير في الرجوع إلى المجتهدين المتساويين أو غير المتساويين بالنسبة إلى المقلد.

الأمر الثاني : أنّ المراد من اليقين السابق هو اليقين الطريقي دون الموضوعي ، لأنّ الحكم المترتب على صفة اليقين مقطوع الانتفاء حال الشك كما هو واضح ، وقد مر في أول رسالة القطع أنّ من خواص القطع الطريقي قيام الاصول مقامه دون الموضوعي ، وفي حكم القطع الموضوعي ما لو دل دليل على أنّ الحكم الكذائي أو الموضوع الكذائي دليل ثبوته منحصر في العلم ، فإنّ نفس الحكم وإن لم يكن متعلقا بالعلم بل بالواقع إلّا أنّ تنجّزه متوقف على حصول العلم به بمقتضى ذلك الدليل ، فلا جرم لا يقوم مقامه أصل من الاصول ، ولعله من هذا القبيل ما ورد في الركعتين الاوليين من اعتبار العلم بهما لا كما فهم غير واحد من كون العلم موضوعا ، وتظهر الثمرة فيما إذا أتم الصلاة بعد طروّ الشك في أولييها بوجه صحيح من غير جهة هذا الشك واتفق مطابقتها للواقع من جهة هذا الشك ، فإنّ الصلاة صحيحة واقعا بناء على الطريق المنحصر فاسدة بناء على الموضوعي.

الأمر الثالث : أنه قد ظهر من مطاوي الكلمات السابقة أنه لا يعتبر في جريان الاستصحاب تقدم زمان اليقين على زمان الشك ، بل المعتبر تقدم زمان المتيقن على المشكوك سواء كان اليقين في زمان المتيقن والشك في زمان المشكوك أو كان كلاهما في زمان المشكوك أو كان كلاهما في زمان المتيقن أو قبله أيضا ، فإنه يجري الاستصحاب في جميع الصور المفروضة لاطلاق أخباره ، ومن أمثلته ما لو شك المشتري للجارية من البائع الفضولي في لحوق إجازة

١٩٤

المالك في المستقبل بناء على القول بالكشف فتجري أصالة عدم لحوق الاجازة فيما سيأتي ويترتب عليه عدم جواز وطء الجارية حينئذ.

الأمر الرابع : أنه يعتبر في مجرى الاستصحاب أن يكون زمان الشك متصلا بزمان اليقين السابق وعلم ذاك الاتصال ، فما اشتهر في مسألة من تيقن بالطهارة والحدث وشك في المتقدم منهما من جريان استصحاب كل منهما وتعارضهما لا وجه له ، بل لا يجري واحد من الاستصحابين ، إذ لم يتصل زمان الشك بزمان أحد اليقينين ، أعني لم يعلم أنّ قبل زمان الشك في الطهارة هو اليقين بالطهارة بلا فصل أو اليقين بالحدث ، والدليل على اعتبار هذا الشرط في جريان الاستصحاب انصراف الأخبار وانسياقها إلى ذلك بدعوى أنّ المنساق منها إلغاء الشك والأخذ باليقين ، وصدق هذا المعنى ليس إلّا بأنّك إذا ألغيت الشك لم يبق لك إلّا اليقين فيحكم ببقائه في زمان الشك أيضا ، وفي المثال المذكور لو ألغيت الشك تبقى بعد متحيرا في الحكم السابق أنه الطهارة أو الحدث.

الأمر الخامس : أنه يعتبر في المتيقن السابق أن يكون شخص وجوده الخاص بحسب الزمان قابلا للبقاء في زمان الشك ، فلو كان وجوده مرددا بين زمانين بحيث يكون لو وجد في أحدهما قد ارتفع قطعا ولو وجد في الآخر كان باقيا قطعا ولمّا كان وجوده مشكوكا بين الزمانين صار بقاؤه أيضا مشكوكا لذلك لم يجر الاستصحاب ، مثاله ما لو علم بأنه تطهر عند الزوال ثم بعد العصر شك في زمان الطهارة في أنّه زوال اليوم الماضي فتكون مرتفعة قطعا أو زوال اليوم الحاضر فتكون باقية قطعا ، والوجه في اعتبار هذا الشرط أيضا ما مر في الأمر الرابع من أنّ المنساق من الأدلّة أنك لو ألغيت الشك لم يبق لك إلّا الحالة السابقة المتيقنة المحتملة للبقاء ، وهاهنا ليس كذلك لأنّه بعد إلغاء الشك تبقى مرددا متحيرا ، إذ لعل وجود المستصحب كان في الزمان الأول المتيقن الارتفاع فلم

١٩٥

يعلم بصحة البقاء (١).

قوله : وتردده بين ما هو باق جزما (٢).

أو محتمل البقاء فإنه مثال لهذا القسم أيضا ، لأنّ بقاء الكلّي مشكوك فيه فيه أيضا بنفس الوجود الأول ، فكان الأولى في التعبير هكذا وتردده بين ما هو مرتفع جزما وبين ما لم يجزم بارتفاعه ، سواء كان مشكوك البقاء أو معلوم البقاء على تقديره.

قوله : فلا إشكال في جواز استصحاب الكلّي ونفس الفرد (٣).

يعني لو كان لكل منهما أثر يقصد ترتبه باستصحابه ، أمّا إذا كان الأثر ثابتا للفرد دون الكلّي فلا ريب أنه يجري استصحاب الفرد دون الكلّي ، وأمّا في صورة العكس فاستصحاب الكلّي لا مانع منه لغرض ترتيب أثر الكلّي ، وهل يمكن استصحاب الفرد لترتيب أثر الكلّي؟ وجهان ، من أنّ مجرى الأصل وهو الفرد بما هو فرد لا أثر له ، ومن أنّ وجود الفرد وبقاءه عين وجود الكلّي وبقائه على التحقيق في وجود الكلّي الطبيعي ، فيكفي في صحة استصحاب الفرد وجود الأثر للكلّي وهذا هو الأقوى (٤).

__________________

(١) أقول : لا يخفى أنّ هذا العنوان داخل في عنوان الأمر الرابع بل هو هو بعينه ، لأنه يرجع الأمر في المثال المذكور إلى أنه عند العصر المفروض يعلم بوقوع طهارة منه وحدث يشك في تقدم أحدهما على الآخر فليتأمل جيدا ، وانتظر لتمام البيان في حال هذه الأمثلة في مسألة أصالة تأخر الحادث.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ١٩١.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ١٩١.

(٤) أقول : هذا عندي غير واضح ، إذ لو اريد أنّ استصحاب الفرد مرجعه إلى استصحاب

١٩٦

قوله : سواء كان الشك من جهة الرافع الخ (١).

قيل هذا التعميم مناف لما اختاره المصنف من اختصاص حجية الاستصحاب بالشك في الرافع دون المقتضي ، ويمكن دفعه بأنه بنى هذا التعميم على القول المشهور كما هو صريح المتن فتأمّل.

قوله : ولم يعلم الحالة السابقة (٢).

يفهم من تقييد المثال بعدم العلم بالحالة السابقة أنّه إذا علم بالحالة السابقة لم يكن مثالا للمطلب ، وهو على إطلاقه غير جيد ، لأنه إن علم بسبق الطهارة على حدوث الحادث المزبور فهو أولى بأن يكون مثالا للمطلب وسيظهر وجه الأولوية ، وأمّا إن علم بسبق الحدث الأصغر فإن قلنا بتأثير الحدث بعد الحدث وإن كان رفعهما برافع واحد من باب التداخل المسببي فهو كذلك مثال لما نحن فيه ، لأنّ الحادث المفروض قد أثّر أثرا لا يعلم برفعه إلّا بالجمع بين الطهارتين ، وإن قلنا بعدم تأثير الحدث بعد الحدث من باب تداخل الأسباب كما هو المختار فليس مثالا لما نحن فيه ، بل الأصل عدم ما يؤثّر أثرا زائدا على المعلوم ، وإن علم بسبق الحدث الأكبر فليس مثالا بكل وجه لأنّ الحادث لم يوجب أثرا أصلا على التقديرين.

__________________

الكلّي لمكان الاتّحاد والعينية لم يترتّب أثر الكلّي على استصحاب الفرد بل على استصحاب الكلّي ، وإن اريد أنّ استصحاب الفرد مع أنه لا يرجع إلى استصحاب الكلّي بل يغايره ومع ذلك يترتّب آثار الكلّي لاتحاده مع الفرد بحسب الوجود فهو ممنوع أشدّ المنع ، اللهم إلّا بالقول بالأصل المثبت لأنّ حاله حال سائر اللوازم العقلية فتدبّر.

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٩٢.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ١٩٢.

١٩٧

وربما يورد على التفصيل المذكور بوجوه ثلاثة ، الأول : أنه على تقدير العلم بسبق الحدث الأصغر والقول بعدم تأثير الحدث بعد الحدث أيضا يكون المثال ممّا نحن فيه ، بتقريب أنه عند خروج الحدث المشتبه يعلم إجمالا بأنّه إما محدث بالحدث الأصغر وإما مجنب ، فيعلم إجمالا بوجوب واحد من الوضوء والغسل ، ولازمه وجوب الاحتياط بهما ، فإذا فعل أحدهما يكون محلا لاستصحاب الكلّي.

والجواب : أنّ هذا العلم الاجمالي غير مؤثّر في وجوب الاحتياط ، لأنّ أحد طرفيه مسبوق بالوجود والآخر مسبوق بالعدم ، وبجريان الأصلين في الطرفين لا يلزم طرح العلم ، فيحكم بأصالة بقاء الحدث الأصغر وعدم تبدّله بالأكبر ، وأصالة عدم حدوث الأكبر ، وهذا نظير الشبهة المحصورة في الماءين أو الثوبين لو كان أحدهما مسبوقا بالنجاسة والآخر بالطهارة ، فيعمل بالأصلين ولا ينظر إلى العلم الاجمالي ، إذ لا يلزم من العمل بالأصلين طرح تكليف معلوم على ما مرّ توضيحه في مسألة الشبهة المحصورة من رسالة أصل البراءة.

الثاني : أنه في صورة الجهل بالحالة السابقة كما فرض المثال في المتن لا يكون المثال مثالا لما نحن فيه ، إذ لا يخلو واقعه عن أحد المحتملات الأخر ، ومن المحتملات في الواقع أن يكون مسبوقا بالحدث الأصغر والقول بأنّ الحدث بعد الحدث لا يؤثّر ، وقد عرفت أنه على تقديره لم يكن مثالا وكان حكمه مجرد ترتيب أثر الحدث الأصغر المعلوم في السابق ، ففي صورة الجهل بالحالة السابقة يقال لم يعلم أزيد من هذا المقدار الذي هو أقل المحتملات تكليفا.

والجواب : أنه عند حدوث الحادث المشتبه يحصل العلم الاجمالي بين كونه محدثا بالحدث الأصغر أو الأكبر ، وهذا العلم الاجمالي مؤثّر في وجوب الاحتياط ، وليس مثل ما ذكرنا في الأمر الأول من عدم تأثير العلم الاجمالي لعدم

١٩٨

العلم بالحالة السابقة هنا لكي يجري استصحابها ، بخلاف الفرض السابق فإنّ أحد المشتبهين كان مسبوقا بالوجود والآخر بالعدم فتدبّر.

الثالث : أنّ جعل المصنّف هذا المثال مثالا لمجرى الاستصحاب مناف لما قرّره في رسالة أصل البراءة عند دوران الأمر بين المتباينين كالظهر والجمعة من أنه بعد فعل الظهر أو الجمعة لا يجري استصحاب التكليف لافادة وجوب فعل الآخر ، لأنّ حكم العقل بوجوب الاحتياط بعد باق وهو مغن عن الاستصحاب ، مضافا إلى أنه من الاصول المثبتة التي لا نقول بها ، وهذا الكلام يجري في مثال ما نحن فيه بعينه فإن حكم العقل بوجوب الاحتياط بفعل الوضوء والغسل كليهما كاف مغن عن إجراء الاستصحاب.

والجواب : أنّ الغرض من إجراء الاستصحاب فيما نحن فيه ترتيب سائر الآثار المترتبة على موضوع مطلق الحدث ولا دليل على ذلك سوى الاستصحاب ، نعم بالنسبة إلى نفس التكليف بأصل الوضوء أو الغسل يكفي أصالة الاشتغال ولا يحتاج إلى الاستصحاب كما في مثال الظهر والجمعة.

قد يقال : إنه من قبيل مثال ما نحن فيه ما لو تردد بين أن يكون الخارج بولا أو حيضا ، وما لو تردد بين كونه منيا أو دم حيض ، فإنه يجب فيهما أيضا الجمع بين الوضوء والغسل ، فإذا فعل أحدهما يشك في ارتفاع كلّي الحدث فيجري استصحاب الكلّي لترتيب الآثار المشتركة بين الحدثين.

وفيه نظر ، لأنّ العلم الاجمالي هنا ينحل إلى معلوم ومشكوك بدوي ، إذ يعلم بوجوب سبب الوضوء في المثال الأول على كل تقدير ، ويشك في وجود موجب الغسل والأصل عدمه ، وفي المثال الثاني بالعكس.

فإن قلت : المقصود من استصحاب الكلّي في هذه الأمثلة ترتّب الأثر المشترك كما هو المفروض ، ولا مانع من جريانه في هذين المثالين بهذا الاعتبار

١٩٩

لأنه عند حدوث الحادث المفروض يعلم بحدوث الأثر المشترك كعدم جواز الدخول في الصلاة مثلا ، وبعد فعل الوضوء في الأول والغسل في الثاني يشك في ارتفاع ذلك الحدث فيشك في بقاء ذلك الأثر المشترك فيجري أصل بقاء الحدث لترتيب ذلك الأثر ، وأصالة عدم موجب الغسل أي الحيض في الأول وأصالة عدم موجب الوضوء أي الحيض أيضا في الثاني غير جارية لأنها معارضة بأصالة عدم خروج البول أو المني.

قلت : لا نسلّم المعارضة المذكورة بالنسبة إلى إيجاب الغسل في الأول والوضوء في الثاني ، لمكان التفكيك بين آثار المستصحب من جهة المعارضة توضيحه : أنّ أصالة عدم حدوث البول معارضة بأصالة عدم حدوث الحيض باعتبار الأثر المشترك وهو كون كل منهما موجبا للوضوء ، ووجه المعارضة أنه بجريان الأصلين يلزم طرح العلم الحاصل بحدوث موجب الوضوء على كل تقدير ، وأمّا أصالة عدم حدوث الحيض باعتبار الأثر المختص به وهو إيجابه الغسل لا معارض له ، إذ بجريانه لا يلزم طرح علم إلّا إذا فرض للبول أيضا أثر خاص به ، فيحصل العلم الاجمالي بوجود أحد الأثرين ويتعارض الأصل من الجانبين ، لكن هذا خلاف الفرض إذ ليس للبول أثر مختص به ، فيسلم الأصل في الطرف الآخر عن المعارض ، فليتأمل فإنه دقيق. ونظير ذلك ما يقال في الخبرين المتعارضين فإنه يحكم بالتساقط وعدم الحجية بالنسبة إلى مدلولهما لأجل التعارض ويحكم بحجيتهما معا بالنسبة إلى نفي الثالث إذ لا تعارض بينهما من هذه الجهة.

٢٠٠