حاشية فرائد الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-091-8
الصفحات: ٥٥٦
الجزء ٢ الجزء ٣

السابقة ثم بعد العجز عن العلم بها يتشبّث بأصل الاباحة أو الحظر ، ووجه ذلك كلّه ليس إلّا أنّ المركوز في الأذهان بملاحظة نسخ الشريعة السابقة أنّ كل حكم إلهي يحتاج إلى دليل يدلّ على ثبوته في الشريعة اللاحقة وفرض الشريعة السابقة كأن لم يكن.

قوله : منها ما ذكره بعض المعاصرين إلخ (١).

يمكن تقرير اختلاف الموضوع بوجه آخر لا يندفع بما دفع به المصنف في المتن ، وهو أنّ أهل ملة اليهود موضوع وأهل ملة النصارى موضوع آخر وأهل ملة الإسلام موضوع ثالث ، ولا يجوز إسراء حكم موضوع لموضوع آخر بالاستصحاب ، ولا يندفع ذلك بفرض الشخص الواحد مدركا للشريعتين ضرورة أنّ هذا الشخص قبل نسخ الشريعة الاولى داخل في أهل الملة الاولى وبعد النسخ معدود من أهل الملة التالية وقد عرفت أنّهما موضوعان مختلفان ، وبالجملة اليهودي والمسلم وكذا النصراني والمسلم موضوعان وإن كان الشخص الموصوف بهما واحدا باعتبار زمانين كالمسافر والحاضر فإنه يتصف الشخص الواحد بالوصفين باعتبار زمانين ، فإنّ ذلك لا يوجب اتّحاد الموضوع كما لا يخفى. وكذا لا يرد عليه النقض باستصحاب عدم النسخ فإنّ الموضوع هنا أهل ملة واحدة لا تعدد فيه ، وكذا لا يندفع بما أشار إليه في الحل من أنّ الموضوع نوع المكلّفين لا أشخاصهم لأنا نسلّم أنّ الموضوع نوع المكلّف إلّا أنه لا بدّ أن يكون من ملة واحدة.

قوله : وفيه أوّلا : أنّا نفرض الشخص الواحد مدركا للشريعتين (٢).

بعد الإغماض عما ذكرنا في وجه تعدّد الموضوع نقول إنّ ذلك لا ينفعنا لو

__________________

(١ ، ٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٢٥.

٢٦١

أردنا نحن استصحاب حكم من الشريعة السابقة لأنّا لم ندرك الشريعة السابقة ، ودعوى مشاركتنا للمدرك للشريعتين في الحكم فيتم المطلوب بالإجماع المركب ، مدفوعة أوّلا : بأنّ ذلك فرع العلم بأنّ ما هو مشكوك لنا اليوم ونريد أن نستصحب حكم الشريعة السابقة بالنسبة إليه كان مشكوكا عند من أدرك الشريعتين وجرى الاستصحاب في حقه وأنّى لك باثباته ، فلعلّه كان عالما بالحكم أو كان شاكا ولكن لم يكن متيقنا لحكم الشريعة السابقة فلم يجر الاستصحاب في حقه.

وثانيا : أنّ التمسك بالإجماع المركّب إنما يجري بالنسبة إلى الأحكام الواقعية فإنه إذا علم وجوب الشيء الفلاني مثلا على زيد واقعا ، يحكم بوجوبه على جميع المكلّفين للإجماع على عدم الفرق بين زيد وغيره في الأحكام الشرعية ، وهذا بخلاف الأحكام الظاهرية الثابتة بالاصول العملية فلو جرى الاستصحاب في حق زيد لوجود أركانه من اليقين السابق وشكه في اللاحق وحكم بوجوب شيء عليه بالاستصحاب لا يمكن إثبات وجوب ذلك الشيء على غير زيد ممّن لا يتم عنده أركان الاستصحاب ، بل قضية مشاركة زيد مع غيره في الأحكام تقتضي أن يكون غير زيد أيضا مثله في أنه كلما استكمل عنده أركان الاستصحاب جرى في حقه الاستصحاب وإلّا فلا.

قوله : ولعلّه من سهو قلمه (١).

لم يعلم أنّ المستدل استشهد بتسرية حكم الحاضرين إلى الغائبين على مدّعاه ، بل محل استشهاده خصوص تسرية حكم الموجودين إلى المعدومين ، وإنما ذكر الحاضر والغائب تطفّلا بمناسبة اشتراكهما في جريان أدلة الاشتراك

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٢٦.

٢٦٢

على ما هو محرّر في مسألة خطاب المشافهة.

قوله : ويتم الحكم في المعدومين بقيام الضرورة الخ (١).

قد عرفت فساد هذا الكلام سابقا وأنّ اشتراك أهل الزمان الواحد إنما يكون في الأحكام الواقعية دون الاصول ، فإن جرى الاستصحاب في حق أحد لتمامية أركانه في حقه لا يوجب جريانه في حق من لم يتم الأركان عنده.

قوله : وإن اريد غيره فلا فرق بين القول به والقول بالوجوه (٢).

يمكن أن يدفع الايراد عن المحقق القمي باختيار هذا الشق وأنّ المراد بكون حسن الأشياء ذاتيا كون الذات مقتضيا للحسن دون العلة التامة ، ويكون الفرق بينه وبين القول بالوجوه والاعتبارات أنه على هذا القول يظن البقاء ، لأنّ العلم بالمقتضي والشك في المانع يوجب الظن بوجود المقتضى بالفتح ، وهذا بخلاف القول بالوجوه فإنه لا شيء هنا يوجب الظن بالبقاء ، لكن هذا مبني على اعتبار الاستصحاب من باب الظن.

فإن قلت : على هذا كيف يجري الاستصحاب عنده في أحكام شريعتنا مع قوله بالوجوه والاعتبارات.

قلت : منشأ الظن في أحكام شريعتنا هو الغلبة لغلبة استمرارها وعدم نسخها ، وهذا بخلاف أحكام الشرائع السابقة فإنّ الغالب فيها النسخ ، فلا منشأ للظن بالبقاء فيها سوى كون الحسن مقتضى الذات فتدبّر.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٢٧.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٢٨.

٢٦٣

قوله : منها إثبات وجوب نية الاخلاص في العبادة الخ (١).

لا يخفى أنّ المطلوب من الثمرة في هذا المقام متوقف على امور كلها محل المناقشة :

الأول : أن يكون مفاد الآية أنّ أهل الكتاب ما امروا في شرعهم إلّا ليعبدوا الله مخلصين. مع أنه يمكن أن يراد منها أنّهم ما امروا في شرعنا هذا إلّا ليعبدوا الله مخلصين ، ويكون الغرض توبيخهم وتعييرهم على عدم قبول دين الإسلام مع قيام البيّنة عليه ، ومع كون ما يؤمرون به في الاسلام ليس إلّا ما تستقل به عقولهم وثبت في شريعتهم التي يتديّنون بها وهو عبادة الله على وجه الاخلاص والصلاة والزكاة ، وبعبارة اخرى يقول ما بالهم لا يؤمنون بهذا الدين القويم والحال أنّهم ما امروا في هذا الدين إلّا ليعبدوا الله مخلصين له الدين ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، وحسن التديّن بهذا الدين الذي أمر فيه بهذه الامور الحسنة واضح بديهي لا يعدل عنه إلّا من سفه عقله وتبع هواه وأخذته العصبية في متابعة دين آبائه وأسلافه ، بل نقول إنّ هذا المعنى هو الظاهر من الآية لو لم نقل بأنه مقطوع به ، بل نقول لو سلّمنا أنّ المراد أنهم ما امروا في شرعهم إلّا ليعبدوا الله مخلصين يكون الغرض منه الحث على التديّن بدين الإسلام الذي ما امر فيه إلّا أمثال تلك الامور التي امر بها في شرعهم وتلقّوها بالقبول ، فيكون حاصل المعنى أنّ أهل الكتاب لم لا يقبلون دين الإسلام والحال أنّ الدين الذي قبلوه وأقرّوا عليه ما امروا فيه إلّا ليعبدوا الله مخلصين ونحوه مما هو بيّن الحسن ، فليقبلوا أحكام هذا الدين الذي مثل أحكام دينهم في الحسن بعد قيام البيّنة.

الثاني : أن يكون مفاد الآية وجوب الاخلاص في العبادة بالوجوب

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٢٩.

٢٦٤

الغيري الشرطي كما هو المطلوب في الأوامر التعبّدية التي يراد منها كون الاخلاص شرطا في صحة ما امر به منها ، وهذا في محل المنع ، فإنّ غاية ما يستفاد منها على فرض التسليم أنّ الاخلاص في العبادات واجب وظاهره الوجوب النفسي على نحو تعدّد المطلوب ، وأمّا الشرطية فلا.

فإن قلت : إنّ ما ذكرت إنما يرد على الاستدلال بالآية على أنّ الأصل في الأوامر التعبّدية بالمعنى المصطلح ولا يضرّنا فيما نحن بصدده من استصحاب أحكام الشرائع السابقة ، هب أنّ مفاد الآية وجوب الاخلاص بالوجوب النفسي المستقل في جميع العبادات لكن لا مانع من استصحاب هذا النحو من الوجوب ونحكم به في شريعتنا أيضا.

قلت : ثبوت هذا المعنى في المأمور به بأوامر شريعتنا مقطوع العدم لا يشك فيه حتى يجري فيه الاستصحاب ويكون موضع الثمرة.

الثالث : أن لا يكون لنا دليل على وجوب الاخلاص في العبادة ويكون المسألة محل الشك حتى ينفع التمسك بالاستصحاب ويصح عدّه من مواضع الثمرة ، مع أنّ الدليل على المسألة موجود على ما هو محرّر في محله من قوله (عليه‌السلام) «إنّما الأعمال بالنيات» (١) وقوله (عليه‌السلام) «لكل امرئ ما نوى» (٢) وقوله (عليه‌السلام) «لا عمل إلّا بنية» (٣) وغيرها من الأدلة النقلية والعقلية. لكن يرد على هذا أنّ تلك الأدلة مخدوشة كلها على ما تقرر في محلها فلا يرفع بها الشك في المسألة فيصح التمسك بالاستصحاب فيها إن تم.

__________________

(١ ، ٢) الوسائل ١ : ٤٨ / أبواب مقدمة العبادات ب ٥ ح ١٠.

(١ ، ٢) الوسائل ١ : ٤٨ / أبواب مقدمة العبادات ب ٥ ح ١٠.

(٣) نفس المصدر ح ٩.

٢٦٥

قوله : أنّ الآية إنما تدل على اعتبار الاخلاص في واجباتهم الخ (١).

يعني في أشخاص واجباتهم المقرّرة في شرعهم ، لا أن يكون من أحكام شرعهم وجوب الاخلاص في كل واجب ، فعلى الثاني ينفعنا الاستصحاب لاثبات وجوب الاخلاص في واجبات شرعنا بخلاف الأول فإنه لا ينفع إلّا إذا ثبت بقاء أشخاص تلك الواجبات في شرعنا.

قوله : وهما لغة مطلق الالتزام (٢).

وعلى هذا يمكن الجواب بوجه آخر وهو أنه التزم المؤذن بتسليم حمل بعير لمن جاء بالصواع ولو من مال الملك ، لا باشتغال ذمته بذلك ليرجع إلى الضمان المصطلح ويكون من ضمان ما لم يجب بل مجرد الالتزام بالدفع ، ولا ضير في أن يكون هذا التعهّد صحيحا لازما في شريعة يوسف (عليه‌السلام) ، بل نقول نلتزم بصحة مثل التعهّد في شريعتنا أيضا لا بالاستصحاب كي تتم الثمرة ، بل بعمومات أدلة العقود والشروط ، فإنّ هذا عهد من العهود وشرط من الشروط يشمله العموم.

قوله : فيمكن أن يرجّح في شريعتنا التعفّف على التزويج (٣).

لا إشكال ولا خلاف في استحباب النكاح ورجحانه على تركه على من تاقت نفسه إلى الزواج وصعب عليه تركه ، وإنما الخلاف في استحبابه على من لم تتق نفسه إليه ، فالمشهور فيه الاستحباب أيضا خلافا للشيخ (٤) وحينئذ نقول يثمر

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٢٩.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٣٠.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ٢٣١.

(٤) المبسوط ٤ : ١٦٠.

٢٦٦

الاستصحاب في الحكم بعدم استحبابه في محل الخلاف لأنه محل الشك. وتحقيق الجواب عنه أنّ أدلة استحباب طبيعة النكاح من حيث هي مع قطع النظر عن طرو الطوارئ الخارجية من الأخبار العامة والخاصة قد بلغت مبلغا يمكن دعوى القطع برجحان النكاح في شرعنا ، فلا نشك فيه حتى ينفعنا استصحاب حكم الشريعة السابقة ، فالحصورية لو كانت راجحة في شريعة يحيى (عليه‌السلام) فهو منسوخ بشرعنا.

ويمكن أن يقال أيضا إنّ الحصور هو العفيف الزاهد في الدنيا عن ملاذ النفس التي هي مقتضى القوى الشهوية ، ورجحان هذا المعنى لا ينافي استحباب النكاح لأجل الدخول في سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعدم الرغبة عنه.

قوله : وفيه أنّ الآية لا تدلّ إلّا على حسن هذه الصفة (١).

وفيه أنه لا معنى لحسن صفة الحصورية على الاطلاق إلّا رجحانها على عدمها ، فلا يجامع هذا رجحان النكاح واستحبابه على الاطلاق ، فإنّ رجحان فعل شيء وتركه على الاطلاق محال لأنه يرجع إلى أرجحية الفعل على الترك وأرجحية الترك على الفعل ، نعم لا مانع من كون الفعل مقيدا ببعض الخصوصيات راجحا على الترك وكون الترك مقيدا ببعض الخصوصيات راجحا على الفعل ، وهذا هو الوجه في الجواب الثاني الذي ذكرنا في الحاشية السابقة. وإن أراد أنّ ترك التزويج حسن على الاطلاق بمقتضى الآية من حيث هو ولا ينافي ذلك رجحان النكاح بواسطة بعض الجهات الطارئة كما يشهد به تنظيره بمدح زيد بأنه قائم الليل صائم النهار ، وعدم منافاة ذلك رجحان تركهما للاشتغال بما هو أهم ، ففيه أنّ هذا تسليم للثمرة وأنه يستفاد من الآية رجحان ترك التزويج من حيث هو

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٣١.

٢٦٧

في شريعة يحيى (عليه‌السلام) ولا ينكر أحد أنّ الراجح قد يصير مرجوحا لبعض العناوين الطارئة وبالعكس.

قوله : وفيه ما لا يخفى (١).

لعلّه إشارة إلى ما يقال إنّ يمين أيّوب (عليه‌السلام) لمّا لم يكن منعقدا لما روي أنه أخبره ابليس (لعنه الله) بأنّ زوجته أتت بفاحشة فحلف على ضربها مائة خشبة ثم تبيّن خلافه وأنّ ضربها مرجوح ، أمر (عليه‌السلام) بضربها ضغثا ندبا حفظا لصورة حلف أيوب (عليه‌السلام) اهتماما بشأن الحلف في نفسه وعدم الحنث صورة ، فلا دخل له بمسألة بر اليمين الصحيح بالضغث ، نعم لو فرض الشك في شرعنا في استحباب ضرب الضغث لو حلف بتخيّل كونه راجحا فبان مرجوحا أمكن التمسك بالاستصحاب على استحبابه على القول بجريان هذا الاستصحاب وبهذا تتم الثمرة. ويمكن أن يكون إشارة إلى ما يقال إنه لا يجب وفاء مثل هذا اليمين كما ورد (٢) أنّ أبا محمّد الباقر (عليه‌السلام) حلف أن يضرب غلامه في طريق مكة ولم يضربه ، فسأله الراوي عن ذلك فقال (عليه‌السلام) إذا رأيت خيرا من يمينك فدعها قال الله تعالى : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى)(٣) وهكذا كان أمر أيوب (عليه‌السلام) فقد حكي (٤) أنّ امرأته أسمعته كلاما ساءه فحلف أن يضربها مائة خشبة ثم عفا عنها فأمر أن يضربها ضغثا وجوبا أو ندبا حفظا لوظيفة الحلف صورة.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٣١.

(٢) الوسائل ٢٣ : ٢٧٥ / كتاب الإيمان ب ٣٨ ح ١.

(٣) البقرة ٢ : ٢٣٧.

(٤) تفسير نور الثقلين ٤ : ٤٦٥ ـ ٤٦٦ ، الدرّ المنثور ٥ : ٣١٧.

٢٦٨

واعلم أنّ المسألة معنونة في كلام القوم ، فالمشهور أنه لو حلف على ضرب مائة خشبة لا يكتفي في بره بضرب الضغث خلافا للشيخ (١) فاكتفى به للآية ، واختار المحقق (رحمه‌الله) (٢) التفصيل في مسألة حدّ الزاني بين كون الزاني صحيح البدن فلا يكفي الضغث بدلا عن مائة جلدة وكونه مريضا فيكفي متمسكا بالرواية الدالة على هذا التفصيل مستشهدا فيها بالآية ، إذا عرفت ذلك فنقول : يمكن أن يقال إنّ بدلية الضغث ثابتة في شرعنا بالصحيحة المذكورة مستشهدا بالآية فلا نحتاج في ثبوته إلى الاستصحاب فبطلت الثمرة.

قوله : (وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) إلى آخر الآية (٣).

اتّفقوا على أنّ ذا العين الواحدة لو فقأ عين ذي العين الواحدة يقتص بفقء عينه ، وكذا لو فقأ ذو العين الواحدة عين ذي العينين فقئ عينه وإن أوجب عماه لأنّ الحق أعماه ، واختلفوا فيما لو فقأ ذو العينين عين ذي العين الواحدة فقيل يفقأ أحد عينيه لا شيء غيره ، وقيل يفقأ أحد عينيه ويؤخذ منه نصف الدية الكاملة أيضا لأنه أعماه ، فيمكن الاستدلال للقول الأول باطلاق الآية بضميمة استصحاب حكمها في شرعنا على القول بجريانه وهو المراد من الثمرة ، لكنه ورد النص موافقا للقول الثاني والعمل عليه فانتفت الثمرة. وقد يقال إنّ سوق الآية يدل على أنّ حكم القصاص بالنحو المذكور في الآية من الأحكام الباقية في شرعنا وغير منسوخة فلا نحتاج إلى الاستصحاب ، وتمام الكلام في المبحث وسابقه ولا حقه في الفقه ، وليس الغرض هنا سوى الاشارة إلى تمامية الثمرة وعدمها.

__________________

(١) الخلاف ٦ : ١٧٥ ـ ١٧٦.

(٢) الشرائع ٤ : ١٥٦.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ٢٣١.

٢٦٩

قوله : وفيه : أنّ حكم المسألة قد علم من العمومات والخصوصات (١).

ما يحتمل استفادته من الآية ليكون محلا للثمرة أحكام أربعة ، الأول : جواز العقد على إحدى المرأتين مبهمة كما هو مدلول قوله تعالى : (أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ)(٢). الثاني : جواز الاستيجار إلى أحد الأجلين مبهما حيث جعل ذلك مهرا في الآية. الثالث : جواز جعل المهر في النكاح لغير الزوجة حيث جعل المهر فيها خدمة شعيب (عليه‌السلام). الرابع : جواز جعل المهر خدمة الزوج.

أمّا المسألة الاولى ، فنمنع استفادتها من الآية لأنه قال : (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَ) ولا يفيد هذا سوى مجرد الوعد ، ولا ينافي ذلك تعيين المرأة عند إجراء العقد عليها ، مضافا إلى أنّ حكم المسألة معلوم في شرعنا بالنص والإجماع من اشتراط التعيين فلا مجرى للاستصحاب.

وأمّا المسألة الثانية ، فنمنع أيضا استفادتها حيث إنّ محل الاجارة ثماني حجج على الظاهر وإتمامها عشرا مجرد تبرّع كما يظهر من قوله (فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ) فليس محل الاجارة مبهما حتى يمكن استصحاب هذا الحكم ، ولو سلّم ظهور الآية في أنّ محل الاجارة مبهم بشهادة قوله : (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) حيث إنّ ظاهره أنّ كلا الأجلين هو الأجل المضروب في العقد ، نقول إنّ حكم المسألة معلوم في شرعنا بعدم الجواز فلا شك فيه ولا استصحاب.

وأمّا المسألة الثالثة ، فتارة نقول بمثل ما قلنا في سابقتيها من أنّ حكم المسألة معلوم في شريعتنا بعدم جواز جعل المهر لغير الزوجة بالإجماع والنص المعلّل له بأنّ المهر ثمن رقبتها فلا يملكه غيرها حتى أنه لو جعل مالا لغير الزوجة

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٣٢.

(٢) القصص ٢٨ : ٢٧.

٢٧٠

بعنوان الشرط مع الغير ليس بصحيح ، نعم لو رضيت المرأة بالنكاح بشرط أن يعطي الزوج مالا لغيرها بحيث تعود فائدة الشرط إلى الزوجة ويعدّ الشرط شرطها فهو صحيح لا غبار عليه.

واخرى نمنع استفادة الحكم المذكور من الآية حيث لم يظهر منها أنه جعل خدمة موسى (عليه‌السلام) لشعيب (عليه‌السلام) مهر المرأة ، ولعل شعيب (عليه‌السلام) آجر موسى (عليه‌السلام) باجرة وأنكحه ابنته بمهر ، والغرض من اشتراط الانكاح بالاجارة المذكورة امتحان موسى (عليه‌السلام) حال إقامته عند شعيب (عليه‌السلام) زمن الاجارة وأنه يصلح أن يختاره صهرا له أم لا.

وثالثة نقول : يمكن أنّ ابنة شعيب (عليه‌السلام) رضيت بكون مهرها كله أو بعضه خدمة أبيها شعيب (عليه‌السلام) كما يظهر من قوله تعالى حكاية عنها قبل ذلك (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)(١) وقد عرفت أنّ الزوجة لو شرطت مالا لغيرها على الزوج ورضيت بالنكاح على هذا الوجه يصح ويعود نفعه إلى الزوجة ، وأداؤه وفاء للزوجة وتسليم إليها في الحقيقة.

وأمّا المسألة الرابعة ، فحكمها أيضا معلوم في شرعنا من جواز جعل المهر كل ما يعدّ مالا من عين أو منفعة دار أو دابة أو إنسان حر أو عبد أو غيرها ، نعم خالف الشيخ (٢) في خصوص منفعة الزوج متمسكا برواية مشتبهة المفاد ، وقد سبقه الإجماع ولحقه على خلافه.

__________________

(١) القصص ٢٨ : ٢٦.

(٢) الخلاف ٤ : ٣٦٦ ، المبسوط ٤ : ٢٧٣.

٢٧١

قوله : الأمر السادس قد عرفت أنّ معنى عدم نقض اليقين الخ (١).

قد عرفت سابقا أنه لا حاجة إلى جعل اليقين المنهي عن نقضه بمعنى المتيقن ، ولا جعل نقضه بمعنى نقض آثاره بتقدير الآثار ، بل المراد النهي عن نقض نفس اليقين ، ومرجعه إلى وجوب إبقاء اليقين ، ودعوى أنّ إبقاء اليقين حال الشك غير معقول ، مدفوعة بما عرفت سابقا من أنّ المراد إبقاؤه تنزيلا ، والغرض منه العمل على طبق ما يعمله من تيقن بالشيء ، نعم إبقاؤه حقيقة غير معقول وليس بمراد ، ولو سلّمنا أنّ المعنى لا تنقض المتيقن لا حاجة إلى تقدير الآثار بل لا يصح ، إذ لو كان معنى لا تنقض اليقين ابق آثار المتيقن لم يشمل استصحاب نفس الحكم كالوجوب والحرمة مثلا إذا لم يكن لهما أثر شرعي ، بل وإن كان لهما أثر لأنّ مقتضى هذا المعنى الحكم ببقاء الأثر دون نفس الوجوب والحرمة ليحكم بوجوب طاعتهما بحكم العقل ، وهذا بخلاف ما إذا كان المراد إبقاء نفس المتيقن فإنه يشمل الأحكام والموضوعات غاية الأمر أنّ الغرض من إبقاء الأحكام إطاعتها التي يحكم بها العقل ، والغرض من إبقاء الموضوعات ترتيب آثارها الشرعية التي حكم بها الشرع ، وإن أراد المصنف أنّ المراد عدم نقض الآثار بالنسبة إلى الموضوعات وعدم نقض نفس المتيقن بالنسبة إلى الأحكام ، ففيه أنه لا جامع بين المعنيين حتى يمكن إرادته من قوله (عليه‌السلام) «لا تنقض اليقين».

قوله : دون غيرها من الآثار العقلية والعادية (٢).

مجموع ما استدل به لعدم حجية الاصول المثبتة وجوه ثلاثة ، وجهان للمصنف وثالثها لصاحب الفصول وسيأتي. الوجه الأول : عدم معقولية الجعل

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٣٣.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٣٣.

٢٧٢

التشريعي متعلقا بالآثار العقلية والعادية التي هي دائرة مدار واقعها ، وقد أوضحه في المتن بما لا مزيد عليه.

ويمكن الجواب عن هذا الدليل أوّلا : بالنقض بجعل الأمارة وباستصحاب الأحكام وباستصحاب الموضوعات لاثبات الآثار الشرعية ، أمّا النقض بالأمارات فلأنّ الأمارة كالبيّنة مثلا طريق تعبّدي اعتبره الشارع حجّة ، كما أنّ الأصل أيضا دليل تعبّدي اعتبره الشارع عند الشك وإن لم يكن اعتباره بعنوان الطريقية فإنّ هذا ليس فارقا فيما نحن بصدده ، فلو لم يكن الأثر العقلي والعادي قابلا لورود الجعل والتعبّد عليه لم يكن فرق بين أن يكون الدليل عليه دليل حجية الأمارة أو دليل حجية الأصل ، وأي فرق بين استصحاب حياة زيد المشكوك فيها وبين قيام البيّنة على حياته المشكوك فيها ، فلم خصّوا عدم الحجية بالاصول المثبتة دون الأمارات المثبتة.

وأمّا النقض بالأحكام المستصحبة بنفسها أو الثابتة باستصحاب موضوعاتها ، فلأنها أيضا كالآثار العقلية والعادية دائرة مدار واقعها غير قابلة للجعل ، إذ ليس المراد جعل جديد عند الشك ، مثلا إذا قال لا تنقض الطهارة السابقة أو الوجوب السابق واحكم ببقائهما ليس المراد منه جعل طهارة أو وجوب آخر غير الطهارة السابقة وغير الوجوب السابق ، بل المراد إبقاء نفس المتيقن السابق ظاهرا بحيث لو تبيّن انتقاضه وعدم بقائه واقعا يحكم بنقض الآثار المترتبة بحكم الاستصحاب ولم يكن مجزئا عن واقع التكليف ، فلو لم يكن الجعل والتنزيل معقولا في الأثر العقلي والعادي لكونه دائرا مدار واقعه لم يكن معقولا بالنسبة إلى الحكم أيضا بعين هذه العلّة.

وأمّا النقض بالموضوع ، فلأنّ الموضوع كالحياة أيضا أمر واقعي ليس قابلا للجعل التشريعي فيلزم أن لا يحكم باستصحابه ، ولا يندفع بما دفعه في المتن من

٢٧٣

أنّ معنى جعل الحياة جعل آثاره ولوازمه الشرعية دون العقلية والعادية وما يترتّب عليهما من الآثار الشرعية ، لأنّ مثل هذا الاعتبار ممكن بالنسبة إلى الآثار العقلية والعادية ، فيمكن أن يحكم بوجودها بمعنى ترتيب آثارها الشرعية. لا يقال إنّ الأثر العقلي ليس موردا للتنزيل حتى يحمل على جعل آثاره ، لأنّا نقول تنزيل ملزومه يكفي في تنزيل اللازم ولازم اللازم وهكذا كما يقول به المصنف بالنسبة إلى الآثار الشرعية الثابتة بواسطة الحكم الشرعي وإن تعدّدت الوسائط.

فإن قلت : إنّ قوله «لا تنقض اليقين» لا يشمل سوى نفس المتيقن وأحكامه الأولية بلا واسطة ، فلا يكون الواسطة العقلية محلا للجعل ليحمل على جعل أحكامه.

قلت : إنّ هذا كلام في إطلاق الدليل أو قصوره عن شموله للأحكام المترتّبة على مورد الاستصحاب بواسطة وهو الثاني من دليلي الماتن وسيأتي التكلّم عليه ، وإنّما الكلام الآن في معقولية ورود الجعل بالنسبة إلى الآثار العقلية ولوازمها أو عدم معقوليته ، وقد عرفت أنّ معقولية ورود الجعل على الأثر العقلي في حدّ معقولية جعل نفس الموضوع ، وإشكاله إشكاله والجواب الجواب.

ولا يخفى أنّ مقتضى مذاق المصنف من عدم معقولية جعل الموضوع عدم شمول إطلاق قوله «لا تنقض اليقين» للموضوعات ، ولا قرينة تدلّ على تيقن شموله لها حتى يلجئنا ذلك إلى تأويله بجعل أحكام الموضوعات.

وثانيا : بالحل وهو أن يقال إمّا أن نقول بمجعولية الأحكام الوضعية كما هو الحق ، فحينئذ لا إشكال أنه يمكن للشارع جعل الأحكام والموضوعات ولوازمها العقلية وملزوماتها وملازماتها ظاهرا ويقول المشكوك حياته حي جعلا وتنزيلا ونبت لحيته تنزيلا وزوجته باقية على الزوجية تنزيلا وهكذا ، وإمّا أن نقول بعدم مجعوليتها كما هو مذهب المصنف ، ولذا جعل معنى استصحاب الموضوعات جعل

٢٧٤

أحكامها ، فنقول لا فرق بين الموضوعات وآثارها العقلية في عدم معقولية جعل نفسها ومعقولية جعل آثارها ، فليحمل على جعل الأحكام في المقامين ليرتفع الإشكال من البين.

الوجه الثاني لعدم حجية الاصول المثبتة : أنّ أخبار الاستصحاب قاصرة الشمول للآثار مع الواسطة ، فإنّ القدر المتيقن من مدلولها أو الظاهر منها جعل الآثار المترتبة على المستصحب بنفسه دون آثار الآثار ، ولعله المراد مما ذكره في دفع السؤال الذي أورده على نفسه من :

قوله : قلت الواجب على الشاك عمل المتيقن بالمستصحب من حيث ما تيقنه به الخ (١).

وفيه أوّلا : النقض بالآثار الثابتة بواسطة الآثار الشرعية المترتبة على المستصحب فإنّ الوجه المذكور جار فيه.

فإن قلت : فرق بين ما يترتب على الآثار العقلية أو العادية أو المترتبة على الآثار الشرعية ، فإنّ الواسطة الشرعية لمّا كانت قابلة للجعل يكون منجعلا بأدلة الاستصحاب ويتحقق به موضوع الآثار المترتبة على

الواسطة ، وهذا بخلاف الواسطة العقلية فإنه لا وجود لها واقعا ولا جعلا فكيف يحكم بترتب آثارها.

قلت : إنما ينفع هذا البيان لو ثبت أنّ موضوع الآثار الشرعية المتأخرة أعم من وجوده الواقعي أو الجعلي نظير موضوع حكم العقل بوجوب الاطاعة فإنه أعم من التكاليف الواقعية والظاهرية على ما مر بيانه غير مرّة ، أو ثبت بدليل الاستصحاب تنزيل الوجود الظاهري لذلك الأثر الشرعي منزلة الواقعي ، وكلا الأمرين في محل المنع ، فإنّ موضوع أدلة الآثار هو الواقع بظاهرها لا الأعم ،

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٣٥.

٢٧٥

وكذا ظاهر أدلة الاستصحاب على ما قرّره في المتن مجرد ترتيب الآثار في الظاهر لا جعل تلك الآثار بمعنى تنزيلها منزلة الواقع فافهم فإنه دقيق.

وثانيا : النقض بالأمارات التعبّدية كالبيّنة مثلا ، فإنّ أدلة حجيتها بظاهرها لا تزيد على أخبار الاستصحاب بحسب المفاد ، فإنها تدلّ على وجوب ترتيب الآثار على ما أخبر به البيّنة ، فيلزم عدم جواز ترتيب الآثار مع الواسطة بالبيان المذكور بعينه.

فإن قلت : فرق بين الاصول والأمارات ، حيث إنّ الأمارات ناظرة إلى الواقع ويثبت بها الواقع ظاهرا ، بخلاف الاصول فإنه ليس فيها جهة كشف عن الواقع بل مجرد الحكم بترتيب الأثر حين الشك.

قلت : الفرق ممنوع بالنسبة إلى ما نحن بصدده ، لأنّ الأمارة ليست طريقا واقعيا ليثبت بها الواقع وآثاره ، بل طريق تعبّدي ، ولا معنى للتعبّد بطريقية الشيء إلّا ترتيب آثار الواقع على مؤدّاه.

وتوضيح الحال في حل الإشكال والجواب عن الاستدلال أن يقال : إنّ قوله «لا تنقض اليقين» يفيد تنزيل المستصحب منزلة الواقع مطلقا ، وهو معنى ابقائه وعدم نقضه مطلقا ، وإطلاق هذا التنزيل يقتضي البناء على بقاء المستصحب بلوازمه سواء كان اللازم بلا واسطة أو معها ، وإلّا لزم التقييد في إطلاق التنزيل من غير موجب له. وبعبارة اخرى ينحلّ هذا التنزيل المطلق بالنسبة إلى المستصحب إلى تنزيلات بعدد ما يترتّب عليه من اللوازم ، ولا يخفى أنّ هذا الاطلاق أعني إطلاق التنزيل المذكور أقوى من سائر الاطلاقات في سائر الموارد (١) لأنّ سائر

__________________

(١) ومنه العموم المدّعى في لا تنقض اليقين بالنسبة إلى جميع الأحكام والموضوعات (منه قدس‌سره).

٢٧٦

الاطلاقات ليس بمقتضى اللفظ من الأول بل يحتاج إلى معونة من الخارج من مقدمات الحكمة ، بخلافه فيما نحن فيه فإنّ حقيقة التنزيل المستفادة من اللفظ تقتضي تنزيل لوازمه من الأول وإلّا لم يجعل المنزّل عين المنزّل عليه ، لأنّ التفكيك بين اللازم والملزوم محال ، فلو نزّل شيء منزلة شيء في بعض اللوازم دون بعض لم يجعل هو هو ، إذ ما فرض منفكّا عن اللازم غير ذاك الملزوم فافهم وتأمّل بعين التدقيق ، وسيأتي تمام التحقيق إن شاء الله تعالى.

ثم لا يخفى أنّ ما ذكرنا من إطلاق التنزيل لا يثبت به الملزوم ولا الملازم ، لأنّ شيئا منهما لا يعدّ من شئون الشيء وتوابعه حتى يكون إثباته إثباته ، وهكذا الأمر في الأمارات أيضا ، مثلا لو ثبتت بالبيّنة طهارة أحد المشتبهين بالشبهة المحصورة لم يثبت ملازمه وهو نجاسة الآخر ، وكذا لو ثبتت طهارة الملاقي للمائع المردّد بين الماء والبول بالأصل أو البيّنة لم تثبت به طهارة المائع ، اللهمّ إلّا أن يعدّ ذلك الملازم أو الملزوم مما أخبر به البيّنة لشدّة وضوح الملازمة ، وهذا خارج عمّا نحن فيه ، لأنّ الكلام في إثبات لوازم المخبر به أو ملزوماته وملازماته إذا لم تكن مخبرا بها.

قوله : وهذه المسألة نظير ما هو المشهور في باب الرضاع (١).

كما إذا حصل الرضاع المحرّم بين أخ زيد وهند ، فتصير هند اخت أخ زيد ، فلو اريد بذلك أن يثبت عنوان أختية هند لزيد نظرا إلى أنّ اخت الأخ في النسب ملازم لعنوان الاخت ويحكم بحرمتها على زيد كان نظيرا لما نحن فيه ، هذا غاية توجيه كلام المتن.

وفيه نظر بيّن ، لأنّ ما هو المسند إلى المشهور في باب الرضاع كما هو

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٣٥.

٢٧٧

ظاهر المتن اجراء حكم عنوان لعنوان آخر ملازم للعنوان الأول في النسب ، ففي المثال يحكم بترتّب حكم الحرمة على عنوان اخت الأخ الذي يلازم عنوان الاخت في النسب ، ويجاب بأنّ المحرّم في النسب هو عنوان الاخت لا اخت الأخ ، وبالجملة التنظير إنّما يصح لو كان الحكم في الشرع مترتبا على عنوان الملازم غير المتحقق واريد إثبات ذلك العنوان بعموم المنزلة كما وجّهنا الكلام به أوّلا ، لا إذا كان مترتبا على عنوان واريد إجراؤه على عنوان آخر لم يجعل له حكم في الشرع ، إلّا أنه ملازم للعنوان الأول فافهم.

قوله : وقد استدل بعض تبعا لكاشف الغطاء (رحمه‌الله) الخ (١).

هو صاحب الفصول ذكر ذلك في مقامين : أحدهما في فصل أصل عدم الدليل دليل العدم عند الاستدلال لهذا الأصل بالاستصحاب (٢). وثانيهما : في مبحث الاستصحاب ، فذكر ذلك في التنبيه الثاني من التنبيهات الذي عقده لبيان عدم حجية الاصول المثبتة (٣). لكن لا يخفى أنّ ما حكاه المصنف عنه في المتن قاصر عن إفادة مرامه ، لأنه أسقط من كلامه صدره وذيله فحصل من ذلك بعض الاختلال كما سيظهر ، نعم يرد على بيان صاحب الفصول أنه إن كان السرّ في عدم حجية الاصول المثبتة هو التعارض لا غير لزمه أن يقول بحجيته إذا فرض عدم جريان الأصل في طرف اللازم لعدم العلم بالحالة السابقة مثلا مع أنه قائل بعدم الحجية مطلقا فالدليل أخص من المدّعى.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٣٦.

(٢ ، ٣) الفصول الغروية : ٣٦٣ ، ٣٧٨.

٢٧٨

قوله : لأنها مسوقة لتفريع الأحكام الشرعية دون العادية (١).

قد يورد عليه أنّ فرض كون الأخبار مسوقة لتفريع خصوص الأحكام الشرعية فقط يغني في عدم حجية الأصل المثبت ولا يحتاج إلى التمسك بذيل المعارضة. والجواب أنّ المراد انفهام حكومة الأصل بالنسبة إلى الآثار الشرعية المسبوقة بالعدم على الأصل في الآثار من أخبار الباب دون الآثار العقلية ، وهذا المعنى ظاهر كلامه أو صريحه كما لا يخفى على من راجعه من أوّله إلى آخره ، وإن كان ظاهر هذه العبارة بانفرادها ما فهمه المورد لكن صدرها وذيلها قرينة على إرادة ما ذكرنا.

قوله : فلو بني على المعارضة لم يكن فرق بين اللوازم الشرعية والعادية (٢).

هذا غير وارد على صاحب الفصول لأنه قد تفطّن لهذا الإشكال وأجاب بأنّ أخبار الباب تدلّ على الحكومة بالنسبة إلى الآثار الشرعية وتبقى المعارضة بالنسبة إلى غيرها.

قوله : إن أراد بذلك عدم دلالة الأخبار الخ (٣).

أمّا الشق الثاني من الترديد فليس بمراده قطعا ، بل صريح كلامه أنّ كلامه مبني على التمسك بالأخبار دون الظن ، بل الشق الأول أيضا ليس بمراد ، بل المراد ما عرفت من عدم دلالة الأخبار على حكومة الأصل بالنسبة إلى الآثار العقلية كما تدل على الحكومة بالنسبة إلى الآثار الشرعية.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٣٧.

(٢ ، ٣) فرائد الاصول ٣ : ٢٣٧.

٢٧٩

قوله : لم يكن إشكال في أنّ الظن بالملزوم يوجب الظن باللازم (١).

الإنصاف أنّه لو أغمضنا عن حكومة الأصل في الملزوم على الأصل في اللازم كما سيأتي بيانه في مسألة تعارض الاستصحابين وأشار المصنف إليها هنا أيضا ، لا مفرّ من التعارض إذ كما أنّ الظن بالملزوم مستلزم للظن باللازم كذلك الظن بعدم اللازم مستلزم للظن بعدم الملزوم ، ولا فرق في ذلك بين اللوازم الشرعية والعقلية ، نعم بناء على الحكومة يلزم حجية الأصل المثبت بناء على الظن ، لكن هذا إذا قلنا بحجية هذا الظن بالنسبة إلى اللازم كما هو حجة بالنسبة إلى الملزوم ، ولمانع أن يمنع ذلك ، لأنّ الظن في الملزوم لمّا كان حاصلا من جهة الحالة السابقة المتيقنة كان متبعا عند العقلاء وقامت عليه السيرة ، بخلاف الظن في اللازم فإنه ليس مستندا إلى الحالة المتيقنة في سابقه وهو الملاك في الحجية ولم يوجد فيه ، اللهمّ إلّا أن يدّعى أنّ بناء العقلاء على اعتبار الظن الحاصل من الحالة السابقة والظن الحاصل من ذلك الظن ولو بواسطة أو وسائط ، وهو كما ترى فافهم.

قوله : إلّا أن يوجّه الخ (٢).

وهو الوجه ، بتقريب أنّ القضية المستفادة من الأدلة هو هكذا : من أسلم حال حياة مورّثه يرث بموته ، ويصدق في الفرض أنّ الولد أسلم حال حياة أبيه بالحياة الاستصحابي فيرث بموته ، نظير استصحاب الطهارة بعينه فإذا صلّى مستصحب الطهارة يصدق أنه صلّى حال الطهارة المستصحبة وجدانا فتترتب

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٣٨.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٣٩.

٢٨٠