حاشية فرائد الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-091-8
الصفحات: ٥٥٦
الجزء ٢ الجزء ٣

العمل بأحد الوجهين المذكورين لا يخلو ثانيهما عن بعد فليتأمّل.

وما أبعد بين ما ذكر وبين ما اختاره بعض المحقّقين من عدم جريان الاستصحاب حال الغفلة حتّى لو سبقه الشكّ ثمّ غفل عنه وصلّى ، قائلا إنّ الاستصحاب كسائر الاصول والأمارات لا يكاد أن يترتّب عليها آثارها إلّا بعد الاطّلاع عليها تفصيلا أو إجمالا ، سواء كان حجّية الاستصحاب من باب التعبّد أو من باب الظنّ والكشف بدليل بناء العقلاء أو الأخبار ، ضرورة أنّ دليل اعتباره على كلّ تقدير إنّما يساعد عليه عند الشكّ والتحيّر ، أمّا الأخبار فلوضوح دلالتها على أنّ لزوم مراعاة الحالة السابقة والجري على طبقها إنّما يكون في خصوص حال الشكّ فيها فعلا دون حال الغفلة والشكّ فيها شأنا ، وكذا بناء العقلاء بداهة أنّهم في حال الالتفات بعد الغفلة لا يراعون إلّا الواقع وأنّه قد أتى به أو أخلّ دون ما هو وظيفته حال الجهل لو لم يغفل من الأخذ بالحالة السابقة بحسب العمل وعدمه ، فاندفع بذلك توهّم أنّ مثل المتيقّن للحدث سواء التفت إلى حاله في اللاحق فشكّ أو لم يلتفت إليه يجري في حقّه الاستصحاب ، وقد عرفت أنّه ما لم يلتفت إليه لا يعمّه خطاب أصلا غير الخطاب بالواقع ، بل قد عرفت أنّ الملتفت الشاكّ في حاله إذا جهل بحاله في هذا الحال أي حال الشكّ في اللاحق لا يكون محكوما فعلا بالاستصحاب وإن عمّه الخطاب.

لا يقال فعلى هذا يلزم أن يحكم بصحّة صلاته لقاعدة الفراغ إذا غفل بعد التفاته ودخل فيها كما يحكم بصحّة صلاته إذا لم يسبقه الالتفات بحكم القاعدة لعدم جريان الاستصحاب في حقّه قبل الصلاة أيضا.

لأنّه يقال إنّ الاستصحاب وإن كان غير جار قبلها في حقّ الغافل الداخل فيها مطلقا سواء لم يسبقه الالتفات أو لم يسبقه العلم بحكمه ولو سبقه الالتفات ، إلّا أنّ قاعدة الفراغ لا تعمّ ما إذا سبقه الالتفات والشكّ وإن غفل حين العمل ، بل

٤١

يختصّ بما إذا حدث بعده ، فبحكم الاستصحاب الجاري في حقّه بعد العمل وعلمه به من دون مزاحمة بالقاعدة كان في حال صلاته محدثا فكانت باطلة ، بخلاف ما إذا لم يسبقه الالتفات فإنّ قضية الاستصحاب وإن كان فيه أيضا ذلك إلّا أنّه مزاحم بقاعدة الفراغ المقتضية للصحّة انتهى كلامه بعين ألفاظه غالبا.

وفيه مواقع للنظر أمّا أوّلا : فلأنّ ما ذكره من قصر جريان الاستصحاب على حال الشكّ الفعلي وفرّع عليه عدم جريانه في حقّ من تيقّن بالحدث وشكّ في الطهارة ثمّ غفل وصلّى ضعيف ، لأنّه حال شكّه بعد اليقين قد تمّ أركان الاستصحاب وشمله خطابه ، وتنجّز حكمه قطعا ، فصار محدثا في الظاهر لا يجوز له الدخول في الصلاة ، وغفلته بعد ذلك لا يرفع حكم الاستصحاب ، لأنّ الأحكام الظاهرية كالواقعية في أنّها ثابتة بعد تحقّق موضوعها لا ترتفع بالغفلة عنها وعن موضوعها ، ودعوى أنّ الموضوع هو الشكّ ما دام باقيا خلاف الظاهر من أخبار الباب وخلاف مقتضى ما يحكم به العقل من أنّ ما ثبت دام. لا يقال إنّ الاستصحاب عبارة عن إبقاء ما كان ولا يتحقّق معنى الابقاء عند الغفلة فلا استصحاب حينئذ. لأنّا نقول لو بنينا على أنّ معنى الاستصحاب إبقاء المكلّف ما كان لزم ما لا يلتزم به أحد وهو أنّه لو عصى المكلّف ولم يبن على البقاء مع علمه بالحكم والموضوع والتفاته إليهما لم يكن استصحاب وكان الأمر بيد المكلّف إن استصحب الطهارة السابقة مثلا وأبقاها صحّت صلاته وإلّا بطلت وإن كان عالما ملتفتا بجميع جهات الحكم والموضوع ، بل لازم كلامه أن يلتزم بأنّ صحّة صلاة من يصلّي باستصحاب الطهارة موقوفة على أن يكون ملتفتا متفطّنا ليقينه بالطهارة في السابق وشكّه في بقائها في جميع آنات زمان الصلاة من أوّلها إلى آخرها ليصحّ حكمه بالطهارة فيها بمقتضى الاستصحاب ، وكلّ ذلك كما ترى.

وأمّا ثانيا : فإنّه إن سلّمنا أنّ موضوع الاستصحاب هو الشكّ ما دام باقيا

٤٢

ويقدح فيه الغفلة فلا وجه لاعتبار العلم بالحكم في ثبوت الحكم ، لما عرفت من أنّه لا يتوقّف ثبوت الحكم إلّا على تحقّق موضوعه ، فلو فرض تحقّقه فلا يترقّب في ترتّب الحكم لشيء آخر كما هو كذلك في الأحكام الواقعية ، والعجب أنّه جعل الأمارات المجعولة طريقا إلى الواقع أيضا من هذا القبيل ، وهو غريب فإنّ من لا يعلم بحجّية خبر الواحد إذا عمل على طبقه اتّفاقا ثمّ علم بها ليس إلّا كمن عمل ثمّ علم وجدانا أنّه مطابق للواقع ، إذ كلّ منهما طريق إلى الواقع ولا يتفاوت في ذلك كونه طريقا مجعولا أو منجعلا ، وتخلّف الطريق عن الواقع أحيانا مشترك بينهما فإنّ القطع أيضا قد يتخلّف عن الواقع. وبالجملة مؤدّى الطرق المجعولة أحكام مجعولة بجعل الطرق أصابها من أصابها علم بها أو لم يعلم ، ومن ذلك ما إذا كان عمل المقلّد مطابقا لرأي مجتهده في الواقع اتّفاقا ولم يعلم به ثمّ علم بعد العمل فإنّه صحيح من حين وقوعه لا أنّه بعد علمه يحدث فيه الحكم بالصحّة ، ولذا نقول لو لم يعلم بالمطابقة ومات على حاله يحكم بصحّته.

وأمّا ثالثا : فإنّ قوله إنّ قاعدة الفراغ لا تعمّ ما إذا سبقه الالتفات والشكّ وإن غفل حين العمل بل تختصّ بما إذا حدث بعده ، مدخول بأن وجه اختصاص القاعدة بغير ما إذا سبقه الشكّ أنّ الشكّ السابق يتحقّق به موضوع استصحاب الحدث ويؤثّر في بطلان العمل من حين وقوعه فلا يبقى محل لقاعدة الفراغ ، وأمّا إذا فرض أنّ الشكّ السابق لا حكم له بالنسبة إلى العمل لطريان الغفلة فلا وجه للاختصاص المذكور مع إطلاق دليل القاعدة ، ودعوى انصرافه إلى ما كان أوّل زمان حدوث الشكّ بعد الفراغ ممنوعة.

فإن قلت : وجه الاختصاص ما ورد في بعض جزئيات مورد القاعدة من قوله (عليه‌السلام) في من شكّ في الوضوء بعد ما فرغ : «هو حين يتوضّأ اذكر منه

٤٣

حين يشكّ» (١) ويستفاد منه أنّ الحكم بالصحّة فيما إذا شكّ بعد العمل باعتبار أذكريته حين العمل فيظنّ بوقوعه صحيحا واعتبر الشارع هذا الظنّ ، وحينئذ يختصّ مورد القاعدة بما كان كذلك ولا يشمل ما إذا حصل الشكّ قبل العمل فإنّه يعلم أنّه لم يكن حين العمل أذكر.

قلت : مع الاغماض عن سند الرواية وعدم استفادة العلّية منها ، أنّ لازم هذا البيان أن لا يحكم بجريان قاعدة الفراغ في مورد الشكّ الشأني عند العمل بحيث يعلم أنّه لو التفت كان شاكّا ، بأن كان حدوث موجب الشكّ قبل العمل ، ولا يلتزمون بذلك ظاهرا.

فإن قلت : إنّ القائل قد بنى مقالاته المذكورة على مقدّمة دقيقة استنتج منها المقالات المذكورة ، وما أوردت عليه مبني على عدم التفطّن لتلك المقدّمة وهي هذه : اعلم أنّ الوظيفة المقرّرة في حال الجهل بالحكم أو الموضوع تارة على نحو يكون هو المطلوب والمرغوب في هذا الحال كالواقع في سائر الأحوال كالصلاة بلا سورة في حال الغفلة عنها ، وإتمامها والإخفات فيها في موضع الجهل بوجوب القصر والجهر ، فيكون ملحوظة في استحقاق المثوبة أو العقوبة بالموافقة والمخالفة بل في الإجزاء وعدمه في الحال كالواقع في غير الحال ، واخرى على نحو يكون الواقع هو المطلوب في هذا الحال دونها إلّا أنّ جعلها في حال الجهل بأحدهما إنّما هو لأجل أن يكون موجبا لتنجّز الواقع عند موافقتها له وعذرا عنه في صورة مخالفتها ، فيعاقب على مخالفة الواقع إذا خالفها ولا يعاقب على مخالفته إذا وافقها كما هو الحال في مؤدّى الطرق والأمارات.

ولا يخفى أنّه إن كانت الوظيفة المجعولة على النحو الأوّل يمكن أن يكون

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٧١ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٧.

٤٤

لها ما للحكم الواقعي من المراتب الأربع ، أوّلها المقتضي ، ثانيها انشاؤه والخطاب واقعا به ، ثالثها البعث والزجر ، رابعها التنجّز واستحقاق العقوبة على مخالفته عقلا ، فيكون الآتي بها في حال الغفلة آتيا بما هو تكليفه فعلا وإن كان معذورا على تقدير الإخلال لعدم تنجّزه مع هذا الحال. وبالجملة يترتّب على الحكم بها ما للحكم في المرتبة الثالثة وإن لم يصل إلى الرابعة ولم يتنجّز لفقد شرائطه.

وأمّا إذا كانت الوظيفة المجعولة على النحو الثاني فلا يكاد أن يكون له بعد مرتبة انشائه والخطاب به إلّا مرتبة واحدة يعتبر في البلوغ إليها ما يعتبر في بلوغ الحكم إلى المرتبة الرابعة ، فلا يترتّب عليها بدونه ما هو المرغوب منها من تنجّز الواقع والعقاب على مخالفته في صورة إصابتها والعذر عن مخالفته على تقدير عدم الاصابة مع موافقتها ، ولو قلنا باستحقاق العقوبة في صورة مخالفتها تجرّيا كما حقّقناه أو مخالفة وعصيانا كما قد احتملناه في البحث ، ضرورة أنّ هذه الآثار لا يكاد أن يترتّب عليها إلّا بعد الاطّلاع عليها بأطرافها تفصيلا أو إجمالا ، ولا يكاد أن يوجد أثر آخر يترتّب عليه بدونه ولم يكن مترتّبا على انشائه ومجرّد الخطاب به واقعا ، انتهى.

قلت : ننقل الكلام إلى نفس هذه المقدّمة فإنّ فيها مواقع للنظر : منها أنّ ما جعله في القسم الأوّل وظيفة مقرّرة للجاهل إن أراد به أنّ الجاهل ليس مكلّفا بالواقع الأوّلي أصلا فيكون الواقع الأوّلي تكليف العالمين به ويكون العالم والجاهل على هذا كالمسافر والحاضر موضوعين مختلفين لكلّ منهما حكم واقعي واحد ، فلا كرامة في عدّ حكم هذا الجاهل من أقسام وظيفة الجاهل فإنّه في عرض سائر الأحكام الواقعية سواء ، وإن أراد أنّه مكلّف بتكليفين واقعيين أحدهما في طول الآخر بأن يكون الواقع الأوّلي كسائر الأحكام الواقعية شاملا له من حيث كونه غير مقيّد بالعلم والجهل وله حكم واقعي آخر مقيّد بالجهل بالحكم

٤٥

الأوّل ، فلازمه أنّه لو أتى بالواقع الأوّلي اتّفاقا بوجه من الوجوه دون الثاني كان معاقبا على تركه ، ولو أخلّ بهما عمدا عن تقصير كان معاقبا على ترك كلّ منهما وهذا كلّه كما ترى.

ومنها : أنّ الأمثلة التي مثّل بها للقسم الأوّل لم يتّضح كونها من قبيله ولا شاهد له ، بل قد عرفت ممّا قدّمنا في أواخر رسالة أصل البراءة أنّ الجاهل في الأمثلة المذكورة ليس مكلّفا إلّا بالواقع الأوّلي ليس إلّا ، ووجه كفاية غير المأمور به عنه أنّه مشتمل على معظم مصالح المأمور به ، وبعد إدراكه بفعل الصلاة الناقصة لا يبقى محلّ لإدراك المصلحة التامّة بل لا يمكن إدراكها بعده ، وقد مرّ هناك شواهد هذا المطلب وكيفية استظهاره من الأدلّة ببيان مستوفى.

ومنها : أنّ المراتب الأربع التي جعلها للحكم ممّا لا نعقل كونها من مراتب الحكم ، أمّا المرتبة الاولى أي المصلحة المقتضية للحكم فواضح أنّها ليست من مراتب الحكم ، أمّا أوّلا : فنحن نتكلّم على مذهب الأشاعرة (لعنهم الله) المنكرين لتبعية الأحكام للمصالح والمفاسد. لا يقال إنّ هذا المذهب فاسد عندنا لا يمكن بناء الأمر عليه ، لأنّا نقول لا كلام في أنّ الحكم حتّى على مذهبهم أمر معقول متحقّق من دون تحقّق المراتب الأربع.

وأمّا ثانيا : فنقول سلّمنا توقّف الحكم على ثبوت المقتضي كما هو مذهب العدلية إلّا أنّه من مقدّماته ، وليس كلّ ما يتوقّف عليه الحكم يعدّ من مراتب الحكم وإلّا عدّ وجود الباري عزّ اسمه وصفاته من مراتب الحكم ، وأمّا المرتبة الأخيرة وهي مرتبة التنجّز فقد قدّمنا غير مرّة أنّ التنجّز بحكم العقل وهو متأخّر عن الحكم بعد تماميته ، فإنّ العقل بعد ملاحظة ثبوت الحكم وتحقّق العلم به يحكم بصحّة العقاب على مخالفته وترتّب الثواب على موافقته ، ولا وجه لعدّ كلّ ما يترتّب على الحكم ويلحقه من مراتب الحكم ، وحينئذ يبقى المرتبتان المتوسّطتان.

٤٦

والتحقيق أنّ مرتبة البعث والزجر أيضا ليس مرتبة للحكم ، بل حقيقة الحكم ليس إلّا الانشاء والخطاب فقط ، وأمّا أنّ حقيقته نفس الإرادة أو غيرها فلسنا بصدده هاهنا بل المقصود منع المراتب المدعاة للحكم ، وبيان ذلك : أنّ المعني بالحكم ليس إلّا ما هو مفعول للحاكم في مقام الجعل والتشريع وهذا أمر يحصل بمجرّد الانشاء ، وأمّا البعث أو الزجر فلا ربط له بفعل الحاكم بل هو ممّا يتحقّق عقيبه لو علم به المكلّف ولا يتحقّق لو جهله ، وإن شئت توضيحه فلاحظ أحكام الموالي إلى العبيد منّا إذ لا تفاوت بينها وبين أحكام الشارع فيما نحن بصدده ، فإنّه لو أمر المولى عبيده بأن يخاطبهم ويقول لهم افعلوا كذا وفرض أنّ بعض العبيد فهموا خطابه وعلموا بحكمه وبعضهم لم يفهموه وغفلوا عنه فلا ريب أنّ الحكم الصادر عن المولى بالنسبة إلى جميعهم سواء ، وليس شيء ممّا يرجع إلى المولى وينسب إليه قد حصل بالنسبة إلى العالمين منهم ولم يحصل ذلك بالنسبة إلى جاهليهم ، فما يرى من حصول البعث والزجر بالنسبة إلى الفاهم دون الغافل فإنّما هو أمر يرجع إلى جانب المكلّف وحاله من العلم أو الغفلة دون الآمر ، وعلى هذا فلا ينبغي أن يعدّ البعث أو الزجر من مراتب الحكم.

ومنها : أنّه لا نجد فرقا بين القسم الأوّل والثاني بالنسبة إلى المراتب التي فرضها ، فإنّ حال البعث والزجر وكذا التنجّز عند العلم وعدمها عند الجهل فيهما على حدّ سواء ، غاية الأمر أنّ العقاب المترتّب على المخالفة في القسم الثاني إنّما يترتّب إذا خالف الحكم الواقعي أيضا ومع عدمها فليس إلّا التجرّي ، وهذا لا يقتضي أن يكون ثبوت أصل الحكم متوقّفا على العلم.

إذا تمهّد ذلك فنقول : إنّ الأحكام الشرعية وبعبارة اخرى المجعولات الشرعية أعمّ من أن تكون أحكاما واقعية كقوله صلّ ولا تشرب الخمر أو اصولا وأمارات كقوله (عليه‌السلام) : «لا تنقض اليقين بالشكّ» وخبر الواحد حجّة مثلا

٤٧

امور واقعية متحقّقة موجودة بعد انشائها ، علمها المكلّف فتتنجّز عليه أو جهلها ، نعم لمّا كان الشكّ مأخوذا في موضوع الأحكام الظاهرية المعبّر عنها بالاصول فلا تشمل الغافل لمكان عدم تحقّق الموضوع لا لأجل نقصان مرتبة من مراتب الحكم ، وهذا بخلاف الأمارات فإنّ خبر الواحد موضوع واقعي يثبت له حكمه من وجوب الاتّباع علم أو جهل كما في لا تشرب الخمر.

فإن قلت : إنّ الأمارات والطرق المجعولة أيضا كالاصول في أنّها أحكام حال الجهل بالواقع والشكّ والتحيّر وإلّا فالعالم ليس موضوعا لحكم الأمارة بالضرورة ، فإذن يختصّ حكمها بغير الغافل كما في الاصول.

قلت : فرق بين أن يجعل الحكم معلّقا على موضوع الشكّ وبين جعل الطريق في حال الشكّ وعدم العلم ، ولأجل التمسّك به عند الشكّ وعدم العلم وجعله وسيلة إلى الظفر بالواقع ، فإنّ الطريق كخبر الواحد مثلا موجود وثابت الطريقية بالجعل المذكور سواء علم بالخبر وعلم طريقيته أو كان كلّ منهما مغفولا عنه.

قوله : نعم هذا الشكّ اللاحق يوجب الاعادة بحكم استصحاب عدم الطهارة لو لا الخ (١).

أورد عليه بأنّ هذا إنّما يتمّ على القول بحجّية الأصل المثبت الذي لا نقول به ، لأنّ ترتّب وجوب الاعادة على استصحاب عدم الطهارة الجاري بعد العمل ليس إلّا بواسطة عقلية وهي وقوع الصلاة حال الحدث اللازم لعدم الطهارة ، ولا يرد مثل ذلك بالنسبة إلى جريان استصحاب عدم الطهارة الجاري قبل الصلاة لو حدث الشكّ قبلها ، لأنّ الاستصحاب الجاري قبل الصلاة وإن كان كالجاري

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٥.

٤٨

بعدها لو اريد به ترتّب وجوب الاعادة عليه في كونه محتاجا إلى ثبوت الواسطة العقلية ، إلّا أنّا لا نحتاج إلى ذلك ، لأنّ الاستصحاب المذكور يترتّب عليه عدم جواز الدخول في الصلاة بلا واسطة ، كما أنّ استصحاب الطهارة يترتّب عليه جواز الدخول في الصلاة من دون واسطة وهذا كاف في المطلوب من الاستصحاب ، وهذا بخلاف الاستصحاب الجاري بعد الصلاة لأنّه لا معنى لاثبات الجواز وعدمه للعمل المتقدّم بعد وجوده ، ومحصّل هذا الايراد أنّ الصحّة والفساد من أحكام العقل المترتّبين على استصحاب الطهارة أو الحدث ، فلا يثبت به ما هو أثر لأحدهما أعني وجوب الاعادة وعدمه.

والجواب : أنّ جواز الدخول في الصلاة وعدمه اللذين جعلهما أثر المستصحب ، إن أراد به الجواز التكليفي بمعنى عدم الحرمة وعدم الجواز بمعنى الحرمة فلا وجه له ، لأنّ حرمة الصلاة للمحدث ليست إلّا تشريعية فالشاكّ في الطهارة لا يحرم عليه الدخول في الصلاة برجاء صحّة صلاته باحتمال كونه متطهّرا ، مع أنّ ثبوت الجواز وعدمه بهذا المعنى لا يفيد المقصود من جواز الاكتفاء بهذه الصلاة أو عدم جواز الاكتفاء به ، وإن أراد الجواز الوضعي بمعنى النفوذ والمضيّ فلا فرق بين جريان الاستصحاب قبل الصلاة أو بعدها في صحّة ترتّبه على المستصحب وعدمه.

والتحقيق أنّه يثبت باستصحاب الطهارة أو الحدث الصحّة والفساد الشرعيان ويترتّب عليهما وجوب الاعادة وعدمه ، سواء كان الاستصحاب جاريا قبل العمل أو بعده ، ولا يرد ما قد يتوهّم من أنّ الصحّة والفساد ليسا إلّا من حكم العقل بموافقة المأتي به للمأمور به وعدمها ، وليسا من مجعولات الشرع ليمكن إثباتهما بالاستصحاب ، بيان ذلك : أنّه لا إشكال ولا خلاف بين القائلين بمجعولية الأحكام الوضعية كما هو الحقّ أنّه يمكن اعتبار السببية والشرطية

٤٩

والمانعية بين الشيئين بعد فرض عدم تحقّق إحدى هذه الامور بينهما عقلا ، والمراد من السببية الشرعية أو الشرطية والمانعية الشرعيتين اعتبار الشارع لهذه الامور بين الشيئين بجعل أحدهما المعيّن سببا أو شرطا أو مانعا للآخر في حكمه نظير الأسباب والشروط والموانع العقلية بعينها ، ويرجع هذا الجعل إلى جعل تحقّق المسبّب عند تحقّق السبب بحيث يكون كالمقتضي أو العلّة التامّة العقلية ، وجعل تحقّق المشروط بعد تحقّق الشرط كالشرط العقلي ، وجعل عدم تأثير المقتضي عند وجود المانع كالمانع العقلي ، وحينئذ نقول لو ثبت أنّ الشارع جعل الطهارة شرطا للصلاة أو الحدث مانعا عنها يصحّ أن يقال إنّ هاهنا أمرا ينسب إلى الشارع وإلى حكمه وجعله وهو ترتّب تحقّق الصلاة المطلوبة على الطهارة المعبّر عنه بالصحّة ، وكذا ترتّب عدم تحقّق الصلاة المطلوبة على الحدث المعبّر عنه بالفساد ، ومن هنا صحّ لنا أن نقول إنّ كلا من الصحّة والفساد أثر شرعي للطهارة والحدث ويصحّ قولنا إنّه يثبت باستصحاب الطهارة أثرها الشرعي وهو الصحّة وباستصحاب الحدث أثرها الشرعي وهو الفساد.

وقد تبيّن ممّا ذكرنا مغايرة الصحّة والفساد العقليين للمعنى المذكور ، ولعلّ هذا بعد التأمّل فيما ذكرنا من الواضحات ، واندفع به توهّم كون استصحاب الطهارة أو الحدث بعد العمل من الاصول المثبتة ، نعم الصحّة والفساد بمعنى مطابقة المأتي به الخارجي للمأمور به بتمام أجزائه وشرائطه أو عدم مطابقته عقليتان وجدانيتان ، والفرق بين المعنيين في غاية الوضوح ، فبحكم الصحّة الشرعية نقول لو أتيت بالصلاة عقيب الطهارة فإنّها تصحّ ، وبحكم الصحّة العقلية نقول إنّ هذه الصلاة الموجودة في الخارج مطابقة لما أمر به ، ويعرف الفرق بين الفساد الشرعي والعقلي بالمقايسة.

ثمّ اعلم أنّ في جريان الاستصحاب بعد العمل إشكالا ينبغي التنبيه عليه

٥٠

وعلى دفعه ، وهو أنّ الحكم بصحّة العمل السابق أو فساده باستصحاب الطهارة أو الحدث إمّا أن يعتبر من قبيل الكشف في إجازة الفضولي بأن يحكم بأنّ العمل من حين وقوعه قد وقع مع الطهارة الظاهرية وكان صحيحا حينئذ إلّا أنّا لم نعلم به إلّا بعد العمل ، أو يعتبر من قبيل النقل في تلك المسألة بأن يحكم بصيرورة العمل مقرونا بالطهارة أو الحدث من حين جريان الاستصحاب ، وكلا الشقّين ممّا لا يصحّ الالتزام به.

أمّا الأوّل : فلأنّه إنّما يصحّ لو قلنا بأنّ الاستصحاب كان جاريا حين العمل وإن لم ينكشف ذلك إلّا بعد العمل ، بأن نلتزم ما احتملناه سابقا من كون المأخوذ في موضوع الاستصحاب عدم العلم بزوال الحالة السابقة لا الشكّ الفعلي ، أو نلتزم بأنّ المأخوذ في الموضوع الشكّ الفعلي ولو بعد حين كما احتملناه أيضا سابقا ، وكلا الاحتمالين بعيد ما بنينا الكلام عليه وإنّما ذكرناهما احتمالا.

وأمّا الثاني : فلأنّه لا معنى للحكم بالصحّة أو الفساد في عمل لم يكن محكوما بأحدهما حين وقوعه ، لأنّ ذلك من قبيل انقلاب العمل الماضي عن وجه وقوعه إلى الوجه المضادّ له بعد العمل عند حصول الشكّ وجريان الاستصحاب وهو محال ، فإنّ الصلاة لو فرض أنّها لم تقع حين وقوعها مقرونة بالطهارة الشرعية فلا يعقل صيرورتها مع الطهارة بعد الصلاة بالطهارة الاستصحابية ، وأمّا الطهارة الواقعية فإنّها مشكوكة بعد.

ويمكن دفع الإشكال بالتزام نظير ما يقال في مسألة إجازة الفضولي من الكشف الحكمي بأن يقال إنّه يحكم بعد العمل بترتيب آثار المستصحب للعمل السابق من هذا الحين لا حين وقوعه نظير قاعدة الفراغ الجارية بعد العمل لو لم نقل بأنّ اعتبارها من حيث الأذكرية عند العمل فإنّ الحكم بمضيّ العمل المجهول حال وقوعه وجه وقوعه بعد العمل ليس إلّا من قبيل الكشف الحكمي فتدبّر ، هذا

٥١

كلّه فيما إذا لم يكن المكلّف حين العمل محكوما بحكم ظاهري آخر مضادّ للاستصحاب وإلّا فلا وجه لجريان الاستصحاب بعد العمل مناقضا للحكم الأوّل وهو ظاهر.

قوله : وبأنّه يقتضي أن يكون النزاع مختصّا بالشكّ من حيث المقتضي لا من حيث الرافع (١).

لا يخفى أنّ قولهم إنّ العلّة الموجدة هي العلّة المبقية أو ليست بالعلّة المبقية ظاهر في إرادة العلّة التامّة المأخوذ فيها وجود المقتضي وجميع شرائط تأثيره وارتفاع جميع موانع التأثير ، نعم قولهم إنّ الباقي محتاج إلى المؤثّر أو ليس بمحتاج إليه لعلّه ظاهر في إرادة المقتضي ، ولعلّ المصنّف اعتمد إلى ظهور هذه العبارة وعارض به الاستظهار المذكور لاختصاص النزاع بالأمر الوجودي ولا بأس به لو عبّر المستدلّ بخصوص هذه العبارة ، لكن المعروف منهم عطف إحدى العبارتين على الاخرى بل المناط مؤدّى العبارة الاولى كما لا يخفى.

قوله : وإنّما لم ندرج هذا التقسيم في التقسيم الثاني الخ (٢).

لا كرامة في هذا الاعتذار ، لأنّ تفصيل صاحب الوافية (٣) إمّا أن يكون راجعا إلى التفصيل بين الحكم الوضعي والتكليفي أو يكون راجعا إلى التفصيل بين السبب والشرط والمانع وغيرها من الموضوعات الأخر والأحكام ، وعلى أي تقدير لا يخرج عن أنّه تقسيم لبعض أقسام التقسيم الثاني ، فالأولى تبديل هذا التقسيم بتقسيم آخر هو أنفع وأدخل في المطلوب من تحرير محلّ النزاع وهو أنّه

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٩.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٣٦.

(٣) الوافية : ٢٠٢.

٥٢

قد يكون المستصحب ممّا دلّ دليل على أنّ طريق ثبوته منحصر في العلم دون غيره وقد لا يكون كذلك ، ولا ريب أنّ القسم الثاني محلّ النزاع ، وأمّا القسم الأوّل فلا يمكن أن يكون محلا للنزاع لأنّه عند الشكّ في بقاء المستصحب يقطع بعدم ثبوته ظاهرا بمقتضى الدليل المفروض فلا يمكن إثباته ظاهرا بالاستصحاب ونحوه ، ولا يتوهّم أنّ هذا ممّا اعتبر العلم في موضوعه جزءا أو قيدا ، ولا يعقل عند الشكّ بقاء ذلك الموضوع فهو معلوم الانتفاء واقعا لا ظاهرا فقط ، وجه الدفع أنّ الدليل المفروض قد فرضناه دليلا على انحصار طريق انكشاف الواقع في العلم لا على اعتبار العلم جزءا للموضوع ، فيمكن ثبوت الواقع في نفسه من غير طريق إليه ، إذ لا يمكن قيام الأمارات أو الاصول مقام العلم في هذا الفرض ، هذا ويمكن جعل هذا التقسيم من وجوه التقسيم بالاعتبار الثاني أيضا لا يخفى وجه مناسبته.

وهنا تقسيمان آخران باعتبار المستصحب ينبغي التنبيه عليهما لتشخيص محلّ النزاع ، أحدهما : أنّه قد يكون المستصحب حكما أو موضوعا ابتدائيا في اعتبار الشرع والشارع كأغلب الأحكام وموضوعاتها ، وقد يكون حكما أو موضوعا ثانويا تابعا لما اعتبره غير الشارع كما في أمر الشارع باطاعة الوالدين أو العبد لمولاه أو الزوجة لزوجها ، وكذا حكمه بوجوب الوفاء بالنذر والعهد وسائر العقود ، فإنّ حكم الشارع فيها تابع لأمر الوالدين أو المولى أو الزوج أو ما جعله الناذر أو العاقد ودائر مدارها لا يزيد ولا ينقص ، ومحلّ النزاع في الاستصحاب هو القسم الأوّل دون الثاني ، والوجه في ذلك أنّ ما كان من القسم الأوّل لمّا كان اعتبار الحكم أو الموضوع من الشارع ابتدائيا فحكمه بالبقاء في الزمان الثاني عند الشكّ في بقائه يرجع إلى الحكم بتعميم ما جعله أوّلا وإسرائه إلى ما بعد اليقين به بحيث يكون مؤدّى مجموع الجعل الأوّلي والاستصحاب أمرا

٥٣

واحدا ممتدّا من زمان اليقين الأوّل إلى زمان اليقين بالخلاف ، وهذا بخلاف القسم الثاني فإنّ اعتبار الشارع وجعله لمّا كان تابعا لجعل غيره ومقدّرا بمقداره ودائرا مداره لا يمكن تعميمه بلسان الاستصحاب.

مثلا إذا قال المولى لعبده أو الوالد لولده اجتنب عن مجالسة الفاسق وعلم المأمور بذلك وتبعه أمر الشارع بوجوب الاطاعة فصار ما أمره به واجبا شرعيا ثمّ شكّ في بقاء أمر الوالد أو المولى فيما بعد زمان العلم أو شكّ في بقاء فسق زيد الفاسق في الزمان الأوّل باليقين ، فلا يمكن تسرية الحكم إلى زمان الشكّ بدليل الاستصحاب ، لأنّ المفروض أنّ حكم الشارع يدور مدار حكم الوالد أو المولى وحكمهما في الفرض مشكوك ، نعم لو فرض أنّ للمولى والوالد أيضا حكما آخر على العبد والولد بوجوب إبقاء ما كان كما هو كذلك في حكم الشارع ، وصار المشكوك فيه باقيا بحكم المولى أو الوالد ، يتبعه حكم الشارع أيضا بالبقاء ويصير واجبا شرعيا مثلا ، لا بالاستصحاب الشرعي بل بالخطاب الأوّلي بوجوب إطاعة المولى أو الوالد ، ومثل هذا الكلام يجري بالنسبة إلى جملة من القواعد الفقهية كقاعدة الميسور ، وقد أشرنا إليه في رسالة أصل البراءة فإنّه لو أمر الوالد مثلا بمركّب تعذّر بعض أجزائه لا يمكن إثبات وجوب باقي الأجزاء بقاعدة الميسور ، لأنّ قاعدة الميسور متكفّلة لتوسيع دائرة مطلوبات الشارع الابتدائية لا التبعية بعين التقريب المذكور ، وكقاعدة البراءة فإنّها غير جارية بالنسبة إلى الشكّ في الأجزاء والشرائط للمركّب الذي أمر به الوالد ، وكقاعدة الفراغ والتجاوز بالنسبة إلى الشكّ في إتيان بعض الأجزاء المعلومة في المركّب المذكور أو شرطه كذلك ، وكبدلية التيمّم للوضوء أو الغسل الواجب بالنذر والعهد واليمين عند تعذّر استعمال الماء ، فإنّ حكم الشارع بوجوب الوفاء بالنذر يقتضي تبعية حكمه لجعل الناذر ، والناذر إنّما تعلّق نذره بالطهارة المائية دون الترابية ، ومن قبيل ما نحن فيه

٥٤

استصحاب الخيار في مثل خيار الشرط الذي هو بجعل الشارط عند الشكّ في بقائه ، وهكذا كلّما شكّ فيما يتعلّق بموارد الوقف والوصية والنذر والشرط ونحوها ممّا كان متيقّنا قبل زمان الشكّ فإنّ الكلام في الجميع واحد.

فإن قلت : إنّ هذا الإشكال يختصّ بما إذا اريد استصحاب موضوعات أوامر الوالد أو المولى أو ما يتعلّق به النذر والشرط والوقف ، وأمّا لو اريد استصحاب نفس أمر الوالد أو المولى ونفس النذر والوقف وهكذا عند الشكّ في بقاء المذكورات بعد اليقين بها فلا مانع من استصحابها لأنّها موضوعات للأحكام الشرعية بوجوب إطاعة المولى أو الوالدين أو وجوب الوفاء بالنذر والشرط والوقف والوصية ، وحالها حال سائر موضوعات سائر الأحكام لا غائلة في استصحابها ولا إشكال.

قلت : جعل الاستصحاب المذكور من قبيل استصحاب سائر موضوعات الأحكام مبنيّ على أن يراد من وجوب إطاعة المولى مثلا وجوب نفس الفعل الذي أمر به المولى ، لا ما يتحقّق به عنوان الاطاعة الذي يتبع أمر المولى ، وبالجملة فرق بين قوله افعل ما أمر به المولى أو الوالد وبين قوله أطع المولى ، فإنّ العبارة الاولى تتضمّن حكما متعلّقا بما أمر به وهو موضوع الحكم يمكن إجراء الاستصحاب فيه كما ذكرت ، بخلاف مفهوم العبارة الثانية فإنّ المأمور به فيها عنوان الاطاعة التي لا تتحقّق إلّا مع فرض تحقّق أمر المولى حقيقة لكي يصدق عنوان الموافقة والاطاعة والامتثال لأمر المولى.

فإن قلت : بناء على هذا الإشكال يلزم أنّه لو نذر أو وقف على أولاده وشكّ في ولدية زيد له إلّا أنّه ملحق به بحكم الولد للفراش ، لا يكون مشمولا للنذر والوقف والظاهر أنّهم لا يلتزمون به.

قلت : الظاهر أنّ قصد الناذر والواقف في أمثال ذلك إنّما يتعلّق بما هو

٥٥

موضوع في حكم الشرع للأحكام الشرعية المترتّبة عليه كالميراث ونحوه وهكذا الوقف على الفقراء والعلماء ونحوها ، وأمّا لو علم بأنّه لم يقصد إلّا ما هو مدلول اللفظ حقيقة في العرف فنمنع كون زيد موقوفا عليه والحال هذه.

الثاني : أنّ المستصحب قد يكون حكما أو موضوعا واقعيا ثبت وجوده سابقا بالوجدان أو بقيام أمارة شرعية على ثبوته ، وقد يكون حكما ظاهريا أو موضوعا كذلك ثبت تحقّقه في السابق بأصل تعبّدي من الاصول ، ولا إشكال في كون القسم الأوّل محلا للنزاع ، وأمّا القسم الثاني فسيأتي في بعض كلمات المصنّف أنّه ليس مجرى للاستصحاب كما إذا حكم بطهارة شيء من جهة قاعدة الطهارة ثمّ شكّ في بقاء طهارته من جهة الشكّ في ملاقاته للنجاسة مثلا لم يحكم بطهارته بالاستصحاب ، وسيأتي الكلام فيه عند تعرّض المصنّف له إن شاء الله تعالى.

قوله : نظرا إلى أنّ الأحكام العقلية كلّها مبيّنة مفصّلة من حيث مناط الحكم الشرعي (١).

سيأتي تحقيق هذه الدقيقة من المصنّف في التنبيهات ببيان أبسط ، وقد أشار إليها أيضا في غير موضع من فقهه واصوله ، وكيف كان قد يراد استصحاب حكم العقل بمعنى استصحاب نفس حكم العقل بالحكم وإذعانه به عند الشكّ في ثبوت الحكم واقعا كما إذا حكم العقل بحسن ردّ الوديعة ووجوبه في الزمان الأوّل ثمّ شكّ في حسنه واقعا بسبب كون ردّها مظنّة لمفسدة كذائية مثلا فيستصحب حكمه وإذعانه بالحسن ، وقد يراد استصحاب حكم العقل بمعنى استصحاب الحسن الواقعي الذي أذعن به العقل في الزمان الأوّل ثمّ شكّ في بقائه واقعا فيحكم ببقاء

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٣٧.

٥٦

الحسن واقعا بالاستصحاب ، وقد يراد استصحاب موضوع حكم العقل كما لو فرض أنّ الصدق الضار يحكم العقل بقبحه ثمّ شكّ في بقاء الضرر في الصدق الكذائي بعد كونه ضارّا باليقين في السابق ، وقد يراد استصحاب الحكم الشرعي المترتّب على الحكم العقلي بقاعدة الملازمة.

أمّا الأوّل ، فلا إشكال ولا خفاء في عدم كونه محلا للاستصحاب لعدم معقولية الشكّ فيه ، فما دام العقل حاكما بالقبح أو الحسن لا شكّ في حكمه به وإذا شكّ أعني في بقاء الحسن أو القبح الواقعيين فلا ريب أنّ حكمه به مقطوع العدم لأنّه يعلم بتردّده في بقاء الحسن أو القبح وهو مضادّ لحكمه البتة ، فلا يعقل بقاء حكمه بالاستصحاب ولا غيره ، وهذا المعنى ليس بمراد للماتن ولا يشتبه على أحد.

وأمّا المعنى الثاني ، وهو الذي أشار إليه في المتن هنا ظاهرا فقد استدلّ الماتن هنا على عدم تحقّق الاستصحاب فيه بأنّ الشكّ في بقاء المستصحب وعدمه لا بدّ وأن يرجع إلى الشكّ في موضوع الحكم ، والموضوع لا بدّ أن يكون محرزا في الاستصحاب ، واستدلّ عليه في ثالث التنبيهات بما محصّله : أنّ العقل لا يحكم بالحسن أو القبح إلّا بعد العلم بجميع ما هو مناط في الحكم وله مدخلية في ثبوته تفصيلا وهذا المعلوم موضوع حكمه ، فالحكم العقلي موضوعه معلوم تفصيلا للعقل الحاكم ، فإن أدرك العقل بقاء الموضوع في الآن الثاني حكم به حكما قطعيا كما حكم به أوّلا ، وإن أدرك ارتفاعه قطع بارتفاع ذلك الحكم ، ولو ثبت مثله بدليل لكان حكما جديدا في موضوع جديد فلا يعقل الشكّ في الحكم المذكور ، ثمّ أضاف إلى هذا الدليل الدليل الأوّل الذي ذكره هنا.

ولا يخفى أنّ ما صدّر به الكلام هنا من قوله نظرا إلى أنّ الأحكام العقلية كلّها مبيّنة مفصّلة من حيث مناط الحكم الشرعي ظاهر في إرادة الدليل المذكور

٥٧

ثمّة لو لا ما ذيّله به من قوله : والشكّ في بقاء المستصحب وعدمه لا بدّ وأن يرجع إلى الشكّ في موضوع الحكم الخ ، وكيف كان يرد على الدليل المذكور منع لزوم معلومية جميع ما له مدخلية في ثبوت الحكم تفصيلا بمعنى لزوم تشخيص جميع قيود الموضوع وتميّزه مفصّلا ، بل يكفي العلم بوجود جميع القيود الواقعية إجمالا وإن لم يعلم شخصها ، لتردّدها بين عدّة امور كلّها موجودة ، وحينئذ نقول لو علم بوجود موضوع حكم العقل كذلك على نحو الإجمال فلا ريب أنّه عند زوال بعض تلك الامور الذي يحتمل كونه دخيلا في مناط الحكم يحصل الشكّ في بقاء الحكم لتردّد الأمر بين مدخلية الأمر الزائل في مناط الحكم وموضوعه حتّى يكون الحكم منتفيا وعدم مدخليته ليكون الحكم باقيا ، مثلا إذا حكم العقل بأنّ الكذب المضرّ قبيح لكن لم يعلم بأنّ كونه مضرّا أيضا له دخل في مناط القبح وموضوعه أم لا بل من المقارنات إلّا أنّه يعلم بوجود مناط القبح حين وجوده قطعا فإذا زال وصف الاضرار عنه بعد وجوده يشكّ في بقاء القبح.

وتحصّل من ذلك كلّه أنّ الشكّ في بقاء الحكم العقلي بهذا المعنى أمر معقول فسقط الدليل المذكور ، فانحصر الأمر في التشبّث بذيل الدليل الآخر وهو رجوع الشكّ في الحكم إلى الشكّ في الموضوع ، ولا مجال للاستصحاب إلّا بعد العلم ببقائه كما بيّنه في المتن ، لكن لا يخفى أنّ بيانه هنا لا يخلو عن اختلال لأنّه جعل في آخر كلامه استصحاب الموضوع الذي جعلناه قسما آخر في صدر العنوان تبعا للمصنّف على ما بيّنه في التنبيهات مفصّلا من هذا القبيل ، وهو خلط بيّن ، فإنّ المراد من الشكّ في الموضوع فيما نحن فيه هو الشكّ في عنوان الموضوع الذي هو مناط الحكم ، والمراد من الشكّ في الموضوع الذي أشرنا إليه في صدر العنوان هو الشكّ في بقاء عنوان الموضوع مع العلم بكونه عنوان الموضوع.

وبالجملة الفرق واضح بين أن يشكّ في أنّ موضوع القبح الذي يحكم به

٥٨

العقل هو الكذب مطلقا أو بقيد كونه مضرّا ، وبين أن يشكّ في بقاء مضرّة الكذب الفلاني مع العلم بأنّ موضوع حكم العقل هو الكذب المضرّ ، وكلامه في التنبيهات خال عن هذا الخلط والخلل ، لأنّه بيّن كلا من الأمرين ووجّه حال تحقّق الاستصحاب في كلّ منهما على حدة ببيان أوضح ممّا هنا هذا ، وقد بقي الكلام في صحّة الدليل المذكور هنا لعدم جواز استصحاب حكم العقل بالمعنى المذكور وسقمه وسيأتي التعرّض له عن قريب فانتظر.

وأمّا المعنى الثالث : وهو استصحاب موضوع حكم العقل كما إذا شكّ في بقاء مضرّية الصدق الفلاني بعد ما كان مضرّا في السابق مع فرض أنّ موضوع حكم العقل بالقبح هو عنوان المضرّ المنطبق على المشكوك قبل طروّ الشكّ ، فاستدلّ الماتن على عدم تحقّق الاستصحاب فيه بما ملخّصه : أنّ موضوع حكم العقل هو المضرّ الواقعي تحقيقا ، وباستصحاب بقاء مضرّية الصدق الذي كان مضرّا في السابق لا يثبت موضوع حكم العقل بالقبح ليتفرّع عليه حكم الشرع بالحرمة بقاعدة الملازمة ، لأنّ موضوع حكم العقل بالقبح هو المضرّ الواقعي لا المضرّ التنزيلي الثابت بالاستصحاب ، فإذا لم يتحقّق موضوع حكم العقل بالقبح بالاستصحاب لم يتحقّق موضوع حكم الشرع بالحرمة أيضا ، لأنّ حكم الشرع هنا تابع لحكم العقل يدور مداره وجودا وعدما حكما وموضوعا.

ولكن التحقيق جريان استصحاب الموضوع هنا بملاحظة كونه موضوعا لحكم الشرع بالحرمة ولا يحتاج إلى توسيط كونه موضوعا لحكم العقل في مقام إجراء الاستصحاب وإن كان حكم الشرع تابعا لحكم العقل من أوّل الأمر ، بيان ذلك : أنّ لنا في المقام قضية عقلية بأنّ المضرّ قبيح دلّ عليها العقل ، لم يطرأ شك بالنسبة إليها لا في موضوعها ولا في حكمها ، ولنا قضية شرعية بأنّ المضر حرام دلّ عليها قاعدة الملازمة بين حكم العقل والشرع ، لم يطرأ شك بالنسبة إليها

٥٩

أيضا ، ولا ريب أنّ الموضوع في كلتا القضيتين شيء واحد وهو عنوان المضرّ ، فكلّما تحقّق عنوان موضوع إحدى القضيتين في مصداق خارجي تحقّق عنوان موضوع القضية الاخرى ضرورة اتّحاد عنوانهما ، وحينئذ نقول لو فرض أنّ الصدق الفلاني مضرّ كان من مصاديق موضوع حكم العقل بالقبح وحكم الشرع بالحرمة ، فإذا شكّ في الزمان الثاني في بقاء مضرّيته يقال إنّه كان مضرّا في السابق والأصل بقاء مضرّيته ليترتّب عليه الحرمة الشرعية ، ولا نحتاج إلى أن نقول الأصل بقاء مضرّيته ليترتّب عليه حكم العقل بالقبح ثمّ تثبت به الحرمة الشرعية ، وإنّما كان حكم العقل واسطة في ثبوت الحرمة الشرعية من أوّل الأمر للموضوع الكلّي وهو عنوان المضرّ ، وذلك الحكم العقلي بعد باق لم يطرأ عليه شكّ ، نعم كان العلم بحرمة هذا المصداق من الأوّل بتوسيط حكم العقل إلّا أنّ هذا لا يلازم أن يكون حكمنا عليه بالحرمة بسبب حكمنا ببقاء الموضوع أيضا بتوسيط حكم العقل ، ونظير ذلك بعينه أنّه لو قامت البيّنة على عدالة زيد مثلا وحكمنا بعدالته وجواز الاقتداء به وإيقاع الطلاق عنده إلى غير ذلك ممّا يترتّب على العدالة بحكم الشرع ، فإذا حصل الشك في عدالته يقال الأصل بقاء عدالته فيترتّب عليه الأحكام الشرعية المترتّبة على العدالة ، ولا يحتاج إلى أن يقال الأصل بقاء عدالته فهو عادل بحكم البيّنة فيثبت عدالته شرعا بدليل حجّية البيّنة ، وإنّما كانت البيّنة واسطة في إثبات عدالته من الأوّل ، وإن تردّدت البيّنة في عدالته الآن أو كان أحد الشاهدين جازما بزوال عدالته الآن فصار بعد قيام البيّنة عادلا شرعا ، فإذا شكّ في بقائها تستصحب لترتيب الأحكام الشرعية عليها من دون واسطة إدراجه فيما يشهد به البيّنة ثمّ ترتيب الأحكام الشرعية ، ونظيره أيضا ما لو قام الإجماع على أنّ المضرّ حرام وشك في بقاء مضرّية الصدق الفلاني فلا يتأمّل في صحّة استصحاب المضرية ليترتّب عليه الحرمة ، ولا يحتاج إلى إدراجه فيما

٦٠