حاشية فرائد الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-091-8
الصفحات: ٥٥٦
الجزء ٢ الجزء ٣

قوله : وجب الجمع بين الطهارتين (١).

الظاهر أنه سقط من النسخة لفظة واو العطف ، والصواب ووجب الجمع بينهما فافهم.

قوله : كاندفاع توهم كون الشك في بقائه مسببا (٢).

التحقيق في دفع هذا التوهم أنّ الأصل في السبب كان معارضا من الأول قبل فعل الوضوء أو الغسل بأصالة عدم حدوث الحادث الآخر ، ولذا لم نحكم بجريانه من الأول ، وبعد سقوط الأول قبل ذلك لا يعود بعد فعل الوضوء أو الغسل ، فعلم أنّ الأصل في السبب غير جار فيجري استصحاب الكلي بالنسبة إلى المسبب ، وأمّا ما دفعه به في المتن من قوله فإن ارتفاع القدر المشترك الخ فمنظور فيه ، لأن الأثر الشرعي كجواز الدخول في الصلاة مثلا ليس مترتبا على عنوان ارتفاع الحدث حتى يتكلم في أنه من لوازم الحادث المقطوع الارتفاع أو من لوازم عدم حدوث الآخر ، بل مترتّب على عدم تحقق الحدث ، وهذا العنوان أعني عنوان عدم تحقق الحدث الآخر يحصل بأصالة عدم حدوثه.

قوله : نعم اللازم من عدم حدوثه هو عدم وجود ما هو في ضمنه الخ (٣).

فيه منع ، بل اللازم من عدم حدوث الفرد الآخر ارتفاع القدر المشترك أيضا بيان ذلك : أنّ الكلّي وحصته وفرده بأجمعها توجد بوجود الفرد وهذا مما لا إشكال فيه ، فإذا فرضنا أنّا نعلم بعدم وجود الكلّي في ضمن الأفراد الأخر غير

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٩٢.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ١٩٢.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ١٩٣.

٢٠١

الفرد المشكوك لا جرم ينحصر احتمال وجود الكلّي في كونه موجودا في ضمن ذاك الفرد المشكوك الوجود ، فلو أجرينا أصالة عدم وجود ذلك الفرد يلزمه الحكم بعدم الفرد وعدم الحصة التي في ضمنه من الكلّي وعدم نفس الكلّي أيضا ، ولا يبقى مجال لاحتمال بقاء الكلّي في هذا الفرض ، إذ لا شك في وجوده من غير جهة الفرد الذي حكمنا بعدمه بالأصل ، والحاصل أنّ القدر المشترك بوصف كونه مشكوكا اريد استصحابه هو نفس هذه الحصة بحسب الحقيقة وينتفي بانتفاء الحصة ، فلا وجه لتسليم انتفاء الحصة بالأصل واحتمال بقاء القدر المشترك مع ذلك ومن أين جاء هذا الاحتمال هذا ، والتحقيق في جواب هذا المتوهم ما قدّمنا فتدبّر.

بقي هنا أمران لا بدّ من التنبيه عليهما ، الأول : أنه لا مانع في هذا القسم من موارد استصحاب الكلّي من استصحاب نفس الفرد وهو مغن عن استصحاب الكلّي بل هو أتم وأفيد ، توضيحه : أنه بعد العلم الاجمالي بوجود أحد الفردين من الكلّي يعلم جزما بوجود فرد معيّن في الواقع من الكلي يؤثر أثر الكلي ، فإذا فرضنا حصول الشك في بقاء ذلك الموجود المعيّن في نفس الأمر بسبب العلم برفع أحد المحتملين على تقديره يجري استصحاب بقاء نفس ذلك الفرد المشخص الواقعي ، ولا يقدح عدم علمنا بشخصه حال الاستصحاب وبعده وإلّا لم يجر الاستصحاب بالنسبة إلى الفرد المردد في غير هذا المورد أيضا وهو بديهي البطلان ، فلو علم إجمالا بكون زيد أو عمرو في الدار مرددا بينهما ثم شك في خروج من في الدار هل يمكن منع جريان استصحاب كون الشخص المعيّن الواقعي في الدار لترتيب الأثر الذي كان يترتّب على كونه في الدار قبل الشك ، حاشا عن ذلك ، هذا هو الموافق للتحقيق هنا لا استصحاب الكلي المتنازع فيه.

وأما ما ذكرنا من أن إجراء استصحاب الفرد أفيد من استصحاب الكلي ،

٢٠٢

فلأن استصحاب الكلي إنما يفيد بالنسبة إلى ترتيب آثار القدر المشترك لا الأثر الثابت للفرد من حيث خصوصه ، وهذا بخلاف استصحاب نفس الفرد فإنه يفيد ترتّب الآثار الثابتة لنفس الفرد أيضا كما يفيد ترتب آثار الكلي ، يوضح ذلك ما لو فرضنا أن الشارع جعل خصوص ملاقاة الثوب للبول مانعا عن الصلاة فيه ، وكذا جعل خصوص ملاقاة الدم أيضا مانعا ولم يجعل ملاقاة كلي النجاسة مانعا ، فعند العلم بملاقاة الثوب لأحدهما ثم الشك في بقاء النجاسة ولو من جهة العلم بارتفاع النجاسة الدمي على تقدير كون الملاقاة بالدم ، فلا شك أنه لا فائدة في استصحاب الكلي أعني بقاء كلي النجاسة ، إذ المفروض أنّ الأثر مجعول لخصوص البول والدم دون كلي النجاسة ، وأما استصحاب الفرد فينفع قطعا فنقول الأصل بقاء شخص تلك النجاسة السابقة المؤثرة في منع جواز الدخول في الصلاة ، بل قد يكون الأثر لنفس الخصوصيتين ولا جامع بينهما إلّا القدر المشترك الانتزاعي كما إذا علم إجمالا بأنه إما محدث وإما بدنه نجس ، أو أنه إمّا محدث أو لباسه من غير مأكول اللحم أو من الحرير أو نجس وهكذا ، فإنه ليس هنا قدر مشترك يمكن أن يكون هو المانع عن الدخول في الصلاة حتى يمكن دعوى جريان استصحاب الكلّي فافهم واغتنم.

الثاني : أن المصنف (رحمه‌الله) لم يستوف حكم أمثلة القسم الثاني من استصحاب الكلي وإنما تعرض لحكم بعض أمثلته بالنسبة إلى الشك في الرافع ، وهو ما إذا تردد المتيقن السابق بين متيقن الزوال ومتيقن البقاء في صورة وجوب الجمع بين رافعيهما ، وهناك أمثلة أخر لا يجب فيها الجمع بين الرافعين مع أنها محل الكلام في جريان استصحاب الكلي ، منها : ما تقدم من دوران الخارج بين البول والحيض أو بين الحيض والمني. ومنها : دوران النجاسة بين البول والدم بالنسبة إلى تطهيرها بناء على القول بأنّ البول يحتاج إلى تعدد الغسل والدم يكفي

٢٠٣

فيه المرة فبعد الغسل مرة يشك في بقاء كلي النجاسة ، وقد عرفت حكم هذه الأمثلة فيما قدّمنا قبيل ذلك عند التكلّم في المثالين الأوّلين (١).

قوله : ويظهر من المحقق القمي (٢).

يظهر من ذكر الماتن كلام المحقق القمي هنا وايراداته عليه أنّ للمحقق كلاما في هذا القسم من استصحاب الكلي ، وليس كذلك كما لا يخفى على من راجع كلامه بتمامه فإن بحثه ليس من جهة أن المستصحب عنوان الكلي بل من حيث إنه يعتبر في مجرى الاستصحاب إحراز مقدار استعداد المستصحب للامتداد ثم إجراء الاستصحاب إلى ذلك المقدار سواء كان المستصحب كليا أو جزئيا ، نعم ذكر في ضمن بيان مراده مثالا لاستصحاب الكلي لنكتة وهو أنّ الاستصحاب الذي تمسك به الكتابي من قبيل استصحاب الكلي بزعمه وهو فاقد لميزان جريان الاستصحاب.

قوله : أقول إنّ ملاحظة استعداد المستصحب الخ (٣).

أورد المصنف على كلام المحقق القمي بوجهين ، الأول : أنه يظهر من بيانه هذا في الاحتياج إلى إحراز مقدار استعداد المستصحب انحصار مورد حجية

__________________

(١) أقول : قد عرفت عدم جريان استصحاب الكلي في المثالين ونظائرهما لجريان الأصل الحاكم في طرف مشكوك الحدوث بالنسبة إلى الأثر المختص ، ولمّا كان المصنف بصدد التعرض لموارد جريان استصحاب الكلي لم يتعرض لحال هذه الأمثلة ، اللهم إلّا أن يقال كان ينبغي التعرض لها وبيان وجه عدم جريان الاستصحاب فيها مع كونها مشابهة لما هو من أمثلة المقام ، فتأمل.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ١٩٣.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ١٩٤.

٢٠٤

الاستصحاب بخصوص الشك في الرافع مع أنّ مختاره حجيته مطلقا سواء كان الشك في المقتضي أو الرافع.

وفيه نظر ، لأنه صرح باعتبار إحراز مقدار استعداد المستصحب بحسب أغلب أفراد نوعه لا مقدار استعداد خصوص الفرد المستصحب ، وقد يكون الشك في الفرد المستصحب من جهة الشك في أنه هل هو من الأفراد الغالبة بحسب الاستعداد أو من الفرد النادر ، فإن المحقق لا ينكر جريان الاستصحاب في هذا الفرد بمقدار استعداد نوعه غالبا وهو واضح.

الثاني : أنه لا ضابطة فيما يجب إحراز استعداده أنه شخص المستصحب أو صنفه أو نوعه أو جنسه القريب أو البعيد أو الأبعد ، فقد أحال ميزان الاستصحاب إلى أمر مجهول أو مردد.

وفيه أيضا نظر ، لأنه أحال الأمر إلى الغلبة ، فإذا كان أغلب أفراد الصنف على مقدار من الاستعداد فهو المتبع وهو مقدّم على غلبة أفراد النوع ، وكذا حال غلبة أفراد النوع مقدّم على غلبة الجنس القريب وهكذا ، كما هو شأن اعتبار الغلبة في سائر المقامات ، وقد صرح بهذا في القوانين (١) في خلال كلامه في ذيل أول أدلّة حجّية الاستصحاب فراجع حتى تعرف أن ما أورد عليه المصنف مندفع بما ذكرنا.

كما أنّ ما أورد عليه المحقق النراقي في المناهج (٢) أيضا غير وارد عليه ، وهو أنّ ما ذكره لو كان صحيحا لزم عدم جريان الاستصحاب في أكثر الموارد التي أجمعوا على جريانه فيها ، إذ لا يكون في الأكثر استصحاب إلّا فيما كان الثابت كليا ذا أفراد بعضها غير صالحة للامتداد إلى زمان أو حال يستصحب إليه ،

__________________

(١) القوانين ٢ : ٥٧.

(٢) مناهج الاحكام : ٢٢٧.

٢٠٥

فإنّ مراده من كون الكلي ذا أفراد متفاوتة لا يمكن أن يكون ذا أفراد موجودة في الخارج وإلّا لم تكن نبوة عيسى (عليه‌السلام) من هذا القبيل ، إذ لا يمكن أن يكون الفردان المذكوران منها في الخارج موجودين ، بل يجب أن يكون مراده كونه كذلك في لحاظ العقل وتكون الأفراد أفراده المحتملة الوجود ، وإن لم يكن الموجود في الخارج إلّا واحدا منها ، ولا شك أنّ الموارد التي يجري فيها الاستصحاب لا بدّ وأن يكون الحكم ذا فردين أو أكثر عند العقل ، ولم يعلم أنّ أيّهما الموجود وإلّا لم يحصل الشك ولم يحتج إلى الاستصحاب ، مثلا لو شك في ناقضية المذي للطهارة الحاصلة من التوضّؤ نقول إنّ للطهارة في لحاظ العقل فردين إحداهما المنقضة بالمذي واخراهما المستمرة مع خروجه ، ولا شك أن الاولى لا يمكن استصحابها مع المذي ، وإنما قلنا إنّ لها فردين ووجود كل منهما محتمل إذ لولاه لما حصل الشك وهذا بديهي ، انتهى ما أردنا من نقل كلامه.

وجه الاندفاع أوّلا : أنّ ما ذكره من أنّ أكثر موارد الاستصحاب من قبيل ما منعه المحقق القمي ممنوع ، لأن ما ذكره المورد في بيانه لا يجري في موارد الشك في الرافع بالمرّة ، لأن كون شيء رافعا للموجود السابق وعدمه لا يوجب الاختلاف في ذلك الموجود بحيث يكون ما يرتفع بالرافع فردا منه في لحاظ العقل وما لا يرتفع به فردا آخر في لحاظه حتى يرجع الشك إلى الشك في استعداد بقاء المستصحب ، بل المتيقن السابق كالطهارة في المثال الذي ذكره أمر واحد حقيقة وفي لحاظ العقل ، وإنما الشك في أنّ المذي هل جعل رافعا له في الشرع أم لا ، نعم يستقيم ما ذكره في الشك في المقتضي لكن على ما فهمه المورد كالمصنف من كلام القوانين من أنه بصدد التعرض لحال استصحاب الكلي ، وقد عرفت أنه ليس كذلك ، بل يكون إحراز الاستعداد شرطا عنده في مطلق مجاري الاستصحاب كليا كان أم جزئيا ، وقد عرفت أنّ المراد هو الاستعداد بحسب غالب

٢٠٦

أفراد نوع المستصحب أو جنسه ، وحينئذ فيمكن فرض دوران الكلي بين الفردين اللذين احرز استعداد بقاء كلا الفردين بحسب نوعهما ، ولكن شك في استعداد بقاء الكلي باعتبار وجوده في ضمن أحد الفردين المفروضين أو كليهما ، لاحتمال كونه من أفراده النادرة ، فيكون الشك بهذا الاعتبار من باب الشك في المقتضي ، ولازم بيان المحقق القمي (رحمه‌الله) جريان الاستصحاب هنا أيضا لاحراز الشرط ، فظهر أنّ قليلا من موارد الاستصحاب من قبيل ما ذكره دون أكثرها.

وثانيا : أنّ ما ذكره المورد من أنّ المراد من كون الكلي مرددا بين فردين كونه كذلك في لحاظ العقل ، ولا يمكن أن يراد تردده بين فردين موجودين إلى آخر ما ذكره في بيانه ، مدخول بأنّ الأفراد التي تتحقق بها الغلبة لا بدّ وأن تفرض موجودة وإلّا فالأفراد المتصورة المحتملة لا تتحقق بها الغلبة الموجبة للظن في المشكوك بكونه ملحقا بالغالب على ما تمسك به المحقق المذكور في حجية الاستصحاب ، وقد أشار في القوانين إلى إيراد النراقي في ضمن كلامه ودفعه بما ذكرنا أو قريب منه ببيان أوفى وأطال في إبرامه من شاء راجع كلامه.

بقي الكلام في صحة دعوى اعتبار إحراز مقدار الاستعداد في جريان الاستصحاب أو فسادها فنقول : يمكن أن يقال إنّ لازم ما ذكره المصنف في بيان اختصاص حجية الاستصحاب بالشك في الرافع من عدم صدق النقض بالشك في موارد الشك في المقتضي أن يقول مع ذلك باعتبار إحراز الاستعداد أيضا ويقول لو أحرزنا المقتضي في استصحاب الكلي بأن كان ذاك الكلي بجميع أفراده مقتضيا للبقاء في نفسه لا يرتفع إلّا برافع ، لكن لو تردد وجود الكلي بين فردين أحدهما مقطوع الزوال بوجود رافعه والآخر مقطوع البقاء لم يجر الاستصحاب لعدم احراز استعداد المستصحب ، ووجهه عدم صدق النقض هنا أيضا كالشك في

٢٠٧

المقتضي لعدم إحراز استمرار المستصحب في حدّ نفسه والحال هذه (١).

قوله : وجوه أقواها الأخير (٢).

لازم ما اختاره من التفصيل جريان الاستصحاب في جميع موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر الاستقلالي كما إذا دار الأمر بين كونه مديونا بدرهم أو درهمين فبعد أداء الدرهم المعلوم يجري استصحاب كلي الدين ، وكما إذا علم بأن عليه قضاء الفائتة وتردد بين واحدة وألف أو أقل أو أزيد يجري استصحاب كلي القضاء عليه بعد أداء القدر المعلوم ، وكما لو علم بأنه محدث بالحدث الأصغر ويحتمل كونه محدثا بالحدث الأكبر أيضا فإذا توضّأ يجري في حقه استصحاب بقاء كلّي الحدث وهكذا ، وهو كما ترى.

وتحقيق الحال أن يقال بصحة إجراء استصحاب الكلي في هذا القسم أيضا بكلا قسميه كالقسمين الأوّلين ، بمعنى أنّ ميزان جريان الاستصحاب تام في الجميع على نسق واحد وإن كان في بعض موارده يوجد أصل حاكم على استصحاب الكلي ، وهذا غير مخل بما نحن بصدده ، توضيح ذلك : أنّ بقاء وجود الكلي الطبيعي بما هو كلي على أقسام ، الأول : أن يوجد الكلي في ضمن فرد معين ويبقى ذلك الفرد بعينه ، فإنّ وجود الكلي باق في الزمان الثاني كما أنّ وجود الفرد أيضا باق وهذا واضح.

الثاني : أن يوجد أوّلا في ضمن فرد ثم بعد حين وجد في فرد آخر أيضا حتى يكون موجودا في ضمن فردين حينئذ ، ثم افرض انعدام الفرد الأول وانحصار وجود الكلي في ضمن الفرد الثاني ، ثم افرض وجود فرد آخر بعد

__________________

(١) أقول : هذه دعوى لا يساعدها فهمي القاصر فليتأمّل.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ١٩٦.

٢٠٨

حين ، فيكون الكلي حينئذ أيضا موجودا في ضمن فردين ، ثم افرض انعدام الفرد الثاني وانحصار وجود الكلي في الفرد الثالث وهكذا ، فلا ريب في أنه يصدق بقاء وجود الكلي من حيث إنه كلي من حين وجود الفرد الأول إلى آخر أزمنة بقاء الفرد الأخير حقيقة ، ألا ترى أنه يصدق حقيقة أن يقال إنّ وجود الانسان باق من لدن زمن آدم (عليه‌السلام) إلى يومنا هذا من دون مسامحة أو ارتكاب مجاز.

الثالث : أن يوجد أوّلا في فرد ثم وجد في فرد آخر مقارنا لانعدام الفرد الأول ثم وجد في فرد ثالث مقارنا لانعدام الثاني وهكذا ، فإنه يصدق بقاء وجود الكلي بنفسه من الأول للتالي ، مثلا لو تنجس الثوب أو البدن بالبول ثم غسل على نحو يحصل به الطهارة إلّا أنه تنجس ثانيا بالبول في زمان تمامية الغسل من غير فصل بحيث كان حدوث النجاسة الثانية وإتمام الغسل في آن واحد ثم غسل وتنجس ثالثا كما مر وهكذا فإنه يصدق أنّ النجاسة باقية في الثوب من الأول للتالي حقيقة.

الرابع : أن يوجد أوّلا في ضمن فرد ثم تبدّل ذلك الفرد بفرد آخر وهكذا ولم يتخلّل العدم بين هذه الأفراد فإنه يصدق أنّ وجود الكلي بعد باق ، مثلا لو كان في الدار حيوان ثم مات وصار جمادا لكنه لحم وعظم وجلد وشعر ثم انقلب ملحا ثم انقلب ماء فإنه يصدق حينئذ بقاء وجود الجسم في الدار وإن اختلفت صورة النوعية مرارا ، وبهذا الاعتبار انعدم نوع ووجد نوع آخر مباين للأول وهكذا ، إلّا أنه غير مناف لصدق بقاء كلي الجسم بما هو جسم وهذا واضح بعد التنبيه عليه.

إذا تمهّد ذلك فنقول : لمّا كان بقاء الكلي من حيث كليته صادقا حقيقة في جميع الأقسام المذكورة عند العلم بواقعه فلو شك في بقاء الكلي بأحد الأنحاء المذكورة فلا مانع من استصحابه والحكم ببقائه تعبدا على ذلك النحو من البقاء باخبار الاستصحاب لتمامية أركان الاستصحاب حينئذ ، ويحكم بترتب أحكام

٢٠٩

الكلي دون أحكام الفرد من حيث خصوصيته ، ولو فرض هناك أصل حاكم على ذاك الاستصحاب فهو أمر آخر لا ينافي ما نحن بصدده.

والتحقيق أنّ الأصل الحاكم في غير القسم الأول من الأقسام الثلاثة وهي أصالة عدم حدوث الفرد الذي يوجد في ضمنه الكلي في الزمان الثاني موجود إلّا أنه مبتلى بالمعارض في بعض الصور كبعض أمثلة القسم الثاني وهي أصالة عدم حدوث الفرد الآخر ، فبعد تعارض الأصلين وتساقطهما يبقى استصحاب الكلي سليما ، وفي غير صورة وجود المعارض العمل على الأصل الحاكم دون المحكوم ، ولا يخفى أنّ الأصل الحاكم في جميع أمثلة القسم الثالث موجود من غير معارض ولا يدخل تحت الاصول المثبتة كما يظهر من المتن فليتأمل.

ثم إنّ للمصنف كلاما يناسب المقام قد ذكره في بحث المعاطاة من كتاب المكاسب (١) فإنه بعد ما تمسك للقول بكون المعاطاة مفيدة للزوم على القول بافادتها للملكية بأصالة اللزوم بمعنى أصالة بقاء الملكية عند فسخ أحد المتعاطيين قال : ودعوى أنّ الثابت هو الملك المشترك بين المتزلزل والمستقر ، والمفروض انتفاء الفرد الأول بعد الرجوع ، والفرد الثاني كان مشكوك الحدوث من أول الأمر فلا ينفع الاستصحاب ، بل ربما يزاد استصحاب بقاء علقة المالك الأول ، مدفوعة مضافا إلى إمكان دعوى كفاية تحقق القدر المشترك في الاستصحاب فتأمّل ، بأنّ انقسام الملك إلى المتزلزل والمستقر ليس باعتبار اختلاف في حقيقته ، وإنما هو باعتبار حكم الشارع عليه في بعض المقامات بالزوال برجوع المالك الأصلي ، ومنشأ هذا الاختلاف اختلاف حقيقة السبب المملك لا اختلاف حقيقة الملك ، فجواز الرجوع وعدمه من الأحكام الشرعية للسبب لا من الخصوصيات

__________________

(١) المكاسب ٣ : ٥١.

٢١٠

المأخوذة في المسبّب انتهى ، ثم أخذ في الاستدلال على اتّحاد حقيقة الملك إلى آخر ما ذكره ، وقد ظهر من كلامه أنّ استصحاب بقاء الملك من قبيل استصحاب الكلي لو قيل باختلاف حقيقة الملك الجائز والملك اللازم ، بخلاف ما إذا قيل باتحاد حقيقتهما وأنّ الاختلاف جاء من قبل اختلاف السبب المملك كما هو الحق فإنه ليس من باب استصحاب الكلي.

وهذا لا يخلو عن تأمّل ، إذ بعد تسليم جميع ما ذكره لا يخرج هذا الاستصحاب عن استصحاب الكلي ، هب أنّ حقيقة الملك متحدة إلّا أنه لا ريب أن الملك الجائز فرد من الملك والملك اللازم فرد آخر منه ، والملكية الحاصلة بالمعاطاة مرددة بين الفردين أحدهما مقطوع الزوال بعد الرجوع والآخر مقطوع البقاء ، وهذا نظير استصحاب نجاسة الثوب المتنجس بالبول المردد بين كونه بول الصبي وبول الرجل بعد رشه بالماء المفيد لطهارة بول الصبي دون الرجل ، فإن نجاسة البول حقيقة واحدة ، بل الظاهر أنّ النجاسة مطلقا حقيقة واحدة وإن تعدد أسبابها ، نعم إن أراد أن استصحاب الكلي هنا غير محتاج إليه لأنه يجري استصحاب بقاء شخص الملك الحاصل بالمعاطاة فله وجه كما أشرنا إلى ذلك في القسم الثاني من الأقسام الثلاثة وهذا المثال منه أيضا فتأمل.

قوله : ثم إنّ للفاضل التوني كلاما الخ (١).

الظاهر أنّ المصنف حمل كلام الفاضل على أن المانع من جريان استصحاب عدم التذكية كونه من القسم الثاني من القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي ، إذ الموجود حال الحياة فرد من أفراد كلي عدم التذكية ، والشك في بقائه بعد إزهاق الروح باعتبار تحققه في ضمن فرد آخر منه وهو الموت حتف الأنف

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٩٧.

٢١١

بالتبادل ، إلّا أنه يظهر من كلامه أنّ المانع هو عدم بقاء الموضوع وقد علّل المنع بذلك ، ويظهر من تنظيره بمثال استصحاب الضاحك لاثبات وجود عمرو في الدار أنّ المانع دخوله في الأصل المثبت ، وكيف كان لم يظهر منه منع جريان استصحاب الكلي لاثبات ترتّب الأثر الثابت للقدر المشترك.

وتحقيق المقام أن يقال إنه لا شك ولا ريب أن المذكّى حلال وطاهر يجوز بيعه والصلاة فيه واقعا ، والميتة ويرادفها غير المذكى حرام ونجس لا يجوز بيعه والصلاة فيه واقعا ، إنما الكلام في العنوان الذي علّق عليه الحكم في لسان الأدلة حتى يثمر في جريان الاصول عند الشك فإن فرض تعليق الأحكام الاولة على عنوان المذكى فعند الشك في التذكية يجري أصالة عدمها فيحكم بنفي تلك الأحكام وثبوت ضدها ، وكذا إذا فرض تعليق الأحكام الأخيرة على عنوان الميتة فعند الشك تجري أصالة عدم الموت حتف الأنف فيحكم بسلب تلك الأحكام وثبوت مضادها ، ومن هنا يعلم أنه لو علّق الأحكام الاولة على عنوان المذكى والأحكام الأخيرة على عنوان الميتة يتعارض الأصلان من الجانبين ، فلا بدّ من الرجوع إلى أصل آخر يكون هو المرجع.

لا يقال : لو كان حكم الحلية والطهارة مثلا معلّقا على عنوان التذكية كان مجرد الشك في حصول التذكية كافيا في عدم ترتب الأحكام المعلقة عليها على المشكوك ، ولا يحتاج إلى إجراء أصالة عدم التذكية ، نظير تعليق صحة الصلاة على الطهارة فمجرد الشك في وجود الطهارة كاف في عدم الحكم بالصحة لعدم إحراز شرطها ولا يحتاج إلى إجراء أصالة عدم الطهارة.

لأنّا نقول : فرق بين المثالين وهو أنه لو أغمضنا عن أصالة عدم التذكية فيما نحن فيه يجري أصالة الحل والبراءة والطهارة فلا بدّ في الحكم بالحرمة والنجاسة إلى أصالة عدم التذكية ، وهذا بخلاف مثال النظير فإنّ الأصل عدم صحة الصلاة

٢١٢

بدون إحراز الشرط مع قطع النظر عن استصحاب عدم الطهارة.

ثم لا يخفى أنه لا فرق بين أن يكون حكم الحلية والطهارة معلّقا على عنوان التذكية أو يكون حكم الحرمة والنجاسة معلقا على عدم التذكية في جريان أصالة عدم التذكية ، وعلى التقديرين لا تأتي شبهة كون هذا الأصل مثبتا وهو واضح ، ولا شبهة عدم بقاء الموضوع لأنّ الموضوع هو اللحم والجلد فيقال إنّ التذكية لم يكن واقعا على هذا اللحم في الأزل والأصل بقاء ذلك العدم ، ولا شبهة كونه من استصحاب الكلي المبحوث عنه لأنّ المستصحب شخص عدم التذكية الأزلي المقارن لعدم وجود أصل الحيوان في الأزل والمقارن لوجود الحيوان حال حياته ، فيحكم ببقائه بعد زهاق روحه ، واختلاف الحالات المتبادلة المقارنة لذلك العدم لا يوجب التعدّد في نفس ذلك العدم الشخصي المستصحب ، وتوهم أنّ العدم الأزلي المستصحب لم يكن له حكم في الأزل حتّى يكون استصحاب ذلك العدم مفيدا لثبوت ذلك الحكم مندفع بما سيأتي من عدم لزوم ذلك في صحة جريان الاستصحاب بل يكفي كونه ذا حكم حال الاستصحاب وبعد الحكم ببقائه.

بقي شيء : وهو أنّ المراد من الميتة على تقدير كون الحكم معلقا عليها ما هو ، قد يقال إنّ الميتة مرادفة لعدم التذكية ، وعليه يكفي في إثباتها أصالة عدم التذكية كما عرفت.

وقد يقال إنّها الموت حتف الأنف ، ولا يخفى أنّ قتل الحيوان بغير التذكية الشرعية على هذا لا يدخل في الميتة موضوعا بل يلحق بها حكما ، وعلى هذا المعنى لا ينفع أصالة عدم التذكية في إثبات موضوع الميتة وهو واضح ، مضافا إلى جريان أصالة عدم الميتة أيضا لأنها أمر وجودي مسبوق بالعدم.

وقد يقال أو يحتمل أنّ الميتة عبارة عمّا زهق روحه متصفا بكونه غير

٢١٣

مذكّى ، وهذا المعنى كسابقه أمر وجودي لا ينفع في إثباته أصالة عدم التذكية لأنه لا يثبت بها الاتصاف المزبور ، بل هو نظير المثال الذي سيشير إليه في المتن من أنّ كل دم ليس بحيض فهو استحاضة فإنّ استصحاب عدم الحيضية لا يثبت الموضوع الموصوف بالوصف.

وقد يقال إنّ الميتة عبارة عن كل ما زهق روحه بأي نحو كان ، خرج منه المذكّى حكما بالحلية والطهارة وبقي الباقي. ولا يخفى أنّ مرجع هذا إلى كون التذكية عنوانا للحل ، وقد عرفت فيه صحة جريان أصالة عدم التذكية في رفع حكم ذلك العنوان.

فهذه احتمالات أربعة في معنى الميتة تجري أصالة عدم التذكية على الاحتمال الأول والأخير ، وأصالة عدم الميتة على الاحتمالين المتوسطين ، ولا يخفى أنّ الظاهر من لفظ الميتة أحد المعنيين الوسطين بل الأول منهما.

ثم لا يخفى أنّ ما ذكرنا كلها قضايا تقديرية وإنما الشأن في تشخيص الصغرى فنقول : الظاهر أنّ حكم حلية اللحم معلق على عنوان التذكية في ظاهر الأدلّة من الآيات والأخبار كما أشار إلى جملة منها في المتن ، ولا ينافيه تعليق الحرمة على الميتة أيضا أحيانا في بعض الآيات والأخبار ، لأنّ الأول أكثر وأظهر فيحمل الثاني على ذكر بعض أفراد ما هو فاقد لعنوان موضوع الحلية فافهم ، وأمّا حكم الطهارة والنجاسة فظاهر المصنف في المتن أنّ موضوعه متحد مع حكم الحلية والحرمة بحسب العنوان ، وأنّ الطهارة معلّقة على التذكية ، إلّا أنّ تتبّع أخبار المسألة يشهد بخلافه وأنّ النجاسة معلّقة على الميتة ، ولازم ما استظهرنا في عنوان موضوع الحكمين المذكورين أنه عند الشك في تحقق تذكية الحيوان يحكم بحرمة لحمه لأصالة عدم التذكية ويحكم بطهارته لأصالة عدم الميتة ، ولعل هذا مستند ما اشتهر بينهم من أنّ اللحم المطروح محكوم بالطهارة والحرمة فتدبّر. وهكذا

٢١٤

نقول بالنسبة إلى جواز بيع لحم الحيوان وجلده أو عدم جوازه فإنّ حكم عدم الجواز معلّق في أخبار المسألة على الميتة ، لكن يبقى الإشكال بالنسبة إلى حكم جواز الصلاة في جلد الحيوان فإنّ الأخبار مختلفة فيه ، ففي بعضها علّق الجواز بالتذكية وفي بعضها علّق عدم الجواز بالميتة فيحتمل أن يكون كل من الضدّين عنوانا للحكمين المتضادّين وعند الشك يتعارض الأصلان من الجانبين ، ويحتمل أن يكون واحد منهما عنوانا لحكمه دون الآخر وإنّما ذكر فيه بعض أفراد فاقد العنوان الأول ، ولمّا كان ما جعل عنوانا لحكمه مشتبها بينهما لا يمكن التشبّث بأصل في المقام على أحد الطرفين ، وعلى أي حال لا بدّ من الرجوع إلى أصل آخر كأصالة الاشتغال بالصلاة مثلا.

قوله : ثم إنّ الموضوع للحل والطهارة ومقابليهما هو اللحم أو المأكول (١).

يحتمل أنه أراد بهذا الكلام دفع ما تشبّث به الفاضل التوني في منع جريان استصحاب عدم المذبوحية من عدم بقاء الموضوع الذي هو شرط الاستصحاب فقال : إنّ الموضوع هو اللحم أو المأكول وهو باق جزما. لكن لا يخفى أنّ مراد الفاضل التوني من الموضوع الذي حكم بعدم بقائه هو نفس المستصحب لا معروضه الذي هو مصطلح عندنا فليتأمّل.

ويحتمل أنه أراد به دفع ما ربما يتوهم من أنّ موضوع الحرمة والنجاسة هو اللحم المتصف بكونه غير مذكّى ، وأصالة عدم التذكية لا يثبت العنوان الموصوف ، فأجاب بمنع ذلك وأنّ الموضوع هو اللحم وقد علّق حكم الحل والطهارة على التذكية ، ولذا قال فمجرد تحقق عدم التذكية في اللحم يعني بالأصل يكفي في

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٩٩.

٢١٥

الحرمة والنجاسة (١).

قوله : لكن الإنصاف الخ (٢).

الانصاف أنّ هذا الاستدراك ليس في محلّه ، إذ لم يسبق منه ما يخالف ما أنصف هنا من أنّه لو علّق النجاسة على الموت حتف الأنف لا يجوز إثبات هذا العنوان بأصالة عدم التذكية ، لكن المطلب كما ذكره صحيح وليس فيه سوى سوء التعبير والأمر فيه سهل.

قوله : إلّا أنّ كون عدم المذبوحية من قبيل الضاحك محل نظر (٣).

إنّما يتوجّه النظر إلى الفاضل التوني (قدس‌سره) لو كان مراده من التشبيه باستصحاب الضاحك كونه من قبيل استصحاب الكلي ، وأمّا إذا كان غرضه التشبيه في أنه من قبيل الأصل المثبت فلا يتوجّه عليه شيء ، وهو الظاهر من كلامه (٤).

__________________

(١) أقول : ويحتمل قريبا أنه أراد بقوله فمجرد تحقق عدم التذكية في اللحم يكفي في الحرمة والنجاسة الردّ على ما يستفاد من كلام التوني من أنّ أصالة عدم التذكية لا يثبت الموت حتف الأنف حتى يترتّب عليه الحرمة والنجاسة لعدم حجية الأصل المثبت ، فأجاب بأنّ مجرّد تحقق عدم التذكية كاف في ترتّب الحرمة والنجاسة بناء على ما سبق منه من أنّ الحل والطهارة معلّق على التذكية فينتفيان عند عدم التذكية ويثبت الحرمة والنجاسة ولا يحتاج إلى إثبات الموت حتف الأنف لأنه ليس عنوانا لموضوع حكم الحرمة والنجاسة ، وما عقّب به من قوله ولكن الإنصاف الخ لعلّه شاهد على هذا المعنى فتدبّر.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ١٩٩.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ٢٠١.

(٤) أقول : الإنصاف أنّ كلام الفاضل متشتت الجهات ، بعضها كأنه ناظر إلى أنّ وجه منع

٢١٦

قوله : ويترتّب عليه عدم جريان الاستصحاب في نفس الزمان (١).

محصّل إشكال جريان الاستصحاب في الزمان والزمانيات وجهان ، الأول : أنّ حقيقة الاستصحاب هو البقاء والابقاء ومعناه ليس إلّا وجود الشيء في الزمان الثاني بعد وجوده في الزمان الأول ، وهذا المعنى غير متصوّر في الزمان والزمانيات وإلّا لزم أن يكون للزمان زمان. الثاني : أنه يعتبر في حقيقة الاستصحاب أن يكون نفس المتيقن السابق مشكوكا فيه في اللاحق ، وهذا غير معقول في الزمان والزمانيات لأنّ أجزاء الزمان وكذا الزمانيات لا يمكن اجتماعها في الوجود ، فكلّما وجد جزء انعدم قبله الجزء السابق عليه ، وحينئذ كلّما حصل اليقين بوجود جزء في السابق حصل اليقين بانعدامه أيضا فكيف يكون المتيقن السابق مشكوك البقاء مع القطع بأنّ الجزء المشكوك غير المتيقن السابق.

قوله : فيجري في القسمين الأخيرين بطريق أولى (٢).

قد يقال بل قيل إنّ كلامه هذا من أولوية جريان الاستصحاب في القسمين

__________________

جريان الاستصحاب أنه من قبيل استصحاب الكلي ، وبعضها إلى أنّ الوجه عدم بقاء الموضوع ، وبعضها إلى أنّ الوجه المثبتية ، ولعل كون التشبيه ناظرا إلى الجهة الاولى كما فهمه المصنف أظهر فتدبّر.

ثمّ لا يخفى أنّ ما ذكر كله حال أصالة عدم التذكية في الشبهة الموضوعية وأمّا حال جريان أصالة عدم التذكية في الشبهة الحكمية كما هو المشهور في الألسنة فقد مرّ مفصّلا في رسالة أصل البراءة وفي أوائل الاستصحاب أيضا وأنّ التحقيق فيها جريان أصالة الحل والبراءة فراجع.

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٠٣.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٠٣.

٢١٧

الأخيرين على تقدير جريانه في القسم الأول ينافي ما ذكره في القسم الثالث من القطع بعدم الجريان وفي القسم الأول من ميله إلى الجريان لكن بضرب من التردّد والإشكال ، فينبغي أن تكون الأولوية بالعكس.

وفيه : أنّ قطعه بعدم الجريان في القسم الثالث من جهة اخرى لا من حيث خصوص الاشكالين المتقدمين في الزمان والزمانيات ، فالأولوية في محلّها باعتبار إشكال استصحاب الزمان والزماني وسيأتي توضيحه في القسم الثالث.

قوله : فلا إشكال في عدم جريان الاستصحاب فيه لتشخيص كون الجزء الخ (١).

هذه العبارة متشابهة المراد ، قد يقال إنه أراد أنه لا إشكال في عدم صحة إثبات استصحاب الزمان كون الجزء المشكوك من أجزاء الليل أو النهار لعدم العبرة بالاصول المثبتة ، وهذا عين ما أورده فيما بعد على توجيه الاستصحاب في مثل الليل والنهار بقوله إلّا أنّ هذا المعنى على تقدير صحته الخ فيلزم التكرار.

وقد يقال إنّ مراده منها أنّه لا يمكن أن يقال الأصل ليلية هذا الجزء المشكوك لمكان ليلية الجزء السابق عليه ، لأنّ نفس الجزء المشكوك لم يتحقّق في السابق فضلا عن وصف ليليته ، وهذا المعنى أقرب من سابقه من لفظ العبارة إلّا أنه لا كرامة فيه ، لأنه لا يذهب وهم أحد إلى جريان الاستصحاب في الزمان بهذا المعنى حتى يكون ناظرا إلى دفعه فيكون من توضيح الواضحات وكلاما بلا فائدة ، ولعلّه أراد بالعبارة غير ما ذكرنا لم يبلغ إليه فهمنا.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٠٣.

٢١٨

قوله : نعم لو اخذ المستصحب مجموع الليل أو النهار الخ (١).

هذا هو الموافق للتحقيق وإن ذكره المصنف بضرب من التردد بل المنع كما يفصح عنه.

قوله : إلّا أنّ هذا المعنى على تقدير صحته والاغماض عما فيه لا يكاد يجدي الخ (٢).

توضيح المقام أنّ الذي يقتضيه التحقيق بعد التدقيق أنّ الزمان بأجمعه شخص واحد من الأزل إلى الأبد لا تعدد فيه بحسب الواقع ، وأجزاؤه المتصورة المنقسم بها نفس الزمان من الساعات والأيام والشهور والسنين أجزاء فرضية اعتبارية ، فيكون تكثّرها وتعددها اعتباريا بملاحظة نفس الزمان ، وكذا إذا اخذ قطعة من الزمان شيئا واحدا باعتبار من الاعتبارات ككونه ليلا أو نهارا أو شهرا فهي بهذا الاعتبار أيضا شخص واحد من الليل أو النهار من أوّله إلى آخره لا تعدد فيه بحسب أجزائه إلّا فرضا.

ثم اعلم أنّ وجود الأشياء على قسمين وجود جمعي يعرض للامور القارة من الجواهر والأعراض كزيد وبياض لونه ومالكيته لماله وشبه ذلك ، ووجود تصرّمي انقضائي يعرض للامور غير القارة من الزمان والزمانيات كنفس الزمان والحركة والتكلّم ونبع الماء وأمثالها ، ولا يخفى على هذا أنّ إضافة الوجود إلى الامور القارة بأن يقال إنّها موجودة لا يصدق إلّا بوجود جميع أجزائه في آن واحد ، وهذا بخلاف الامور غير القارة فإن وجودها لا يكاد يتحقق إلّا بوجود بعض أجزائها ضرورة عدم إمكان اجتماع أجزائها في الوجود ، فعند وجود جزء

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٠٤.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٠٤.

٢١٩

منها يصدق أنّها موجودة حقيقة ، لأنّ هذا نحو تحققه وكيفية وجوده ، فيقال إنّ الليل الذي هو عبارة عن قطعة من الزمان الواقعة بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر موجود حقيقة في جميع الآنات الواقعة بين الحدّين ، وهكذا في الحركة والتكلم ونحوه ، وإن كان الموجود في كل آن جزء ذلك المجموع لا تمامه ولا ضير ، لما عرفت من أنّ نحو وجوده هو ذلك ، وحينئذ نقول لو شك في زمان أنه من الليل أو من النهار وانقضى الليل قبله فيصح أن يقال إنّ شخص هذا الليل كان موجودا قبل هذا الجزء من الزمان أعني بنحو الوجود التصرمي والأصل بقاؤه ، وإن كان وجوده سابقا بوجود جزئه السابق وبقاؤه الآن ليس إلّا بوجود جزئه اللاحق ولا ضير بعد العلم بأنّ وجود الليل وجود واحد كذائي وهذا معنى :

قوله : لأنّ بقاء كل شيء في العرف بحسب ما يتصوّر فيه العرف من الوجود الخ (١).

فتأمّل وإن شئت توضيحه فلاحظ حال القطع ببقاء الليل وعدم طلوع الفجر فهل تجد معنى لبقائه ما سوى أنه موجود بوجود الجزء اللاحق ، بل التحقيق أنّ معنى بقاء وجود الامور القارة أيضا ذلك فإن بقاء وجود زيد لا معنى له إلّا استمراره ، ومجموع الوجود المستمر من أوله إلى آخره وجود واحد بالشخص وتحققه في السابق كان باعتبار تحقق جزئه السابق ، وبقاؤه يكون باعتبار تحقق جزئه اللاحق وإلّا فنفس وجود زيد في يوم الجمعة ليس باقيا يوم السبت وإلّا لم يكن وجوده ممتدا في يومين ، وبهذا البيان اندفع كلا الإشكالين في استصحاب الزمان ، أمّا الأول فلمنع أنّ البقاء هو الكون في الزمان الثاني بعد كونه في الزمان الأول حتى يلزم في استصحاب الزمان أن يكون للزمان زمان ، بل المراد به

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٠٤.

٢٢٠