حاشية فرائد الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-091-8
الصفحات: ٥٥٦
الجزء ٢ الجزء ٣

عليه الصحة ، وقد سلك صاحب الجواهر (١) هنا مسلكا آخر ، وهو أنّ الولدية مقتضية للارث والكفر مانع ، فإذا علمنا بالمقتضي وشككنا في المانع نعمل بالمقتضي ولا نحتاج إلى الاستصحاب ، لكن هذا مبني على اعتبار قاعدة الاقتضاء وهو في محل المنع.

قوله : كما يعلم من الفرع الذي ذكره قبل هذا الفرع في الشرائع (٢).

الفرع الذي ذكره في الشرائع (٣) قبل هذا الفرع هو أنه لو مات المسلم عن ابنين مثلا فتصادقا على تقدم إسلام أحدهما على موت الأب وادّعى الآخر مثله فأنكر أخوه ، فالقول قول المتفق على إسلامه مع يمينه أنه لا يعلم أنّ أخاه أسلم قبل موت أبيه ، وكذا لو كانا مملوكين فاعتقا واتّفقا على حرية أحدهما واختلفا في الآخر انتهى. ولا يخفى أنه لم يعلم من هذا الفرع أنّ سبب الميراث إسلام الولد أو حريته حال حياة الأب لا تقدم الإسلام على الموت بل كل منهما محتمل لو لم نقل بكون الثاني أظهر.

قوله : فإن كان اللازم في الحكم بالنجاسة إحراز وقوعها في زمان القلّة (٤).

هذا على القول بأنّ الانفعال بالملاقاة معلّق على القلة ، وأمّا على القول بأنّ عدم الانفعال والعصمة معلّق على الكرية فينعكس الأمر وتكون أصالة عدم الكرية حين الملاقاة خاليا عن شوب الاثبات ، لأنّ العصمة حكم مترتب على نفس

__________________

(١) جواهر الكلام ٤٠ : ٥٠٤.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٣٩.

(٣) الشرائع ٤ : ١٢٠.

(٤) فرائد الاصول ٣ : ٢٤٠.

٢٨١

الكرية التي تجري أصالة عدمها ، فالمقتضي للنجاسة وهو الملاقاة يؤثّر أثره ، وأمّا أصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكرية فلا يثبت وقوع الملاقاة حين الكرية ليترتب عليه الطهارة ، نعم هنا احتمال آخر وهو أن تكون القلة شرطا للانفعال والكرية شرطا للعصمة أيضا بناء على جواز أن يكون كل من الحكمين المتضادين معلّقا على ضد ما علّق عليه الآخر ، وحينئذ يتعارض الأصلان خاليا عن شوب الاثبات من الجانبين ، وعلى أي تقدير لا فرق بين أن تكون القلّة أمرا عدميا هو عدم الكرية كما هو الأظهر ، أو وجوديا مضادّا للكرية ، وحينئذ يستصحب نفس القلّة لو فرض كونها موضوع الحكم.

والتحقيق أنّ الأصل المذكور خال عن شوب الاثبات مطلقا ، وذلك لأنّ أصالة عدم الكرية كاف في ترتّب الحكم الشرعي لا حاجة إلى توسيط الواسطة العقلية ، لأنّ حكم الانفعال مترتّب على الملاقاة حال عدم الكرية ، أمّا الملاقاة فهي وجدانية ، وأمّا قيده وهو وقوعها حال القلّة فهو أيضا وجداني ، غاية الأمر أنّ القلّة هذه ليست واقعية بل استصحابية ، فنقول نقطع بوقوع الملاقاة حال القلّة الاستصحابية وهو كاف ، وهذا بعينه نظير استصحاب الطهارة لاثبات صحة الصلاة فيقال إنّ وقوع الصلاة وجداني وكونها حال الطهارة أيضا وجداني ، نعم نفس الطهارة هذه التي تقع الصلاة حالها ثابتة بالأصل ، ونظير ما لو شك في وصول الماء إلى حدّ الكر ولم يقع الملاقاة بعد فإنه يستصحب عدم الكرية ويقال إنّه ينجس بالملاقاة فيما سيأتي ، ولا يقال إنّ استصحاب عدم الكرية لا يثبت وقوع الملاقاة في زمان القلّة وهكذا فيما نحن فيه ، ولا فرق بين العلم بتحقق الملاقاة في السابق وجدانا وبين العلم بتحققه في اللاحق لو فرض كونها حال عدم الكرية الثابت بالاستصحاب ، هذا كلّه على تقدير القول بكون القلّة وعدم الكرية شرطا للانفعال بالملاقاة كما هو ظاهر المتن واضح.

٢٨٢

وكذا على القول بأنّ الكرية مانعة عن الانفعال بل أوضح ، إذ المقتضي للانفعال وهو الملاقاة يؤثّر أثره حال عدم المانع منه الثابت بالأصل ، وأمّا أصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكرية المفيد للطهارة فعلى القول الأول على ما هو ظاهر المتن غير داخل في الأصل المثبت كما أشار إليه في المتن ، ومرجع هذا الأصل إلى أصالة عدم حدوث سبب النجاسة وهو الملاقاة حال القلّة ، وأمّا على القول الثاني فهو داخل في الأصل المثبت ، لأنّ الحكم بالفرض مترتّب على الملاقاة حال الكرّية لا على عدم الملاقاة حال عدم الكرية إلى زمان الكرية ، فلا يمكن إثبات الأمر الأول باستصحاب عدم الملاقاة إلى زمان الكرية إلّا بالملازمة العقلية بعد العلم بأصل الملاقاة ، وأمّا تشخيص أنّ القلّة شرط للانفعال أو الكرية مانعة عنه أو هما معا فهو موكول إلى محلّه في الفروع.

قوله : فالاحتمالان فيه سواء (١).

الاحتمال الأول تقديم قول الجاني لأصالة عدم السراية وعدم اشتغال ذمته بأزيد من أصل الجناية المعلومة ، والاحتمال الثاني تقديم قول الولي لأصالة عدم شرب السم اللازم منه عقلا وقوع الموت المفروض بالسراية ، وهذا لا ريب في كونه من الاصول المثبتة.

قوله : والمستفاد من الكل نهوض استصحاب الحياة لاثبات القتل (٢).

يمكن أن يمنع كون استصحاب الحياة هذا من الأصل المثبت ، لأنّ عنوان القتل يتحقق بقدّ الشخص بقيد كونه حيا ، أمّا القدّ فمتحقق وجدانا وأمّا قيده فبالأصل. والتحقيق أنّ القتل عنوان بسيط مسبّب عن قدّ الشخص الحي ، فإن علم

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٤٠.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٤١.

٢٨٣

بالسبب بجميع أجزائه وقيوده يعلم المسبّب ، وإن ثبت السبب أو بعض أجزائه أو قيوده بالأصل يلزمه ثبوت المسبّب عقلا ، ففيما نحن فيه لو اريد إثبات القتل باستصحاب حياة الملفوف كان إثباتا للمسبّب أعني القتل باستصحاب قيد السبب لأجل الملازمة العقلية الحاصلة بينه وبينه.

قوله : إلى غير ذلك ممّا لا يحصى من الأمثلة التي نقطع بعدم جريان الأصل لاثبات الموضوعات (١).

فتحصّل أنه يظهر من مذاق فقهائنا أنهم يعملون بالاصول المثبتة في جملة من الموارد كما في الأمثلة الاولة ، ولا يعملون بها في جملة اخرى كما في الأمثلة الأخيرة ، ولازم القول بحجية الاستصحاب من باب الظن اعتبار الجميع ، ولازم القول بحجيته من باب التعبّد عدم اعتبار الكل ، وإنما الإشكال في التفكيك والفرق بين هذه الأمثلة ، ونحن نقول أيضا بعد ما عرفت منّا سابقا من عدم الفرق بين القول بكون اعتبار الاستصحاب من باب الظن أو التعبّد أنّا نجد الفرق من أنفسنا بين الأمثلة كما فرّقوه ، فلا بدّ من بيان ضابطة يتميّز بها مورد الحجة منها من غير الحجة ، ثم بيان مدرك لتلك الضابطة فنقول :

يمكن أن يكون الضابط أنّ كل مورد يكون الأثر العقلي نفس موضوع حكم الشرع كالأمثلة الأخيرة فلا يثبت باستصحاب الملزوم ، وكل مورد يكون الأثر العقلي أو العادي قيدا للموضوع المتحقق بالوجدان فيثبت بالاستصحاب ، ففي مثال الملفوف لو كان المشكوك أصل القدّ الذي يتحقق به القتل فلا يثبت باستصحاب بقائه على اللف ، ولو كان الشك في القيد المعتبر في القدّ في كونه سببا للقتل وهو الحياة فيثبت باستصحاب الحياة ، وكذا مثال بقاء الماء في الحوض

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٤٣.

٢٨٤

لاثبات أصل موضوع الغسل من قبيل الأول وهكذا في باقي الأمثلة.

وأمّا المدرك لهذه الضابطة ، فهو أنه قد يكون استلزام أمر لأمر آخر واضحا غاية الوضوح بحيث يكون تنزيل تحقق الملزوم في قوة تنزيل اللازم ويفهم من تنزيله تنزيله عرفا ، أو يكون ذلك أعني شدّة وضوح الملازمة منشأ لعدّ آثار اللازم آثار الملزوم عرفا ، ففي هذا القسم يحكم بترتّب آثار اللازم باستصحاب الملزوم لمساعدة العرف على أنّ تنزيل الملزوم منزلة الموجود تنزيل اللازم أيضا ، أو على أنّ أثر اللازم أثر الملزوم ، ولا يتفاوت الأمر على هذا البيان بين كون حجية الاستصحاب من باب التعبّد أو من باب الظن ، أمّا على الأول فواضح ، وأمّا على الثاني فبدعوى أنّ السيرة وبناء العقلاء اللذين يكونان منشأ للظن النوعي ودليلا عليه يساعدان على ذلك دون غيره ، وقد يكون اللزوم غير واضح بعيدا عن أفهام أهل العرف يحتاج إلى إعمال رويّة وفكر ، ففي هذا القسم لا يحكم بترتّب آثار اللازم لعدم مساعدة العرف وبناء العقلاء على ذلك ، ولعلّ ما ذكره المصنف في المتن من الفرق بين الواسطة الخفية والجلية يرجع إلى ما ذكرنا في الجملة ، هذا غاية ما يمكن أن يقال في هذا المجال والله أعلم بحقيقة الحال.

ثم لا يخفى أنّ ما توهم من أنّ تطبيق الأحكام الكلية على مصاديقها الثابت موضوعها بالاستصحاب من قبيل الأصل المثبت اشتباه غير خفي على المتأمل ، ولعل المتوهم توهم أنّ الأحكام الكلية ثابتة للموضوعات الكلية ومصاديق الموضوع لا حكم لها في الجعل الشرعي ، إلّا أنّ العقل يحكم بسراية أحكام الطبيعة إلى أفراده.

والتحقيق أنّ الأحكام المترتبة على الموضوعات الكلية واردة على المصاديق في الحقيقة لأنها عينها ، والكليات مرآة للمصاديق وعنوان وجودها في الذهن معرّى عن الخصوصيات المشخصة والمصنّفة ، ولا تغاير بينهما في الحقيقة

٢٨٥

حتى يكون أحدهما ملزوما والآخر لازما ، ومن هنا قلنا إنه يجوز قصد أمر الاجارة في العبادات الاستيجارية ردّا على من قال إنّ الأمر المتعلق بالوفاء بالاجارة والعقود توصّلي لا يمكن قصد التقرب به ليحصل به العبادة ، وحلّه أنّ أمر الاجارة على النحو الكلي عين الأمر بالوفاء بالاجارات الخاصة فهو تابع لموارده ، فإن كان متعلّقا بالعبادة يكون تعبّديا وإن كان متعلّقا بالمعاملة يكون توصّليا.

قوله : منها ما إذا استصحب رطوبة النجس من المتلاقيين (١).

لم يعلم أنّ التنجيس مترتب على السراية ، بل الظاهر أنه مترتب على ملاقاة النجس مع الرطوبة ، فلا يكون استصحاب الرطوبة من الأصل المثبت ، فإنّ الملاقاة وجداني وقع حال الرطوبة الاستصحابية فافهم.

قوله : ومنها أصالة عدم دخول هلال شوال (٢).

نمنع خفاء الواسطة في المثال ، بل الواسطة جلية ظاهرة غاية الظهور ، نعم لا يبعد دخوله فيما ذكرنا من الضابط لموارد حجية الأصل المثبت.

قوله : وفيه نظر (٣).

لعلّ وجهه أنّ هذا المثال من قبيل خفاء الواسطة فلا حاجة إلى التمسك بالإجماع والسيرة ، وفيه نظر. ويمكن أن يكون إشارة إلى أنّ الإجماع والسيرة يكشفان عن حجية الظن بعدم الحاجب إذا حصل كما هو الغالب ، ونمنع الإجماع والسيرة في غير الصورة المفروضة كما في صورة الشك الحقيقي ، ويشهد لهذا الاحتمال أنّ المصنف قيّد المسألة في فتاواه بصورة الظن بالعدم كما ذكرنا.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٤٤.

(٢ ، ٣) فرائد الاصول ٣ : ٢٤٥.

(٢ ، ٣) فرائد الاصول ٣ : ٢٤٥.

٢٨٦

ويمكن أن يكون إشارة إلى أنّ المتيقن من مورد الإجماع والسيرة من البناء على عدم الحاجب هو العلم العادي أو الظن المتاخم للعلم بالعدم كما هو الأغلب ، وأمّا في غيره نمنع الإجماع والسيرة على عدم الفحص والبناء على العدم.

قوله : وقد عرفت حال الموضوع الخارجي الثابت أحد جزأي مفهومه بالأصل (١).

لكن التحقيق أنّ الحدوث معنى بسيط يعبّر عنه بالوجود الابتدائي ، وليس أمرا مركبا من الوجود وسبق العدم.

قوله : من باب انغسال الثوب بماءين مشتبهين (٢).

يحتمل أن يراد أنه من باب انغسال الثوب بماءين اشتبه قليلهما بكثيرهما مع طهارة كليهما ، ويحتمل أن يراد أنه من باب انغسال الثوب بماءين اشتبه الطاهر منهما بالنجس منهما كما هو الظاهر من العبارة والمعهود من الإناءين المشتبهين في ألسنة القوم ، وكلا الاحتمالين محل نظر إذ كون ما نحن فيه من قبيل انغسال الثوب مرة بالماء الكثير ومرة بالماء القليل باطل للقطع بطهارة الثوب في المقيس عليه بانغساله بالكثير أوّلا أو آخرا ، ولم يحتمل طريان النجاسة بعد التطهير ، وهذا بخلاف ما نحن فيه لأنّ المغسول به هنا ماء واحد طرأت عليه حالتان ، ويحتمل أن يكون حال قلته متقدما على حال كثرته ، وانغسال الثوب به أوّلا قد أوجب نجاسة القليل ولم يطهر الثوب ، ولا ريب أنّ القليل النجس لو صار كرا بالتدريج يبقى على النجاسة فانغسال الثوب به ثانيا لا يفيد الطهارة ، نعم لو كان حال كثرته متقدما على حال القلّة طهر الثوب بانغساله به ولم يطرأ النجاسة بعده. وبالجملة

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٤٨.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٤٩.

٢٨٧

فالطهارة محتملة لا مقطوعة ، نعم لو قلنا بطهارة القليل النجس المتمم كرّا أو فرضنا أنّ الكثرة الطارئة كانت بحيث كان الماء حالها طاهرا معصوما صحت المقايسة ، إلّا أنّ الأول خلاف المختار والثاني خلاف الظاهر.

وممّا ذكرنا ظهر أنّ كون ما نحن فيه من قبيل انغسال الثوب بالماءين المشتبه طاهرهما بنجسهما أيضا باطل ، لأنه يحكم بطهارة الثوب في المقيس عليه لأجل أنّ نجاسة الثوب السابقة مقطوعة الزوال ونجاسة اخرى لا حقة بملاقاة الماء النجس مشكوكة الحدوث ولا مانع من استصحاب الطهارة المتيقنة الحدوث ، ولو قيل بأنه معارض باستصحاب النجاسة المتيقنة حال انغساله بالنجس من الماءين بناء على جريانه أيضا يرجع إلى قاعدة الطهارة.

ولا يخفى أنّ هذا الوجه لا يجري فيما نحن فيه ، لما عرفت من أنّ النجاسة السابقة في الثوب غير مقطوع الزوال بل محتمل البقاء ، بل التحقيق فيما نحن فيه هو الحكم بنجاسة الثوب والماء جميعا ، لأنّ الماء في يوم الخميس في فرض المتن مستصحب القلة فانغسال الثوب به يوجب تنجّسه بحكم الاستصحاب ولا يطهر بتتميمه كرا بالفرض حتى يوجب طهارة الثوب بانغساله به ، فالثوب مستصحب النجاسة والماء متنجس باستصحاب القلة.

ومن أمثلة المقام المرأة الدامية لو علمت بأنها تحيض في الشهر سبعة مثلا ولا عادة لها بحسب الوقت فيجري في حقها استصحاب الطهر إلى أن تبقى من الشهر سبعة أيام ، لكن لا يمكن أن يثبت به حيضية السبعة الأخيرة بناء على عدم حجية الاصول المثبتة ، نعم يمكن أن يقال إنّه بعد مضي ثلاثة وعشرين من الشهر يعلم بتحقق الحيض وانقضاء الطهر السابق قطعا فيستصحب بقاؤه إلى آخر الشهر ، لكنّك عرفت المناقشة في هذا الاستصحاب سابقا من أنّ زمان الشك غير متصل بزمان اليقين السابق والاتصال هذا معتبر في جريان الاستصحاب لأنه عبارة عن

٢٨٨

الأخذ باليقين السابق على زمان الشك وإلغاء الشك ، وقد مرّ بيان ذلك بأوضح وجه فتذكّر ، ولعلّه لذا اختار المصنف في فقهه التمسك باستصحاب الطهر إلى زمان العلم بانقضائه ، والتمسك بأصالة البراءة عن أحكام الحائض منه إلى آخر الشهر فهي بحكم الطاهر في جميع الشهر فتدبّر.

قوله : فإمّا أن يجهل تاريخهما (١).

وأيضا إمّا أن يمكن اجتماع الحادثين في زمان واحد ويحتمل التقارن كما لو علم بحدوث كرية الماء وملاقاة الثوب له وشك في التقدم ، وكما لو علم باسلام الوارث وموت المورّث وشك في التقدم ، وكما لو علم بصدور البيع من الراهن مع إذن المرتهن للعين المرهونة ورجوع المرتهن عن إذنه وشك في التقدم ، وكالجمعتين في أقل من فرسخ مع الشك في التقدم وهكذا.

وإمّا أن لا يمكن اجتماعهما في زمان كما في مسألة تعاقب الحدث والطهارة أو الخبث والطهارة أو قلّة الماء وكريته مع اشتباه المتقدم وهكذا.

قوله : وأمّا أصالة عدم أحدهما في زمان حدوث الآخر فهي معارضة بالمثل (٢).

هذه العبارة قد صارت مطرح الأنظار وأوجبت كثرة القيل والقال ، والظاهر بل المقطوع أنه أراد أصالة عدم أحدهما إلى زمان الآخر ، والتعبير بلفظ «في» مكان إلى وقع مسامحة أو سهوا وذلك لوجوه :

أحدها : أنّ أصالة عدم أحدهما في زمان حدوث الآخر غير جارية في حدّ نفسها ، ألا ترى أنه لا يمكن أن يقال إنّ الأصل عدم الملاقاة في حال حدوث

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٤٩.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٤٩.

٢٨٩

الكرية لمعارضته بأصالة عدم الملاقاة في زمان القلة ، وكذا أصالة عدم الكرية في زمان الملاقاة معارضة بأصالة عدم الكرية بعد الملاقاة فتأمّل.

الثاني : أنّ مؤدّى العبارة على معنى «في» قد ينتج خلاف المقصود كما في المثال المذكور ، فإنّ أصالة عدم الكرّية في زمان الملاقاة موجب للنجاسة ، وكذا أصالة عدم الملاقاة في زمان الكرية أيضا موجب للنجاسة فكيف يتعارضان ويتساقطان ، وهذا بخلاف معنى «إلى» فإنّ أصالة عدم الكرية إلى زمان الملاقاة موجب للنجاسة كالأول ، وأمّا أصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكرية موجب للطهارة فيتعارضان.

الثالث : أنّ التكلم في إمكان إثبات التقارن وعدمه على ما تعرّض له عقيب هذا الكلام إنما يتصوّر على معنى «إلى» كما لا يخفى ، فإنه على معنى «في» جريان الأصلين ينفي التقارن.

وكيف كان ، ما ذكره من جريان الأصلين وتعارضهما مدخول بما مرّ مرارا من أنّ الظاهر من أخبار الباب جريان حكم اليقين السابق إلى زمان الشك المتصل بذلك اليقين لا تفيد أزيد من ذلك ، وفي مسألتنا هذه اليقين المتصل بزمان الشك غير معلوم لأنه مردّد بين أمرين متيقنين في السابق أحدهما سابق على الآخر ، ولا ريب أنّ السابق منهما منفصل عن زمان الشك والآخر المتصل بزمان الشك غير معلوم وإلّا لم نحتج إلى الاستصحاب ، لكن هذا الإشكال مختص بما علم تعاقب الحادثين ولم يحتمل التقارن كما لا يخفى.

قوله : وإن كان أحدهما معلوم التاريخ (١).

يعني أن يكون تاريخ حدوث أحدهما معلوما وتاريخ حدوث الآخر

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٤٩.

٢٩٠

مجهولا ، وفي حكمه ما لو كان تاريخ حدوث كلا الحادثين مجهولا لكن كان تاريخ وجود أحدهما معلوما كما إذا علمنا بأنّ الماء كان كرا في أول الزوال ولم نعلم زمان الملاقاة وإن جهلنا تاريخ حدوث الكرية ، فإنّ في هذا المثال أيضا تجري أصالة عدم الملاقاة إلى زمان الكرية وهو الزوال وما بعده دون أصالة عدم الكرية إلى زمان الملاقاة.

قوله : وربما يتوهم جريان الأصل في طرف المعلوم الخ (١).

قد عرفت أنّ التعبير الصحيح أن يقال الأصل عدم وجود الحادث الفلاني إلى زمان الحادث الآخر لا في زمان الحادث الآخر وإلّا لم يتعارض الأصلان في المثال بل مقتضاهما واحد وهو النجاسة.

والتحقيق أنّ الحادث المعلوم التاريخ يمكن اعتباره بوجوه ثلاثة ، الأول : اعتبار وجوده المطلق ، وبهذا الاعتبار لا وجه لجريان الاستصحاب فيه ، لأنّ مبدأ وجوده وغاية عدمه معلوم لفرض العلم بالتاريخ فلا يشك فيه أصلا ، وأمّا الآخر المجهول التاريخ يجري استصحاب عدمه إلى ذلك الزمان المعلوم للجهل بتاريخ حدوثه بالفرض.

الثاني : اعتبار وجوده المقيد بكونه في زمان الآخر أي الوجود الخاص وهو وجود الملاقاة المقيدة بكونها في زمان الكرية أو الكرية المقيدة بكونها في زمان الملاقاة ، وبهذا الاعتبار لا يمنع العلم بوجوده المطلق من جريان استصحاب عدم وجوده المقيد لأنه مسبوق بالعدم ولم يعلم انقلابه إلى الوجود ، وإنما علم بالوجود المطلق ، فإذن يكون الطرف المعلوم مساويا للطرف المجهول

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٥٠.

٢٩١

في أنّ الوجود المقيد بكونه في زمن الحادث الآخر مشكوك فيه في كليهما ومسبوق بالعدم ، فيجري الأصلان من الجانبين ويتعارضان فتأمّل.

الثالث : اعتبار وجوده المقيد بكونه في زمان الآخر بمعنى تقيّد وجوده بكونه كذا ويرجع إلى نفس اتّصاف الوجود المطلق بكونه في زمان وجود الحادث الآخر ، وهذا لا يجري فيه الاستصحاب لا في طرف معلوم التاريخ ولا في طرف مجهول التاريخ ، فلا يمكن أن يقال الأصل عدم اتّصاف الملاقاة المعلوم بكونه في زمن الكرية ، أو الأصل عدم اتصاف الكرية بكونها في زمن الملاقاة لعدم العلم بالحالة السابقة ، يعني لم يعلم أنّ هذه الملاقاة الموجودة في الخارج لم تكن مقارنة للكرية في زمان ما حتى يستصحب ذلك العدم.

إذا عرفت ذلك عرفت أنّ المناسب لتفصيل المصنف من جريان الأصل في طرف مجهول التاريخ دون الطرف المعلوم هو الاعتبار الأول ، وينطبق عليه قوله ويندفع بأنّ نفس وجوده غير مشكوك في زمان ، وظاهر العبارة حيث عبّر بأنّ الأصل عدم وجوده في الزمان الواقعي للآخر ، وكذا قوله وأمّا وجوده في زمان الآخر الخ هو الاعتبار الثاني ، وتعليل عدم جريان الاستصحاب في الطرف المعلوم بأنه غير مسبوق بالعدم يناسب الاعتبار الثالث فليتأمّل كي لا يختلط الأمر ، فإنّ العبارة غير خالية عن التشويش.

ثم اعلم أنّ ما ذكرنا في مجهولي التاريخ من قضية عدم اتصال زمان الشك باليقين المعتبر في جريان الاستصحاب وبذلك منعنا من جريان الاستصحاب يجري بالنسبة إلى الطرف المجهول هنا ونمنع من جريان الاستصحاب فيه لذلك ، مثلا في مسألة تقدم الطهارة أو الحدث لو علم تاريخ الطهارة وأنه أوّل الزوال لا تجري أصالة بقاء الحدث إلى الغروب لعدم اتصال زمان الشك بالحدث المقطوع به ، لاحتمال كونه قبل الزوال وانقطع بفصل الطهارة ، وببيان آخر نقول الحدث

٢٩٢

المتيقن مردّد بين كونه حدثا متيقن الزوال لاحتمال كونه قبل الزوال ومشكوك الحدوث باحتمال كونه بعد الزوال فيدخل في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلي الذي قد مرّ عدم حجية الاستصحاب فيه ، نعم لا مانع من استصحاب معلوم التاريخ في نفسه كالطهارة في الفرض المذكور إلى الغروب مثلا لاتصال زمان الشك باليقين بالطهارة ولا مانع غيره أيضا فليتأمّل فإنّا لم نجد في المسألة قولا بجريان الاستصحاب بالنسبة إلى معلوم التاريخ دون المجهول إلّا أنه مقتضى القاعدة فتدبّر.

قوله : ومسألة اشتباه الجمعتين (١).

الظاهر أنّه لا إشكال في وجه المسألة بالنسبة إلى أهل كل من الجمعتين ، فإنّ كلا منهما يجري في حقه أصالة عدم المانع من صحة صلاته ، ولا يضرّه العلم الاجمالي ببطلان إحدى الصلاتين واقعا وهي الصلاة المتأخرة لأنه من قبيل واجدي المني في الثوب المشترك ، وأمّا بالنسبة إلى غير أهل الجمعتين لو أراد إقامة جمعة اخرى فإن علم بسبق إحدى الجمعتين على الاخرى وصحتها لا يجوز له الاقامة لعلمه بتحقق المانع وهي الجمعة الصحيحة بينه وبين الفرسخ ، وإن لم يعلم بالسبق واحتمل التقارن يجوز له الاقامة اعتمادا على أصالة عدم المانع بعد تعارض أصالة عدم كل منهما إلى زمان الآخر ، هذا كله في مجهولي التاريخ ، أمّا إذا علم تاريخ إحداهما فأصالة عدم الاخرى إلى زمانه قاضية بصحتها.

واعلم أنّ صاحب الجواهر (٢) حكم ببطلان الجمعتين في الفرض ناسبا له إلى الأصحاب مطلقا حتى في صورة العلم بتاريخ احداهما ، تمسكا بأنّ شرط الصحة

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٥١.

(٢) جواهر الكلام ١١ : ٢٥٤.

٢٩٣

سبق زمان هذه الجمعة على الاخرى ولا يمكن إحرازه ، لأنّ أصالة عدم وجود الاخرى إلى زمانه لا يثبت عنوان سبقها على الاخرى فتأمّل وتمام البحث في الفقه.

قوله : ومسألة اشتباه تقدم رجوع المرتهن الخ (١).

الظاهر الحكم بصحة البيع مستندا إلى أصالة بقاء الاذن وعدم الرجوع إلى زمان البيع ، ولا تعارضه أصالة عدم البيع إلى زمان الرجوع ، لأنه لا يثبت وقوع البيع بعد الرجوع وتأخره عنه حتى يقتضي الفساد ، والعدم المستصحب لا أثر له شرعا فلا يجري استصحابه ، هذا مع الجهل بتاريخهما.

وأمّا إذا علم تاريخ أحدهما فإن كان المعلوم تاريخ البيع جرت أصالة بقاء الاذن وعدم الرجوع إلى زمانه فيحكم بصحته لاحراز شرطها بالأصل ، وإن كان المعلوم تاريخ الرجوع يحكم بفساده لعدم إحراز شرطه بوجه ، وأصالة عدم وقوع البيع إلى زمان الرجوع غير جارية لأنّها لا تثبت وقوعه بعد الرجوع ، مع أنه لو كانت جارية اقتضت البطلان أيضا.

قوله : لزم النقل وتعدد الوضع والأصل عدمه (٢).

توضيحه : أنّ وضع صيغة الأمر للوجوب معلوم ، ووضعها لمعنى آخر في السابق غير معلوم والأصل عدمه ، ويلزمه عقلا ثبوت هذا المعنى في السابق أيضا وعدم النقل ، لكن يمكن أن يعارض هذا الأصل بأصالة عدم تحقق وضع صيغة الأمر للوجوب إلى زمان العلم بتحققه ويلزمه عقلا كونها موضوعة في السابق لمعنى آخر وحصل النقل ولا حكومة لأحد الأصلين على الآخر ظاهرا ، فيتأمّل.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٥١.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٥٤.

٢٩٤

قوله : وقد استظهرنا سابقا أنه متفق عليه في الأصول اللفظية (١).

إن قلنا بجريان الاصول في مباحث الألفاظ من باب الاستصحاب التعبّدي كان الإشكال في حجية مثبته كغيره لا فرق بينهما ، وإن كان من باب الظن فإن أريد به الظن الشخصي على أبعد الاحتمالين فيدور الأمر مداره وليست قاعدة كلّية ، وإن اريد به الظن النوعي مستندا إلى الاستقراء والغلبة نمنع كون غالب الألفاظ غير منقولة باقية على المعنى الذي وضع له أوّلا ، وبناء العقلاء على ذلك أيضا ممنوع.

قوله : الأمر الثامن قد يستصحب صحة العبادة الخ (٢).

لا بأس بأن نشير إلى جميع الوجوه المحتملة ليتضح محل جريان الاستصحاب عن غيره ، واعلم أوّلا أنّ الكلام هنا ممحّض في صحة إجراء استصحاب الصحة مع الاغماض عن الاصول الأخر لو كانت جارية كالبراءة وقاعدة التجاوز ونحوها ، فنقول قد يقال إنّ الفعل المركّب المأمور به لا يتصف بوصف الصحة إلّا بعد كمالها تام الأجزاء والشرائط وفي أثناء العمل لا يتصف بصحة ولا فساد ، وهذا الاحتمال بعيد في الغاية ، لأنّ الامتثال وموافقة الأمر يحصل بالشروع في المركّب شيئا فشيئا إلى أن يتمّه بشهادة العقل والعرف.

وقد يقال إنّ وصف الصحة يعرض لأجزاء المركّب من أوّل الشروع فيه شيئا فشيئا إلّا أنه لا يعلم به إلّا بعد تمام العمل ، لأنّ صحة كلّ جزء مشروطة بانضمام باقي الأجزاء صحيحا إليه ، وحيث إنّه لا يعلم المكلّف بذلك لا يمكنه الحكم باتصاف أجزاء العمل بالصحة إلّا بعد تمامه.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٥٤.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٥٥.

٢٩٥

وقد يقال إنّ كل جزء يوجد يتصف بالصحة في حدّ نفسه من غير توقّف على وجود الأجزاء التالية.

ولا يخفى أنه لا وجه لدعوى جريان استصحاب الصحة في أثناء العمل على الاحتمال الأول ، لأنّ وصف الصحة قبل تمام العمل مقطوع العدم على هذا الاحتمال ، وكذا على الاحتمال الثاني لفرض عدم تحقق اليقين بالصحة إلّا بعد تمام العمل فلا متيقن في أثناء العمل حتى يمكن استصحابه ، فانحصر صحة دعوى جريان الاستصحاب في الاحتمال الثالث لأنه بوجود كل جزء نحكم بوصفه بالصحة واقعا بالفرض ، ويمكن أن يشك في الصحة فيما بعده ونقول فيه إنّ المفسد المحتمل قد يكون إفساده بمعنى أنه مانع عن صحة الأجزاء الباقية كما يظهر من المتن ، وقد يكون بمعنى أنه مزيل لوصف الصحة عن الأجزاء الماضية ، وقد يكون بمعنى أنه مزيل لصحة الأجزاء الماضية مانع عن صحة الأجزاء التالية ، فإن كان الثاني فلا مانع من جريان استصحاب الصحة عند الشك فيها لفقد ما يشك في شرطيته أو وجود ما يشك في مانعيته ، وإن كان الأول فلا معنى لاستصحاب الصحة عند الشك للعلم بصحة الأجزاء الماضية ، وإنما الشك في وجود الصحة بالنسبة إلى الأجزاء اللاحقة ، فليس هناك شيء يمكن استصحابه كما بيّنه في المتن.

وأمّا على الثالث ، فإنه وإن أمكن إجراء استصحاب الصحة أعني صحة الأجزاء السابقة إلّا أنه لا يفيد بالنسبة إلى الأجزاء اللاحقة للزوم إحراز صحتها أيضا وهي مشكوكة من الأصل ، والحاصل أنه يمكن إجراء استصحاب الصحة على بعض الوجوه ، فيمكن حمل كلام من تمسك به على ذلك الوجه.

لكن الانصاف عدم جريانه لما عرفت من انحصار مورد جريانه بما إذا شك في الفساد بالمعنى الثاني ، ولا نعلم له مصداقا في الشرعيات في الصوم والصلاة

٢٩٦

والحج ونحوها ، إذ ما علم لنا من مفسداتها أو شك فيه مردّد بين كونه مفسدا للسابق فقط أو اللاحق فقط أو هما معا ، والاستصحاب لا يجري إلّا إذا علمنا بأنه من القسم الأول ولم نعلم به.

ثم لا يخفى أنّ الحق من الوجوه الثلاثة المتقدمة لاتصاف العمل بوصف الصحة هو الوجه الثاني ، لأنّ الكلام في المركّب الارتباطي ، ولا معنى للارتباط سوى توقف صحة كلّ جزء منه على وجود الآخر وصحته ، وقد عرفت أنه لا معنى لاستصحاب الصحة على ذلك الوجه ، وقد ظهر مما ذكرنا أنّ المصنف في اختياره عدم جريان استصحاب الصحة بنى الأمر على الوجه الأول من الاحتمال الثالث بدعوى عدم معقولية الوجهين الآخرين وسيأتي ما فيه.

قوله : ضرورة عدم انقلاب الشيء عما وجد عليه (١).

انقلاب الشيء عمّا وجد عليه ضروري البطلان لكن بحسب التكوين ، وأمّا بحسب الجعل والتشريع فيمكن أن يجعل الشارع الموجود كالمعدوم تنزيلا ولا دليل على بطلان هذا الانقلاب ، بل الدليل على صحته قائم ، ومسألة الحبط والتكفير اللذين نطقت بهما الآيات والأخبار من هذا القبيل.

قوله : ومن المعلوم أنّ هذا الأثر موجود في الجزء دائما الخ (٢).

الظاهر بل المقطوع أنه أراد من الأثر المذكور قابلية الانضمام الشأنية وهي كما ذكره ثابتة للجزء دائما ، وأمّا القابلية الفعلية لانضمام باقي الأجزاء والتيام المركّب منها فثابتة للجزء قبل عروض المبطل ، فإذا وجد المبطل زال وصف القابلية المذكورة قطعا ، وإذا شك في عروض المبطل شك في بقاء الوصف المذكور فيكون محلا للاستصحاب ، والحاصل أنه لو كان الشك في طريان الفساد

__________________

(١ ، ٢) فرائد الاصول ٣ : ٢٥٦.

٢٩٧

للأجزاء السابقة بمعنى ما يزيل القابلية الفعلية الثابتة لها قبل الشك لا مانع من استصحاب الصحة وبقاء تلك القابلية ، وسيصرّح بهذا المعنى في المتن في التفصيل الذي اختاره ، نعم قد عرفت الإشكال في تشخيص كون المفسد المحتمل من هذا القبيل.

قوله : وقد يكون من جهة عروض ما تنقطع معه الهيئة الاتصالية المعتبرة في الصلاة (١).

الفرق بين المانع والقاطع أنّ المانع عبارة عن أمر اعتبر عدمه في الصلاة ، كما أنّ الشرط هو ما اعتبر وجوده فيها ، وأمّا القاطع فهو أيضا مانع عن الصلاة لكن من حيث إنه موجب لزوال شرط معلوم الشرطية وهي الهيئة الاتصالية المعتبرة في الصلاة لا من حيث إنّ عدمه في نفسه معتبر في الصلاة ، وتظهر الثمرة في أنه إذا شك في مانعية شيء للصلاة فلا يمكن الحكم بصحة الصلاة إلّا إذا أحرزنا عدم مانعية ذلك الشيء للصلاة ولو بأصل من الاصول ، بخلاف الشك في القاطع فإنه لا يجب إحراز عدمه في نفسه إلّا من حيث إحراز الشرط الذي يحتمل زواله بوجود هذا المشكوك ، فإن أحرزنا ذلك الشرط بالاستصحاب أو غيره من الاصول كفى في صحة الصلاة ولا نحتاج إلى إثبات عدم كون المشكوك قاطعا.

إذا عرفت ذلك فنقول : لو حصل الشك في وجود القاطع المعلوم القاطعية أو قاطعية الشيء الذي علم وجوده يشك لأجله في بقاء الهيئة الاتصالية المعتبرة في الصلاة ، فيمكن إجراء استصحاب الصحة ، إمّا بمعنى استصحاب القابلية للأجزاء السابقة للحوق الأجزاء الباقية والتيام المركّب منها ، وإمّا بمعنى استصحاب الهيئة الاتصالية المتحققة قبل وجود القاطع المشكوك.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٥٧.

٢٩٨

إلّا أنه يرد على الاستصحاب الأول أنّ استصحاب القابلية للأجزاء لا يثبت صحة الأجزاء اللاحقة بناء على عدم الاعتبار بالأصل المثبت.

فإن قلت : يمكن استصحاب قابلية الأجزاء اللاحقة أيضا للانضمام إلى السابقة بالاستصحاب التعليقي ، بأن يقال إنه قبل عروض المشكوك كان بحيث لو أتى بالأجزاء اللاحقة التأم المركّب وحصل الامتثال ، فإذا شك في بقاء هذا المعنى فالأصل بقاؤه.

قلت : سلّمنا ذلك لكن لا يثبت أصل الشرط وهو الهيئة الاتصالية باستصحاب القابليتين إلّا بالأصل المثبت فافهم.

وأيضا يبقى على المصنف سؤال الفرق بين الشك في المانع والشك في القاطع ، حيث إنه منع من استصحاب القابلية في الأول وأنّه لا يفيد وأجراه في الثاني بغير إشكال.

ويرد على الاستصحاب الثاني أنه خارج عن محل البحث ، فإنّ الكلام في صحة جريان استصحاب الصحة واستصحاب الهيئة الاتصالية ليس من استصحاب الصحة في شيء ، بل هو استصحاب نفس الشرط ، فهو نظير استصحاب الطهارة ولا كلام فيه.

وأيضا يرد عليه أنه إن اريد باستصحاب الهيئة الاتصالية إبقاء اتصال الأجزاء السابقة بعضها مع بعض فهو متيقن البقاء ، وإن اريد به اتصال الأجزاء السابقة مع اللاحقة فهو متيقن الانتفاء ، ضرورة أنّ وصف الاتصال نسبة بين شيئين ولا يتحقق إلّا بعد تحقق كلا المنتسبين فكيف حكم بوجود الاتصال قبل وجود أحد طرفي النسبة ، وأجاب المصنف عنه في المتن باختيار الشق الثاني وأنه يحكم بوجود الاتصال مسامحة.

توضيحه : أنّ الجزء اللاحق الذي لم يوجد بعد يفرض موجودا مسامحة

٢٩٩

لقربه إلى الوجود ويحكم بتحقق وصف الاتصال ثم يستصحب ، أو أنّ وصف الاتصال الذي لم يوجد بعد يفرض موجودا مسامحة ثم يستصحب ، ولا يخفى ما في اعتبار هذه المسامحة وصدق النسبة من المسامحة ويكفينا منعه عن التكلم فيه.

بقى شيء : وهو أنّ المصنف فرّع على استصحاب القابلية عدم وجوب الاستئناف ، وعلى استصحاب الهيئة الاتصالية بقاء الأمر بالاتمام مع أنهما يتفرّعان عليهما ، بل مرجعهما إلى أمر واحد ، وحسن ظنّنا بالمصنف ينبئ عن أنه أراد بتفريع هذا على هذا وذاك على ذاك التنبيه على نكتة لم نظفر بها ، فتدبّر لعلّك تظفر.

قوله : وفيه : أنّ الموضوع في هذا المستصحب هو الفعل الصحيح (١).

يعني أنّ القطع والإبطال الذي هو موضوع الحرمة إنما يصدق نسبته إلى الفعل الصحيح ، فمع الشك في أصل الصحة يشك في صدق القطع والابطال ، لأنّ الباطل لا يتصور إبطاله ، وبمثل ذلك أجاب المصنف في مبحث أصل البراءة التمسك باستصحاب وجوب الاتمام بدعوى أنه لا يعلم أنه يمكن إتمام العمل وأنّ الاتيان بباقي الأجزاء يصدق عليه الاتمام أم لا.

ولكن يمكن أن يقال لا نحتاج إلى احراز صدق عنوان القطع والاتمام بل نستصحب حرمة رفع اليد عن هذا العمل الثابتة قبل الشك ولو لأنه كان في السابق محرّما لكونه إبطالا والآن يشك في كونه إبطالا فإنه علة ثبوت أصل الحكم ، وزوال العلم به يوجب الشك في الحكم ولا يلزم إحرازه في جريان الاستصحاب ، وكذا لا يلزم إحراز عنوان الاتمام في جريان استصحاب وجوب

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٢٥٧.

٣٠٠