حاشية فرائد الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-091-8
الصفحات: ٥٥٦
الجزء ٢ الجزء ٣

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

قوله : المقام الثاني في الاستصحاب وهو لغة أخذ الشيء مصاحبا (١).

قال في القاموس استصحبه : دعاه إلى الصحبة ولازمه (٢) فيحتمل أن يقال أشار به إلى معنيين ، وأنّ دعاه إلى الصحبة معنى ولازمه معنى آخر ، وما ذكره المصنّف راجع إلى الأوّل. والفرق بينهما أنّ مفاد الأوّل أخذ الشيء صاحبا وتابعا ومفاد الثاني مصاحبة الشيء ومتابعته ، فيكون فاعل الفعل في الأوّل متبوعا والمفعول تابعا ، وفي الثاني بالعكس. ويحتمل أن يكون مجموع العبارة إشارة إلى معنى واحد ، ولعلّ وجه الجمع بين العبارتين في تفسير اللفظ أنّ الاستصحاب استفعال من الصحبة ، ومعنى باب الاستفعال هو طلب الفعل أعمّ من حصول المبدأ في الخارج وعدمه ، ولذا يقال استخرجته فلم يخرج واستصحبته فلم يصحبني واستهللت فلم أر الهلال وهكذا ، إلّا أنّ هذا ما يقتضيه الحقيقة الأوّلية ، ولا ريب أنّ الظاهر المتبادر من صيغة الاستفعال طلب المبدأ مع حصوله ، وأغلب الاستعمالات جار عليه ، ألا ترى أنّه لا يقال استمنى إلّا إذا حصل الامناء عقيب طلبه ولا استخرج إلّا إذا حصل الخروج ، نعم التصريح بعدم حصول المبدأ كما في الأمثلة المتقدّمة قرينة على إرادة مجرّد الطلب ، والظاهر أنّ حصول المبدأ مقتضى

__________________

(١) فرائد الأصول ٣ : ٩.

(٢). القاموس المحيط ١ : ٢٣٧.

٥

إطلاق الصيغة وليس داخلا في الموضوع له ، وعلى هذا فلفظ الاستصحاب ظاهر في طلب الصحبة مع حصولها ، ولمّا كان أصل الصحبة بحسب معنى المادّة يتحقّق بين الشيئين من الطرفين ويكون كلّ منهما مصاحبا للآخر صحّ أن يفسّر استصحبت زيدا مثلا بقولنا دعوته إلى الصحبة ولزمني قضية لحصول الصحبة وأنّه حصل من الجانبين ، فصحبته وصحبني ولزمته ولزمني ، وما ذكرناه ينفعك في وجه مناسبة النقل إلى المعنى الاصطلاحي ، فافهم.

قوله : وعند الأصوليين عرّف بتعاريف (١).

ليس في التعرّض لجميع ما ذكروه في تعريف الاستصحاب كثير فائدة ، بل كثير من التعاريف يرجع بعضه إلى بعض ، وإنّما نتعرّض لبعض التعاريف الذي يختلف بحسبه معنى الاستصحاب في الاصطلاح ويعرف به حقيقته ، ثمّ نتعرّض لبعضها أيضا فيما يتعلّق بالطرد والعكس بعد ذلك ، فنقول :

منها : بقاء ما كان على ما كان كما اختاره صاحب الضوابط في آخر كلامه (٢) والمراد بالبقاء هو البقاء الحكمي والتنزيلي بجعل الشارع الحكم الموجود في السابق يقينا باقيا في زمان الشكّ في الظاهر أو الموضوع كذلك ، فالاستصحاب حينئذ نظير قاعدة الطهارة فكما يقال فيها إنّ المشكوك الطهارة وليس له حالة سابقة متيقّنة طاهر بحكم الشارع يعني في الظاهر ما دام مشكوكا ، كذلك يقال إنّ المراد من استصحاب الطهارة أنّ المسبوق بالطهارة الواقعية علما باق على طهارته فهو طاهر بحكم الشارع يعني في الظاهر وبحسب التنزيل الشرعي ، فيكون الاستصحاب على هذا نفس الحكم الشرعي لا من أدلّته ، فكما

__________________

(١) فرائد الأصول ٣ : ٩.

(٢) ضوابط الأصول : ٣٤٦.

٦

أنّ الطهارة الواقعية حكم شرعي واقعي كذلك الطهارة الظاهرية في مورد الاستصحاب أو مورد قاعدة الطهارة حكم شرعي ظاهري.

ولا يخفى أنّه لا يصحّ على هذا المعنى أن يعدّ الاستصحاب من أدلّة الأحكام ، وكذا لا معنى لقولهم الاستصحاب حجّة أو ليس بحجّة إلّا على معنى أنّ الاستصحاب ثابت أو ليس بثابت ، كما أنّ قولهم إنّ المفهوم الفلاني حجّة أم لا معناه أنّ المفهوم ثابت أم لا وإلّا فلا نزاع في حجّية المفهوم بعد الاذعان بثبوته ، وكذا لا يصحّ حمل سائر ما اشتقّ من الاستصحاب على هذا المعنى كقولهم يستصحب أو لا يستصحب أو استصحبه أو لم يستصحبه ، بل كلّها يناسب معنى الابقاء على الوجه الآتي ، واستعمال المشتقّات في غير المعنى المراد من مصدرها كما ترى في غاية البعد والركاكة.

ومنها : ابقاء ما كان كما ذكره في المتن ، وهذا يحتمل وجوها :

الأوّل : أن يراد به إبقاء الله الحكم أو الموضوع السابق يعني بحسب الظاهر.

الثاني : أن يراد وجوب ابقاء المكلّف الحكم السابق ، ويظهر هذا الوجه من المصنّف في المتن حيث قال في ردّ توجيه تعريف الاستصحاب بما ذكره المحقّق القمي كما سيجيء إنّ المأخوذ من السنّة ليس إلّا وجوب الحكم ببقاء ما كان.

الثالث : أن يراد منه إبقاء المكلّف الحكم المتيقّن في السابق. ولا يخفى أنّ تحقّق حقيقة الاستصحاب على الوجه الأخير بعد تحقّق مورده من اليقين السابق والشكّ اللاحق موقوف على حصول فعل من المكلّف وهو الابقاء أعني البناء على البقاء ، وإلّا فلو لم يبن على الحالة السابقة لم يكن هناك استصحاب ، وإن عمل على طبق الحالة السابقة لم يعمل بالاستصحاب ، وهذا بخلاف الوجهين الأوّلين فإنّ حصول موضوع الاستصحاب وحقيقته لا يرتبط ببناء المكلّف عليهما ، وكذا

٧

على التعريف الأوّل لأنّه من جعل الشارع سواء بنى عليه المكلّف أم لا ، فلو عمل على طبق الحالة السابقة بعد اليقين والشكّ ولو اتّفاقا لغرض من الأغراض فقد عمل بالاستصحاب.

ثمّ لا يخفى أيضا أنّ الوجهين الأوّلين يشاركان التعريف الأوّل في عدم مساعدة جملة من استعمالاتهم عليه كقولهم إنّ الاستصحاب حجّة وأنّه من الأدلّة وسائر ما اشتقّ من لفظ الاستصحاب ، وإنّما يوافق هذه الاستعمالات للوجه الأخير وهو إبقاء المكلّف ، وهذا يشهد بأنّ المعنى المصطلح عليه هو هذا ، مع أنّ المناسب أن يجعل الاصطلاح على ما يوافق أحد الوجهين الأوّلين أو مفاد التعريف الأوّل ، بل خصوص مفاد التعريف الأوّل حتّى يكون حقيقة الاستصحاب مشابها لحقيقة نظائره من قاعدة الطهارة وقاعدة البراءة وقاعدة الاحتياط إلى غير ذلك من الأحكام والموضوعات الظاهرية.

ثمّ لا يخفى أنّه يمكن أن يعتبر الباقي في التعريف الأوّل وجميع وجوه التعريف الثاني هو التيقّن أو نفس اليقين كما هو الأظهر في مفاد أخبار لا تنقض عندنا على ما سيأتي في محلّه إن شاء الله تعالى.

ومنها : أنّه عبارة عن نفس اليقين السابق كما احتمله في الضوابط ، ولعلّه إليه يرجع تعريف المحقّق القمي من أنّه كون حكم أو وصف يقيني الحصول إلى آخر ما نقله في المتن وجعله أزيف التعاريف ، وهذا المعنى أنسب من حيث عدّهم للاستصحاب من الأدلّة كما أشار إليه في المتن ، وما أورد عليه غير وارد ، لأنّ دليلية اليقين السابق إنّما يتصوّر على حدّ دليلية نظائره من الطرق الشرعية كالإجماع والشهرة ومطلق الظنّ ونحوها فإنّها أدلّة للأحكام ينكشف بها واقعها علما أو ظنّا ، وكذلك اليقين السابق ينكشف به الحكم ظنّا نوعيا ، فإن كان حجّية الاستصحاب من باب حكم العقل يصحّ أن يقال إنّه دليل عقلي أعني دليل معتبر

٨

بحكم العقل ، وإن كانت من باب التعبّد بأخبار لا تنقض يصحّ أن يقال إنّه دليل شرعي أي معتبر بحكم الشرع ، وعلى هذا يكون الاستصحاب دليلا على الحكم المطلوب وخبر لا تنقض أو حكم العقل دليلا على الدليل ، وتعريف الدليل بأنّه ما يمكن بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري ينطبق عليه أيضا ، هذا وقد مرّ في أوّل مبحث القطع ما ينفع هذا المقام فتذكّر.

وممّا يتعلّق بمعرفة حقيقة الاستصحاب أنّه يعتبر في أركان الاستصحاب اليقين السابق بالحكم أو الموضوع والشكّ اللاحق فيه ليترتّب عليه البقاء أو الابقاء والمقصود بالاستصحاب وهذا واضح ، ولكن لا بدّ أن ينبّه إلى امور متعلّقة بذلك ولها مدخل في معرفة حقيقة الاستصحاب :

الأوّل : في بيان الفرق بين الاستصحاب وبين قاعدة البراءة وقاعدة الاشتغال فنقول : أمّا فيما إذا لم يكن الحال السابق موافقا للبراءة أو الاشتغال فالفرق واضح لا يحتاج إلى البيان ، وأمّا فيما كانت الحالة السابقة موافقة للبراءة أو الاشتغال فقد يشكل الفرق ويقال إنّا لو حكمنا بالبراءة في مثل المقام يصدق عليه الاستصحاب وينطبق عليه حقيقته ، ضرورة تمامية أركانه من اليقين السابق والشكّ اللاحق وحكمنا فيه ببقاء الحكم السابق ، لأنّ المفروض مماثلة حكم الحالتين ، وهكذا فيما يحكم فيه بالاشتغال ينطبق عليه حقيقة الاستصحاب في المفروض لجريان حكم الحالة السابقة المتيقّنة في الزمان الثاني أعني حالة الشكّ.

ودفعه : أنّه يعتبر في الاستصحاب أن يكون الحكم الثابت به بملاحظة ما تيقّن به في السابق ، وليس كذلك في مجرى تينك القاعدتين فإنّه لا يلاحظ فيه سوى الشكّ فيه ، ومجرّد مماثلة حكم الحالتين لا يلازم ملاحظة الحالة السابقة وحكمها وإجراؤه في حالة الشكّ لينطبق على الاستصحاب.

٩

فإن قلت : إنّ ما ذكر إنّما يتمّ بالنسبة إلى قاعدة البراءة دون قاعدة الاشتغال ، لأنّ الحكم بالاشتغال لا يكون إلّا بملاحظة اليقين السابق مثل ما لو علم بوجوب صلاة عليه في ظهر يوم الجمعة وشكّ في أنّ الواجب ظهر أو جمعة ، فلا ريب أنّ حكم العقل بالاشتغال ووجوب الاتيان بالصلاتين جميعا مرتّب على اليقين الأوّل والشكّ اللاحق وبملاحظتهما معا ، فانطبق ذلك على حقيقة الاستصحاب.

قلت : ليس كذلك ، لأنّه ليس في المورد المذكور يقين سابق وشكّ لاحق ، بل الشكّ واليقين والمشكوك والمتيقّن متحقّق في حالة واحدة فإنّه في أوّل زوال يوم الجمعة متيقّن بوجوب الصلاة عليه حينئذ شاك في أنّها ظهر أو جمعة في ذلك الحين بعينه. وأيضا نقول إنّ متعلّق اليقين شيء وهو الوجوب ومتعلّق الشكّ شيء آخر وهو متعلّق الوجوب ويعتبر في الاستصحاب اتّحاد متعلّق اليقين والشكّ وأن يكون المشكوك في اللاحق عين المتيقّن في السابق.

فإن قلت : سلّمنا ذلك لكنّه لا يتمّ هذا فيما إذا أتى في المثال المذكور بواحد من الظهر والجمعة فإنّه يحكم بوجوب الاتيان بالآخر بقاعدة الاشتغال والحال أنّه ينطبق عليه جميع الامور المذكورة من سبق اليقين ولحوق الشكّ واتّحاد متعلّق اليقين والشكّ ، وكون إثبات الوجوب في زمان الشكّ بملاحظة كونه متيقّنا في السابق ، وكذا فيما لو شكّ في أنّه هل أتى بما وجب عليه سابقا باليقين أم لم يأت به فإنّه يحكم بوجوب الاتيان بقاعدة الاشتغال مع انطباق حقيقة الاستصحاب عليه بعين ما مرّ.

قلت كاشفا للحجاب عن وجه المراد : إنّ حقيقة الاستصحاب إثبات الحكم في المشكوك فيه بعنوان البقاء ، وأنّ هذا هو الحكم الثابت المتيقّن في الأوّل بعينه تنزيلا وبحسب الظاهر ، فكأنّ نفس الحكم السابق موجود يترتّب عليه ما كان

١٠

يترتّب عليه ، وهذا بخلاف مؤدّى قاعدة الاشتغال في المثالين المذكورين فإنّه لا يحكم فيها بالقاعدة ببقاء الوجوب السابق بل بوجوب الاتيان بالمشكوك تحصيلا لليقين بالفراغ عن الشغل اليقيني من دون اعتبار أنّ هذا هو الوجوب السابق أو غيره ، وأيضا نقول الفرق إنّ الوجوب الثابت بالاستصحاب وجوب شرعي ظاهري يترتّب عليه آثار الوجوب من صحّة قصد وجهه في العمل والحكم بصحّته شرعا ليتفرّع عليه جواز الاقتداء بمن يصلّي الصلاة الواجبة عليه بالاستصحاب ، وأمّا الوجوب الثابت بقاعدة الاشتغال فهو وجوب عقلي إرشادي يحكم به العقل مقدّمة للعلم بحصول الفراغ عن الشغل المتيقّن ، فلا يصحّ أن يؤتى به بداعي الوجوب بل بداعي الاحتمال لأنّه احتياط ولا يحكم بصحّته شرعا إذ لعلّه عمل لغو لا يفيد الامتثال وليس بشيء أصلا ولا يترتّب عليه ما عدا العلم بالفراغ والأمن من العقاب.

الثاني : في بيان معنى سبق اليقين ولحوق الشكّ المعتبرين في مجرى الاستصحاب ، فاعلم أنّه ربما يتوهّم أنّ المراد أن يكون زمان اليقين سابقا على زمان الشكّ كما لو علم بعدالة زيد يوم الخميس وشكّ في بقاء عدالته يوم الجمعة ، وليس كذلك بل يمكن أن يكون زمانهما واحدا وأن يكون زمان المتيقّن سابقا على زمان المشكوك ولا يعتبر أزيد من ذلك كما لو حصل العلم الآن بأنّ زيدا كان عادلا أمس وشكّ في بقائه فإنّ ميزان الاستصحاب تامّ فيه.

بل يمكن أن يقال لا يعتبر أن يكون زمان المتيقّن أيضا سابقا على زمان المشكوك بناء على شمول الاستصحاب لمورد الشكّ الساري المعبّر عمّا يجري فيه بقاعدة اليقين ضرورة اتّحادهما فيه ، وإنّما السبق واللحوق هنا بين زمان الشكّ واليقين ، فالمعتبر حينئذ أحد الأمرين من كون المتيقّن سابقا على المشكوك أو اليقين سابقا على الشكّ.

١١

الثالث : في بيان المراد من اليقين والشكّ المأخوذين في موضوع الاستصحاب فنقول : إنّ المعنيّ باليقين أعمّ من العلم الوجداني والعلم الشرعي أي ما قامت أمارة شرعية على ثبوته ، وبالشكّ خلاف اليقين بالمعنى المزبور ، فيخرج عن مورده ما لو علم بقاء الحكم أو عدم بقائه أو قام دليل شرعي على أحد الأمرين. وبعبارة اخرى يعتبر أن يكون البقاء خاليا عن الدليل أعني الدليل الخاصّ ليكون الاستصحاب دليلا على البقاء على تقدير حجّيته وإلّا بقي المتيقّن السابق مشكوكا فيه ، بل نقول لو قام دليل شرعي على أنّ ما كان متيقّنا في زمان وشكّ في بقائه بعد ذلك الزمان فهو باق واقعا كان هذا أيضا خارجا عن الاستصحاب لمكان الدليل كما إذا دلّ دليل على أنّ من كان وكيلا لأحد وشكّ في عزل الموكّل إيّاه فوكالته باقية إلى زمان العلم بالعزل ، وكما إذا دلّ الدليل على أنّ الزوجة لو شكّت في حياة زوجها فالزوجية المتيقّنة في السابق باقية إلى زمان علمها بموته فتعتدّ من ذلك الحين ، فإنّ أمثال ذلك ليست من الاستصحاب في شيء بل ممّا قام الدليل على البقاء حتّى أنّه بعد انكشاف الحال وعزل الموكّل إيّاه في السابق أو موت الزوج قبل ذلك يحكم بثبوت الوكالة أو الزوجية واقعا يترتّب عليها آثارها.

لا يقال : يلزم على هذا البيان عدم كون الاستصحاب المأخوذ من حكم العقل بناء على كون اعتباره من باب الظنّ داخلا في حقيقة الاستصحاب ، لأنّه حينئذ دليل اجتهادي على البقاء وقد فرضت اعتبار خلو المورد عن الدليل.

لأنّا نقول : على تقدير كونه دليلا أيضا نقول إنّ مرتبته متأخّرة عن سائر الأدلّة فإنّه دليل حيث لا دليل غيره كما هو كذلك في الاستقراء والغلبة الظنّيين على ما هو محرّر في محلّه ويأتي بيانه في مقامه في المتن أيضا ، هذا كلّه بعض ما يتعلّق بحقيقة الاستصحاب ثمّ نتعرّض لبعض ما يتعلّق بالتعاريف المذكورة في المتن.

١٢

قوله : أسدّها وأخصرها إبقاء ما كان (١).

نعم هو كذلك ومع ذلك لا يخلو عن الخلل من وجوه :

الأوّل : ما عرفت سابقا من أنّ الأولى جعل جنس التعريف نفس البقاء دون الابقاء.

الثاني : أنّه لم يؤخذ فيه كون الحال السابق متيقّنا فيشمل الابقاء لما كان ثابتا في الواقع ولو لم يعلم به أصلا ، وقد تفطّن له المصنّف واعتذر عنه بأنّ دخل الوصف في الموضوع مشعر بعلّيته للحكم إلى آخر ما ذكره في المتن. وهو مدخول بعدم الاعتبار بمثل هذا الإشعار الضعيف في التعاريف الموضوعة لبيان حقيقة المعرّفات المبنية على الدقائق التي تتفاوت بها طردها وعكسها ، وإن كان الاختصار فيها مطلوبا بقدر الامكان لكن لا إلى حدّ ينجرّ إلى الاختلال.

الثالث : أنّه يشمل ما إذا كان الحكم بالبقاء مستندا إلى الدليل الدالّ على إبقاء المتيقّن في الزمان المشكوك على الوجه الذي ذكرناه في آخر الحاشية السابقة هذا ، فلو عرّفه بابقاء المتيقّن عند عدم الدليل سلم من هذا الايراد ومن سابقه فتدبّر. ولا يخفى أنّ تعريف صاحب الزبدة سليم عن الايراد الثاني دون الأوّل والأخير.

قوله : وأزيف التعاريف تعريفه بأنّه كون حكم أو وصف الخ (٢).

هذا التعريف للمحقّق القمي في القوانين (٣) ، ويرد عليه مضافا إلى ما في المتن ، أنّه لا يشمل ما إذا كان زمان اليقين والشكّ متّحدا مع أنّه من أفراد

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٩.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ١٠.

(٣) القوانين ٢ : ٥٣.

١٣

الاستصحاب على ما سبق بيانه.

وقد يجاب عن هذا بأنّه مبني على أن يكون قوله في الآن السابق متعلّقا بقوله يقيني الحصول أو ظرفا مستقرّا حالا من الحكم ، وأن يكون قوله في الآن اللاحق متعلّقا بقوله مشكوك البقاء أو حالا من الحكم كالأوّل ، وأمّا لو جعلنا في الآن السابق متعلّقا بلفظ الحصول وفي الآن اللاحق متعلّقا بالبقاء اندفع الايراد.

وفيه : أنّه خلاف الظاهر على الظاهر ، والظاهر كما فهمه الماتن هو الوجه الأوّل.

وقد يجاب أيضا بما يندفع به إيراد المتن أيضا وهو أن يكون قوله في الآن اللاحق متعلّقا بكون حكم الذي هو جنس التعريف ، ولا يخفى أنّه في غاية البعد إلّا أنّك قد عرفت سابقا وجه دفع إيراد المتن عليه فتذكّر.

قوله : نعم ذكر شارح المختصر الخ (١).

لم يعلم من شارح المختصر وكذا من صاحب الوافية أنّه بصدد تعريف الاستصحاب بالنحو المعهود بحيث يكون جامعا مانعا ، وإنّما هو بصدد توضيح ما هو المقصود من الاستصحاب وربما يذكرون في مثله بعض اللوازم والمقدّمات والأمثلة ونحوها لتحصل من المجموع معرفة الشيء ، وليس هذا من التعريف المصطلح الذي ينقسم إلى الحدّ التامّ والناقص أو الرسم كذلك (٢).

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١١.

(٢) أقول : الذي يختلج بالبال هو أن يكون لفظ الاستصحاب بحسب الاصطلاح اسما للعمل بقاعدة البقاء لا نفس القاعدة كما اختاره صاحب الضوابط ، ولا الابقاء بمعانيها السابقة ، ولا نفس اليقين السابق ولا غيرها لما يرد على كلّ واحد منها كما مرّت الاشارة إلى بعضها

١٤

قوله : بقي الكلام في امور (١).

كان الأنسب أن يقول ولنقدّم الكلام في امور حيث إنّه لم يبحث عن جهات المسألة بعد لكي يناسب أن يقول بقي الكلام في امور وإنّما يناسب هذا التعبير فيما يذكر في تتمّات المسألة فافهم.

قوله : مبني على استفادته من الأخبار (٢).

يعني بناء على المختار في مفاد الأخبار وإلّا فيمكن أن يكون حجّيته من باب الظنّ ثابتا بالأخبار كما يدّعيه المحقّق القمي (قدس‌سره) من أنّ الأخبار تدلّ على حجّية الاستصحاب من باب الظنّ النوعي كما هو كذلك بالنسبة إلى الأخبار الدالّة على حجّية خبر الواحد بأن يقال لمّا كان كلّ ما ثبت وجوده في زمان يظنّ ببقائه نوعا مبنيّا على غلبة دوام كلّ ما ثبت ، جعل الشارع هذا الظنّ طريقا تعبّديا

__________________

وجميع موارد استعمال لفظ الاستصحاب ومشتقّاته ينطبق على هذا المعنى ، غاية الأمر أنّ لازمه أن لا يكون لنفس قاعدة البقاء اسم في الاصطلاح ولا ضير فيه ، ولا ينافي ذلك أنّه قد يطلق الاستصحاب على نفس القاعدة كما في قولهم عملا بالاستصحاب فإنّه مجاز ، ويشهد لما ذكرنا أيضا أنّه بمقتضى سائر التعاريف يكون نقل لفظ الاستصحاب من المعنى اللغوي إلى المعنى الاصطلاحي من قبيل النقل إلى المباين ما عدا إبقاء ما كان لو اريد منه إبقاء المكلّف على ما مرّ بيانه ، فيقال إنّ المكلّف أخذ المتيقّن السابق مصاحبا له وجرّه إلى زمان الشكّ ، فهو من النقل إلى بعض أفراد المعنى الموضوع له كما هو الغالب في المنقولات ، لكن قد عرفت أنّ هذا المعنى غير مراد من موارد استعمالات الاستصحاب وإن كان مشتقّاته ملائما لهذا المعنى ، وأمّا المعنى الذي ذكرنا فمناسبة النقل ظاهرة ، فإنّ العمل بقاعدة البقاء من أفراد الاستصحاب اللغوي جزما لأنّه أخذ لقاعدة البقاء مصاحبا.

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٣.

(٢) فرائد الأصول ٣ : ١٣.

١٥

إلى الواقع كسائر الطرق التعبّدية ، إلّا أنّه لا شاهد لهذه الدعوى سوى ما يتوهّم من انصراف الأخبار إلى اعتبار الاستصحاب من حيث وصف كشفه الظنّي عن الواقع ، وعليه يكون الاستصحاب من الأدلّة الاجتهادية الناظرة إلى الحكم الواقعي ، إلّا أنّه بعيد عن مساق الأخبار كما يأتي في محلّه ، وكذا لو جعلنا حجّية الاستصحاب دائرة مدار الظنّ الشخصي كما ينسب إلى البهائي (رحمه‌الله) (١) واستدللنا له بالأخبار فهو من الأدلّة جزما.

قوله : وأمّا بناء على كونه من أحكام العقل فهو دليل ظنّي اجتهادي (٢).

يعني بناء على المختار من حكومة العقل على فرض تسليمه فإنّه يحكم ببقاء الحكم السابق واقعا ولو ظنّا ، وإلّا فيمكن أن يكون الاستصحاب من الاصول العملية مع فرض كونه من أحكام العقل بجعله من الاصول العقلائية ، ويقال إنّ العقلاء يتعبّدون في طريقتهم بالبناء على الحالة السابقة لا من حيث الظنّ ببقائها بل من حيث إنّ عدم البناء عليها والتوقّف في موارد الشكّ بالبقاء يوجب اختلال النظام ، لكن هذا فرض غير واقع وسيأتي في محلّه إنكار مطلق التعبّد في طريقة العقلاء.

واعلم أنّ قاعدة اليقين على القول باعتبارها كالاستصحاب إن استفيدت من الأخبار فهي من الاصول العملية ، وإن استفيدت من العقل فمن الأدلّة الاجتهادية وبيانه كبيانه على المختار والمزيّف.

لكن قيل إنّ قاعدة اليقين على فرض حجّيتها من الاصول حتما ولا يمكن

__________________

(١) الحبل المتن : ٣٧.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ١٣.

١٦

أن يكون من باب الظنّ حتّى يندرج في الأدلّة ، ولعلّه ناظر إلى عدم ما يوجب الظنّ في موردها نوعا أو شخصا ، إذ ليس إلّا اليقين السابق وقد زال لسريان الشكّ إلى حاله وصيرورة أصل الحدوث مشكوكا.

وفيه : أنّ القاعدة أولى بحصول الظنّ في موردها من الاستصحاب ، لأنّ العقل يلاحظ حينما شكّ في صحّة يقينه السابق أن حال يقينه كان قريب العهد بتحقّق ذلك المشكوك وعدم تحقّقه ، وكلّما قرب العهد بزمان شيء يكون الشخص الملتفت أعلم وأحفظ لتفطن حيثيات ذلك الشيء وعلل وجوده واستكشاف واقعه بلوازمه وآثاره ، وكلّما طال الزمان وبعد العهد بالشيء طرأ الذهول عن الحيثيات المذكورة ووقعت في معرض النسيان ، فلا جرم يحصل الشكّ في أصل ثبوته. وبالجملة مضمون قوله (عليه‌السلام) هو حين العمل أذكر (١) جواب هذا القائل (٢).

قوله : ومن العجب أنّه انتصر بهذا الخبر الضعيف الخ (٣).

قيل إنّ الشيخ لم ينتصر هو بهذا الخبر الضعيف ليكون مورد العجب وإنّما حكى الاستدلال به عمّن استدلّ به ، وأيضا كان الاستدلال به في مورد قاعدة اليقين لا في الاستصحاب ، كما أنّ تعبير الحلّي (رحمه‌الله) (٤) بنقض اليقين باليقين

__________________

(١) الوسائل ١ : ٤٧١ / أبواب الوضوء ب ٤٢ ح ٧ (نقل بالمضمون).

(٢) أقول : ولي فيما ذكر شكّ ، لأنّا وإن سلّمنا أنّه حين العمل أذكر بالتقريب المذكور إلّا أنّ نظر الشخص الملتفت فيما تأخّر من الزمان في الشيء أمتن وأصوب من نظره الأوّل في ذلك الشيء ، فربما يغفل عن جملة من جهات الشيء في أوّل زمان التفاته إليه ويعتقد فيه أمرا ثمّ يتفطّن إلى تلك الجهات ويحصل له الشكّ بل قد يعتقد بالخلاف ، فليتأمّل.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ١٤.

(٤) السرائر ١ : ٦٢.

١٧

أيضا في مورد القاعدة لا الاستصحاب ، ولا يحضرنا الآن كتاب العدّة كي نلاحظ صدق ما ادّعاه القائل ، وأمّا مورد مسألة تعبير الحلّي وهو الماء الذي زال تغيّره من قبل نفسه فلا وجه لتوهّم كونه من موارد قاعدة اليقين كما لا يخفى.

قوله : الثاني أن عدّ الاستصحاب على تقدير اعتباره من باب إفادة الظنّ من الأدلّة العقلية الخ (١).

يعني أنّه من العقليات غير المستقلّة نظير وجوب المقدّمة وحرمة الضدّ ونحوهما ، فكما أنّه يثبت فيها الوجوب والحرمة الشرعيان بالوجوب والحرمة العقليين بعد فرض حجّية حكم العقل ، كذلك يثبت الوجوب الشرعي في الاستصحاب بالنسبة إلى الزمان المشكوك بالوجوب العقلي الظنّي بملاحظة أنّه كان بعد فرض حجّية هذا الحكم العقلي الظنّي كالقطعي ، وإلّا فلو لم يفرض الحكم العقلي حجّة في المقامين لم يكن دليلا على الحكم الشرعي.

ثمّ إنّ الدليل على حجّية حكم العقل أيضا ليس إلّا حكم العقل بثبوت الملازمة بينه وبين حكم الشرع على ما قرّر في محلّه ، وعلى هذا لو فرض أنّ الدليل على الملازمة يكون شرعيا كرواية أو آية يكون الحكم الشرعي المستفاد مستندا إلى الدليل الشرعي ولا يقال إنّ دليل الحكم دليل عقلي ، والغرض من هذا التطويل دفع ما أورده بعض المحقّقين على المتن فإنّه قال ما ملخّصه : إنّ مجرّد كون اعتبار الاستصحاب من باب إفادة الظنّ لا يوجب اندراجه في الأدلّة العقلية وإلّا لكان كلّ دليل معتبر من باب الظنّ كالشهرة والاستقراء وخبر الواحد أيضا على قول بعضهم دليلا عقليا ، وكذا كلّ دليل معتبر بالقطع أيضا يسمّى دليلا عقليا وهو كما ترى ، إلّا أن يتفصّى عن ذلك بأنّ الاستصحاب ليس عبارة عن الظنّ

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٦.

١٨

بالبقاء بل يكون عبارة عن الملازمة بين ثبوت الشيء سابقا وثبوته في الزمان المشكوك ملازمة ظنّية ، ولمّا كان الحاكم بهذه الملازمة هو العقل صحّ أن يقال إنّه دليل عقلي.

وأنت خبير بما في هذا الكلام ، لما عرفت من أنّ عمدة الوجه في الاستصحاب من الأدلّة العقلية على تقدير اعتباره من باب الظنّ أنّ الحاكم ببقاء ما كان يعني ظنّا هو العقل الثابت حجّيته أيضا بحكم العقل.

ثمّ أورد المورد المذكور على ما ذكره المصنّف في المتن في ذيل بيانه للتوصّل إلى الحكم الشرعي بالحكم العقلي بما ملخّصه : أنّ القياس الذي يتوصّل به إلى الحكم الشرعي قياس آخر صغراه ما هو نتيجة القياس المذكور في المتن وكيفية ترتيب القياسين جميعا هكذا : أنّ الحكم الشرعي الفلاني ثبت سابقا ولم يعلم ارتفاعه ، وكلّ ما كان كذلك فهو مظنون البقاء ، فالحكم الفلاني مظنون البقاء ، ثمّ يترتّب قياس آخر بقولنا إنّ الحكم الفلاني مظنون البقاء وكلّ ما كان كذلك فهو باق شرعا بدليل حجّية ذلك الظنّ شرعا ، فالحكم المذكور باق شرعا ، ويكون القياسان المذكوران متخالفين في أنّ الصغرى في الأوّل شرعية والكبرى عقلية وفي الثاني بالعكس ، نعم لو كان حكم العقل بكبرى القياس الأوّل قطعيا لا يحتاج إلى الدليل كان كما ذكره المصنّف ينتج الحكم الشرعي من دون حاجة إلى قياس آخر كما في الاستلزامات مثل وجوب المقدّمة ، فيرتّب القياس هكذا : هذا الشيء واجب وكلّ واجب تجب مقدّمته فهذا تجب مقدّمته ، ولو كان حكم العقل بوجوب المقدّمة ظنّيا احتاج إلى قياس آخر كالاستصحاب ، فعلى هذا مقايسة الاستصحاب وتنظيره بالاستلزامات كمقدّمة الواجب ونحوها في غير محلّها.

وفيه أوّلا : أنّ القياس الثاني مطوي مفروغ عنه ، لما مرّ أنّ الكلام بعد فرض حجّية حكم العقل وإلّا فلا معنى للاستدلال بما ليس بحجّة.

١٩

وثانيا : أنّ القياس الثاني محتاج إليه في الأحكام العقلية القطعية أيضا لو لم يفرض مفروغية حجّيتها ، فإنّ حكم العقل القطعي أيضا محتاج إلى دليل حجّيته ليصحّ الاستدلال به للحكم الشرعي ، ولذلك انعقد باب مسألة الملازمة بين حكم العقل والشرع.

وثالثا : أنّ جعله كبرى القياس الثاني ثابت بدليل شرعي كما فرضه وهي مسألة الملازمة يخرج الدليل عن كونه عقليا ، فإنّ كلّ دليل يكون كبرى قياسه شرعيا فهو دليل شرعي لا محالة ، بل التحقيق أنّ الدليل على الملازمة وحجّية حكم العقل شرعا عقلي أيضا ولذا نسمّيه بالدليل العقلي.

قوله : الثالث أنّ مسألة الاستصحاب على القول بكونه من الأحكام العقلية مسألة اصولية (١).

ولنقدّم الكلام ببيان امور ليتّضح ما في المتن وصحّته وسقمه.

الأوّل : أنّه لا ثمرة عملية في تشخيص كون الاستصحاب من المسائل الفرعية أو الاصولية سوى ما قيل من جواز التقليد فيه على الأوّل دون الثاني ، ومن كون الظنّ فيه حجّة على الأوّل دون الثاني بناء على القول بعدم حجّية الظنّ في المسائل الاصولية ، وفيهما تأمّل وسيأتي تحقيقه ، وأمّا ثمرته العلمية فواضحة.

الثاني : أنّ تمايز مسائل علم الفقه عن مسائل علم الاصول بتمايز موضوعهما ، فكلّ مسألة تبحث عن أحوال موضوع الفقه داخلة في علم الفقه ، وكلّ مسألة تبحث عن أحوال موضوع الاصول داخلة في الاصول ، وهذا من القضايا المشهورة : إنّ تمايز العلوم بتمايز موضوعاتها.

وقيل إنّ التمايز بينهما أنّ المسائل الفقهية ما تتعلّق بعمل مطلق المكلّف

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٧.

٢٠