حاشية فرائد الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-091-8
الصفحات: ٥٥٦
الجزء ٢ الجزء ٣

الموضوعية بالإجماع. لأنّا نقول العبرة بعموم لفظ الدليل في لحاظ التعارض لا ما يبقى تحت عموم الدليل بعد تقديم بعض المعارضات وتخصيص العموم به ، فإنّ جميع المعارضات في عرض واحد يلاحظ نسبة كل واحد منها إلى عموم العام على ما تقرّر في محله.

فإن قلت : لو قدّم أدلة جميع الاصول على دليل القرعة وخصص بها يبقى عموم دليل القرعة بلا مورد أو منحصرا في مورد لا يجري فيه أصل من الاصول وهو نادر بالنسبة إلى عمومه.

قلت : لا نسلّم ندرة الباقي تحت العموم ، فإنّ جميع موارد التخيير باق تحت العموم وهي كثيرة. لا يقال : إنّ التخيير أيضا من الاصول ودليله أخص من دليل القرعة ، فإذا قدّم عليه وخصص عموم دليل القرعة به يبقى العموم بلا مورد. لأنّا نقول : أمّا التخيير الشرعي فلم يثبت في الشبهات الموضوعية التي محل العمل بالقرعة ، وأمّا التخيير العقلي فلا يعارض دليل القرعة ، لأنّ العقل لا يحكم بالتخيير إلّا فيما لم يكن في المورد أمارة شرعية واقعية أو ظاهرية وهو واضح.

وهناك وجهان آخران لتقديم الاصول على القرعة ، أحدهما : ما في العوائد (١) والعناوين (٢) وغيرهما من أنّ المراد من قوله (عليه‌السلام) «كل أمر مجهول ففيه القرعة» (٣) أنّ كل أمر لم يرد من الشارع ما يعمل به فيه ففيه القرعة. وبعبارة اخرى كل أمر مجهول واقعا وظاهرا ففيه القرعة ، فلا يشمل موارد الاصول لأنّها غير مجهولة بهذا المعنى ، وعلى هذا فأدلة الاصول واردة على دليل القرعة.

__________________

(١) عوائد الأيام : ٦٦٠ ـ ٦٦٢.

(٢) العناوين ١ : ٣٥٢ ـ ٣٦٠.

(٣) الوسائل ٢٧ : ٢٥٩ / أبواب كيفية الحكم ب ١٣ ح ١١.

٤٠١

وفيه : منع هذه الدعوى وإلّا لكان قوله (عليه‌السلام) «الناس في سعة ما لم يعلموا» وشبهه أيضا معناه أنّ ما لم يعلموه واقعا ولا ظاهرا فهم في سعة منه.

وثانيهما : ما أشار إليه في آخر كلامه بقوله : إنّ أدلة القرعة لا يعمل بها بدون جبر عمومها بعمل الأصحاب أو جماعة منهم ، توضيحه : أنه لو عمل بعمومه لزم منه فقه جديد غير مشابه لفتاوى العلماء ، فيعلم من ذلك عدم إرادة العموم منه بحيث يشمل موارد الاصول ، بل اريد منه معنى لم يزاحم الاصول يستكشف ذلك المعنى على نحو الاجمال من عمل العلماء ، فكل مورد عملوا بالقرعة فيه يعلم أنه داخل في المعنى المراد ، وكل مورد لم يعملوا فيه بالقرعة يعلم أنه خارج عنه ، فعملهم جابر للدلالة وعدمه موهن لها ، فتأمّل.

والأولى أن يقال إنّ عموم دليل القرعة كما أنه مخصص بالشبهات الحكمية بدليل الإجماع كذلك مخصص بموارد جريان الاصول أيضا بالإجماع ، فينحصر موردها بالشبهات الموضوعية التي لم يجر فيها أصل عملي ، لكن يبقى ما اشير إليه في الوجه الأول من لزوم تخصيص الأكثر. وقد يدفع ذلك بأنّ إخراج الأفراد الكثيرة من العام بعنوان واحد يخرجه عن التخصيص الأكثر المستهجن فإنه تخصيص واحد فتدبّر.

قوله : وجه الضعف أنّ الظاهر من الرواية الخ (١).

الأوجه في وجه الضعف أن يقال إنّ النهي عن نقض اليقين ليس نهيا حقيقيا ، بل هو خطاب إرشادي نظير قوله صدّق العادل ، لا يترتّب على مخالفته ذم ولا عقاب زائدا على ما يترتّب على مخالفة الحكم الواقعي لو اتّفقت ، فمعنى قوله (عليه‌السلام) «لا تنقض اليقين» الخ ابق حكم الحالة السابقة سواء كان

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٣٨٨.

٤٠٢

تحريما أو وجوبا أو إباحة أو غيرها من الأحكام التكليفية أو الوضعية أو موضوعاتها ، ومن المعلوم أنّ عدم إبقاء الاباحة أو الاستحباب مثلا أعني عدم ترتيب أثرهما ليس من المحرّمات التي يعاقب عليها ، وكذا عدم إبقاء الحرمة في استصحاب الحرمة ليس محرّما آخر زائدا على حرمة الشيء من حيث عنوانه الخاص الأوّلي لكونه خمرا أو نجسا أو مغصوبا وهو واضح.

ومنه يظهر فساد ما ذكره بعض المحققين من المعاصرين في دفع ما ذكره في المتن في وجه الضعف حيث قال : نعم الظاهر من الرواية وإن كان ذلك إلّا أنّ النهي في أخبار الاستصحاب أيضا يكون بعنوان خاص وهو نقض اليقين بالشك ، فكل واحد من الالتزام بالمشكوك وعدمه في مورد الاستصحاب يكون معنونا بعنوان خاص يكون أحدهما بذلك العنوان واجبا والآخر بذلك العنوان حراما ، فإنّ الالتزام به يكون له عنوان إمضاء اليقين ويكون لعدم الالتزام به عنوان نقض اليقين ، وكما لو كان للمشكوك الحرمة من وجه عنوان آخر يكون بذلك العنوان معلوم الحرمة لم يكن مجال فيه لأصالة الاباحة ، بداهة كفاية معرفة حرمته من وجه في الغاية التي يكون في دليلها ، فكذلك إذا كان معلوم الحرمة بمثل هذا العنوان ـ إلى أن قال ـ والحاصل أنه كما لا يصلح أن يعارض أدلة حرمة الغصب بأدلة الاباحة المشتبهة بالشبهة الحكمية كشرب التتن ، أو بالشبهة الموضوعية كشرب المائع المردد بين الخل والخمر فيما إذا كان المشتبه مغصوبا ، كذلك أدلة حرمة نقض اليقين ووجوب إمضائه في كل مورد انطبق عليه عنوان النقض بوجه وعنوان الامضاء بوجه آخر ، انتهى موضع الحاجة.

ولا يخفى أنه زعم أنّ عنوان نقض اليقين من العناوين المحرّمة شرعا كعنوان الغصب وقد عرفت أنه ليس كذلك.

٤٠٣

قوله : فالأولى في الجواب أن يقال إنّ دليل الاستصحاب بمنزلة معمّم للنهي السابق (١)

هذا الجواب أيضا مدخول فيه بأنّ دليل الاستصحاب بملاحظة كونه معمّما للنهي السابق أيضا في عرض أدلة البراءة بالنسبة إلى حال الشك لاتّحاد موضوعهما ، فكأنه قال المشكوك حكمه أن يؤخذ فيه بالحالة السابقة وهي الحرمة ، وقال أيضا المشكوك حكمه الحلية فيتعارضان ، فالأولى أن يجاب إمّا بأنّ الظاهر من أدلة البراءة هو الحكم بحلّية المشكوك في كل مورد لم يصل إلينا من الشارع التعبّد بشيء آخر من احتياط أو استصحاب أو نحوهما (٢) ، وإمّا بأنّ الشك في الحلّية والحرمة فيما كان مسبوقا بالحرمة ناش عن الشك في بقاء الحرمة السابقة وسيأتي أنّ أحد الشكين إذا كان مسببا عن الآخر لا يجري الأصل فيه ، بل يجري الأصل بالنسبة إلى السبب فقط.

وبتقرير آخر : أنّ موضوع الاستصحاب هو الشك في البقاء ، وموضوع البراءة هو الشك في أصل الثبوت ، ولا ريب أنه في مورد التعارض يكون الشك في الثبوت مسببا عن الشك في البقاء ، وهذا المعنى في الشبهة الموضوعية أوضح من الشبهة الحكمية ، فلو شك في ذهاب ثلثي العصير فيشك في حرمته وحلّيته لأجله ، فيجري أصالة عدم ذهاب الثلثين ويرتفع به الشك المسبب عنه بالنسبة إلى الحلّية والحرمة ، وكذا إذا شك في بقاء حرمة العصير بعد ذهاب ثلثيه بالشمس أو الهواء فيشك في ثبوت الحرمة أو الحلّية لأجله فيجري أصالة بقاء الحرمة

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٣٨٩.

(٢) أقول : لا يخفى أنّ هذه الدعوى تخرص وتقييد في أدلة البراءة من غير شاهد رجما بالغيب.

٤٠٤

ويحكم بثبوتها ، ولذا لو فرضنا أن يكون الأمر بالعكس بأن يكون الشك في البقاء ناشئا عن الشك في الثبوت قلنا بجريان أصالة البراءة دون الاستصحاب كما لو شك في حصول الاستطاعة للحج من جهة الشك في اشتغال ذمته بنفقة الزوجة والأقارب مثلا يجري أصالة البراءة ويحكم بثبوت الاستطاعة ، ولا تجري أصالة عدم الاستطاعة فليتأمّل جيدا. وبهذا يجاب عن الإشكال الذي أشار إليه في المتن بالنسبة إلى الأمثلة الواردة في ذيل رواية مسعدة بن صدقة ، فإنّ الشك في تملّك الثوب ناش عن الشك في جواز تملّك ذلك الثوب بالبيع ، وكذا الشك في تأثير العقد على شيء ناش عن جواز وقوع العقد عليه وحلّيته وهكذا فافهم. وقد وجد في بعض نسخ المتن ما يشير إلى هذا الوجه في مقام الجواب عن الإشكال وقد ضرب عليه في بعض النسخ خط المحو فلاحظ.

قوله : وكونهما في موضوع واحد أو موضوعين (١).

المراد بكونهما في موضوع واحد أن يكونا في مورد واحد كاستصحاب طهارة جلد الحيوان المشكوك تذكيته واستصحاب عدم تذكيته المقتضي لنجاسة الجلد ، وإلّا لم يعقل كون الاستصحابين المتنافيين في موضوع واحد لعدم إمكان كونه مسبوقا بحالتين متضادتين إلّا على مذهب النراقي (قدس‌سره). والمراد بكونهما في موضوعين أن يكونا في موردين كمسألة الإناءين المشتبهين. ولا يخفى أنّ المثال الأول يكون مثالا لما كان تعارضهما بأنفسهما ، كما أنّ المثال الثاني مثال لما كان تعارضهما بواسطة أمر خارج وهو العلم بوقوع نجاسة في أحد الإناءين.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٣٩٣.

٤٠٥

قوله : وما توهم له من التمثيل بالعامين من وجه الخ (١).

الإنصاف أنّ المثال مثال لما أراده المتوهم إن جعلنا التعارض بينهما من التعارض بين الاستصحابين أعني استصحاب عدم تخصيص كل منهما بالآخر ، لأنّ عدم تخصيص كل منهما موجب لتخصيص الآخر ، فالشك في تخصيص كل موجب للشك في تخصيص الآخر ، غاية الأمر أنّ تخصيص كل منهما ليس أثرا شرعيا لعدم تخصيص الآخر بل أثر عقلي ، لأنّ عدم أحد الضدّين من اللوازم العقلية لوجود الضد الآخر ، والسيد الاستاذ (دام ظلّه) لم يرتض هذا الكلام بل وافق المتن ولم يأت في بيانه بوجه واضح فليتأمّل.

واعلم أنه ربما زاد بعضهم هنا قسما رابعا ، وهو أن يكون الشك في كل من الاستصحابين مسببا عن سبب مستقل غير مرتبط بالآخر ، ومثّل بمسألة واجدي المني في الثوب المشترك فإن شك كل من الشخصين ناش عن رؤيته ذلك المني في الثوب.

وفيه : ما لا يخفى فإنّ التعارض إنما يتصوّر فيما كان الاستصحابان راجعين إلى جهة واحدة وإلّا فاستصحاب طهارة العصير من جهة الشك في ملاقاته للبول مثلا لا ينافي استصحاب نجاسته من جهة الشك في ذهاب ثلثيه فافهم ، والمثال المذكور أيضا محل نظر ، فإنّ الشك في جنابة كل منهما بالنسبة إلى كل منهما مسبّب عن العلم بجنابة أحدهما في الواقع.

قوله : أحدها الإجماع على ذلك (٢).

دعوى الإجماع مع ما سينقله من الخلاف في آخر المسألة كما ترى ، مع أنّ

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٣٩٤.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٣٩٤.

٤٠٦

هذا الاتّفاق على تقدير تسليمه غير كاشف عن رأي الإمام (عليه‌السلام) إذ لعلّهم استندوا في ذلك إلى بعض الوجوه الآتية في المتن أو غيره.

قوله : الثاني أنّ قوله (عليه‌السلام) الخ (١).

قد يقرّر هذا الوجه بأنه من قبيل دوران الأمر بين التخصيص والتخصص ، فإنّ إخراج الشك السببي عن عموم لا تنقض تخصيص لا محالة ، بخلاف الشك المسببي إذ باجراء الاستصحاب في الشك السببي يرتفع الشك المسبب فيكون خروجه من التخصص.

ويرد عليه : أنّ الشك المسبب موجود وجدانا لم يرتفع باجراء الاستصحاب في الشك السببي فيكون تخصيصا كالعكس ، نعم لو ورد دليل اجتهادي على خلاف الحالة السابقة يوجب خروج المورد عن موضوع دليل الاستصحاب ، لكون ذلك الدليل ناظرا إلى الواقع وثبتت حجيته وأنه يقين شرعي تعبّدي ، وهذا بخلاف الاستصحاب فإنه حكم العمل عند الشك فلا يحصل به غاية حرمة نقض اليقين السابق أعني اليقين بالخلاف (٢).

وقد يقرّر هذا الوجه بأنه من باب دوران الأمر بين التخصيص لدليل والتخصيص من غير دليل ، ولعله ظاهر المتن.

ويمكن أن يجاب عن هذا أيضا بأنه وإن كان كذلك إلّا أنّ هذا ترجيح

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٣٩٥.

(٢) أقول : الإنصاف أنّ حال الاستصحاب حال الأدلة والأمارات الشرعية في أنّ الشك الوجداني لا يرتفع بوجود كل منهما على خلاف الحالة السابقة ، وفي كون كل منهما بحكم اليقين تنزيلا بحكم الشارع ، وكون الاستصحاب في مقام حكم العمل دون بيان الواقع لا يضر ، لأنه يستفاد من قوله (عليه‌السلام) «لا تنقض» بقاء نفس المتيقن السابق تنزيلا.

٤٠٧

بمجرد الاستحسان العقلي ، إذ مثل هذا الرجحان لا يصير منشأ لأظهرية أحد التخصيصين على الآخر لفظا في العرف حتى يجب اتّباعه.

قوله : وقد يشكل الخ (١).

هذا الإشكال عين ما أشار إليه سابقا بقوله ودعوى ، وهو إشكال متين ، وما دفع به الإشكال من لزوم الدور مدفوع بأنّ فردية الشك المسببي للعام وجداني لا يتوقف على شيء ، وإنما يكون إخراجه عن الفردية تنزيلا متوقفا على شمول حكم العام للشك السببي ، وشمول العام للشك السببي غير متوقف على خروج الشك المسببي عن الفردية بل على عدم شمول الحكم له وهو واضح.

قوله : وإن شئت قلت الخ (٢).

هذا جواب آخر عن الإشكال وإن كانت العبارة موهمة لكونه عبارة اخرى عن الجواب الأول.

ويمكن دفعه أيضا بأنّ عموم قوله (عليه‌السلام) «لا تنقض» باعتبار كونه متكفّلا لحكم الشك السببي وإن كان في عرض الشك المسببي وأنّهما لازمان للشك السببي ، لكن لا ينافي ذلك كون ذلك العموم بعينه متكفلا لحكم الشك المسببي وكونه في طوله بهذا الاعتبار. وبعبارة اخرى بعض أفراد العام المتكفّل لحكم الشك السببي في عرض الشك المسبب وبعضها الآخر المتكفل لحكم الشك المسببي في طول الشك المسببي ولا منافاة ، وإنما المحال أن يكون نفس الفرد الأول الذي هو في العرض في الطول ، ونظير هذا الإشكال والجواب يجري في الظن المانع والممنوع في شمول دليل واحد لهما ، وكذا في شمول دليل حجية خبر

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٣٩٧.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٣٩٨.

٤٠٨

الواحد للأخبار بلا واسطة ومع الواسطة كليهما ، وقد مر بعض الكلام في ذلك في محله فتذكّر.

ثم اعلم أنه يرد على ما ذكره المصنف هنا ما أورده هو في كتاب الطهارة (١) في مسألة الماء المتمم كرا في مقام ردّ من قال بأنّ ملاقاة جزئه الطاهر بالجزء النجس علة للانفعال لكونه قليلا لاقى نجسا ، وعلة لعدم الانفعال لصيرورته كرا فيتعارضان ويرجع إلى أصالة الطهارة ، قال : إنّ الملاقاة ليست علة لعدم الانفعال بل علة للكرية المانعة من الانفعال ، وإذا كان الشيء علة تامة للشيء استحال أن يكون علة لمانعه ، إذ بمجرد وجودها يحصل المعلول فلا مسرح لوجود المانع ، فلا بدّ من رفع اليد عن مانعية الكر في هذا المقام ، انتهى موضع الحاجة.

وهذا الكلام وإن كان يرد عليه أنّ رفع اليد عن مانعية الكر عن الانفعال ليس بأولى عن رفع اليد عن علية الملاقاة للتنجيس بأن تكون عليتها له منحصرة في غير هذه الصورة ، إلّا أنه يرد نظيره في المقام بأن يقال إنّ الشك السببي علة لحكمه وهو حرمة نقض اليقين به وللشك المسبّب ، والأول مانع عن الثاني ومزيل له بالفرض ، ولا يمكن أن يكون الشيء علة لشيء ولمانعه ، فلا بدّ أن يرفع اليد عن المانع وهو هنا الحكم أعني حكم حرمة النقض في الشك السببي ، فيبقى الشك المسبب وكذا حكمه بلا معارض فتدبّر.

قوله : الثالث : أنه لو لم يبن على تقديم الاستصحاب في الشك السببي الخ (٢).

الإنصاف أنه لا كرامة في هذا الوجه من أصله ، لأنّ قلّة موارد الأصل على

__________________

(١) كتاب الطهارة ١ : ١٥٤ ـ ١٥٥.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٣٩٨.

٤٠٩

تقدير لا تدل على بطلان ذلك التقدير ، فربّ أصل أو أمارة هو قليل المورد هذا ، مع أنه بناء على تقديم الاستصحاب في الشك السببي لا نسلّم أكثريته موردا لو لم نقل بأنه يصير أقل موردا ، إذ على هذا التقدير يجري الاستصحاب في السبب ويلغى استصحابات عديدة في المسبب غالبا ، لأنّ الغالب أنّ الشيء الواحد له آثار شرعية متعددة وجودية أو عدمية فلا تغفل.

قوله : الرابع : أنّ المستفاد من الأخبار الخ (١).

أجاب عن هذا الوجه بعض مشايخنا المحققين على ما حكي عنه أنّ محل الكلام ما إذا حصل الشك في السبب والمسبب دفعة واحدة دون ما إذا حصل الشك في السبب وجرى الاستصحاب فيه ثم حصل الشك في المسبب ، فإنّ تقديم الاستصحاب السببي في هذا الفرض ممّا لا إشكال فيه ولا كلام ، وموارد الأخبار من قبيل الثاني الذي لا كلام فيه ، فإنّ الشك في الطهارة في صحيحة زرارة مفروض قبل الاشتغال بالصلاة فيجري استصحاب الطهارة من غير معارض ، وحين يشتغل بالصلاة ويحصل له الشك في صحتها فهو بحكم الطاهر حينئذ بجريان الاستصحاب في السابق ، ونظيره ما لو فرضنا الشك في طهارة الماء قبل أن يغسل به الثوب النجس وجرى استصحاب الطهارة ثم غسل به الثوب ، فلا كلام في طهارة الثوب به ، وليس من محل النزاع ، وإنّما الكلام فيما لو حصل الشكّان بعد غسل الثوب به.

وفيه : أنه إن أراد أنه في صورة تعاقب الشكين ميزان الاستصحاب غير تام بالنسبة إلى الشك المسبب ، فمن المعلوم أنه ليس كذلك لأنه شك بعد اليقين مع أنّ كون أحد الشكين متأخرا عن الآخر أيضا ممنوع ، بل المشكوك المسببي متأخر

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٣٩٩.

٤١٠

زمانا لا نفس الشك ، فإنّ الشاك في الطهارة شاك في أنه لو صلّى في هذه الحالة هل تصح صلاته أم لا ، وإن أراد أنّ محل إشكال العلماء إنما هو في غير صورة التعاقب وفي صورة التعاقب تقديم الاستصحاب في الشك السببي إجماعي عندهم ، ففيه أنه تخرص على الغيب لم يشهد عليه شاهد بل الشاهد على خلافه موجود ، فإنّ المحقق في المعتبر على ما حكاه في المتن صرّح بأنّ استصحاب الطهارة عند الشك في الحدث معارض باستصحاب عدم براءة الذمة بالصلاة بالطهارة المستصحبة.

قوله : بل أقبح من الترجيح بلا مرجح (١).

لعل وجه الأقبحية هو الاستناد في الترجيح بما ليس بمرجح بل مشترك بين المختار والمتروك.

قوله : أما لو عملنا به من باب الظن الخ (٢).

كأنه (رحمه‌الله) فرض المقام بناء على اعتبار الاستصحاب من باب الظن الشخصي وإلّا فبناء على اعتباره من باب الظن النوعي على ما هو مذهب الجمهور فلا ريب في مساواة الشك السببي والمسببي في ملاك الظن من أنه شك مسبوق باليقين ، ويجتمع الظنان المتخالفان بهذا المعنى ، ولا يلزم من الظن بالملزوم الظن باللازم بهذا المعنى فافهم.

قوله : ثم إنه يظهر الخلاف في المسألة من جماعة (٣).

وهم بين من يظهر منه تقديم الاستصحاب في الشك المسبب كالشيخ والمحقق في مسألة فطرة العبد ، ويحتمل أن يكون مرادهما التعارض والتساقط

__________________

(١ ، ٢) فرائد الاصول ٣ : ٤٠٠.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ٤٠١.

٤١١

والرجوع إلى أصالة البراءة ، وبين من يظهر منه التعارض والتساقط بين الاستصحابين كما يظهر من المحقق في مسألة الشك في الحدث ، فجعل استصحاب الطهارة معارضا باستصحاب عدم براءة الذمة بالصلاة بالطهارة المستصحبة ، وبين من يظهر منه الجمع بما ذكره في المتن ، وبين من يظهر منه التعارض والرجوع إلى مرجح أحدهما على الآخر كما حكاه المصنف في المتن فيما سيأتي عن تمهيد القواعد ، وبين من يظهر منه التخيير على ما حكاه بعض ، والكل بعيد عن السداد ، لما مرّ من تقديم الاستصحاب في الشك السببي بما ذكرنا من الوجه في رابع الوجوه المذكورة في المتن ولا معدل عنه.

قوله : والفرق بينهما اخرى (١).

وجه الفرق على ما حكي عن المعتبر ما لفظه : والجواب الآخر الفرق بين الكفّارة ووجوب الزكاة بأنّ العتق إسقاط ما في الذمة من حق الله ، وحقوق الله مبنية على التخفيف ، والفطرة إيجاب مال على المكلّف ولم يثبت سبب وجوبه (٢) انتهى.

ولا يخفى ضعف هذا الفرق ، فإنّ كلا الأمرين من حقوق الله ويعود نفعهما إلى المخلوق ، وكذا إثبات التكليف وإسقاطه كلاهما محتاج إلى الدليل.

قوله : فحكم في مسألة الصيد بكونه ميتة والماء طاهرا (٣).

لا يخفى أنّ مورد تعارض الاستصحابين في المثال هو الماء ، لأنّ استصحاب حياة الصيد إلى أن وقع فيه يقتضي نجاسته ، واستصحاب طهارته

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٤٠١.

(٢) المعتبر ٢ : ٥٩٨.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ٤٠٣.

٤١٢

السابقة يقتضي طهارته ، وإلّا فاستصحاب حياة الصيد المقتضي لنجاسته بالنسبة إلى غير الماء لا معارض له ، وحينئذ فالحكم بطهارة الماء ونجاسة الصيد ليس جمعا ، إلّا أن يجعل المعارضة بين استصحاب طهارة الماء واستصحاب حياة الصيد مطلقا حتى بالنسبة إلى الآثار الأخر ، وعلى هذا فمن يقول بالتساقط لا بدّ أن يقول بسقوط الأصلين من الجانبين حتى بالنسبة إلى الآثار التي لا تعارض بينها وهو في غاية البعد فليتأمّل.

قوله : هذا ، مع أنّ الاستصحاب في الشك السببي دائما إلخ (١).

هذا الإيراد من المصنف يناسب ما إذا كان من مذهب الشيخ علي (رحمه‌الله) معارضة الاستصحابين مع ذكره لما نقله عنه في المتن وإلّا فلا كرامة في هذا الايراد عليه ، ولعله يسلّم ذلك ، كما أنّه لا كرامة في نقل كلامه هذا هاهنا فتدبّر.

قوله : كما في الماء النجس المتمم كرا (٢).

فإنّ الإجماع على ما ادّعاه جمع قام على أنّ الماء الواحد لا يختلف حكم أبعاضه ، لكن المصنف في كتاب الطهارة قد ناقش في هذا الإجماع بل منع عنه بأبلغ بيان ، فراجع كلامه هناك وهو الموافق للتحقيق ، ولكن لمّا كان الغرض مجرد التمثيل كفى فيه فرض كونه كذلك كما توهمه الجماعة.

قوله : والحق على المختار من اعتبار الاستصحاب من باب التعبّد هو عدم الترجيح بالمرجحات الاجتهادية (٣).

يمكن أن يقال إنّ الاصول العملية مختلفة بحسب وجه اعتبارها ، منها : ما

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٤٠٥.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٤٠٦.

(٣) فرائد الاصول ٣ : ٤٠٨.

٤١٣

يكون وجه اعتبارها بالنظر إلى أنّ الحكم الواقعي في مورده ملغى بالمرة غير ملاحظ لادراكه أصلا كأصالة البراءة العقلية ، فإنّ حكم العقل بالبراءة عند احتمال الوجوب أو الحرمة ليس باعتبار كون البراءة موافقة للحكم الواقعي ولو احتمالا ، بل باعتبار أنّ العقاب قبيح عند عدم البيان سواء وجد في الواقع حكم مخالف أم لا.

ومنها : ما يكون وجه اعتباره بملاحظة كونه محتملا لأن يكون مطابقا للواقع كالاستصحاب والبراءة الشرعية بحسب لسان بعض أخبارها وأصالة التخيير فإنّ الشارع قد أمرنا بالعمل بها في مواردها بملاحظة احتمال مصادفة الواقع ، وحينئذ نقول ما كان من قبيل الأول فالأمر كما ذكره في المتن من عدم مرجحية المرجحات الاجتهادية له لما ذكره ، وأمّا ما كان من قبيل الثاني فيكون المرجحات الاجتهادية مرجحا له لأنه يقوى بها احتمال مصادفة الواقع الذي لوحظ في وجه اعتباره والأخذ به ، وهذا القسم من الاصول نظير الأدلة الاجتهادية في إمكان الترجيح بمرجحاتها والكلام فيه هو الكلام فيها ، نعم لا يتصوّر الترجيح في العكس أعني مرجحية الاصول مطلقا للأدلة الاجتهادية ، لأنه إن اريد الترجيح بها باعتبار حجيتها فليست حجة مع وجود الدليل ، وإن اريد الترجيح من غير جهة الحجية فليست فيها جهة تصلح لذلك سوى احتمال مصادفة الواقع في بعض موارد الاصول ، والاحتمال متحقق في كلا المتعارضين على حدّ سواء مع قطع النظر عن كونه موردا للأصل فلم يرد به شيء يرجح به ، هذا كلّه حال ترجيح الاستصحاب بالمرجحات الاجتهادية.

وأمّا ترجيحه بموافقة أصل آخر من الاصول العملية فإنه لا يتفق له مورد حتى يتكلم فيه بناء على ما حققه المصنف في رسالة البراءة من أنّ مجاري الاصول متباينة لا يمكن أن يجري في مورد واحد أصلان من الاصول الأربعة

٤١٤

سواء كانا متوافقين أم متخالفين ، ولكنّا قد ذكرنا عليه هناك إمكان جريان الأصلين المتوافقين ومنعنا حكومة أحدهما على الآخر في هذه الصورة ، وعليه لا مانع من الترجيح فتأمل.

قوله : وقد تقدم نظير ذلك في الشبهة المحصورة الخ (١).

وقد تقدم منّا دفعه في الشبهة المحصورة من أنّ العلم بالحرمة الذي جعل غاية للحكم بالحلّية هو العلم بالحرمة تفصيلا بحيث يرتفع به الشك ويصير المشكوك معلوما ، لا العلم الاجمالي الذي يحدث منه الشك ، وهكذا نقول فيما نحن فيه إنّ المراد من نقض اليقين باليقين على الخلاف نقضه بيقين متعلق بعين ما شك فيه بأن يرتفع به الشك ، فينحصر هذا المعنى في اليقين التفصيلي على الخلاف ، ولا يشمل اليقين الاجمالي الذي هو منشأ الشك وإلّا لزم الحكم بالتساقط في الصورة الثالثة التي جزم في المتن بالعمل بكلا الاستصحابين فيها كمن توضّأ بمائع مردد بين الماء والبول ، لأنّ العلم الاجمالي بخلاف الحالة السابقة في أحد المستصحبين حاصل فيه أيضا كما لا يخفى ، وكذا يلزم الحكم بالتساقط فيما إذا كانت الحالة السابقة في الإناءين النجاسة مع أنهم لا يلتزمون به بل يقولون بجريان الأصلين فيه.

فالتحقيق في المسألة أنّ الأصلين يسقطان فيما كان هناك علم اجمالي بتكليف إلزامي منجّز بحيث يلزم من العمل بالأصلين طرح ذلك التكليف ، فلأجل امتثال ذلك التكليف والقطع بموافقته لا بدّ أن لا يعمل بواحد من الأصلين من باب المقدّمة العلمية ، ولذا لا يسقط الأصلان عند كون الإناءين مسبوقين بالنجاسة وطهر أحدهما ، فإنّ العلم الاجمالي بطهارة أحدهما لا يوجب تكليفا ملزما يسقط

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٤١٠.

٤١٥

به الأصلان مقدّمة لامتثاله. ولا يخفى أنّ ما ذكرنا وجه الفرق بين الصورتين الاوليين والصورتين الأخيرتين ، ومثل هذا البيان يجري في الشبهة المحصورة بالاضافة إلى أصالتي البراءة في الطرفين كما مرّ في رسالة أصل البراءة.

قوله : نعم يتّجه الترجيح بناء على اعتبار الاصول من باب الظن النوعي (١).

لا يخفى أنّ البيان الذي ذكره في وجه تساقط الأصلين بناء على التعبّد لو تم يجري بناء على الظن النوعي أيضا ، ضرورة أنّ الظن النوعي أيضا اعتباره مقيّد بصورة عدم العلم بالخلاف ، بل يجري في كل متعارضين أصلا أو دليلا ، فلا يبقى محل للترجيح فافهم.

قوله : إذ الواحد المردّد بين الحدث وطهارة اليد الخ (٢).

كان المناسب أن يقول إذ الواحد المردّد بين الطهارة ونجاسة اليد الخ كما لا يخفى.

قوله : فإنه لا خلاف في تقديم قول الموكّل (٣).

المسألة مفروضة فيما إذا فعل الوكيل ما يدّعيه هو دون ما يدّعيه الموكّل ، وأمّا إذا فعل ما يدّعيه الموكّل زاعما أنه نسي ما وكّل فيه وأتى به خطأ فينعكس الأمر ويجري الأصل من طرف الوكيل ويقدّم قوله ، كما أنه لو فعل ما يدّعيه هو وما يدّعيه الموكّل كلاهما يجري الأصل من الطرفين ويتعارضان.

قوله : وكذا لو تداعيا في كون النكاح دائما أو منقطعا الخ (٤).

إنما يتمّ ما ذكره لو قلنا بأنّ النكاح الدائم والمنقطع ماهيتان مختلفتان كما

__________________

(١ ، ٢) فرائد الاصول ٣ : ٤١٣.

(٣ ، ٤) فرائد الاصول ٣ : ٤١٤.

٤١٦

هو الحق ، وأمّا إذا قلنا إنّهما يدخلان تحت حقيقة واحدة وإنّما الفرق بينهما هو الفرق بين المطلق والمقيّد فإنه إذا اطلق في مقام الانشاء يترتّب عليه أحكام يقتضيها الاطلاق ، وإذا قيّد بالأجل ينتفي تلك الأحكام نظير تقييد العقود بما يجعل شرطا في ضمنها كما اختاره صاحب الجواهر (١) في مسألة ما إذا نسى ذكر الأجل في المتعة ينقلب دائما على ما ورد في بعض الأخبار قال : إنّ ذلك مطابق للقاعدة ، فلا يخفى أنه على هذا المبنى ينعكس الأمر وتجري أصالة عدم تقيّد النكاح بما يخرجه عن مقتضى طبيعته الحاصل عند الاطلاق فيترتّب عليه آثار الدوام.

ولا يخفى أنّ ما ذكرنا مقتضى الأصل العملي لا مقتضى الأصل اللفظي كما توهمه بعض المحققين من المعاصرين حيث قال : والتحقيق أنه لو كان التداعي في ذلك مع التوافق في العقد على صيغة مثل أنكحت أو زوجت فإن كان نزاعهما في تقييده بالمدّة وعدم التقييد فالقول قول من يدّعي الدوام مطلقا لموافقة قوله لأصالة الاطلاق وعدم التقييد ، ومعها لا مجال لاستصحاب عدم النكاح الدائم لمكان الأصل الوارد عليه على ما حققنا أو الحاكم على ما أفاده المصنف انتهى.

وفيه : أنّ مجرى أصالة الاطلاق فيما إذا علم عدم ذكر القيد في اللفظ لكن احتمل إرادة القيد من غير كاشف أو بكاشف غير مقترن باللفظ من دليل آخر خارجي ، أمّا إذا احتمل أنه ذكر القيد في اللفظ واختفى علينا بسبب من الأسباب كما نحن فيه فلا وجه للحكم بالاطلاق لعدم جريان دليل الحكمة الحاكمة بالاطلاق ، كيف ولو جرت أصالة الاطلاق هنا لزم فيما لو علمنا أنه قال المالك ملّكتك هذا وشككنا في أنه قال بكذا حتى يكون بيعا بهذا الثمن أو لم يقل ذلك

__________________

(١) جواهر الكلام ٣٠ : ١٧٢.

٤١٧

حتى تكون هبة مجانية ، أن نحكم بالاطلاق ونثبت به أنّ الواقع هبة مجانية ، وفساده بيّن ، هذا كله فيما لو ادّعى الزوج الانقطاع لتعلق غرضه بسقوط حق القسم والنفقة ونحوهما وادّعت الزوجة الدوام لغرض إثباتها ، ولو انعكس الفرض بأن ادّعت الزوجة الانقطاع لغرض رفع السلطنة عليها بعد المدّة وادّعى الزوج الدوام لغرض إثباتها تعارض الأصلان من الجانبين ، لأنّ أصالة عدم الانقطاع لها أثر أيضا وهو رفع السلطنة عنها (١).

قوله : ويتّضح ذلك بتتبّع كثير من فروع التنازع (٢).

منها : ما إذا تنازع راكب الدابة ومالكها في الاجارة والاعارة فقيل القول قول من يدّعي الاعارة لأصالة البراءة من الاجرة ، وقيل يقدّم قول من يدّعي الاجارة لأصالة احترام مال المسلم ، والحق التفصيل بين ما إذا كان النزاع قبل استيفاء المنفعة فيجري أصالة عدم الاجارة لنفي آثارها من لزوم الاجرة على الراكب ورفع سلطنة المالك عن الدابة في زمن الاجارة إلى غير ذلك ، ولا تجري أصالة عدم الاعارة لعدم الأثر ، ويكون هذا من أمثلة المقام ، وبين ما إذا كان النزاع بعد استيفاء المنفعة فتجري أصالة عدم الاعارة لنفي أثرها وهو إسقاط

__________________

(١) أقول : لا يخفى أنّ هذا الكلام يشبه المغالطة ، لأنّ السلطنة بعد المدّة أثر الدوام لا أنّ عدم السلطنة أثر المتعة ، وأيضا يلاحظ مجاري الاصول في المسألة من حيث هي هي ، ولا يتفاوت الأمر بملاحظة أغراض المتداعيين في الدعوى ، فقد يتعلق غرض المدّعي بما يوافق الأصل وقد يتعلق بما يخالفه ، نعم قد يتفاوت الأمر بملاحظة تغيير عنوان الدعوى بناء على ما اختاره صاحب الجواهر من أنّ مناط تشخيص المدّعي والمنكر ومحلّ قضاء القاضي إنّما هو مصبّ الدعوى وهو كلام آخر بيانه وصحته موكول إلى محله.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٤١٤.

٤١٨

المالك احترام ماله بالتمليك المجاني ، وأصالة عدم الاجارة لنفي أثرها وهو اشتغال ذمة الراكب بالعوض المسمّى ، وتبقى أصالة احترام مال المالك فيحكم باجرة المثل بعد التداعي وإقامة البيّنة من الجانبين أو حلفهما ، وحكم ما إذا أقام أحدهما البيّنة أو حلف دون الآخر واضح.

ومنها : ما إذا اختلف الراهن والمرتهن في العين المرهونة فقال الراهن إنّها الجارية وقال المرتهن إنّها العبد ، فبناء على ما نسب إلى المشهور من أنّ إنكار البيع والرهن يكون فسخا لهما ، كما أنّ إنكار الطلاق رجوع على ما في الخبر يكون مثالا لما نحن فيه ، لأنّ أصالة عدم كون العبد مرهونا له أثر هو نفي اللزوم على الراهن ، وأمّا أصالة عدم كون الجارية مرهونة فلا أثر لها ، لأنّ العقد جائز من طرف المرتهن ، فبدعواه عدمه انفسخ الرهن لو كان عليها في الواقع.

قوله : ولك أن تقول بتساقط الأصلين في هذه المقامات (١).

لم نعرف وجها للقول بتساقط الأصلين في هذه المقامات مع عدم جريان الأصل في أحد الطرفين بملاحظة عدم الأثر ، ولا أظن أنه رجع (رحمه‌الله) عن هذا التحقيق الذي قد أصرّ عليه في اصوله وبنى عليه جملة من الفروع في فقهه ، ثم لم نعرف الفرق بين أصالة الطهارة في كل من واجدي المني وبين الاصول الجارية في سائر الأمثلة ، فإن كان الأصل سالما من الجهات الأخر في واجدي المني كان في مرحلة التعارض والتساقط كسائر الاصول.

قوله : والعلماء وإن كان ظاهرهم الاتّفاق على عدم وجوب الفحص (٢).

قد ذكرنا في رسالة أصل البراءة شطرا من الكلام في الفحص في مجاري

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٤١٤.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٤١٥.

٤١٩

الاصول ، ونقول هنا أيضا يدل على عدم وجوب الفحص إطلاقات أدلة الاصول مضافا إلى الاتفاق المذكور في المتن ، نعم قد يكون الشك بحيث يعلم الشاك أنه لو بحث عن إدراك حقيقة الواقع لظفر به بأدنى تأمل ، ويرتفع الشك من أصله ، ففي هذه الصورة يشكل التمسك بالأصل بمجرد الشك فإنه ربما يقال إنّ هذا ليس بشك حقيقة وإنما هو تعمية على النفس وإغفالها ، ولو سلّم صدق الشك عليه فالأدلة منصرفة عنه.

ثم لا يخفى أنّ الفحص في الشبهات الموضوعية ليس وظيفة للفقيه بل المجتهد والعامي فيه سواء ، لأنّ مبادي العلم بالموضوعات الخارجية هي الامور الخارجية التي ربما يكون العامي أعرف فيها من الفقيه ، وحينئذ لا وجه لما فرّع على عدم وجوب الفحص هذا في :

قوله : ولازمه جواز إجراء المقلّد لها الخ (١).

بل جواز إجراء المقلّد لها مطلب آخر يمكن التكلّم فيه بناء على وجوب الفحص وعدمه ، إلّا أنّ التحقيق ما ذكره من جواز إجراء المقلّد للاصول لأنه كسائر المسائل التي يأخذها المقلّد من المفتي قضايا كلية يكون انطباقها على مصاديقها من الامور الواضحة التي يعرفها كل أحد وهذا بنظر المكلّف نفسه لا يناط بنظر الفقيه.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٤١٥.

٤٢٠