حاشية فرائد الأصول - ج ٣

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي

حاشية فرائد الأصول - ج ٣

المؤلف:

آية الله الشيخ محمّد إبراهيم اليزدي النجفي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: دار الهدى
المطبعة: الظهور
الطبعة: ١
ISBN: 964-497-091-8
الصفحات: ٥٥٦
الجزء ٢ الجزء ٣

أصالة عدم وجوب الأكثر معارضة بأصالة عدم وجوب الأقل ، ولكن التحقيق الذي بنينا عليه الأمر في رسالة البراءة يقتضي عدم الفرق بين القولين في هذا المثال فإنّه لا مانع من جريان أصالة عدم الوجوب الغيري بالنسبة إلى الجزء المشكوك وهي كأصالة عدم الجزئية حاكمة على أصالة الاشتغال ، لأنّ الشك فيه مسبّب عن الشك في جزئية المشكوك أو وجوبه الغيري.

فإن قلت : لا وجه لجريان أصالة عدم الوجوب الغيري كي يكون حاكما على أصالة الاشتغال ، لأنّها إنما تجري إذا كان الوجوب مشكوكا من أصله بأن يفرض أنّ باقي الأجزاء تعلق بها أمر وشك في تعلق أمر آخر بالمشكوك فيقال الأصل عدمه. وبعبارة اخرى أنه يتم لو كان وجوب أجزاء المركب بأوامر متعدّدة وإيجابات متعدّدة فيؤخذ بالمتيقن وينفى المشكوك بالأصل ، وأمّا إذا علم بتحقّق أمر وإيجاب من الآمر ولم يعلم كونه متعلقا بالأقل أو بالأكثر المشتمل على الجزء المشكوك كما هو كذلك فيما نحن فيه ، فليس تعلّقه بواحد منهما مطابقا للأصل ، وأصالة عدم تعلقه بكل منهما معارض بالآخر لأنّه من قبيل المتباينين.

قلت : ليس كذلك بل المتعلق بالأخرة من قبيل الأقل والأكثر ، ونعلم أنّ الأقل قد صار متعلقا للأمر المفروض المعلوم لا محالة ، إمّا لكونه تمام المطلوب أو لكونه داخلا في المطلوب ، وإنما الشك في تعلقه بالأكثر بمعنى تعلقه بهذا الجزء المشكوك أيضا أم لا والأصل عدمه ، وكيف كان هذه الثمرة أعني اختلاف مقتضيات الاصول على القولين باب عظيم جار في الفقه من أوّله إلى آخره.

ومنها : أنه لو عقد بغير العربي أو مع تقديم القبول على الايجاب مثلا في بيع أو نكاح بفتوى من يجوّزهما ثم تبدّل رأي المجتهد ، أو عدل المقلّد إلى غيره ممّن يرى بطلان العقد الكذائي ، فعلى تقدير القول بثبوت الأحكام الوضعية وأنّ العقد سبب شرعي لحصول الملكية والزوجية الدائمة يحكم ببقاء المسبّب بعد

١٤١

العدول أيضا ، لأنّ السبب قد أثّر حين كونه سببا شرعا بفتوى الفقيه الملكية الدائمة ، وأمّا على القول بالعدم فلا يحكم ببقائه لرجوعه إلى جواز تصرف المشتري في المبيع وعدم جواز تصرف البائع فيه وجواز استمتاع الزوج من الزوجة ، وهذه الأحكام التكليفية الظاهرية لا يجوز العمل بها بعد تبدّل رأي المجتهد بل لا بدّ أن يعمل على طبق الرأي الجديد ، فيكون نظير ما إذا أفتى المفتي بوجوب الجمعة وعملنا عليه برهة من الزمان ثم تبدّل رأيه إلى وجوب الظهر فلا بدّ من فعل الظهر بعد ذلك ولا يجزي الجمعة ، هذا كلّه بناء على كون سببية العقد للملكية والزوجية وكذا نفس الملكية والزوجية امورا اعتبارية كما هو الموافق للتحقيق ، وأمّا على ما يظهر من المصنف من أنّها امور واقعية فلا ربط لها بمسألة الوضع ولا يتم الثمرة.

ومنها : ما مرّ سابقا من موروثية الخيار فإنّما تتم بناء على كون الخيار حقا جعليا ، وإلّا فالحكم بجواز الفسخ كسائر الأحكام التكليفية لا يورث.

بقي الكلام في تأسيس الأصل في المسألة لو تردّد الأمر بين القولين ولم يتم عندنا أدلة الطرفين فنقول : الأصل موافق لقول المثبتين لا بمعنى أنّ الأصل فيما لو دار الأمر بين امتناع شيء وإمكانه هو الامكان كما قد يسند إلى الشيخ الرئيس ابن سينا لقوله كلّ ما قرع سمعك من الأكوان ولم يذده قاطع البرهان فذره في بقعة الامكان ، لأنه كلام فاسد ، فإنّ الحكم بامكان الشيء كالحكم بوجوبه أو امتناعه يحتاج إلى دليل ، فما دام عدم الدليل يكون مجهولا فكيف يمكن الحكم بامكانه ، وقد مرّ فيما يتعلق بامكان التعبّد بالظن في أوّل رسالة الظن ما يوضّح هذا المطلب وأنّ مراد ابن سينا من قوله فذره في بقعة الامكان هو الاحتمال وعدم ردّ المطلب بمجرد عدم الدليل عليه ، ولا يحمل كلام مثل هذا الحكيم الفيلسوف على ما هو بديهي الفساد ، بل بمعنى أنّ العمل على طبق قول المثبت ، فلو ورد

١٤٢

خطاب من الشرع بلسان الوضع بحسب ظاهر الدليل نحمله على ظاهره ولا نرفع اليد عن هذا الظاهر بمجرد عدم العلم بكونه ممكنا أو ممتنعا غير معقول ، بل نكتفي باحتمال كونه ممكنا ومعقولا ونعمل على ما يقتضي ذلك الظاهر حتى يثبت امتناعه ، فإن قام البرهان على امتناعه فحينئذ نرفع اليد عن الظاهر ونؤوّله إلى ما يكون ممكنا معقولا ، وهكذا يكون بناء مذاهب المسلمين في المسائل الكلامية فإنّ جملة من المطالب الواردة في شرعنا في ظواهر الكتاب والسنّة من كيفيات الحشر والنشر والميزان والحساب والصراط والمعراج والمعاد الجسمانيين إلى غير ذلك محل الشك والتأمّل في إمكانه أو امتناعه ، إلّا أنّ بناء المسلمين على الاعتقاد بما يفهم من ظواهر الآيات والأخبار إلّا فيما علم عدم إمكانه فيتكلّفون حينئذ التأويلات ولو كانت بعيدة غاية البعد.

إذا تمهّد ذلك فنقول : إنّ المسألة ذات قولين واستدل المثبتون بوجوه :

الأول الأصل على ما مرّ تقريره آنفا فلا نعيد. الثاني : ما أشار إليه في المتن حكاية عنهم من :

قوله : من أنه قد يتحقق الحكم الوضعي في مورد غير قابل للحكم التكليفي كالصبي والنائم وشبههما (١).

يعني أنه لو كان الحكم الوضعي منتزعا من التكليف لزم عدم ثبوته عند عدم كون المورد قابلا للتكليف كالصبي والمجنون والنائم ونحوها مع أنّ الحكم بضمانهم لما أتلفوا في هذه الحالات وكذا جنابتهم وحدثهم عند عروض أحد أسبابهما في تلك الأحوال ممّا لا ينكر. وقد أجاب عنه المصنف في المتن بأنّها أيضا راجعة إلى التكليف بوجوب أداء البدل من المثل أو القيمة في مسألة

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٢٦.

١٤٣

الضمان ، ووجوب الغسل أو الوضوء في مسألة الجنابة والحدث عند اجتماع شرائط التكليف من البلوغ والعقل وغيرهما ، ولا ندّعي إرجاع الحكم الوضعي إلى التكليف المنجّز حتى ينافي ثبوته للصبي والمجنون ، هذا محصّل كلامه ، وكان يمكن للمصنف أن يجيب عنه أيضا بنظير ما أجاب عن سببية العقد للملكية والزوجية من أنّها امور واقعية قد كشف عنها الشارع ، فيدّعي هنا أيضا أنّ الضمان والجنابة والحدث أوصاف واقعية مسبّبة عن الاتلاف والامناء والبول ونحوها من الأسباب الواقعية واقعا وقد كشف عنها الشارع ، فإنّ هذه الدعوى ليست بأبعد ممّا ادّعاها فيما ادّعى من الأمثلة ، هذا.

وفيه أوّلا : أنّ ما ذكره من انتزاع السببية في الموارد المذكورة من التكليف غير المنجّز بوجوب دفع البدل أو وجوب الغسل والوضوء إن أراد منه الوجوب المعلّق ، فمن المعلوم عدم تعلق التكليف بالصبي والمجنون لا منجّزا ولا معلقا ، وإن أراد منه الوجوب المشروط كما هو الظاهر ثبت المدّعى لأنه لا تحقّق للتكليف المشروط قبل تحقق شرطه أي البلوغ والعقل ، مع أنّ الحكم الوضعي متحقق حال الجنون والصبا (١).

وثانيا : أنّ ما ذكره من أنّ ضمان الصبي منتزع من خطاب الشارع البالغ العاقل الموسر بقوله اغرم ما أتلفته في حال صغرك مدخول بأنّه قد يموت قبل البلوغ فما معنى الضمان حينئذ مع عدم تصور تكليف له بالمرّة ، ولو بدّل المصنّف هذا بأنّ ضمانه منتزع من خطاب الشارع وليه من أب أو جد أو حاكم أو عدول

__________________

(١) أقول : للمصنّف أن يدفع هذا عنه باختيار الشق الثاني ويقول يمكن أن ينتزع من التكليف الذي يحصل في المستقبل وضع يتقدّم اعتباره بملاحظة حصول بعض مقدّمات ذلك التكليف حينئذ كالاتلاف.

١٤٤

المؤمنين بدفع الغرامة من مال الصبي اندفع عنه هذا الإشكال ، نعم يبقى الإشكال فيما إذا لم يكن له مال فلا معنى للضمان حينئذ ، اللهمّ إلّا أن يقال إنّه لمّا جاز الاحتساب عليه من زكاة أو خمس أو مظالم كما يجوز ذلك في البالغ أيضا سيما إذا لم يكن له مال صح أن ينتزع من هذا التكليف أعني جواز الاحتساب عليه الضمان وسببية الاتلاف له ، لكن لا يخفى أنّ ذلك كلّه تكلفات باردة يشهد بذلك أنّ الاحتساب على الصبي مع عدم كونه مشغول الذمة بالفرض ليس إلّا اعتبار أداء الزكاة بمجرد القصد إلى ذلك ولو كان هذا الاعتبار اعتبارا صحيحا شرعيا يفيد البراءة من الزكاة الواجبة المنجّزة ، فيكون اعتبار اشتغال ذمة الصبي بمثل ما أتلفه أو قيمته أولى بالاعتبار والجعل والتقرير فليتأمّل.

وثالثا : أنّ إرجاع الحكم الوضعي المذكور إلى الحكم التكليفي بالكيفية المذكورة منحرف عن السداد ، إذ لو فرضنا أنّ الشارع صرّح بأنّ البالغ يجب عليه دفع مثل ما أتلفه حال الصبا ، أو صرّح بأنّه يجوز لمن عليه الزكاة أن يحتسبها على صبي قد أتلف ماله بمقدار ما يجب عليه لم يحكم بالضمان المصطلح أي لا ننتزع من هذا الخطاب الضمان المصطلح أي المعنى الذي يفهم من قوله من أتلف مال الغير فهو له ضامن.

الثالث : الوجدان فإنّ من راجع وجدانه يجد أنه كما يعقل للآمر الجاعل أن يعتبر الوجوب والتحريم وغيرهما من الأحكام التكليفية وينشئها على وجه يحصل هناك حقائق اعتبارية وكانت منشأ للآثار المترتبة عليها على ما هو التحقيق من أنّ الطلب غير الارادة النفس الامرية ، كذلك يعقل أن يعتبر غيرها من الوضعيات من الامور المرضية عند العقل والعقلاء من مثل الملكية والزوجية والشرطية والمانعية إلى غير ذلك ، وتصير هذه الامور باعتباره حقائق متأصّلة موجودة على حذو الأحكام التكليفية ، غاية ما في الباب أنّها حقائق اعتبارية لا

١٤٥

من قبيل الجواهر والأعراض الخارجية ، ومن هذا الباب القوانين التي يجعلها السلاطين لاقامة نظام المملكة من جعل الأوزان الخاصّة والمكيال والميزان المخصوص والنقود الخاصة والسياسات المخصوصة والولايات إلى غير ذلك ، وكذا ما يجعله أرباب الصناعات لأهل صنعتهم من الاصطلاحات والآداب ، وكذا ما يجعله الواضعون للألفاظ في كل لغة لدلالة الألفاظ الخاصة على المعاني المخصوصة إلى غير ذلك ، فلا ريب أنّ ذلك كله امور متحققة متأصلة بعد الوضع والجعل حقيقتها عين اعتبارها ، ويترتب عليها آثارها بالضرورة.

ويشهد بذلك ما ذكره المحققون من الاصوليين من أنّ الأوامر التي يستفاد منها الجزئية والشرطية أوامر إرشادية ترشدنا إلى عدم حصول المأمور به بدونه جزءا أو قيدا ، وإلّا فالأوامر المولوية لا يترتّب على مخالفتها سوى العصيان واستحقاق العقاب لا الحكم ببطلان المركب والمشروط ، وكذا النواهي التي يستفاد منها الفساد نواه ارشادية كاشفة عن مانعية متعلقها لحصول المطلوب ، وإلّا فالنواهي المولوية لا تدل على الفساد لعدم الملازمة بين التحريم والافساد ولذا يقول من يجوّز اجتماع الأمر والنهي بصحة صلاة من صلّى في الدار المغصوبة مع أنه منهي عنها ، والقائل بالمنع أيضا لا يقول بالفساد من جهة دلالة النهي على مانعية الغصب للصلاة بل من جهة عدم إمكان تعلق الأمر بما هو منهي عنه فعلا منجّزا ، وحيث لا أمر فلا موافقة فلا صحّة ، وربما التزم بعضهم بصحّتها على هذا القول أيضا.

والحاصل أنّه لو لم يكن هناك وضع وكان مرجع الشرطية والجزئية والمانعية إلى الأمر المولوي والنهي المولوي كانت هذه الكلمات من قبيل الخرافات ، إذ يكون حينئذ كل أمر مولوي يصح أن ينتزع منه الجزئية والشرطية ، وكل نهي مولوي يصح أن ينتزع منه المانعية للمركب وبطل تفصيلهم بين المولوي

١٤٦

والارشادي على ما عرفت وهو كما ترى ، بل نقول في خصوص الشرطية والجزئية والمانعية لا بدّ أن تكون مجعولة متأصلة ، ولا يعقل كونها انتزاعية من الأحكام التكليفية ، وذلك لأنه لو لم يكن من الآمر سوى التكليف باتيان كل جزء وشرط وترك كل مانع لم يمكن الحكم بفساد ما أتى به من المركب بسبب عصيان المأمور في شيء آخر لا ربط له به ، وكان أجزاء المركب وشرائطه واجبات متعددة مستقلّة وموانعه محرّمات مستقلة فمن أين يجيء الانتفاء عند الانتفاء الذي يلزم من الشرطية والجزئية والانتفاء عند الوجود الذي يلزم من المانعية ، وكيف ينتزع العقل معنى غير حاصل ، بل هو يشبه الكذب وهذا إلزام لا مفر منه ، اللهمّ إلّا أن يلتزم بما التزم في بعض نظائرها من أنّ الشرطية والجزئية والمانعية امور واقعية قد كشف عنها الشارع وهذا ممّا لا يرضى به اللبيب العاقل.

فإن قلت : إنما يجيء الفساد عند مخالفة بعض التكاليف المذكورة من قبل تكليف نفسي آخر ، وهو أنّ الآمر كما أنه أمر باتيان كل جزء وشرط ونهى عن إتيان كل مانع على حدة ، كذلك أمر بكون امتثال هذه التكاليف مجتمعا لا متفرقا ومن هنا جاء الفساد عند تفريقها وموافقة بعض دون بعض.

قلت : إنه لو اعتبر وصف الاجتماع والارتباط بجعل مستقل ثم أمر باتيانها بهذا الوصف فهذا عين الحكم الوضعي لا نعني به غير ذلك وإلّا لزم صحة الجزء الذي أتى به وتحقق عصيان ما خالفه من الأوامر والنواهي ، ومنها الأمر بكون الواجبات والمحرّمات المعدودة المعينة مجتمعا فإن عصيان هذا التكليف أيضا لا يوجب سوى الاثم لا بطلان الجزء المأتي به.

وبالجملة : إنّا نجد الفرق بين ما أوجب المولى المطاع إكرام كل عالم ولو بأمر واحد بسيط من دون اعتبار ربط بين إكرام آحاد كل عالم مع الباقي فإنها واجبات مستقلة ومطلوبات متعددة إنشاؤها بانشاء واحد ، وبين ما أوجب

١٤٧

إكرامهم بحيث يكون المجموع واجبا واحدا ومطلوبا متحدا ويكون إكرام كل واحد داخلا في المطلوب نظير المركبات الخارجية ، وحيث إنّ إكرام زيد وإكرام عمرو وبكر إلى آخر الأفراد أفعال متعددة لا ربط بينها بحسب نفس الأمر لا جرم يكون هذا الارتباط باعتبار الآمر.

فإن قلت : مجرد هذا الاعتبار كيف يؤثّر في الربط بل هو مجرد فرض من الفارض.

قلت : لو كان هذا الاعتبار من المولى المطاع يؤثّر في حصول الربط عند العقلاء كما أنّ إيجابه يؤثّر عندهم في حصول الوجوب وإلّا فايجاب العبد أيضا لا يؤثّر في حصول الوجوب على مولاه عند العقلاء ، وبما ذكرنا يحصل الفرق بين المركبات الارتباطية كالصلاة والحج والمركبات غير الارتباطية كأداء الدين والزكاة ولو لم يكن هناك ربط جعلي كانتا بمثابة واحدة ، هذا.

وقد يوجّه مراد المصنف وغيره من المنكرين بوجه دقيق : وهو أنّ المطلوب في المركبات الارتباطية وجود خاص للأجزاء لا يحصل إلّا بوجود الكل نظير ما لو قال جئني بزيد فانه لم يأمر إلّا باحضار زيد الخاص لا باحضار الحيوان والناطق مربوطا كل منهما بالآخر ولا باحضار رأس زيد ويده ورجله وسائر أعضائه مرتبطا بعضها ببعض ، وإن صح للعقل انتزاع هذا المعنى إلّا أنه ليس بمراد ، مع أنّ المطلوب لا يحصل إلّا باحضار المركب المذكور ، وكذا لو قال اعتق رقبة مؤمنة فإنه أمر بعتق رقبة خاصة وهي المؤمنة لا رقبة ومؤمنة مع ملاحظة ربط بينهما واتّصاف الرقبة بالايمان ، فيقال في مثل الصلاة أيضا إنّه أمر بأفعال خاصة من دون ملاحظة ربط بينها ، لكن الخصوصية صارت منشأ لعدم مطلوبية بعض الأجزاء منفردا عن الباقي كأن يقال إنّ المطلوب من تكبيرة الاحرام وجود خاص منها وهو وجودها الملحوق بالقراءة والركوع والسجود والتشهّد والتسليم

١٤٨

المقترن بالطهارة والستر والقبلة إلى آخر الأجزاء والشرائط وهكذا في جميع الأجزاء ، فلو لم يأت المكلّف بسائر الأجزاء والشرائط لم يأت ما هو المطلوب من التكبيرة أي الوجود الخاص بل أتى بخاص غيره ، ومن هنا يجيء الفساد لا أنه اعتبر بين الأجزاء وكذا بينها وبين الشرائط ربطا باعتباره يحكم بالفساد.

وفيه أوّلا : أنّ ما ذكر صحيح في المركبات الخارجية التي تكون مركبات حقيقية كالمثالين المذكورين ، وليس كذلك ما نحن فيه فإن أفعال الصلاة أفعال مستقلّة ذهنا وخارجا فلو لم يعتبر هناك ربط بينها فمن أين تأتي الخصوصية المذكورة.

وثانيا : أنّ لازم البيان المذكور أن تكون الصلاة واجبات كثيرة بعدد أجزائها غاية الأمر أنّ المطلوب من كلّ واحد منها وجوده الخاص الذي مع وجود الباقي ، فعند الاتيان بجميع الاجزاء يحصل امتثال جميع تلك الواجبات وعند ترك أحد الأجزاء يحصل مخالفة جميع تلك الواجبات ويستحق عقابات متعدّدة بعدد الأجزاء الواجبة وهذا ممّا لا يلتزمه أحد في المركبات الارتباطية.

تنبيه : ما ذكرنا في تصوير جعل الجزئية والشرطية قد اعترف به المصنف صريحا في أوائل مسألة الأقل والأكثر من رسالة البراءة ، إلّا أنه أنكر أن يكون مراد القائلين بمجعولية الأحكام الوضعية ذلك ، وقد أشرنا هناك أنّ هذا مرادهم لا يريدون غيره ، وممّا يؤيد إمكان جعل الوضع بل يدل عليه جعل العلامات كوضع الألفاظ لمعانيها وكذا الخطوط والعقود وسائر العلامات الجعلية ، إذ لا شك ولا ريب أنّ اللفظ المخصوص قبل وضعه نسبته إلى جميع المعاني بالسوية إلّا على مذهب سليمان بن عباد الصيمري القائل بالمناسبة الذاتية بين اللفظ والمعنى ، ولا شك أيضا أنّه بالوضع يحصل ربط بين اللفظ وما وضع له يسمى بالدلالة ويكون ذلك سببا لانفهام المعنى من اللفظ ، ولم تكن هذه السببية قبل الوضع وإنما حدثت

١٤٩

بوضع الواضع ، وما قيل إن الانفهام المذكور مسبب عن العلم بالوضع لا من نفس الوضع ، مدفوع بأنّ العلم بالوضع شرط في حصول الدلالة ، وذلك نظير التلازم العقلي بين شيئين فإنّ وجود اللازم دال على وجود الملزوم وكاشف عنه بنفسه ولا ينافيه توقّفه على العلم بالملازمة فإن من لم يعلم الملازمة بين النار والحرارة أو الدخان فعلمه بالحرارة أو الدخان ليس سببا لعلمه بوجود النار ، وهذا لا ينافي كونهما من العلامات في حدّ أنفسهما غاية الأمر أنّ الدلالة مشروطة بالعلم بالملازمة ، وكيف كان من تدبّر هذه الامور المذكورة حق التدبّر يجد أنّ مجعولية الأحكام الوضعية من الواضحات ، وبما سيأتي من دفع شبه الخصم يصير الأمر أوضح.

احتج المنكرون أيضا بوجوه منها : الوجدان وهو الذي أشار اليه الماتن في :

قوله : أقول لو فرض نفسه حاكما بحكم تكليفي ووضعي الخ (١).

لم يلتزم المصنف بمقالته هذه في فقهه واصوله بل يتكلم في الأغلب على ممشى من يقول بمجعولية الأحكام الوضعية ويجري على طبقه ، وسيجيء في مسألة الاستصحاب التعليقي تصريح المصنف باستصحاب الملازمة بين غليان العصير وحرمته بعد صيرورته زبيبا ، وكيف ما كان قد ظهر جواب دليله هذا مما سبق من أنه لا معنى للوجوب إلّا الحتم واللزوم على المكلف ولا نعقله سوى أنه اعتبار صحيح يرتضيه العقل والعقلاء وإلّا فلا حقيقة له غير ذلك ، ونحن نرى بعيان الوجدان إمكان اعتبار سببية المجيء لوجوب الاكرام ويرتضيه العقلاء إذا كان هذا الاعتبار صادرا عن مولى مطاع ، وأيّ فرق بينه وبين اعتبار التكليف ، فإن

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٢٨.

١٥٠

صح لك أن تقول إنّا لا نجد سوى التكليف صح لنا أن نعارضك ونقول لا نرى إلّا الوضع في جميع الأحكام ، حتى في مثل أقيموا الصلاة أمكننا أن نقول إنّ المجعول سببية فعل الصلاة للقرب والزلفى والوصول إلى مثوبات الله والفوز إلى السعادة الأبدية ، بل يمكن أن يقال في قوله أكرم زيدا إن جاءك وشبهه من التكاليف المشروطة بأمر غير حاصل حين إنشائها لا يعقل سوى جعل السببية والملازمة بين الشرط والجزاء فيتبعه التكليف بالمشروط.

بيان ذلك : أنه إذا علّق الوجوب على أمر غير حاصل فلا شك في أنه لا يتحقق الوجوب من حين هذا الانشاء لعدم حصول شرطه بالفرض إلّا أن يرجع الواجبات المشروطة بأسرها إلى الواجبات المعلّقة وهو كما ترى وسيتضح فساده ، ولا شك أيضا أنه لا يحتاج تحقق الوجوب عند حصول الشرط إلى إنشاء آخر بخطاب آخر بل يكفي في تحقّقه نفس الانشاء السابق مشروطا ، ولا يكون لذلك معنى إلّا جعل الملازمة بين ذلك الشرط والوجوب وإلّا فمن أين يأتي هذا الوجوب.

لكن لا يخفى أنّ هذا الإشكال وارد على القولين لما ذكرنا سابقا من أنّ التكليف الذي يتبع الوضع بناء على القول بمجعولية الأحكام الوضعية مجعول بجعل مستقل وليس انتزاعيا صرفا كعكسه على القول الآخر ، وحلّه أنّ الواجبات المشروطة إنّما يكون تحصّلها عند حصول الشرط لكن بسبب الانشاء السابق ، فالانشاء السابق يؤثّر في حصول الحكم فيما سيأتي حين تحقق شرطه ، وتمام البيان موكول إلى محله في تصوير الواجب المشروط ، ولعلّنا نتعرّض له في محل مناسب له.

وبالجملة محصّل الجواب عن هذا الوجه : أنّ حال جعل سببية المجيء لوجوب الاكرام حال جعل وجوب الاكرام عند المجيء بحسب الامكان

١٥١

والمعقولية في كون كل منهما أمرين اعتباريين يمكن انشاؤهما من المولى المطاع ، وبانشائه تتحصّل حقيقته الاعتبارية عند العقل والعقلاء وتترتب عليه الآثار ، ومجرد إمكان إرجاع سببية المجيء لوجوب الاكرام إلى جعل وجوب الاكرام عند المجيء لا يوجب إنكار جعل السببية ، مع أنّ القضية الشرطية المذكورة ظاهرة في جعل السببية وإلّا فيمكن إرجاع القضايا الشرطية المسوقة لبيان السببية النفس الأمرية للزوم الجزاء أيضا إلى بيان التكليف مثل قولك إن أهانك زيد فاضربه ، فلا شك أنّ هذه القضية اريد منها علية إهانة زيد للمخاطب لوجوب ضربه مع أنه يمكن إرجاعها إلى إنشاء وجوب الضرب عند الاهانة.

قوله : ولهذا اشتهر في ألسنة الفقهاء سببية الدلوك الخ (١).

لا شاهد فيما استشهد به من إطلاق الفقهاء السببية للدلوك والمانعية للحيض ، أمّا أوّلا : فلأنّ إطلاقهم مبني على الفرض والتقدير والمسامحة غالبا حيث لم يكونوا بصدد تحقيق هذا المطلب. وأمّا ثانيا : فلما ذكرنا سابقا من أنّ الأوامر والنواهي التي تحمل على بيان الشرطية والمانعية أوامر غيرية ونواهي غيرية ، فإن احرز ذلك فالحكم الوضعي نفس مؤدّاها وإلّا فلا تدلّ على الشرطية والمانعية ولا يقولون بالشرطية والمانعية في موردها ، فقولهم بأنّ الحيض مانع عن الصلاة والدلوك سبب لها لأجل ظهور قوله (عليه‌السلام) «دعي الصلاة أيّام أقرائك» (٢) في النهي الغيري ، وظهور قوله تعالى (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ)(٣) في سببية الدلوك (٤).

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٢٨.

(٢) الوسائل ٢ : ٢٨٧ / أبواب الحيض ب ٧ ح ٢.

(٣) الاسراء ١٧ : ٧٨.

(٤) أقول : دعوى الظهور المذكور في الآية محلّ تأمّل بل منع.

١٥٢

قوله : كالمسببية والمشروطية والممنوعية (١).

لا شاهد في هذا أيضا لمدّعاه ، لأنّ المسببية والمشروطية والممنوعية لا تحتاج إلى جعل مغاير لجعل السببية والشرطية والمانعية ، بل جعل السببية عين جعل المسببية وجعل الشرطية والمانعية عين جعل المشروطية والممنوعية ، لأنّ جاعل السببية مثلا إنّما يجعل الملازمة بين وجود شيء ووجود شيء آخر ، فتحصل هنا إضافات كثيرة ويصح به إطلاق المسبّب بالكسر على الفاعل الجاعل باعتبار الاسناد الصدوري والسبب على الملزوم باعتبار النسبة القيامي والمسبب على اللازم باعتبار نسبته من حيث التأثّر ، وهكذا باعتبار نسبته إلى الزمان والمكان مع أنّ حقيقة الأمر المجعول شيء واحد ولا ينافي ذلك حصول جميع هذه الاضافات ، ونظير ذلك يأتي في الحكم التكليفي فإذا أمر المولى عبده بشيء فإنّ مجعوله أمر واحد هو التحتّم واللزوم ويصح بذلك أن يقال إنّ المولى مكلّف بالكسر والعبد مكلّف بالفتح والفعل واجب والزمان مكلّف فيه ، فإنّ هذه الاضافات متحقّقة جزما لكنّها ليست مجعولات متعدّدة مختلفة بل تكون حقيقتها المجعولة أمرا واحدا يصحّح تلك النسب بأجمعها وهذا واضح.

قوله : بل هو إخبار عن تحقق الوجوب عند الدلوك (٢).

إن أراد به أنّه إخبار عن السببية الجعلية ، فمع أنه يرجع إلى الاعتراف بالحكم الوضعي ، لا وجه لجعله إخبارا لم لا يكون إنشاء له ، وإن أراد أنه إخبار عن السببية الواقعية فهو كذب لأنه خلاف المفروض ، وإن أراد أنه إخبار عن الوجوب فمع أنه خلاف ظاهر القضية لا داعي إلى حمله على الاخبار فليكن

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٢٨.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ١٢٨ ـ ١٢٩.

١٥٣

انشاء للوجوب. ومنها أي ومن أدلّة المنكرين ما أشار إليه المصنّف في :

قوله : مضافا إلى أنه لا معنى لكون السببية مجعولة الخ (١).

ظاهر سوق هذا الدليل وإن كان مختصا بالسببية إلّا أنه يجري في الشرطية والمانعية لا يخفى كيفية سوقها. وجوابه أنه إنما يتم لو اريد من السببية المتنازع فيها السببية الواقعية ، وأمّا إذا اريد منها السببية الجعلية التشريعية فإنها تحصل بنفس الجعل والتشريع وحقيقتها عين اعتبارها اعتبارا صحيحا يعتبره العقلاء ويرتّبون عليه الآثار على نحو الاعتبار المعتبر عندهم في جعل الأحكام التكليفية كما تقدم ، وإن شئت توضيحه فلاحظ السببية التي يجعلها الجاعل في الجعالة فإنّ قوله من ردّ عبدي فله عليّ الف درهم انشاء لجعل سببية ردّ العبد لاستحقاق الألف على الجاعل ، بمعنى اعتبار هذه السببية في نظره ، وإذا كان الجاعل شخصا وفيا صادق الوعد عند العقلاء فلا ريب أنّهم بعد هذا الجعل يعتبرون هذه السببية وإلّا فلا.

ومما ذكرنا ظهر اندفاع ما قيل من أنّ السببية عبارة عن ربط خاص بين السبب والمسبّب يقتضي وجود المسبب عند وجود السبب ، والمفروض في محل البحث عدم تحقق هذا الربط بين الدلوك ووجوب الصلاة واقعا ، فلو صح جعل الربط الكذائي بينهما لكان كل شيء سببا لكل شيء لاشتراكها في عدم الربط الخاص.

توضيح الاندفاع : مضافا إلى النقض بالأحكام التكليفية فإنّ الصلاة التي لم تكن معروضا للوجوب واقعا بدون الايجاب لا تصير معروضا للوجوب بالجعل وإلّا لكان كل شيء معروضا للوجوب لاشتراكها في عدم كون عروض وصف

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٢٩.

١٥٤

الوجوب مقتضى ذاتها ، بل يجري النقض في الأعراض الخارجية بالنسبة إلى معروضها كالسواد للجسم مثلا ، أنّ الربط الخاص الاعتباري يحصل بنفس إنشائه ولا يلزمه أن يكون كل شيء سببا لكل شيء لم يعتبر هذا الربط الخاص بينهما بانشاء المعتبر وإلّا فكل شيء اعتبر المعتبر هذا الربط بينه وبين شيء آخر يكون سببا له بالمعنى المذكور.

واندفع أيضا ما قيل من أنّ سببية الدلوك للايجاب لو كانت مجعولة فلا يخلو من أن يكون الايجاب أيضا مجعولا قبل جعلها أو معه أو بعده أو لا يكون مجعولا ، والكل باطل لأنه على الأول يلزم تقدم المعلول على علته ، وعلى الثاني والثالث يلزم عدم كون السبب سببا وإلّا لم يحتج إلى الجعل ، وعلى الرابع يلزم مقهورية الباري تعالى في إرادته لحصول الايجاب من دون إرادته وجعله.

توضيح الاندفاع : أنّا نختار الشق الرابع ونقول إن الايجاب هنا ليس مجعولا بجعل على حدة وإنما هو مجعول تبعا لجعل السببية نظير جعل إيجاب الشيء الذي يتبعه إيجاب مقدمته وحرمة ضدّه على القول بهما ، ولا يلزم مقهورية الجاعل لأن المقدور بالواسطة مقدور ، والأفعال التوليدية من فعل الفاعل المختار تسند إليه وتعدّ من أفعاله الاختيارية.

ثم لا يخفى أنّ السببية إنما يعقل وضعها بالنسبة إلى التكليف كسببية الدلوك للايجاب ، والجزئية إنما يعقل وضعها بالنسبة إلى المكلّف به كجزئية السورة للصلاة ، وأمّا الشرطية والمانعية فيمكن اعتبارهما بالنسبة إلى التكليف كشرطية البلوغ والعقل للتكاليف مطلقا ، وشرطية الاستطاعة للتكليف بالحج ومانعية الحيض والنفاس للتكليف بالصلاة ، ويمكن اعتبارهما بالنسبة إلى المكلّف به كشرطية الطهارة والستر والقبلة للصلاة ومانعية الحدث والاستدبار والتكفير لها.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنه ذهب بعض المحققين من المعاصرين في هذا

١٥٥

المقام إلى أن السببية والشرطية والمانعية بالنسبة إلى أصل التكليف غير معقولة مطلقا لا جعلا ولا انتزاعا ، لكن الشرطية والمانعية وكذا الجزئية بالنسبة إلى المكلّف به معقولة انتزاعا لا جعلا ، واستدل على عدم قابلية الجعل في المقامين ببعض الوجوه المتقدمة التي أشرنا إليه مع جوابه ، وقال في بيان عدم معقولية السببية والشرطية والمانعية للتكليف انتزاعا ما لفظه : أنه لا يصح أن ينتزع السببية حقيقة للدلوك مثلا عن خطاب إيجاب الصلاة عنده كما يصح انتزاع الجزئية أو الشرطية حقيقة لما اخذ فيها شطرا أو شرطا ، ضرورة عدم اتّصاف الدلوك بها حقيقة كيف وإلّا يلزم تأخر السبب عن المسبب ، نعم يصح أن يقال إنّه سبب مجازا استعارة أو مجازا مرسلا فتفطّن ، انتهى.

توضيحه : أنّ ماهية السبب بهذا الوصف العنواني قد اخذ فيها التقدم الطبعي على المسبب ، فلو فرض صحة انتزاع السببية للدلوك عن خطاب إيجاب الصلاة عند الدلوك لزم تأخر السبب بوصفه العنواني عن مسببه وهو الايجاب ، ضرورة تأخر المنتزع عن المنتزع منه طبعا ، فيلزم تأخر الشيء عن نفسه بمرتبتين وهو بديهي الفساد.

وقال في بيان معقولية الجزئية والشرطية والمانعية للمكلف به انتزاعا ما لفظه : أنّ إيجاب مركب خاص يوجب قهرا اتصاف كل واحد من أجزائه بالجزئية للواجب وما به خصوصية من القيود بالشرطية والمانعية ، ويكون إنشاء إيجابه انشاء لها تبعا كما كان له أصالة ، انتهى.

وفيه نظر أمّا أوّلا : فلما مر من معقولية الجعل أصالة في المقامين فضلا عن الانتزاع والتبعية ، وقد عرفت توجيهها مفصّلا.

وأمّا ثانيا : فلأنّ ما ذكره في وجه عدم معقولية الانتزاع في القسم الأول جار في القسم الثاني ، كما أنّ ما ذكره في وجه معقولية الانتزاع في القسم الثاني

١٥٦

جار في القسم الأول.

أمّا الأول : فلأنه كما أنّ عنوان السبب مقدّم على المسبب بحقيقته طبعا كذلك عنوان الجزء بحقيقته مقدّم طبعا على عنوان المأمور به المركب بوصف أنه مأمور به ، فلو كانت الجزئية منتزعة من التكليف المتعلق بمجموع الأجزاء لزم تأخرها طبعا عن الأمر وعن المأمور به بوصف أنه مأمور به وهو المحذور ، نعم ذات المركب المأمور به من دون وصفه العنواني متقدمة على الأمر كذات الجزء ، لكن لا يصدق على ذات أجزاء المركب قبل الأمر وقبل اتصافها بوصف كونها مأمورا بها الكل والمركب لينتزع عنه جزئية كل واحد من أجزائه.

وأمّا الثاني : فلأنه كما أنّ إيجاب مركب خاص يوجب قهرا اتصاف كل واحد من أجزائه بالجزئية للواجب كذلك إيجاب الصلاة عند الدلوك يوجب قهرا اتصاف الدلوك بالسببية للوجوب ، لأنه يصدق أنّ به تحقّق الوجوب الذي لم يكن قبله. وبعبارة اخرى : أنّ انتزاع الجزئية لم يكن إلّا لأجل أخذ الآمر للجزء داخلا في موضوع ما أمر به ثم أمر به ، ونظير هذا المعنى متحقق بالنسبة إلى سببية الدلوك للايجاب. وإن شئت فعبّر شرطية الدلوك له فإنهما من واد واحد ، لأنّ الدلوك أيضا قد اعتبر في الموضوع وقتا ثم امر به ، فيصح انتزاع السببية أو الشرطية للدلوك بالنسبة إلى التكليف وهو المراد.

وأمّا ثالثا : فلأنّ ما ذكره من لزوم تقدم المسبب على السبب مدفوع بأنّ ذات السبب الذي هو معروض للسببية الانتزاعية مقدمة على مسبّبه ، وهذا هو المراد من تقدّمه الطبعي ، ولا يقدح فيه أنّ نفس الانتزاع متأخر عن ذات السبب والمسبب.

١٥٧

قوله : وأمّا الصحّة والفساد ـ إلى قوله ـ ليستا بجعل جاعل (١).

يعني أنّ الموافقة أو المخالفة إنما هي بحكم العقل وليست قابلة للجعل.

وفيه نظر يعرف مما مر في مطاوي الأبحاث السابقة في أواخر رسالة البراءة وأوائل الاستصحاب ونشير إليه هاهنا أيضا إجمالا فنقول : إنّا لا ننكر الصحة والفساد العقليين بمعنى موافقة المأتي به للمأمور به ومخالفته له ، ولكن يتصور الصحة الشرعية في موارد لا يحكم العقل بذلك منها : ما إذا حكم الشارع بقيام غير المأمور به مقام المأمور به والاكتفاء به في مقام الامتثال بدلا عن المأمور به ، فإنّ ذلك الفعل يتّصف بالصحة شرعا لا عقلا ، مثاله أنّ الشارع اكتفى بالصلاة الناقصة بغير الأركان سهوا عن الصلاة التامة بقوله (عليه‌السلام) «لا تعاد الصلاة إلّا من خمسة» (٢) وبحديث الرفع ، فإنّ الحكم بصحة المركب الناقص والاكتفاء به عن التامّ وعدم وجوب إعادته تاما شرعي لا محالة ، لأنّ العقل لو خلي ونفسه يحكم بالفساد لعدم الاتيان بالمأمور به ، لكن هذا إنما يتم بناء على عدم كون المركب الناقص مأمورا به حال السهو وإلّا فيرجع إلى الصحة العقلية كما لا يخفى ، وقد مرّ سابقا محتملات المسألة وتحقيقها مفصّلا والمقصود هنا الاشارة.

ومنها : الحكم بالصحة التي نستفيدها من حجية الاصول والأمارات فإنّ الصحّة هناك شرعية لا محالة ، مثاله أنّا نحكم بصحة صلاة مستصحب الطهارة من الحدث والخبث أو الصلاة في ثوب حكم بطهارته وحلية الصلاة فيه من جهة المأكولية أو التذكية بدليل اعتبار قول ذي اليد واعتبار يد المسلم أو سوق

__________________

(١) فرائد الأصول ٣ : ١٢٩.

(٢) الوسائل ٧ : ٢٣٤ / أبواب قواطع الصلاة ب ١ ح ٤.

١٥٨

المسلمين ، فإنّ العقل لمكان الجهل بحصول الشرط في الواقع لا يحكم بالصحة وإنما حكم بها الشرع بدليل جعله الاستصحاب وقول ذي اليد واليد والسوق حجة ، والفرق بين هذه الصورة والصورة الاولى أنّ الصحة في الصورة الاولى ثابتة حتى مع انكشاف الواقع وأنّ العمل مخالف له بخلاف الصورة الثانية فإنه مع انكشاف الخلاف يحكم بالفساد إلّا على مذهب من يقول بأنّ الأمر الظاهري مقتض للاجزاء.

قوله : فهذه الامور بنفسها ليست أحكاما شرعية ، نعم الحكم بثبوتها شرعي (١).

هذا الكلام متهافت باعتبار صدره وذيله ، لأنّه لا معنى لكون الامور المذكورة شرعية إلّا أنّ الحكم بثبوتها شرعي ، اللهمّ إلّا أن يقال إنّ المراد أنّ الكاشف عن ثبوتها شرعي فإنها إن كانت امورا واقعية فقد كشف عنها الشارع وإلّا لم يكن طريق إلى إدراكها ، وإن كانت امورا انتزاعية فقد أخبر الشارع بصحة انتزاعها كذلك فتأمّل.

قوله : وثالثة (٢).

ورابعة وهو أنه قد يشك في الموقّت أنه هل أتى بالمأمور به أم لا والوقت باق بعد ، فإنّ ذلك محل الاستصحاب ، وما يقال إنّ الاستصحاب غير محتاج إليه في المقام لأنّه من مجاري قاعدة الاشتغال المتفق عليها وهي كافية في المطلوب ، مدفوع بعدم المنافاة ، ولا ضير في جريان القاعدتين وإن كانت إحداهما مغنية عن الاخرى ، وسيأتي وجه صحة جريانهما معا ، خلافا للماتن (رحمه‌الله) فإنه تارة

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٣٠.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ١٣١.

١٥٩

يذهب إلى تقديم القاعدة على الاستصحاب واخرى إلى عكسه.

قوله : وأمّا الشك في ثبوت هذا الحكم الموقّت لكل يوم أو نسخه في هذا اليوم الخ (١).

اعلم أنّه فرق بين النسخ والتخصيص في الأزمان ، لأنّ التخصيص يكشف عن أنّ الحكم من الأول كان مخصوصا بغير المخرج بحسب إرادة المتكلّم بخلاف النسخ فإنه رافع لاستمرار الحكم الذي أراده المتكلّم من الأول ، وبالجملة التخصيص من قبيل الدفع والنسخ من قبيل الرفع.

ثم اعلم أنّ الدليل الدالّ على عموم استمرار أحكام شرعنا إلى يوم القيامة هو قوله (عليه‌السلام) «حلال محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حلال إلى يوم القيامة وحرامه (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حرام إلى يوم القيامة» (٢) أو ما يؤدّي هذا المعنى ، فكلّما ثبت النسخ في حكم فإنه مخصص لهذا العموم.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنه إذا شك في نسخ الحكم الموقت باعتبار دوامه واستمراره لكل يوم مثلا فالأمر كما ذكره في المتن لا محل للاستصحاب فيه في شيء ، لأنّ عموم قوله (عليه‌السلام) «حلال محمّد (صلى‌الله‌عليه‌وآله) حلال إلى يوم القيامة» متكفّل لدفع الشك ولا يحتاج إلى الاستصحاب ، وأمّا إذا شك في نسخ الحكم الموقت في أثناء الوقت كما لو قال اجلس في المسجد من الزوال إلى الغروب وحصل الشك عند وقت العصر في نسخ هذا الحكم بالنسبة إلى بقية المدة فإنّ إثبات بقاء وجوب الجلوس إلى وقت المغرب لا يكون إلّا بالاستصحاب ، إذ لا عموم يتكفّل لعدم النسخ في أثناء الوقت ، وما يتوهم أنّ دليل أصل الحكم وهو

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ١٣١.

(٢) الكافي ١ : ٥٨ / ١٩.

١٦٠