دراسات في الأصول - ج ٤

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-95-8
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٤٨٠

وصيرورة ماء الحوض كرّا بحسب حكم الشرع لا يبقى مجال للشكّ في طهارة الثوب المغسول به ، فلا حاكميّة ولا محكوميّة في البين ، فالدليل الثاني ليس بتامّ ، فيكون جواز تصرف المالك في ملكه مستندا إلى قاعدة السلطنة بعد عدم جريان قاعدة لا ضرر بلحاظ الانصراف عن المورد.

وأمّا إذا كان تصرّف المالك إضرارا بالغير وتركه حرجا للمالك ، مثل إيجاد حديقة صغيرة في زاوية داره ؛ ضرورة أنّ منعه عن ذلك حرج عليه وإن لم يوجب ضررا ماليّا ، فقال بعض بتقدّم قاعدة لا حرج على قاعدة لا ضرر ، وجواز تصرّفه فيه ، والتقدّم على المعنى الذي ذكرناه واضح ؛ لعدم اختصاص قوله : (ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) بالأحكام الإلهيّة ، بل يشمل الأحكام النبويّة أيضا ؛ لكونها من الدين ونظارته إليهما ليس قابلا للإنكار ، فيكون حاكما في صورة التعارض.

وأمّا على المعنى المشهور فلا وجه للتقدّم ؛ لكونهما حكمين إلهيّين بالعنوان الثانوي في مقام الإخبار ، أحدهما ينفي تشريع الحكم الضرري ، والآخر ينفي تشريع الحكم الحرجي ، هذا تمام الكلام في قاعدة لا ضرر.

٨١
٨٢

الاستصحاب

٨٣
٨٤

تعريف الاستصحاب

لقد ذكرت للاستصحاب تعاريف مختلفة لا تخلو من إشكال ، بل إشكالات ، بل يرى في نفس هذه التعاريف نوع من التناقض والتهافت ؛ ولا بدّ لنا قبل الورود في التعريف من بيان موقعيّة الاستصحاب وهل هو أصل أو أمارة؟

في أنّ الاستصحاب أصل أم إمارة :

لا شكّ في طريقيّة خبر الواحد وكاشفيّته وأماريّته ، ولا نتوهّم أن يكون من الاصول العمليّة ، إنّما الكلام في أنّه هل يكون طريقا شرعيّا وأمارة شرعيّة أم لا؟ كما أنّه لا شكّ لنا في كون أصالة الطهارة من الاصول العمليّة ومبيّنة لوظيفة المكلّف حين الشكّ والحيرة ، ولا نتوهّم أماريّته وكونه طريقا إلى الواقع.

ولكن الشكّ في أنّ الاستصحاب أصل من الاصول العمليّة أو أمارة وطريق إلى الواقع أو ينطبق عليه عنوان آخر؟ فلا بدّ لتوضيح ذلك من تحقيق الاحتمالات في المسألة.

الاحتمال الأوّل : أن يكون أصلا عمليّا جعله الشارع وظيفة للشاكّ الذي له يقين بالحالة السابقة ، كما أنّه جعل أصالة الطهارة قاعدة لبيان وظيفة الشاكّ الذي لا علم له بالحالة السابقة ، كذلك الاستصحاب جعل قاعدة لبيان وظيفة الشاكّ بالحالة السابقة ، فلا كاشفيّة له ولا أماريّة أصلا ، وعلى هذا يقع الكلام في أنّه أصل عملي شرعي كأصالة الطهارة وأصالة الحلّيّة ، أم أصل عقلائي؟ بمعنى أنّ العقلاء بما هم عقلاء يبنون على بقاء الحالة السابقة على حالها ، ولعلّ

٨٥

أصالة عدم النقل أيضا تكون من هذا القبيل.

الاحتمال الثاني : أن يكون الاستصحاب من الأمارات ، وكانت له كاشفيّة وطريقيّة إلى الواقع ، مثل طريقيّة خبر الواحد إلى الواقع ، وعلى هذا يمكن أن يكون طريقا شرعيّا محضا من دون أيّ دخل لسيرة العقلاء ، ويمكن أن يكون طريقا عقلائيّا أمضاه الشارع كما أمضى طريقيّة خبر الواحد.

الاحتمال الثالث : أن يكون الاستصحاب وظيفة مجعولة للشاكّ الكذائي للتحفّظ على الواقع ، نظير ما قال به الأخباريّون من الاحتياط في الشبهات البدويّة ، وكما أنّ الاحتياط في شرب المشكوك بالشكّ البدوي يكون للتحفّظ على الواقع ، كذلك الاستصحاب يكون للتحفّظ على الواقع.

الاحتمال الرابع : أن يكون الاستصحاب حكما من أحكام العقل ، ولكنّ حكم العقل قد يكون حكما عقليّا مستقلّا ، وهو ما يعبّر عنه بالمستقلّات العقليّة كحكمه بأنّ الظّلم قبيح ، وقد يكون حكما عقليّا غير مستقلّ بمعنى أنّ حكم العقل يحتاج إلى ضميمة مقدّمة من الشارع ، كحكم العقل بالملازمة بين وجوب المقدّمة وذيها ، فإنّه حكم عقليّ غير مستقلّ ؛ لاحتياجه إلى بيان الشارع في الأمر بالصلاة أوّلا بقوله : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) ، ثمّ حكم العقل بتحقّق الملازمة بين وجوب الشرعيّ الصلاة ووجوب شرعيّ الوضوء ، من باب المقدّمة ، فيمكن أن يكون الاستصحاب من هذا القبيل ، فكما أنّ العقل حاكم بتحقّق الملازمة بينهما كذلك إذا تيقّنت بوجوب صلاة الجمعة ـ مثلا ـ في عصر الحضور وشككت في وجوبه في عصر الغيبة يحكم العقل بتحقّق الملازمة بين وجوبها في زمان الحضور ووجوبها في زمان الغيبة.

وبعد الفراغ من بيان الاحتمالات في موقعيّة الاستصحاب فلنبدأ في بيان التعاريف المناسبة لها.

٨٦

تعريف الشيخ الأنصاري للاستصحاب

قال الشيخ الأنصاري رحمه‌الله : «وعند الاصوليّين عرّف بتعاريف أسدّها وأخصرها : إبقاء ما كان» (١).

يحتمل أن يكون المراد من الإبقاء في التعريف هو الإبقاء بحكم الشارع ، ويحتمل أن يكون المراد منه إبقاء المكلّف وجريه على طبق الحالة السابقة في مقام العمل.

وعلى أيّ تقدير أنّ هذا التعريف يناسب الاستصحاب إذا كان أصلا من الاصول العمليّة ظاهرا ، ولا يناسب أماريّته وكاشفيّته أصلا ؛ إذ لا طريقيّة لإبقاء ما كان إلى الواقع ، سواء كان بحكم الشارع أو عمل المكلّف على طبق الحالة السابقة ، كما أنّ الطريقيّة في خبر الواحد ـ مثلا ـ لا ترتبط بعمل المكلّف على طبق خبر العادل ولا بحكم الشارع بتصديقه ، بل ترتبط بنفس خبر محمّد بن مسلم ـ مثلا ـ حيث إنّه رجل عادل يكون خبره طريقا إلى الواقع وكاشفا عنه.

فعلى القول بأماريّته لا بدّ من تعريفه بأنّه : عبارة عن اليقين السابق الملحوق بالشكّ ؛ فإنّ اليقين بهذا الوصف يفيد الظنّ بالبقاء وكاشف عن الواقع ، بمعنى

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٩.

٨٧

كون الشيء متحقّقا ومتيقّنا في السابق وبضميمة الشكّ في البقاء يفيد الظنّ بالبقاء.

وأمّا على القول بكونه وظيفة مجعولة للشاكّ للتحفّظ على الواقع فلا بدّ من تعريفه بأنّه عبارة عن الشكّ المسبوق باليقين ، بمعنى أنّ الشكّ مع هذا الوصف يوجب تنجّز الواقع وحجّة على الواقع ، ويوجب استحقاق العقوبة على المخالفة ، كما أنّ الاحتمال في الشبهات البدويّة على القول بوجوب الاحتياط يكون كذلك.

وأمّا على القول بكونه حكما عقليّا غير مستقلّ فلا بدّ من تعريفه بأنّه : عبارة عن الملازمة بين كون الشيء في السابق متيقّنا وكونه في اللاحق مشكوكا.

وأشار المحقّق الخراساني قدس‌سره إلى ما ذكرناه في حاشيته على الفرائد بقوله : «لا يخفى أنّ حقيقة الاستصحاب وماهيّته يختلف بحسب اختلاف وجه حجّيّته ، وذلك لأنّه إن كان معتبرا من باب الأخبار كان عبارة عن حكم الشارع ببقاء ما لم يعلم ارتفاعه ، وإن كان من باب الظنّ كان عبارة عن ظنّ خاصّ به ، وإن كان من باب بناء العقلاء عليه عملا تعبّدا كان عبارة عن التزام العقل به في مقام العمل (١).

فصرّح بأنّه لا يكون للاستصحاب تعريف جامع ينطبق على جميع المباني والاحتمالات المذكورة.

ويرد على تعريف الاستصحاب ب «إبقاء ما كان» ـ كما قال به الشيخ الأنصاري قدس‌سره ـ إشكالان :

__________________

(١) درر الفوائد : ٢٨٩.

٨٨

الأوّل : أنّه لا يمكن الجمع بين هذا التعريف وجعل النزاع في هذا الباب بأنّه هل الاستصحاب حجّة أم ليس بحجّة؟ فإنّ معناه أنّ إبقاء عمل المكلّف ودوامه على إتيان صلاة الجمعة ـ مثلا ـ في عصر الغيبة حجّة أم لا؟ أو أنّ حكم الشارع ببقاء ما كان حجّة أم لا؟ أو أنّ حكم العقل بالبقاء هل هو حجّة أم لا؟ بناء على الاحتمالات المذكورة ، وهذا ممّا لا يصحّ ولا يمكن القول به.

فإن كان المأخوذ في عنوان النزاع كلمة الحجّة فلا بدّ من جعل الاستصحاب من الطرق والأمارات ، والبحث بأنّ اليقين الملحوق بالشكّ هل هو حجّة أم لا؟ كما أنّه على القول بكونه قاعدة لتحفّظ الواقع يصحّ البحث بأنّ احتمال بقاء الشكّ المسبوق باليقين حجّة أم لا؟ بمعنى أنّه منجّز للواقع على تقدير الإصابة ، ومعذّر على تقدير عدم الإصابة ، فلا مناسبة بين تعريف الاستصحاب بإبقاء ما كان وجعل النزاع في حجّيّته.

الثاني : أنّه لا يمكن الجمع بين هذا التعريف وجعل النزاع في باب الاستصحاب من المسائل الاصوليّة ، بمعنى وقوعه في قياس استنباط الأحكام على القول بكون الإبقاء بمعنى جري المكلّف ودوامه على طبق الحالة السابقة ؛ إذ لا بدّ على هذا من تشكيل القياس بأنّ «وجوب صلاة الجمعة مشكوك البقاء ، والمكلّف يعمل ويأتي بصلاة الجمعة في عصر الغيبة ، فصلاة الجمعة واجبة في عصر الغيبة» وما يستفاد من هذا القياس لا يكون حكما شرعيّا.

نعم ، على القول بكون الإبقاء حكما شرعيّا يصحّ وقوع الاستصحاب في قياس استنباط الحكم الشرعي ، وتشكيل القياس بأنّ «وجوب صلاة الجمعة مشكوك البقاء ، وحكم الشارع ببقاء ما كان في السابق ، فوجوب صلاة الجمعة

٨٩

حكم الشارع ببقائه في عصر الغيبة» ، وعلى هذا يكون النزاع والبحث في باب الاستصحاب من المسائل الاصوليّة ؛ كما أنّه على القول بكونه أمارة أو قاعدة للتحفّظ على الواقع يكون مسألة اصوليّة ، نظير خبر الواحد ، وقاعدة الاحتياط.

وممّا التزم به الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره أنّ من خواصّ المسألة الاصوليّة أنّ تطبيقها في المورد وتشخيص مواردها فعل المجتهد ؛ ونحن نقول : إنّه ليس بصحيح ، فإنّ تشخيص موارد قاعدة «ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده» ـ مثلا ـ وقاعدة «لا ضرر» أيضا من أفعال المجتهدين ، ولا يتمكّن المقلّد من تشخيصها ، مع عدم كونها من المسائل الاصوليّة.

تنبيه :

والظاهر انحصار موضوع علم الاصول بالأدلّة الأربعة ، أي الكتاب بما أنّه دالّ على الحكم الشرعي ، والسنّة بما أنّها قائمة على الحكم الشرعي ، وهكذا العقل والإجماع عبارة عن الموضوع ، كما هو المعروف ، فلا بدّ من جزئيّة الاستصحاب لأحدها ، فيحتمل في بادئ النظر أن يكون الاستصحاب بما أنّه سنّة من الأدلّة الأربعة ، بلحاظ كون منشأ الاستصحاب ومناطه الروايات المشتملة على كلمة «لا تنقض».

ولكنّه ليس بصحيح ؛ إذ لا يمكن القول بأنّ دليل وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة ـ مثلا ـ عبارة عن السنّة على فرض إثباته بالاستصحاب ، فإنّ دلالة السنّة على الوجوب تكون بواسطة الاستصحاب ، والدليليّة ترتبط بالواسطة لا بالسنّة ، فإنّها دليل لحجّيّة الاستصحاب واعتباره لا لوجوب الصلاة ؛ كما أنّ ظاهر الكتاب مثل آية النّبأ لا يكون دليلا لحرمة شرب التتن

٩٠

المستفادة من خبر زرارة ـ مثلا ـ ؛ لعدم كونه دليلا على الحكم ، بل يكون دليلا على الدليل ، وخبر الواحد المعتبر به دليل على الحكم ، فلا يكون الاستصحاب من الأدلّة الأربعة ، ولا بدّ لنا من القول بعدم انحصار الأدلّة بالأربعة كما قال به استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره(١).

تتمة

يؤيّد ما ذكرناه في باب الاستصحاب ما ذكره السيّد بحر العلوم قدس‌سره حيث جعل الاستصحاب دليلا على الحكم في مورده ، وجعل قولهم عليهم‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» دليلا على الدليل ، نظير آية النّبأ بالنّسبة إلى خبر الواحد حيث قال : «وليس عموم قولهم عليهم‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» (٢) بالقياس إلى أفراد الاستصحاب إلّا كعموم آية النّبأ بالقياس إلى آحاد الأخبار المعتبرة (٣).

واعترض عليه الشيخ الأنصاري قدس‌سره بقوله : «معنى الاستصحاب الجزئي في المورد الخاصّ كاستصحاب نجاسة الماء المتغيّر ـ ليس إلّا الحكم بثبوت النجاسة في ذلك الماء النجس سابقا ، وهل هذا إلّا نفس الحكم الشرعي؟! وهل الدليل إلّا قولهم عليهم‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ؟» (٤).

ولا يخفى عليك صحّة ما ذكره السيّد بحر العلوم قدس‌سره لعدم إثبات نجاسة الماء المتغيّر مستقيما وبلا واسطة بقولهم عليهم‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» ، فإنّه دليل على الاستصحاب المثبت للنجاسة ، وهكذا في آية النبأ.

__________________

(١) الاستصحاب : ٦.

(٢) الوسائل ١ : ١٧٤ ، الباب من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ١.

(٣) فوائد السيّد بحر العلوم : ١١٦.

(٤) فرائد الاصول ٣ : ٢٠.

٩١

إذا فرغنا من تعريف الاستصحاب والأقوال والخصوصيّات المبحوثة هنا ، فلنبحث في التفصيل الذي ذكره الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) بقوله : «إنّ المستصحب قد يثبت بالدليل الشرعي وقد يثبت بالدليل العقلي ، ولم أجد من فصّل فيها ، إلّا أنّ في تحقّق الاستصحاب مع ثبوت الحكم بالدليل العقلي ـ وهو الحكم العقلي المتوصّل به إلى حكم شرعي ـ تأمّلا ؛ نظرا إلى أنّ الأحكام العقليّة كلّها مبيّنة مفصّلة من حيث مناط الحكم ، والشكّ في بقاء المستصحب وعدمه لا بدّ وأن يرجع إلى الشكّ في موضوع الحكم ؛ لأنّ الجهات المقتضية للحكم العقلي بالحسن والقبح كلّها راجعة إلى قيود فعل المكلّف الذي هو الموضوع. فالشكّ في حكم العقل حتّى لأجل وجود الرافع لا يكون إلّا للشكّ في موضوعه ، والموضوع لا بدّ أن يكون محرزا معلوم البقاء في الاستصحاب كما سيجيء.

ولا فرق فيما ذكرنا بين أن يكون الشكّ من جهة الشكّ في وجود الرافع ، وبين أن يكون لأجل الشكّ في استعداد الحكم ؛ لأنّ ارتفاع الحكم العقلي لا يكون إلّا بارتفاع موضوعه ، فيرجع الأمر بالتالي إلى تبدّل العنوان ، ألا ترى أنّ العقل إذا حكم بقبح الصدق الضارّ ، فحكمه يرجع إلى أنّ الضارّ من حيث إنّه ضارّ حرام ، ومعلوم أنّ هذه القضيّة غير قابلة للاستصحاب عند الشكّ في الضرر مع العلم بتحقّقه سابقا ؛ لأنّ قولنا : «المضرّ قبيح» حكم دائمي لا يحتمل ارتفاعه أبدا ، ولا ينفع في إثبات القبح عند الشكّ في بقاء الضرر ، ولا يجوز أن يقال : إنّ هذا الصدق كان قبيحا سابقا فيستصحب قبحه ؛ لأنّ الموضوع في حكم العقل بالقبح ليس هذا الصدق ، بل عنوان المضرّ ، والحكم له مقطوع البقاء ، وهذا بخلاف الأحكام الشرعيّة ؛ فإنّه قد يحكم الشارع على الصدق

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٣٧.

٩٢

بكونه حراما ، ولا يعلم أنّ المناط الحقيقي فيه باق في زمان الشكّ أو مرتفع ـ إمّا من جهة جهل المناط أو من جهة الجهل ببقائه مع معرفته ـ فيستصحب الحكم الشرعي.

وحاصل كلامه التفصيل في جريان الاستصحاب وعدمه في الحكم الشرعي المستفاد من العقل أو الملازمة العقليّة ـ مثل : كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع ـ والمستفاد من الأدلّة الثلاثة الاخرى.

واستشكل عليه المحقّق النائيني قدس‌سره بقوله (١) : ولكنّ للنظر فيه مجال ، أمّا أوّلا فلأنّ دعوى كون كلّ خصوصيّة أخذها العقل في موضوع حكمه لا بدّ وأن يكون لها دخل في مناط حكمه واقعا ممنوعة ؛ بداهة أنّه ربّما لا يدرك العقل دخل الخصوصيّة في مناط الحسن والقبح واقعا ، وإنّما أخذها في الموضوع لمكان أنّ الموضوع الواجد لتلك الخصوصيّة هو المتيقّن في قيام مناط الحسن أو القبح فيه ، مع أنّه يحتمل واقعا أن لا يكون لها دخل في المناط.

مثلا : يمكن أن يكون حكم العقل بقبح الكذب الضارّ الذي لا يترتّب عليه نفع للكاذب ولا لغيره ، إنّما هو لأجل أنّ الكذب المشتمل على هذه الخصوصيّات هو القدر المتيقّن في قيام مناط القبح فيه ، مع أنّه يحتمل أن لا يكون لخصوصيّة عدم ترتّب النفع دخل في القبح ، بل يكفي في القبح مجرّد ترتّب الضرر عليه وإن لزم منه حصول النفع للكاذب أو لغيره ؛ والحكم الشرعي المستكشف من حكم العقل إنّما يدور مدار ما يقوم به مناط القبح واقعا ، فيمكن بقاء الحكم الشرعي مع انتفاء بعض الخصوصيّات التي أخذها العقل في الموضوع من باب القدر المتيقّن ؛ لاحتمال أن لا يكون لتلك الخصوصيّة

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٣٢١.

٩٣

دخل فيما يقوم به الملاك واقعا فيكون وزان الحكم الشرعي المستفاد من الحكم العقلي وزان الحكم الشرعي المستفاد من الكتاب والسنّة ، يصحّ استصحابه عند الشكّ في بقائه ؛ لأجل زوال بعض خصوصيّات الموضوع التي لا تضرّ بصدق بقاء الموضوع واتّحاد القضيّة المشكوكة والمتيقّنة عرفا.

والتحقيق : أنّ المراد من العقل هنا ليس عقول الأنبياء والأولياء المحيطة بكلّ الأشياء ، بل المراد منه العقول البشريّة العاديّة الناقصة التي تدرك بعض الأشياء ، وبالنسبة إلى بعض الأشياء ، لها حالة الإبهام والإجمال ، ومع فقد بعض الخصوصيّات من الموضوع يحصل لها الشكّ في البقاء ، فيتحقّق مجرى الاستصحاب ، كما قال به المحقّق النائيني رحمه‌الله.

والإشكال الثاني الذي أورد عليه هو ما ذكره بقوله : «وثانيا : سلّمنا أنّ كلّ خصوصيّة أخذها العقل في موضوع حكمه لها دخل في مناط الحكم بنظر العقل ويكون بها قوام الموضوع ، إلّا أنّه يمكن أن يكون ملاك الحكم الشرعي قائما بالأعمّ من الواجد لبعض الخصوصيّات والفاقد لها ؛ فإنّ حكم العقل بقبح الواجد لجميع الخصوصيّات لا ينحلّ إلى حكمين : حكم إيجابي ، وهو قبح الكذب الضارّ الغير النافع ، وحكم سلبي ، وهو عدم قبح الكذب الفاقد لوصف الضرر ؛ فإنّه ليس للحكم العقلي مفهوم ينفي الملاك عمّا عدا ما استقلّ به ، فيمكن أن يكون لخصوصيّة الضرر دخل في مناط حكم العقل بقبح الكذب ؛ من دون أن يكون لها دخل في مناط الحكم الشرعي بحرمة الكذب ؛ إذ من الممكن أن يكون موضوع الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي أوسع من موضوع الحكم العقلي.

وحاصله : أنّه من الممكن أن يكون مناط الحكم بنظر الشارع أوسع من

٩٤

مناطه بنظر العقل بحيث يبقى حكم الشرع بحاله مع انتفاء بعض خصوصيّات المستصحب بخلاف حكم العقل ؛ فإنّه يدور مدار الخصوصيّات المشخّصة عنده بقاء وعدما ، ونحن نستصحب الحكم الشرعي لا العقلي ، فلا منافاة بين بقاء الحكم شرعا وانتفائه عقلا.

ويرد عليه : أنّ فرض الكلام فيما استكشفنا الحكم الشرعي من الحكم العقلي بقاعدة الملازمة ، ومعلوم أنّ الخصوصيّة دخيلة في حكم العقل بقاء وعدما ، ومع انتفائه ينتفي حكم العقل ، فكيف يتصوّر بقاء الحكم الشرعي المستفاد منه بقاعدة الملازمة مع القطع بانتفاء حكم العقل لانتفاء الخصوصيّة؟ فلا يحتمل أن يكون مناط الحكم الشرعي الكذائي أوسع من مناط الحكم العقلي.

نعم ، يمكن أن يتحقّق هنا حكم شرعي آخر ذا مناط أوسع غير مناط الحكم العقلي ، ولكنّه مشكوك الحدوث ، فلا مجال للاستصحاب هنا.

وكان لاستاذنا السيّد الإمام قدس‌سره تحقيق جامع في المقام ، وهو قوله (١) : «والتحقيق في المقام أن يقال : إنّه لو سلّمنا أنّ العناوين المبيّنة المفصّلة ـ التي يدرك العقل مناط الحسن أو القبح فيها ـ إنّما تكون في نظر العقل مع التجرّد عن كافّة اللواحق والعوارض الخارجيّة ، حسنة أو قبيحة ذاتا ، فلا يمكن أن يشكّ العقل في حكمه المتعلّق بذلك العنوان المدرك مناطه.

ولكن تلك العناوين الحسنة والقبيحة قد تصدق على موضوع خارجي ؛ لأنّ الوجود الخارجي قد يكون مجمع العناوين المتخالفة ، فالعناوين المتكثّرة الممتازة في الوجود العقلي التحليلي قد تكون متّحدة غير ممتازة في الوجود

__________________

(١) الاستصحاب : ١٥.

٩٥

الخارجي ، ويكون الوجود الخارجي بوحدته مصداقا للعناوين الكثيرة ، وتحمل عليه حملا شايعا ، فإذا صدقت عليه العناوين الحسنة والقبيحة يقع التزاحم بين مناطاتها ، ويكون الحكم العقلي في الوجود الخارجي تابعا لما هو الأقوى بحسب المناط ، مثال ذلك : أنّ الكذب بما أنّه كذب ـ مع قطع النظر عن عروض عنوان آخر عليه في الوجود الخارجي ـ قبيح عقلا ، وإنجاء المؤمن من الهلكة حسن ، وكلّ من الحسن والقبح ذاتي بالنسبة إلى عنوانه بما أنّه عنوانه ، ولكن قد يقع التزاحم بينهما في الوجود الخارجي إذا صدقا عليه ، فيرجّح ما هو الأقوى ملاكا وهو الإنجاء ، فيحكم العقل بحسن الكلام الخارجي المنجي مع كونه كذبا.

وكذا إيذاء الحيوان بما أنّه حيوان قبيح عقلا ، ودفع المؤذي حسن لازم عقلا ، وفي صورة صدقهما على الموجود الخارجي يكون الحسن والقبح تابعا لما هو الأقوى مناطا.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه قد يصدق عنوان حسن على موجود خارجي من غير أن يصدق عليه عنوان قبيح ، فيكون الموضوع الخارجي حسنا محضا حسنا ملزما ، فيكشف العقل منه الوجوب الشرعي ، ثمّ يشكّ في صدق عنوان قبيح عليه ممّا هو راجح مناطا ، فيقع الشكّ في الموضوع الخارجي بأنّه حسن أو قبيح ، وقد يكون بعكس ذلك.

مثال الأوّل : أنّ إنقاذ الغريق حسن عقلا ، فقد يغرق مؤمن فيحكم العقل بلزوم إنقاذه ، ويكشف الحكم الشرعي بوجوبه ، ثمّ يشكّ في تطبيق عنوان السابّ لله ورسوله عليه في حال الغرق ، وحيث يكون تطبيق هذا العنوان عليه ممّا يوجب قبح إنقاذه ، ويكون هذا المناط أقوى من الأوّل أو دافعا له ،

٩٦

فيشكّ العقل في حسن الإنقاذ الخارجي وقبحه ، ويشكّ في حكمه الشرعي.

مثال الثاني : أنّه قد يكون حيوان غير مؤذ في الخارج ، فيحكم العقل بقبح قتله ، ثمّ يشكّ بعد بلوغه في صيرورته مؤذيا ، فيشكّ في حكمه الشرعي ، فاستصحاب الحكم العقلي في مثل المقامات ممّا لا مجال له ؛ لأنّ حكم العقل مقطوع العدم ، فإنّ حكمه فرع إدراك المناط ، والمفروض أنّه مشكوك فيه.

وأمّا الحكم الشرعي المستكشف منه ـ قبل الشكّ في عروض العنوان المزاحم عليه ـ فلا مانع من استصحابه إذا كان عروض العنوان أو سلبه عن الموضوع الخارجي لا يضرّان ببقاء الموضوع عرفا ، كالمثالين المتقدّمين ، فإنّ عنوان السابّ والمؤذي من الطوارئ التي لا يضرّ عروضها وسلبها ببقاء الموضوع عرفا.

فتلخّص ممّا ذكرنا : جواز جريان الاستصحاب في الأحكام المستكشفة من الحكم العقلي».

وحاصل كلامه قدس‌سره : أنّه لا مانع من جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي ولو لم يكن للعقل من حيث البقاء حكم ، كما أنّه قد يثبت الحكم الشرعي من الكتاب والسنّة أو الإجماع حدوثا ، ويثبت بالاستصحاب بقاء ، كذلك في الحكم المستفاد من العقل ، فما ذكره الشيخ الأنصاري قدس‌سره من عدم وجدان الشكّ في البقاء في الأحكام الشرعيّة المستكشفة من العقل بعنوان السالبة الكلّيّة ليس بتامّ ، فإنّا وجدناه موجبة جزئيّة. هذا كلّه بالنّسبة إلى التفصيل الأوّل للشيخ الأنصاري قدس‌سره.

والمهمّ التفصيل الثاني الذي التزم به الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) ، وهو التفصيل

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٤٧.

٩٧

بين كون الشكّ من جهة المقتضي وبين كونه من جهة الرافع ، فأنكر جريان الاستصحاب في الأوّل دون الثاني ، وتتحقّق ثلاثة احتمالات في مراده من المقتضي والرافع في بادئ النظر:

الأوّل : أن يكون المراد من المقتضي هو مناط الحكم وملاكه الذي اقتضى تشريع الحكم على طبقه ، والمراد من الرافع هو الحائل والمانع من تأثير الملاك في الحكم بعد العلم بأنّ فيه ملاك التشريع ، فيكون الشكّ في المقتضي عبارة عن الشكّ في ثبوت ملاك الحكم عند انتفاء بعض خصوصيّات الموضوع ؛ لاحتمال أن يكون لتلك الخصوصيّة دخل في الملاك ، والشكّ في الرافع عبارة عن الشكّ في وجود ما يمنع من تأثير الملاك في الحكم بعد العلم بثبوته ؛ لاحتمال أن يكون لتلك الخصوصيّة المنتفية دخل في تأثير الملاك.

الثاني : أن يكون المراد من المقتضي ما جعله الشارع سببا ، إمضاء أو تأسيسا ، مثل جعل عقد النكاح سببا للزوجيّة ، والمراد من الرافع ما جعله الشارع مانعا ورافعا لتأثير الملاك كالطلاق ـ مثلا ـ ، فيكون الشكّ في المقتضي عبارة عن الشكّ في بقاء اقتضاء العقد للزوجيّة أو الوضوء للطّهارة عند انتفاء بعض الخصوصيّات ، والشكّ في الرافع عبارة عن الشكّ في رافعيّة قول الزوج : «أنت خليّة» أو خروج المذي عقيب الطهارة ـ مثلا ـ مع العلم ببقاء المقتضي.

الثالث : أن يكون المراد من المقتضي استعداد بقاء الحكم وقابليّته ، والمراد من الرافع ما هو المانع من الاستعداد والقابليّة.

والظاهر من عبارة الشيخ قدس‌سره في الموارد المتعدّدة أنّ مراده هو الاحتمال الثالث.

٩٨

واستدلّ المحقّق النائيني رحمه‌الله لهذا المعنى بقوله (١) : «فإنّ القول بعدم حجّيّة الاستصحاب عند الشكّ في المقتضي بأحد الوجهين المتقدّمين يساوق القول بعدم حجّيّة الاستصحاب مطلقا ؛ فإنّه لا طريق إلى إحراز وجود ملاك الحكم أو إحراز بقاء المقتضيات الشرعيّة في باب الأسباب والمسبّبات عند انتفاء بعض خصوصيّات الموضوع أو طروّ بعض ما يشكّ معه في بقاء الأثر ؛ إذ العلم ببقاء الملاك أو الأثر يستحيل عادة لمن لا يوحى إليه إلّا من طريق الأدلّة الشرعيّة ؛ فإنّه لا يمكن إثبات كون الوضوء أو النكاح المتعقّب بالمذي أو بقول الزوج : «أنت خليّة» مقتضيا لبقاء الطهارة وعلقة الزوجيّة.

وبالجملة ، لو بنينا على عدم حجّيّة الاستصحاب عند الشكّ في المقتضي بأحد الوجهين يلزم سدّ باب جريان الاستصحاب في جميع المقامات ؛ إذ ما من مورد إلّا ويشكّ في تحقّق المقتضي بمعنى الملاك أو بمعنى اقتضاء السبب ، فالظاهر أنّ مراده من المقتضي هو مقدار قابليّة المستصحب للبقاء في الزمان».

واستشكل عليه استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (٢) بقوله : «وأنت خبير بما فيه ، فإنّ الاقتضاء بالمعنى المعروف لدى الشيخ لا طريق إلى إحرازه في الأحكام الشرعيّة أيضا إلّا من قبل الدليل الشرعي ، كما اعترف به فيما بعد ، فلو دلّ الدليل الشرعي على أنّ الحكم الفلاني مستمرّ ذاتا لو لا الرافع إلى الأبد ، أو إلى غاية كذائيّة ، يستكشف منه المقتضي بمعنى الملاك ، فلا يكون الشكّ حينئذ في بقائه من قبل الشكّ في المقتضي ، لا بالمعنى المعروف ولا بمعنى الملاك.

وبالجملة ، لمّا لا يكون حكم إلّا عن ملاك فأصل الحكم يكشف عن أصل

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٣٢٥.

(٢) الاستصحاب : ٢٠.

٩٩

الملاك ، واستمراره عن استمراره ، وكذا الاقتضاء في باب الأسباب والمسبّبات إنّما يستكشف من الأدلّة الشرعيّة ، فكما أنّ إحراز المقتضي للبقاء ومقدار استعداد المستصحب في الأحكام يحتاج إلى الدليل ، كذلك إحرازه بالمعنيين الآخرين ؛ فالمقتضي بأيّ معنى كان لا يوجب سدّ باب الاستصحاب لو قيل بعدم جريانه إلّا في الشكّ في الرافع.

ويمكن مناقشة ما ذكره الإمام قدس‌سره بأنّه سلّمنا أنّ استمرار الحكم يكشف عن تحقّق الملاك والمناط ، إلّا أنّ الاستمرار في باب الاستصحاب ليس بمحرز لنا ، والمحرز هو قابليّة الاستمرار والبقاء ، ويستفاد من طريق الاستصحاب الاستمرار أيضا.

ومعلوم أنّه لا يستكشف من قابليّة البقاء تحقّق الملاك والمناط ، وإلّا لا نحتاج إلى الاستصحاب ؛ إذ يستفاد من طريق تحقّق الملاك استمرار الحكم ، فالحكم كاشف عن ثبوت الملاك ، لا قابليّة بقائه واستمراره ، فما ذكره قدس‌سره بعنوان الإشكال على المحقّق النائيني رحمه‌الله ليس بوارد عليه.

١٠٠