دراسات في الأصول - ج ٤

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-95-8
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٤٨٠

استدلال الشيخ على القول بالتفصيل

ثمّ إنّه تمسّك بالأخبار المعتبرة والمستفيضة الواردة في الباب للتفصيل بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع :

الاولى منها : صحيحة زرارة قدس‌سره قال : قلت له : الرجل ينام وهو على وضوء ، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟ قال : «يا زرارة ، قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ، فإذا نامت العين والاذن والقلب فقد وجب الوضوء» ، قلت : فإن حرّك على جنبه شيء وهو لا يعلم؟

قال : «لا ، حتّى يستيقن أنّه قد نام ، حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن ، وإلّا فإنّه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ ، ولكن ينقضه بيقين آخر».

ومعلوم أن إضمار مثل زرارة لا يضرّ باعتبار الحديث ، وأمّا السّؤال : الأوّل «الرجل ينام وهو على وضوء ، أتوجب الخفقة والخفقتان عليه الوضوء؟» ففي بيان المراد منه ثلاثة احتمالات :

الأوّل : أنّ زرارة عالم بأنّ الخفقة والخفقتين لا تكونان من النوم ، كما أنّه عالم بناقضيّة النوم للوضوء بلا إشكال ، مع ذلك لا يعلم أنّ الخفقة والخفقتين مع عدم كونهما من النوم ، هل يكونان ناقضين أم لا؟

الثاني : أنّ زرارة يعلم أنّ النوم ناقض فقط لا ما يشبهه ، ولكن لا يعلم أنّ

١٠١

الخفقة والخفقتين من مصاديق النوم وأنّ النوم له معنى وسيع حتّى يشمل الخفقة والخفقتين أم لا؟

الثالث : أنّ زرارة يعلم أنّ الخفقة والخفقتين من مصاديق النوم ومرتبة ضعيفة من مراتب النوم ، ولكن لا يعلم أنّ الشارع جعل الناقضيّة لجميع مراتب النوم أو لسائر المراتب غير الخفقة والخفقتين ، وعلى جميع التقادير الثلاثة يكون السؤال عن الشبهة الحكميّة.

وفي جملة «الرجل ينام» أيضا يحتمل أن يكون المراد منه تحقّق النوم بمراتبه الضعيفة ، ويعلم أنّ الرجل نام ولكن لا يعلم أنّ لهذه المرتبة من النوم ناقضيّة أم لا؟ وهذا الاحتمال في هذه الجملة مؤيّد للاحتمال الثالث المذكور.

ويحتمل أن يكون المراد منه إرادة النوم ، يعني الرجل يريد النوم ولكن قبل تحقّق النوم عرضت له الخفقة والخفقتان ، كما هو الظاهر من التعبير بصيغة المضارع ، فالشبهة شبهة حكميّة ، وقال الإمام عليه‌السلام في الجواب : «يا زرارة ، قد تنام العين ولا ينام القلب والاذن ، فإذا نامت العين والاذن والقلب فقد وجب الوضوء». والمراد من القلب فيه هو مركز الحواسّ لا القلب الاصطلاحي ؛ فإنّه لا ينام ولا يسكن في جميع الحالات إلّا عند الموت.

والعمدة السؤال الثاني في الرواية ، فإنّه محلّ البحث في باب الاستصحاب ، وهو قوله: «فإن حرّك على جنبه شيء وهو لا يعلم؟» يعني عدم التفاته إلى حركة الأشياء بجنبه أمارة على تحقّق النوم؟ قال : «لا ، حتّى يستيقن أنّه قد نام ، حتّى يجيء من ذلك أمر بيّن». وهذه الجملة بوحدها دليل على اعتبار الاستصحاب بعد العلم بأنّ الناقض هو النوم الواقعي ، لا العلم واليقين بالنوم ، وهكذا في سائر النواقض ، فمعناها أنّ في مورد الشكّ في تحقّق النوم يستصحب

١٠٢

عدمه إلى زمان اليقين بتحقّقه.

ثمّ قال الإمام عليه‌السلام : «وإلّا» يعني : وإن لم يستيقن أنّه قد نام «فإنّه على يقين من وضوئه» ، وكلمة «إلّا» بلحاظ كونها قضيّة شرطيّة واشتمالها على أداة الشرط تحتاج إلى الجزاء ، ويحتمل أن يكون الجزاء هنا محذوفا ، ويستفاد ممّا قبله ، وهو جملة «فلا يجب عليه الوضوء» ، وقوله عليه‌السلام : «فإنّه على يقين من وضوئه» تعليل للجزاء المحذوف ، «ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ» ، فيكون التعليل المشتمل على الصغرى والكبرى في مقام إفادة القاعدة الكلّيّة السارية في جميع أبواب الفقه لجريان الاستصحاب ، وذكر الوضوء إنّما هو لكونه مورد السؤال ، لا لدخله في موضوع الحكم.

ويرد على هذا الاحتمال : أوّلا : أنّ ذكر كلمة «من وضوئه» في الصغرى ، واحتمال كون «الألف واللام» في كلمة «اليقين» للعهد الذّكري يوجب القول بأنّ الرواية في مقام إفادة القاعدة الكلّيّة لجريان الاستصحاب في باب الوضوء فقط ، لا في سائر الأبواب.

وتوهّم التمسّك بأصالة الإطلاق لعدم قيديّة «من وضوئه» لكلمة «اليقين» مدفوع بأنّه لا يمكن التمسّك به في الكلام المحفوف بما يصلح للقيديّة ، مثل عدم إمكان التمسّك بأصالة عدم التخصيص في الاستثناء المتعقّب للجمل في غير الأخيرة ؛ لصلاحيّة رجوع الاستثناء إلى الجميع.

ولكنّ الحقّ في المسألة أنّ العرف بملاحظة التناسب بين الحكم والموضوع يفهم ويستفاد من الرواية القاعدة الكلّيّة ، وأنّ الشيء المبرم والمستحكم كاليقين لا ينقض بالشكّ والترديد ، سواء كان في باب الوضوء أو سائر الأبواب ، ونحن بما أنّنا من العرف نفهم ذلك.

١٠٣

ويرد عليه :

ثانيا : أنّ الظاهر على هذا الاحتمال أنّ قوله : «فإنّه على يقين من وضوئه» يكون صغرى لقوله : «ولا ينقض اليقين بالشكّ» ، فأراد الإمام عليه‌السلام إجراء استصحاب الوضوء ، مع أنّه محكوم باستصحاب عدم النوم الناقض ؛ لأنّ الشكّ في الوضوء ناش ومسبّب من الشكّ في حصول النوم ، وأصالة عدم حصوله مقدّمة على استصحاب الوضوء ، لتقدّم الأصل السببي على المسبّبي.

كما أنّ الظاهر من قوله : «حتّى يستيقن أنّه قد نام» أنّه تمسّك بأصالة عدم النوم ، مع أنّ جريان الأصل المحكوم ـ مقدّما على الحاكم أو في عرضه ـ خلاف التحقيق.

وأجاب عنه استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (١) بقوله : «ويمكن أن يجاب بأنّه عليه‌السلام كان بصدد بيان جواب المسألة ، أي شبهة نقض الوضوء وعدمه ، لا بنحو الصناعة العلميّة ، وأنّ نكتة عدم وجوب الوضوء ـ بعد كونه على يقين من وضوئه ويقين من عدم نومه ـ هي جريان الأصل الحاكم أو المحكوم.

نعم ، أفاد زائدا على جواب الشبهة بأنّ هذا ليس مختصّا بباب الوضوء ، بل الميزان هو عدم نقض اليقين بالشكّ ، وهذا كجواب المفتي للمستفتي في نظير المسألة ، مع إرادة المفتي إلقاء قاعدة كلّيّة تفيده في جميع الموارد ، لا بيان المسألة العلميّة وكيفيّة جريان الاصول ، وتمييز حاكمها من محكومها ، فلا محيص حينئذ إلّا من بيان نتيجة المسألة ؛ وأنّ الوضوء المتيقّن لا ينقض بالشكّ في النوم ، وأمّا كون عدم نقضه لجريان أصالة بقاء الطهارة أو أصالة عدم الناقض للوضوء فهو أمر غير مرتبط بالمستفتي ، فإنّ منظوره بيان تكليفه من حيث

__________________

(١) الاستصحاب : ٢٥.

١٠٤

لزوم الإعادة وعدمه ، لا الدليل عليه موافقا للصناعة».

ولكن التحقيق : أنّ هذا الجواب ليس بتامّ أوّلا : أنّ موقعيّة زرارة ومقامه عند الإمام وعلمه بجزئيّات المسائل لا يناسب سؤاله عن الشبهة فقط كالمستفتي.

وثانيا : أنّ نفس الرواية أقوى شاهد على كون الإمام بصدد بيان الصغرى والكبرى والاستدلال للحكم ، وتأسيس القاعدة بقوله : «وإلّا فإنّه على يقين من وضوئه ، ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ ، ولكنّه ينقضه بيقين آخر» ، فكيف يصحّ تمسّك الإمام في مقام الاستدلال بالاستصحاب المحكوم وغير الجاري؟

وكان لاستاذنا السيّد الإمام قدس‌سره بيان في مسألة تعارض الاستصحابين يوجب حلّ الشبهة هنا ، وهو قوله (١) : «والتحقيق في الجواب أن يقال : إنّ استصحاب عدم النوم لا يثبت بقاء الوضوء إلّا على القول بالأصل المثبت ؛ لما عرفت من أنّ الميزان في تقدّم الأصل السببي على المسبّبي هو إدراج الأصل السببي المستصحب تحت الكبرى الكلّيّة الشرعيّة حتّى يترتّب عليه الحكم المترتّب على ذاك العنوان ، كاستصحاب العدالة لإدراج الموضوع تحت كبرى جواز الطلاق والشهادة والاقتداء والقضاء ونحوها.

وأنت خبير بأنّه لم ترد كبرى شرعيّة ب «أنّ الوضوء باق مع عدم النوم» ، وإنّما هو حكم عقلي مستفاد من أدلّة ناقضيّة النوم ، كقول أبي عبد الله عليه‌السلام : «لا ينقض الوضوء إلّا ما خرج من طرفيك أو النوم» (٢) ، فيحكم العقل بأنّ الوضوء إذا تحقّق وكانت نواقضه محصورة في امور غير متحقّقة وجدانا ـ إلّا

__________________

(١) الاستصحاب : ٢٥٢.

(٢) الوسائل ١ : ٢٤٨ ، الباب ٢ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ١.

١٠٥

النوم المنفي بالأصل ـ هو باق ، فالشكّ في بقاء الوضوء وإن كان مسبّبا عن الشكّ في تحقّق النوم ، لكنّ أصالة عدم النوم لا ترفع ذلك الشكّ إلّا بالأصل المثبت».

وحاصل كلامه : أنّ ترتّب الوضوء على عدم النوم لا يكون مسبّبا وأثرا شرعيّا مأخوذا في الأدلّة الشرعيّة ، بل يحكم العقل بعد عدم تحقّق النوم قطعا أو استصحابا ببقاء الوضوء ، ولا بدّ في الاستصحاب من كون المستصحب حكما شرعيّا أو ذا أثر شرعي ، فلذا نحتاج إلى استصحاب بقاء الوضوء لترتّب الآثار الشرعيّة عليه ، مثل جواز الدخول في الصلاة والطواف وأمثال ذلك.

وبذلك تندفع الشبهة عن الرواية المذكورة.

فتحصّل من ذلك : أنّ معنى الرواية على هذا الاحتمال : «أنّه إن لم يستيقن أنّه قد نام فلا يجب عليه الوضوء ؛ لأنّه على يقين منه ، وكلّ من كان على يقين من شيء لا ينقض يقينه بالشكّ أبدا».

وهذا الاحتمال اختاره وقوّاه الشيخ الأنصاري قدس‌سره (١) ولكنّ المحقّق النائيني رحمه‌الله قائل بأنّه في غاية الضعف ، واستدلّ له بأنّه على هذا الاحتمال يلزم التكرار في الجواب وبيان حكم المسئول عنه مرّتين بلا فائدة ؛ فإنّ معنى قوله عليه‌السلام : «لا ، حتّى يستيقن» عقيب قول السائل : «فإن حرّك في جنبه شيء» هو أنّه لا يجب عليه الوضوء ؛ فلو قدّر جزاء قوله : «وإلّا» بمثل «فلا يجب عليه الوضوء» يلزم التكرار في الجواب ، من دون أن يتكرّر السؤال ، وهو لا يخلو عن حزازة ، فاحتمال أن يكون الجزاء محذوفا ضعيف غايته(٢).

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٥٦.

(٢) فوائد الاصول ٤ : ٣٣٦.

١٠٦

ويمكن ردّه دفاعا عن رأي الشيخ قدس‌سره بأنّ مراد الإمام عليه‌السلام في الذيل لا يكون بيان وظيفة خصوص المورد مكرّرا ، بل هو بصدد إلقاء القاعدة والضابطة بعنوان الاستصحاب في جميع أبواب الفقه ، فالمراد من بيان علّة الجزاء المحذوف تأسيس قاعدة كلّيّة ، لا تكرار الجواب ، فالإنصاف أنّ هذا الإشكال ليس بوارد عليه.

الاحتمال الثاني في الرواية : ما التزم به المحقّق النائيني رحمه‌الله بقوله : «أنّه لا ينبغي الإشكال في كون الجزاء هو نفس قوله : «فإنّه على يقين من وضوئه» بتأويل الجملة الخبريّة إلى الجملة الإنشائيّة ، فمعنى قوله : «فإنّه على يقين من وضوئه» هو أنّه يجب البناء والعمل على طبق اليقين بالوضوء (١).

ويرد عليه : أوّلا : أنّ تأويل الجملة الخبريّة إلى الإنشائيّة وإرجاعها إليها يتصوّر على أحد وجهين : إمّا أن يكون معنى قوله : «فإنّه على يقين من وضوئه» هو : «يجب أن يكون على يقين من وضوئه» ومعناه : لابديّة تحصيل اليقين بالوضوء للدخول في الصلاة ، وهو ينافي مدلول سائر الجمل ومراد الرواية من عدم لزوم اليقين بالوضوء ، وعدم وجوب الوضوء عليه مجدّدا لإتيان الصلاة.

وإمّا أن يكون معنى قوله : «فإنّه على يقين من وضوئه» تعبّد الشارع الشاكّ في النوم بأنّه متيقّن بالوضوء ، فيجوز له إتيان الصلاة والطواف كالمتيقّن به وجدانا ؛ فإنّه بنظر الشارع كان متيقّنا.

وهو أيضا ينافي جملة «لا ينقض اليقين بالشكّ» إذ مع كونه متيقّنا بنظر الشارع لا معنى لقوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» ؛ لعدم الشكّ في البين حتّى ينقض أو لا ينقض ، يعني اعتبار إلغاء الشكّ تعبدا في جملة واعتبار بقائه في

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٣٣٦.

١٠٧

جملة اخرى متضادّان.

وثانيا : أنّ تأويل الجملة الخبريّة بالجملة الإنشائيّة بالكيفيّة المذكورة في كلامه لا يوجد في اللغة العربيّة ؛ لزيادته في الجملة الإنشائيّة كلمة «البناء» التي لا أثر منها في الرواية ولا خبر ؛ فلا ملاك لهذا التغيير والتبديل ولا وجه له ، ولا ينطبق مع الضوابط والموازين.

وثالثا : أنّه لو جعلنا الجزاء قوله : «فإنّه على يقين من وضوئه» لا يمكن استفادة الكبرى الكلّيّة من الرواية المقصودة من الاستدلال بها ؛ فإنّ معناه بعد التأويل بالجملة الإنشائيّة كما ذكره «يجب البناء على طبق اليقين بالوضوء» ، وكيف تكون هذه الجملة صغرى القياس؟ بل هي النتيجة المترتّبة على القياس ؛ إذ لا فرق بينه وبين القول بأنّه : «لا ينقض اليقين بالوضوء بالشكّ في الوضوء» ، مع أنّه لا بدّ من مغايرة الصغرى والنتيجة ، فلا محالة يصير قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» عطفا على الجزاء ولا يفيد إلّا مفاده ؛ أي يكون عبارة اخرى عن قوله : «فيجب البناء على طبق اليقين بالوضوء» ولا يصحّ جعله كبرى كلّيّة ؛ للخروج عن قانون المحاورة والاستدلال ؛ فإنّ قانون الاستدلال على نحوين:

أحدهما : ذكر الصغرى والكبرى ثمّ الاستنتاج ، فيقال : «العالم متغيّر ، وكلّ متغيّر حادث ، فالعالم حادث» أو يقال : «إنّه على يقين من وضوئه فشكّ ، وكلّ من كان على يقين من شيء فشكّ يجب البناء على يقينه ، فيجب عليه البناء على يقينه من وضوئه».

وثانيهما : ذكر النتيجة أوّلا ، ثمّ الاستدلال عليها ، وحينئذ لا بدّ من تخلّل كلمة «لأنّ» وأمثالها فيقال : «العالم حادث ؛ لأنّه متغير» ويقال : «يجب البناء

١٠٨

على اليقين بالوضوء ؛ لأنّه من كان كذلك لا ينقض يقينه بالشكّ».

فلو جعلنا قوله : «فإنّه على يقين من وضوئه» جزاء يكون المعنى : «يجب عليه البناء العملي على يقينه السابق من وضوئه» ، وهذه نتيجة البرهان ، فقوله : «ولا ينقض اليقين بالشكّ» لو كان برهانا عليها لا بدّ وأن يصدّر بما يفيد العلّيّة ، فجعل قوله : «فإنّه على يقين من وضوئه» صغرى لكبرى القياس لا يجتمع مع جعله جزاء للشرط وجملة إنشائيّة ، فإنّه على الإنشائيّة يصير نتيجة للبرهان ، لا صغرى له.

ورابعا : أنّ إشكال لزوم التكرار في الجواب من غير تكرّر السؤال يرد عليه ؛ فإنّ معنى كلمة «لا» هو «لا يجب عليه الوضوء قبل الاستيقان» ، ومعنى قوله : «فإنّه على يقين من وضوئه» على هذا الاحتمال هو «يجب عليه البناء على اليقين من وضوئه» ، أي لا يجب عليه الوضوء ، وقوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» على كونه عطفا على الجزاء أيضا يدلّ على هذا المعنى ، فيلزم تكرار الجواب بلا موجب ثلاث مرّات.

وأمّا على احتمال الشيخ فلم يذكر الجواب ، وذكر قوله : (وإلّا) توطئة لإقامة البرهان وبيان القاعدة الكلّيّة ، فاحتمال كون قوله : «فإنّه على يقين» جزاء ليس بتامّ أصلا.

الاحتمال الثالث : أن يكون الجزاء قوله : «ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ» ، ويكون قوله : «فإنّه على يقين» توطئة للجزاء.

وقال استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره : «وهذا الاحتمال أقوى من الثاني ، وأسلم من الإشكالات ، ولا يرد عليه ما تقدّم من إجراء الأصل المسبّبي مع وجود الأصل السببي ؛ لأنّ قوله : «لا ينقض اليقين أبدا بالشكّ» لا يكون حينئذ كبرى

١٠٩

لقوله : «فإنّه على يقين من وضوئه» ، بل لقوله : «فإن لم يستيقن أنّه قد نام» المقدّر» (١).

فالاستصحاب الجاري هنا هو استصحاب عدم النوم ، لا استصحاب عدم الوضوء.

والتحقيق : أنّ هذا الاحتمال لا يكون قابلا للالتزام ، ويرد عليه : أوّلا : أنّ تخلّل قوله : «فإنّه على يقين من وضوئه» بين الشرط والجزاء ، وكونه بعنوان مقدّمة الجزاء مانع من ارتباط قوله : «لا ينقض اليقين أبدا بالشكّ» بقوله : «إن لم يستيقن أنّه قد نام» ، بل هو شاهد على ارتباط الجزاء به.

وثانيا : أنّ الرواية على هذا الاحتمال لا تدلّ على قاعدة كلّيّة إلّا بالإشعار ومناسبة الحكم والموضوع ، مع أنّا بصدد استفادة القاعدة الكلّيّة السارية في جميع أبواب الفقه من ظهور الرواية ودلالتها عليها ، ومعنى الرواية على هذا الاحتمال يشبه قولنا : «إن لم يستيقن أنّه قد نام لا يجب عليه الوضوء» ، فلا يستفاد منها قاعدة كلّيّة.

وثالثا : أنّ خلوّ الجزاء عن الفاء ، وتصدير مقدّمته وهو قوله : «فإنّه على يقين» بها خلاف الاسلوب الكلامي ، وعلى فرض صحّته لغة لا يصحّ تصدير الجزاء ب «واو» العطف بعد تصدير مقدّمته بالفاء ، نقول : «إن جاءك زيد فزيد عالم أكرمه» لا نقول : «إن جاءك زيد فزيد عالم وأكرمه» ـ مثلا ـ وذكر «الواو» دليل على عدم ارتباط قوله: «ولا ينقض اليقين» بالجملة الشرطيّة ، فهذا الاحتمال خلاف الظاهر ولا يكون قابلا للالتزام.

فالمتعيّن من الاحتمالات ما اختاره الشيخ الأنصاري قدس‌سره ؛ لتناسبه مع فهم

__________________

(١) الاستصحاب : ٢٨.

١١٠

العرف والقواعد العربية ، وخلوّه عن الإشكال في استفادة القاعدة الكلّيّة من الرواية ، وهو كون الجزاء مقدّرا أي «فلا يجب عليه الوضوء» ، وقوله : «فإنّه على يقين من وضوئه» في مقام التعليل صغرى للقياس ، وقوله «لا ينقض اليقين أبدا بالشكّ» الكبرى الكلّي.

بقي هنا ما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله بعنوان التوهّم ، وهو : أنّ غاية ما تدلّ عليه الرواية هو سلب العموم لا عموم السلب ، فلا يستفاد منها عدم جواز نقض كلّ فرد من أفراد اليقين بالشكّ ، بل أقصى ما يستفاد منها هو عدم جواز نقض مجموع أفراد اليقين بالشكّ ؛ وهذا لا ينافي جواز نقض بعض الأفراد.

والحقّ في الجواب : أنّ المفرد المحلّى باللام لا يدلّ على العموم ولا يكون ناظرا إلى الأفراد ، بل يدلّ على الماهيّة والطبيعة ، ويكون «الألف واللام» للجنس ، فالمراد أنّه لا ينقض طبيعة اليقين وماهيّته بطبيعة الشكّ وماهيّته ، ومعناه عموم السلب ، وعدم تحقّق فرد من أفراد الطبيعة في الخارج ، وهذا نظير قولنا : «لا تكرم الرجل» أو «لا تكرم رجلا» فهذا الإشكال أيضا مندفع.

تقريبات الأعلام في اختصاص الرواية بالشكّ في الرافع

ثمّ اعلم أنّه يظهر من الشيخ الأنصاري قدس‌سره ومن تبعه ـ في اختصاص حجّيّة الاستصحاب بالشكّ في الرافع ـ تقريبات في كيفيّة استفادته منها :

أحدها : ما هو ظاهر كلامه في الرسائل ـ تبعا للمحقّق الخوانساري (١) ـ من أنّ حقيقة النقض هو رفع الهيئة الاتّصاليّة كما في نقض الحبل ، والأقرب إليه ـ على تقدير مجازيّته ـ هو رفع الأمر الثابت الذي له استعداد البقاء

__________________

(١) مشارق الشموش ٧٦ : ١١.

١١١

والاستمرار ، وقد يطلق على مطلق رفع اليد عن الشيء ولو لعدم المقتضي له ، فالأرجح هو الحمل على رفع اليد عن الأمر المستمرّ ، فعلى هذا يتقيّد اليقين بما تعلّق بالأمر المستمرّ ، والمراد من اليقين هو الطريقي لا وصفه.

فمحصّل المعنى : «أنّه لا ينقض المتيقّن الثابت كالطهارة السابقة» أو «أحكام اليقين الطريقي» أي أحكام المتيقّن الكذائي المستمرّ شأنا كنفس المتيقّن.

وكيف كان ، فالمراد إمّا نقض المتيقّن ، وهو رفع اليد عن مقتضاه ، وإمّا نقض أحكام اليقين أي الثابتة للمتيقّن من جهة اليقين ، والمراد حينئذ منه رفع اليد عنها ، لا أحكام نفس وصف اليقين ؛ إذ لو فرضنا حكما شرعيّا محمولا على نفس صفة اليقين ارتفع بالشكّ قطعا ، كمن نذر فعلا في مدّة اليقين بحياة زيد. هذا محصل كلامه قدس‌سره (١).

وثانيها : ما أفاده المحقّق الهمداني قدس‌سره وهو : أنّ النقض ضدّ الإبرام ، ومتعلّقه لا بدّ وأن يكون له اتّصال حقيقة أو ادّعاء ، ومعنى إضافة النقض إليه رفع الهيئة الاتّصاليّة ، فإضافته إلى اليقين والعهد باعتبار أنّ لهما نحو إبرام عقلي ، ينتقض ذلك الإبرام بعدم الالتزام بالعهد ، وبالترديد في ذلك الاعتقاد.

فحينئذ نقول : قد يراد من نقض اليقين بالشكّ رفع اليد من آثار اليقين بالسابق حقيقة في زمان الشكّ ، وهذا المعنى إنّما يتحقّق في القاعدة ، وأمّا في الاستصحاب فليست إضافة النقض إلى اليقين بلحاظ وجوده في السابق ، بل هي باعتبار تحقّقه في زمان الشكّ بنحو من المسامحة والاعتبار ؛ إذ لا ترفع اليد عن اليقين السابق في الاستصحاب أصلا ، وإنّما ترفع اليد عن حكمه في زمان الشكّ.

__________________

(١) فرائد الاصول ٣ : ٧٨ ـ ٨٠.

١١٢

وليس هذا نقضا لليقين ، كما أنّ الأخذ بالحالة السابقة ليس عملا به ، بل هو أخذ بأحد طرفي الاحتمال ، فلا بدّ من تصحيح إضافة النقض إليه بالنسبة إلى زمان الشكّ من اعتبار وجود تقديري له ؛ بحيث يصدق بهذه الملاحظة أنّ الأخذ بالحالة السابقة عمل باليقين ، ورفع اليد عنه نقض له.

ومعلوم أنّ تقدير اليقين مع قيام مقتضيه هيّن عرفا ، بل لوجوده التقديري حينئذ وجود تحقيقي يطلق عليه لفظ اليقين كثيرا في العرف ، ألا ترى أنّهم يقولون : ما عملت بيقيني ، وأخذت بقول هذا الشخص الكاذب ، ورفعت اليد عن يقيني بقوله؟

وأمّا تقدير اليقين في موارد الشكّ في المقتضي فبعيد جدّا ، بل لا يساعد عليه استعمال العرف أصلا ، فتعميم اليقين في قوله : «اليقين لا ينقض بالشكّ» بحيث يعمّ مثل الفرض بعيد في الغاية (١).

وثالثها : ما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله وملخّصه مع طوله ـ بعد الإشكال على الشيخ بأنّ المراد باليقين ليس هو المتيقّن ـ : أنّ المراد من نقض اليقين نقضه بما أنّه يستتبع الحركة على وفقه ، فأخذ اليقين في الأخبار باعتبار كونه كاشفا لا صفة ، فعناية النقض إنّما تلحق اليقين من ناحية المتيقّن ، ولهذا تكون إضافته إلى اليقين شائعة ، دون العلم والقطع ؛ وليس ذلك إلّا لأنّهما يستعملان غالبا في مقابل الظنّ والشكّ ، بخلاف اليقين ؛ فإنّ إطلاقه غالبا بلحاظ ما يستتبعه من الجري على ما يقتضي المتيقّن ، فتختصّ أخبار الباب بما إذا كان المتيقّن ممّا يقتضي الجري العملي على طبقه ؛ بحيث لو خلّى وطبعه لكان يبقى العمل على وفق اليقين ببقاء المتيقّن ، وهذا المعنى يتوقّف على أن يكون للمتيقّن اقتضاء

__________________

(١) حاشية المحقّق الهمداني على الرسائل ٨١ : ١٦.

١١٣

البقاء ؛ فإنّه في مثل ذلك يصحّ ورود النقض على اليقين بعناية المتيقّن ، ويصدق عليه نقض اليقين بالشكّ ، بخلاف غيره ؛ فإنّ الجري العملي فيه بنفسه ينتقض ، ولا تصحّ هذه العناية فيه.

وبتقريب آخر : يتوقّف صدق نقض اليقين بالشكّ على أن يكون زمان الشكّ ممّا تعلّق به اليقين في زمان حدوثه ؛ بمعنى أنّ الزمان الذي يشكّ في بقاء المتيقّن فيه كان متعلّق اليقين عند حدوثه ، وهذا إنّما يتمّ إذا كان المتيقّن مرسلا بحسب الزمان ؛ لكي لا يكون اليقين بوجوده من أوّل الأمر محدودا بزمان خاصّ ، مقيّدا بوقت مخصوص ، وإلّا ففيما بعد ذلك الحدّ يكون المتيقّن مشكوك الوجود من أوّل الأمر ، فلا يكون من نقض اليقين بالشكّ (١). انتهى.

أمّا تقريب الشيخ الأنصاري قدس‌سره هو كون قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ» بمعنى «لا تنقض المتيقّن بالشكّ أو لا تنقض آثار المتيقّن بالشكّ» ، فهو خلاف الظاهر ؛ إذ لا وجه للتفكيك بين اليقين والشكّ من حيث المعنى ، إذا كان اليقين بمعنى المتيقّن لا بدّ من كون الشكّ بمعنى المشكوك مع أنّه لا يمكن الالتزام به ، وصرف كون اليقين طريقيّا لا يوجب أن يكون بمعنى المتيقّن ، فكما أنّ طريقيّة القطع في قولنا : «القطع حجّة» ـ أي منجّز ومعذّر ـ لا يوجب أن يصحّ القول : بأنّ «المقطوع حجّة» كذلك في قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ».

والمهمّ في تقريب المحقّق الهمداني قدس‌سره هو الالتزام باليقين التقديري لتصحيح إسناد النقض باليقين في ظرف الشكّ ؛ إذ اليقين الحقيقي متعلّق بحالة سابقة ، أي متعلّق بالنجاسة عند الزوال ـ مثلا ـ ففي ظرف الشكّ سواء حكمنا بالنجاسة أو لم نحكم بها ليس هذا عملا على طبق ذاك اليقين ولا نقضا له ، فلا بدّ لنا من

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٣٧٤ ـ ٣٧٦.

١١٤

اليقين الفرضي والتقديري ليكون مصحّحا للاسناد ، والقول به «لا ينقض اليقين التقديري بالشكّ» ، وهذا الفرض يناسب عرفا في الشكّ في الرافع لا في الشكّ في المقتضي ؛ وعليه يستفاد بهذا التقريب اختصاص الرواية بالشكّ في الرافع.

واستشكل عليه استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره بقوله : «ففيه ـ مضافا إلى عدم لزوم هذا التقدير في صحّة نسبته إليه ؛ فإنّ اليقين المحقّق في زمان الشكّ وإن تعلّق بالحالة السابقة ، لكن تصحّ نسبة النقض إليه ، ويقال : هذا اليقين المتعلّق بالطهارة السابقة لا ينتقض بالشكّ ، ويبنى عليه في زمان الشكّ ـ أنّ الظاهر من الروايات هو نسبة النقض إلى هذا اليقين الفعلي لا التقديري ؛ لأنّ قوله في الصحيحة المتقدّمة : «وإلّا فإنّه على يقين من وضوئه» مرتبط بالكبرى التي بعده ؛ أي قوله : «ولا ينقض اليقين أبدا بالشكّ» ، سواء جعل صغرى لها ـ كما هو الظاهر ـ أو توطئة لذكرها.

ولا شبهة في أنّ المراد باليقين في قوله : «فإنّه على يقين من وضوئه» هو اليقين المتعلّق بالوضوء في الزمان السابق ، لا اليقين المقدّر المعتبر ، فلا بدّ أن يراد من اليقين في الكبرى هو هذا اليقين ، لا التقديري ؛ لعدم صحّة التفرقة بينهما ، ضرورة عدم صحّة أن يقال : إنّه على يقين حقيقة من وضوئه في الزمان السابق ، ولا ينقض اليقين التقديري بالشكّ.

هذا ، مضافا إلى أنّ مناسبة الحكم والموضوع إنّما تقتضي أن لا ينتقض اليقين الواقعي الذي له ، إبرام واستحكام بالشكّ ، لا اليقين التقديري الاعتباري.

وأيضا أنّ قوله : (أبدا) لتأبيد الحكم المقدّم ، أي عدم نقض اليقين بالشكّ مستمرّ ومؤبّد ، فلا بدّ أوّلا من جعل الحكم ، ثمّ إفادة تأبيده بلفظ (أبدا) الذي

١١٥

هو قائم مقام الإطلاق ، فينحلّ عرفا هذا الحكم المتقيّد بالتأبيد وعدمه ، وتأبيده واستمراره ، فلو اعتبر اليقين في تمام ظرف الشكّ ؛ أي من أوّل وجوده إلى آخره يقدّر اليقين وينسب إليه النقض ، فلا مصحّح للتأبيد ، فإنّ الأمر المستمرّ الوجود إذا اعتبر من أوّل وجوده إلى آخره لا يصحّ اعتبار الاستمرار فيه ثانيا ؛ فإنّ الشيء المستمرّ لا يقع فيه استمرار آخر.

هذا إذا اعتبر اليقين في تمام ظرف الشكّ ، وإن اعتبر في أوّل زمان الشكّ واريد بيان تأبيد حكمه بلفظ (أبدا) فلا مصحّح لنسبة النقض إلى ما بعد ظرف التقدير بناء على تحقّقه.

فتلخّص ممّا ذكرنا : أنّ الظاهر من تأبيد الحكم أنّ اليقين المتعلّق بأمر سابق على الشكّ لا ينقض في ظرف الشكّ من أوّل زمانه إلى آخره.

ولكنّ الظاهر أنّ إشكاله الأخير لا يكون قابلا للمساعدة ، بل يمكن مناقشته بأنّ اليقين التقديري يرتبط بإسناد النقض باليقين ، وهو الموضوع في المقام ، فيكون فرض اليقين التقديري إلى آخر زمان الشكّ بعنوان بقاء الموضوع ، وأمّا ذكر لفظ (أبدا) فهو لبيان استمرار الحكم ، أي تأبيد عدم جواز نقض اليقين بالشكّ ، فوقع الخلط بين الحكم والموضوع في كلامه قدس‌سره.

وآخر ما أورد عليه استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (١) أن قال : «وأيضا قوله في ذيل الصحيحة : «وإنّما ينقضه بيقين آخر» ليس حكما مجعولا ؛ ضرورة امتناع جعل إيجاب العمل على طبق اليقين ، فإنّه بمنزلة جعل الحجّيّة والكاشفيّة له ، فلا محالة تكون هذه الجملة لتعيين الغاية للحكم المتقدّم ، فتكون تأكيدا لاستمرار الحكم إلى زمان يقين آخر ، أو لإفادة استمراره حتّى مع وجود

__________________

(١) الاستصحاب : ٣٥.

١١٦

الظنّ إن اريد بالشكّ ما هو المصطلح ، لا عدم العلم ، فيفهم من هذه الغاية أنّ المتكلّم اعتبر ثلاثة امور : اليقين السابق ، والشكّ المستمرّ ، واليقين المتأخّر ، فقال : إنّ حكم اليقين بالأمر السابق مستمرّ في زمان الشكّ ولا ترفع اليد عنه إلى زمان اليقين بخلافه».

فاعتبار اليقين في ظرف الشكّ ممّا لا تساعده هذه الاعتبارات.

وبالجملة ، إنّ التأمّل في الصحيحة صدرا وذيلا ممّا يشرف بالفقيه على القطع بأنّ اليقين في الكبرى هو اليقين المحقّق الفعلي المتعلّق بالشيء في الزمان السابق ، لا المقدّر المفروض في زمان الشكّ.

والتحقيق : أنّ جميع ما أورده قدس‌سره على المحقّق الهمداني رحمه‌الله قابل للمساعدة إلّا ما ذكرناه من الخلط في كلامه.

وأمّا ما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله فحاصله : أنّ المراد من اليقين نفس المتيقّن ممّا لا يمكن المساعدة عليه ـ كما يظهر من الشيخ ـ بل المراد من نقض اليقين نقضه بما أنّه يستتبع الحركة على وفق المتيقّن ، فأخذ اليقين في الأخبار إنّما يكون باعتبار كونه كاشفا وطريقا إلى المتيقّن ، لا بما أنّه صفة قائمة في النفس ، فعناية النقض إنّما تلحق اليقين من ناحية المتيقّن.

ثمّ ذكر أنّه لم يعهد استعمال النقض في العلم والقطع فإنّ إطلاق العلم والقطع يكون في مقابل الظنّ والشكّ غالبا ، بخلاف اليقين ؛ فإنّ إطلاقه غالبا يكون بلحاظ ما يستتبعه من الجري على ما يقتضيه المتيقّن والعمل على طبقه ، وهذا المعنى يتوقّف على أن يكون للمتيقّن اقتضاء البقاء في عمود الزمان ليتحقّق الجري العملي على طبقه ، ويصحّ ورود النقض على اليقين بعناية المتيقّن ، بخلاف ما إذا لم يكن للمتيقّن اقتضاء البقاء في سلسلة الزمان ، فإنّ الجري

١١٧

العملي بنفسه ينتقض ، ولا يصحّ ورود النقض على اليقين بعناية المتيقّن (١).

ويرد عليه : أوّلا : أنّه لا وجه للفرق بين اليقين والعلم والقطع وإن لم يذكر في الرواية غير كلمة «اليقين» ، ولكنّه لا يكون مشعرا بعدم صحّة استعمال كلمة «القطع» أو «العلم» مكانه ، بل ما يقرب إلى الأذهان هو لزوم الحركة على وفق القطع والحجّيّة الذاتيّة كانت لهذا العنوان ، فلا فرق بينها في الاستعمالات الفقهية والاصوليّة ؛ لكونها من الألفاظ المترادفة.

وثانيا : أنّ لزوم الحركة والعمل على وفق اليقين يكون من آثار اليقين وأحكامه كما أنّ الحجّيّة من آثاره ، إلّا أنّ الحجّيّة ولزوم العمل على طبقه من أحكامه العقليّة ، وكذلك عدم نقضه بالشكّ من أحكامه وآثاره بتعبّد الشارع ، وكلمة «اليقين» موضوع للجميع ، ومغايرة الحكم والموضوع لا يخفى على أحد ، فما هو الملزم والداعي لإتيان كلمة «اليقين» في قوله «لا ينقض اليقين بالشكّ» مصاحبا مع بعض آثاره العقليّة ، أي لزوم الجري العملي على وفقه؟

وثالثا : أنّ إنكار كون اليقين بمعنى المتيقّن والقول بصحّة ورود النقض على اليقين بعناية المتيقّن ، ثمّ تقسيم المتيقّن بالقابل للاستمرار وعدمه ليس بتامّ.

وعليه فهذا التقريب من المحقّق النائيني رحمه‌الله لا يكون قابلا للمساعدة.

وأمّا التقريب الثاني له رحمه‌الله فهو قوله : «وبتقريب آخر : يتوقّف صدق نقض اليقين بالشكّ على أن يكون زمان الشكّ ممّا قد تعلّق اليقين به زمان حدوثه» ، إلخ.

وحاصله : أنّ المتيقّن إن كان صالحا للبقاء والاستمرار يتحقّق في زمان اليقين بحدوثه يقين آخر ببقائه واستمراره ، وأنّه خال عن الحدّ والغاية ،

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٣٧٤ ـ ٣٧٦.

١١٨

وإن كان غير صالح للبقاء والاستمرار فاقتضاؤه وقابليّته محدود ومضيّق ، فيتحقّق هنا اليقين بالحدوث فقط ، ومعلوم أنّ النقض وعدمه في باب الاستصحاب يرتبط بالبقاء ، وإسناد النقض إلى اليقين في قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» يقتضي تحقّق اليقين بالبقاء مع تحقّق اليقين بالحدوث ، وهذا المعنى يختصّ في الشكّ في الرافع ولا يتصوّر في الشكّ في المقتضي (١).

ويرد عليه : أنّ صلاحية البقاء والاستمرار لا يكون ملازما لتحقّق اليقين بالحدوث واليقين بالبقاء معا حتّى في زمان الشكّ ، فإنّ تحقّق ما هو الصالح للبقاء ـ كالطهارة ـ كثيرا ما متيقّن ، ولا نعلم غاية استمراره ، ولا يكون استعداد بقاء الطهارة متيقّنا لنا ، ولا يكون اليقين في القابليّة مورد النزاع حتّى نقول بنقضه أو عدم نقضه بالشكّ ، بل البحث يدور مدار اليقين بالوضوء وعدم نقضه بالشكّ ، ولا يتحقّق هنا يقين سوى اليقين بالحدوث.

تحقيق المسألة في الشكّ في الرافع والمقتضي

ذكر هنا استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (٢) تحقيقا تبعا لصاحب الكفاية ، ونتيجته شمول دائرة الاستصحاب للشكّ في الرافع والمقتضي ، وهو :

أنّ اليقين قد يلاحظ بما أنّه صفة قائمة بالنفس من غير لحاظ إضافته إلى الخارج ، وقس عليه الشكّ والظن ، وقد يلاحظ بما أنّه مضاف إلى الخارج ، وأنّه كاشف كشفا تامّا عن متعلّقه ، والظنّ كشفا ناقصا ، والشكّ غير كاشف أصلا ، بل يضاف إلى الخارج إضافة ترديديّة.

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٣٧٦.

(٢) الاستصحاب : ٣٢ ـ ٣٣.

١١٩

لا إشكال في أنّ اليقين بحسب الملاحظة الاولى لا يكون ممتازا عن الظنّ والشكّ بالإبرام والاستحكام وعدمهما ، بل الإبرام والاستحكام ـ بحسب هذه الملاحظة ـ إنّما يكون في كيفيّة قيامها بالنفس بحسب مبادئها المحصّلة لها فيها ، فقد تكون مبادئ حصول الشكّ قويّة ؛ بحيث لا تزول بسهولة ، وتكون مبادئ حصول القطع واليقين ضعيفة بحيث تزول بتشكيك ما ، وقد يكون الحال بخلاف ذلك.

وبالجملة ، سهولة زوال تلك الأوصاف عن النفس وعسر زوالها تابعان لمبادئ حصولها ، فلا يكون اليقين في هذه الملاحظة أبرم من الشكّ ، ولا الظنّ أبرم منه.

وأمّا بحسب الملاحظة الثانية ـ أي إضافتها إلى الخارج ـ فاليقين مبرم محكم ذاتا دون الشكّ والظنّ ، فكأنّ اليقين حبل مشدود أحد طرفيه على النفس ، وطرفه الآخر على المتيقّن ، ويكون حبلا مبرما مفتولا مستحكما ، وإن كانت مبادئ حصوله ضعيفة غير مستحكمة ، بخلاف الظنّ والشكّ ، فإنّهما بحسب هذه الإضافة غير محكمين ولا مبرمين وإن كانت مبادئ حصولهما قويّة مستحكمة ، وهذا الاستحكام والإبرام لا يرتبط بالمتيقّن ، بل من مقتضيات ذات اليقين ، سواء تعلّق بأمر مبرم قابل للاستمرار والبقاء أو غيره.

وإسناد عدم النقض إلى اليقين يكون بهذا اللحاظ في قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» بدون فرق بين الشكّ في الرافع والشكّ في المقتضي ، لا باعتبار كون متعلّقه مبرما أو الجري العملي على وفقه.

بقي هنا أمر ، وهو : أنّ من المعلوم وحدة متعلّق اليقين والشكّ في الاستصحاب ، ويمكن أن يتوهّم أنّ هذا الأمر كيف يتصوّر في الاستصحاب

١٢٠