دراسات في الأصول - ج ٤

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-95-8
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٤٨٠

ومع فرض حصول اليقين من غير هذا الطريق ليس لنا شكّ في بقائها ، بل نعلم بارتفاعها ، فإنّ المسلم لا يكون مسلما مع الشكّ في بقاء نبوّة موسى أو عيسى ، فلا يمكن الكتابي إلزام المسلم باستصحاب النبوّة ؛ لعدم تماميّة أركانه من اليقين والشكّ.

على أنّ الاستصحاب حكم من أحكام الإسلام وإثبات نبوّة أنبياء السلف به يوجب بطلان الإسلام وإنكار نبوّة النبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ومعناه بطلان نفس الاستصحاب أيضا ، وما يلزم من وجوده عدمه محال.

٣٠١
٣٠٢

التنبيه الثالث عشر

في موارد التمسّك بالعموم واستصحاب حكم المخصّص

إذا ورد عموم أفرادي متعرّض للزمان إجمالا ـ مثل : «أكرم العلماء كلّ يوم» ـ يتعقّبه دليل مخرج لبعض أفراده عن حكمه في زمان ـ مثل : «لا يجب إكرام زيد العالم يوم الجمعة» ـ بحيث لا يكون للدليل المخرج إطلاق أو عموم بالنسبة إلى غير ذلك الزمان ، فشكّ في حكم هذا الفرد بالنسبة إلى ما بعد ذلك الزمان ـ يوم السبت مثلا ـ فهل يتمسّك باستصحاب حكم دليل المخرج أو بعموم العامّ أو إطلاقه أو يفصّل بين المقامات؟

ثمّ إنّ الباعث لعقد هذا البحث ليس هو ملاحظة التعارض بين العموم والاستصحاب ، فإنّ الاستصحاب أصل عملي لا مجال للرجوع إليه مع وجود الدليل من عموم أو إطلاق ، ولا مانع من الرجوع إليه إن لم يكن هناك دليل ، بل الباعث لذلك هو تعيين موارد الرجوع إلى العموم وتمييزها عن موارد التمسّك بالاستصحاب ، فالإشكال والخلاف إنّما هو في الصغرى بعد الاتّفاق في الكبرى.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّه ذكر الشيخ رحمه‌الله أنّ العموم الأزماني تارة يكون على نحو العموم الاستغراقي ، ويكون الحكم متعدّدا بتعدد الأفراد الطوليّة ، وكلّ

٣٠٣

حكم غير مرتبط بالآخر امتثالا ومخالفة كوجوب الصوم ثلاثين يوما ، كما أنّ الأمر في الأفراد العرضيّة كذلك ، فإنّه إذا قال المولى : «أكرم العلماء كلّ يوم» ـ مثلا ـ يكون الحكم متعدّدا بتعدّد أفراد العلماء الموجودين في زمان واحد ، ولكلّ حكم إطاعة ومعصية ، وامتثال ومخالفة.

واخرى يكون على نحو العموم المجموعي ، ويكون هناك حكم واحد مستمرّ كوجوب الإمساك من طلوع الفجر إلى المغرب ، فإنّه لا يكون وجوب الإمساك تكليفا متعدّدا بتعدّد آنات هذا اليوم ، فإن كان العموم من القسم الأوّل فالمرجع بعد الشكّ هو العموم ؛ لأنّه بعد خروج أحد الأفراد عن العموم لا مانع من الرجوع إليه لإثبات الحكم لباقي الأفراد.

وإن كان من القسم الثاني فالمرجع هو الاستصحاب ؛ لأنّ الحكم واحد على الفرض وقد انقطع يقينا ، وإثباته بعد الانقطاع يحتاج إلى دليل ، ومقتضى الاستصحاب بقاء حكم المخصّص ، هذا ملخص كلامه رحمه‌الله (١).

وذكر صاحب الكفاية رحمه‌الله أنّ مجرّد كون العموم الأزماني من قبيل العموم المجموعي لا يكفي في الرجوع إلى الاستصحاب ، بل لا بدّ من ملاحظة الدليل المخصّص أيضا ، فإنّ أخذ الزمان فيه بعنوان الظرفيّة كما أنّه بطبعه ظرف لما يقع فيه كالمكان ، فلا مانع من التمسّك بالاستصحاب ، وإن كان الزمان مأخوذا على نحو القيديّة فلا يمكن التمسّك بالاستصحاب ؛ لأنّه مع فرض كون الزمان قيدا للموضوع يكون إثبات الحكم في زمان آخر من إسراء حكم ثابت لموضوع إلى موضوع آخر ، وهو قياس محرّم ، فلا بدّ من الرجوع ، إلى أصل آخر من البراءة أو الاشتغال حسبما يقتضيه المقام.

__________________

(١) فوائد الاصول ٢ : ٨٠٠.

٣٠٤

هذا كلّه على تقدير كون العموم على نحو العموم المجموعي ، وأمّا إن كان العموم على نحو العموم الاستغراقي فالمتعيّن الرجوع إلى العامّ إن لم يكن له معارض ، وإلّا فيتمسّك بالاستصحاب إن كان الزمان في الدليل المخصّص مأخوذا بنحو الظرفيّة ، وإن كان مأخوذا بنحو القيديّة لا يمكن التمسّك بالاستصحاب أيضا ، فلا بدّ من الرجوع إلى أصل آخر ، فتكون الصور على ما ذكره أربع :

الأولى : أن يكون العامّ من قبيل العموم الاستغراقي مع كون الزمان مأخوذا في دليل التخصيص بنحو الظرفيّة.

الثانية : نفس الاولى مع كون الزمان مأخوذا على نحو القيديّة. وحكمهما الرجوع إلى العامّ مع عدم المعارض ، وإلّا فيرجع إلى الاستصحاب في الصورة الاولى ، وإلى أصل آخر في الصورة الثانية.

الثالثة : أن يكون العموم من قبيل العامّ المجموعي مع كون الزمان ظرفا.

الرابعة : نفس الثالثة مع كون الزمان قيدا. وحكمهما الرجوع إلى الاستصحاب في الثالثة ، وإلى أصل آخر في الرابعة ، وتشتركان في عدم إمكان الرجوع إلى العامّ فيهما ، إلّا فيما إذا كان التخصيص من الأوّل كخيار المجلس مع قطع النظر عن النصّ الدالّ على لزوم البيع بعد الافتراق ، فيصحّ في مثله الرجوع إلى العامّ ؛ لعدم كون التخصيص في هذه الصورة قاطعا لاستمرار الحكم حتّى يكون إثبات الحكم بعده محتاجا إلى الدليل ، فيرجع إلى استصحاب حكم الخاصّ ، بل التخصيص يوجب كون استمرار الحكم بعد هذا الزمان ، فيتعيّن الرجوع إلى العامّ بعد زمان التخصيص ، بخلاف ما إذا كان التخصيص في الوسط كخيار الغبن على ما هو المعروف من كون مبدئه زمان

٣٠٥

الالتفات إلى الغبن ، فإنّ التخصيص قاطع للاستمرار ، وإثبات الحكم بعده يحتاج إلى دليل.

هذا ملخّص كلام صاحب الكفاية (١).

وكان لاستاذنا السيّد الإمام رحمه‌الله هنا كلام مفصّل وحكم المسألة عنده واحد ، وهو الرجوع إلى العامّ في جميع الصور ، وذكر لكلامه مقدّمات متعدّدة ، ونذكر منها ما هو اللازم والدخيل في المسألة حتّى تصل النوبة إلى النتيجة.

قال رحمه‌الله «يتّضح المرام بعد التنبيه على امور : الأوّل : أنّه يتصوّر ورود العامّ على أنحاء : فتارة يلاحظ المتكلّم الأزمنة مستقلّة على نحو العامّ الاصولي ـ أي الاستغراقي ـ مثل «أكرم العلماء في كلّ يوم» فكان لكلّ زمان حكم مستقلّ من حيث الموافقة والمخالفة.

وتارة يلاحظها بنحو العامّ المجموعي ، فكان لكلّ الأزمنة حكم واحد من حيث المذكور.

وثالثة يلاحظ الزمان مستمرّا على نحو تحقّقه الاستمراري كقوله «أوفوا بالعقود مستمرا أو دائما» لا بمعنى وجوب الوفاء في كلّ يوم مستقلّا ، ولا بنحو العامّ المجموعي حتّى لو فرض عدم الوفاء في زمان سقط التكليف بعده ، بل بنحو يكون المطلوب وجوبه مستمرّا بحيث لو وفي المكلّف إلى آخر الأبد يكون مطيعا إطاعة واحدة ، ولو تخلّف في بعض الأوقات تكون البقية مطلوبة لا بطلب مستقلّ أو مطلوبيّة مستقلّة بل بالطلب الأوّل الذي جعل الحكم كلازم الماهيّة للموضوع ، فلو قال المولى : «لا تهن زيدا» فترك العبد إهانته مطلقا كان مطيعا له إطاعة واحدة ، ولو أهانه يوما عصاه ، ولكن تكون إهانته

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٣٤١ ـ ٣٤٣.

٣٠٦

محرّمة عليه بعده أيضا لا بنحو المطلوبيّة المتكثّرة المستقلّة ، بل بنحو استمرار المطلوبيّة.

الثاني : أنّ العموم الزماني أو الاستمرار الزماني قد يستفاد من طريق ألفاظ العموم ، مثل : «أكرم العلماء» أو «أكرم العلماء في كلّ يوم أو مستمرّا» ، وقد يستفاد من طريق مقدّمات الحكمة مثل : قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١).

ولا فرق بينهما من حيث الدلالة على العموم الأزماني والأفرادي إلّا أنّ العموم الزماني المستفاد منهما متفرّع على العموم الأفرادي ، ومعناه : أنّ الحكم المتعلّق بالعموم الأفرادي موضوع للعموم والاستمرار الزمانيّين ، وكذا للإطلاق المستفاد من دليل الحكمة ـ أي الموضوع مقدّم على الحكم ومعنى قوله ـ أكرم العلماء في كلّ يوم» أنّه يجب إكرام كلّ عالم كأنّه قال بعده : «ووجوب إكرام كلّ عالم ثابت في كلّ زمان» ، فلا يكون العموم الأفرادي مع العموم الأزماني في رتبة واحدة ، فلا بدّ من تحقّق الحكم أوّلا حتّى تصل النوبة إلى استمراره ، فإن لم يتحقّق الحكم بأيّ دليل فلا معنى لاستمراره في جميع الأزمنة.

الثالث : لازم تفرّع ما ذكرنا على العموم الأفرادي هو أنّ التخصيص الوارد على العموم الأفرادي رافع لموضوع العموم والاستمرار الزمانيّين ، وكذا لموضوع الإطلاق ، كما إذا قال المولى : «اكرم العلماء كلّ يوم» ، ثمّ قال : «لا تكرم زيدا العالم» ، فلا إشكال في ارتباط هذا التخصيص بالعموم الأفرادي وعدم تعلّق الإرادة الجديّة بإكرام زيد بخلاف الإرادة الاستعماليّة ، ولازم خروجه عن العموم الأفرادي عدم بقاء الموضوع للعموم الأزماني بالنسبة إليه فقط

__________________

(١) المائدة : ١.

٣٠٧

وبقاء العموم الأزماني المستفاد من قوله «أكرم العلماء كلّ يوم» في محلّه.

كما أنّ التخصيص الوارد على العموم الأزماني لا يوجب التخصيص بالنسبة إلى العموم الأفرادي ، كما إذا قال المولى : «اكرم العلماء كلّ يوم» ، ثمّ قال : «لا تكرم زيدا يوم الجمعة» ، فلا إشكال في ارتباط هذا التخصيص بالعموم الأزماني وبقاء العموم الأفرادي بقوته في محلّه.

إن توهّم أنّ هذا تخصيص للعموم الأزماني والأفرادي معا كما هو الظاهر.

كان جوابه : أنّ المولى إذا قال بعد العامّ المذكور : «لا تكرم العلماء يوم الجمعة» فلا بدّ من إرجاع هذا التخصيص إلى العموم الأزماني فقط ، فإنّ إرجاعه إلى العموم الأفرادي والأزماني معا يوجب التناقض بين الدليل العامّ والخاصّ مع أنّه لم يلتزم به أحد ، وهذا دليل على عدم ارتباط التخصيص بالعموم الأفرادي ، بل يرتبط بالعموم الأزماني. وهذا المعنى يتحقّق بعينه في مثل قوله : «أكرم العلماء كلّ يوم» ، وقوله «لا تكرم زيدا يوم الجمعة» ، فالتصرّف في العموم الأزماني لا يكون ملازما للتصرّف في العموم الأفرادي. وبالعكس وما ذكرناه شاهد على ذلك.

ثمّ قال الإمام رحمه‌الله : إذا عرفت ما ذكرنا فنقول : إذا ورد عام أفرادي يتضمّن العموم أو الاستمرار الزماني ـ بدلالة لغويّة أو بمقدّمات الحكمة ـ وورد دليل مخرج لبعض أفراده عن حكم العموم في زمان معيّن ، كقوله : «أكرم العلماء في كلّ يوم» أو «مستمرّا» وانعقد الإجماع على عدم وجوب إكرام زيد يوم الجمعة ، أو قوله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)(١). وانعقد الإجماع على عدم وجوب الوفاء عند ظهور الغبن ساعة ، وشكّ بعد يوم الجمعة وبعد الساعة في حكم الفرد

__________________

(١) المائدة : ١.

٣٠٨

المخرج ، لا يجوز التمسّك بالاستصحاب مطلقا ، سواء لوحظ الزمان أفرادا وعلى نحو العامّ الاصولي ، أو ذكر القيد لبيان استمرار الحكم أو المتعلّق أو دلّت مقدّمات الحكمة على ذلك. ففي جميع الصور الأربعة المذكورة في كلام صاحب الكفاية ما عدا مورد التخصيص لا بدّ من الرجوع فيها إلى عموم العام.

أمّا إذا لوحظ الزمان مستقلّا فواضح ؛ لأنّ خروج الفرد في يوم تصرّف في العموم الأفرادي ، فأصالة العموم محكمة بالنسبة إلى التخصيص الزائد.

وأمّا إذا جعل مستمرّا أو دائما أو أبدا ظرفا للحكم فلأنّ خروج بعض الأفراد في بعض الأيام ليس تخصيصا في العموم الأفرادي بل تقييدا وتقطيعا للاستمرار الذي قامت الحجّة عليه وتردّد أمره بين الأقل والأكثر ، ولا بدّ من الاكتفاء بالأقلّ ، فيكون ظهور الاستمرار في البقية حجّة.

كما في قوله : «أكرم العلماء مستمرّا» ينحلّ إلى عموم أفرادي يدلّ عليه الجمع المحلّى باللام وإلى استمرار الحكم الذي يدلّ عليه ظهور القيد الذي قام مقام مقدّمات الحكمة في بعض المقامات ، فيكون قوله : «لا تكرم زيدا» تخصيصا للعموم الأفرادي ، و«لا تكرمه يوم الجمعة» تقطيعا لاستمرار الحكم ، وكما يكون العموم حجّة في البقية لدى العقلاء يكون ظهور القيد في استمرار الحكم حجّة فيما عدا مورد التقطيع القطعي لديهم ، سواء اخذ الزمان في الدليل المخصّص على نحو القيديّة أو الظرفيّة.

ثمّ قال : وممّا ذكرنا يعلم حال الإطلاق المستفاد من دليل الحكمة ، فلو فرض أنّ قوله (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) ، كما يدلّ بالعموم اللغوي على الشمول الأفرادي يدلّ على الاستمرار الزماني بمقدّمات الحكمة أو مناسبة الحكم والموضوع بمعنى أن لزوم الوفاء بكلّ عقد مستمرّ لا من قبيل العامّ المجموعي

٣٠٩

بل بحيث تكون المخالفة في بعض الأزمان لا توجب سقوط المطلوبيّة بالنسبة إلى البقية ، ثمّ دلّ دليل على عدم وجوب الوفاء بعقد كالعقد الربوي يكون مخصّصا للعموم الأفرادي ، ولا يكون مقيّدا للإطلاق ، بل رافعا لموضوعه.

وأمّا لو دل دليل على عدم وجوب الوفاء بعقد في زمان ، كما لو انعقد الإجماع على عدم وجوب الوفاء بالعقد إذا ظهر الغبن إلى ساعة ـ مثلا ـ يكون هذا تقييدا لإطلاقه لا تخصيصا لعمومه ؛ لأنّ التخصيص عبارة عن إخراج ما يشمله العموم إخراجا حكميّا ، والعموم اللغوي يدلّ على دخول تمام أفراد العقود في وجوب الوفاء من غير تعرّض لحالات الأفراد وأزمانها ، ودليل المخرج لا يدلّ على خروج فرد من العامّ رأسا حتّى يكون تخصيصا ، بل يدلّ على خروجه في زمان ، وهذا مخالف لظهور الإطلاق في الاستمرار ، فإذا شكّ فيما بعد الساعة في لزوم العقد يرجع إلى الشكّ في زيادة التقييد لا التخصص ، فالمرجع هو أصالة الإطلاق».

ثمّ قال : فقول الشيخ الأعظم : «إنّه لا يلزم من ذلك زيادة تخصيص إذا خرج الفرد في ساعة أو بعد الساعة مستمرّا» (١) خلط بين التخصيص والتقييد ؛ لأنّ خروج الفرد في ساعة تقييد لا تخصيص ، وخروجه في الزائد عن الساعة تقييد زائد يدفع بالأصل.

ثمّ ذكر كلاما من للمحقّق الحائري رحمه‌الله بقوله : «فإن قلت : فرق بين المطلق في سائر المقامات وهاهنا ، فإن الأوّل يشمل ما تحته من الجزئيّات في عرض واحد ، والحكم إنّما تعلّق به بلحاظ الخارج ، فاستقرّ ظهور القضيّة في الحكم على كلّ ما يدخل تحته بدلا أو استغراقا ، فإذا خرج منفصلا شيء بقي الباقي

__________________

(١) فرائد الاصول : ٣٩٥ ، السطر ١٧.

٣١٠

بنفس ظهور الأوّل المستقرّ ، وفي المقام أنّ الزمان في حدّ ذاته أمر واحد مستمرّ ليس جامعا لأفراد كثيرة إلّا أن يقطع بالملاحظة ، وتجعل كلّ قطعة ملحوظة في القضيّة ، وأمّا إذا لم يلحظ كذلك كما إذا كان الاستمرار بمقدّمات الحكمة فلا زمه الاستمرار من أوّل وجود الفرد إلى آخره ، فإذا انقطع الاستمرار بخروج فرد يوم الجمعة ـ مثلا ـ فليس لهذا العامّ دلالة على دخول ذلك الفرد يوم السبت ؛ إذ لو كان داخلا لم يكن هذا الحكم استمرارا للحكم السابق» (١).

وأجاب عنه بقوله : وفيه : أوّلا : أنّ المطلق في سائر المقامات أيضا لا يفيد الحكم للأفراد ، ولا يكون الحكم بلحاظ الأفراد الخارجيّة استغراقا أو بدلا ، ولم يكن المطلق بعد تماميّة مقدّمات الإطلاق كالعام مفادا ، بل ليس مقتضى الإطلاق بعد تماميّة المقدّمات إلّا أنّ ما اخذ في الموضوع تمام الموضوع للحكم كما هو المقرّر في محلّه.

وثانيا : أنّ كون الزمان أمرا مستمرّا واحدا لا يلازم كون مقتضى الإطلاق وحدة الحكم بحيث إذا انقطع في زمان انقطع مطلقا ، فإنّ لازم ذلك أن يكون موضوع الحكم كالعام المجموعي ، ولازمه عدم لزوم الإطاعة لو عصاه في زمان ، مع أنّ الواقع في أشباه (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) خلاف ذلك ، بل فرض مثل العموم المجموعي المقتضي لانتفاء الحكم بانتفاء جزء من الزمان خروج عن محطّ البحث ، فحينئذ لو خرج جزء من الزمان لا مانع من التمسّك بالإطلاق بالنسبة إلى سائر الأزمنة ، انتهى كلامه رحمه‌الله بتلخيص وتوضيح منا (٢).

وكان للمحقّق النائيني رحمه‌الله في بحث العموم الأزماني تفصيل وتحقيق ، فقال

__________________

(١) درر الفوائد : ٥٧١.

(٢) الاستصحاب : ١٨٨ ـ ١٩٥.

٣١١

بعنوان المقدّمة : إنّ العموم الأزماني المتحقّق عقيب العموم الأفرادي يكون من حيث المورد على نوعين : فإنّه قد يرتبط بنفس الحكم ، وقد يرتبط بمتعلّق الحكم ، فإذا قال المولى : «أكرم العلماء كلّ يوم» يتصوّر هذا القول من حيث مقام التصوّر على نوعين فقد يرتبط قوله : «كلّ يوم» بمفاد الهيئة ونفس الحكم المستفاد من الهيئة ، كأنّه قال في مقام التصريح يجب إكرام العلماء ، ويكون هذا الوجوب ثابتا في كلّ يوم ، وقد يرتبط بمتعلّق الحكم ، أي الإكرام كأنّه قال : إكرام العلماء في كلّ يوم واجب وإن لم تترتّب عليه ثمرة عمليّة في نفسه مع قطع النظر عن بحث التمسّك بالعامّ أو استصحاب حكم المخصّص.

فإن كان قيدا للمتعلّق ومربوطا بالإكرام يمكن للمولى تفهيم مقصوده بجملة واحدة مثل : «أكرم العلماء في كلّ يوم» ، وإن كان مربوطا بالحكم لا يمكن أن يكون دليل واحد متعرّضا له ومتكفّلا لبيانه ، فلا بدّ له من القول : «أكرم كلّ عالم» أوّلا ، وفي ضمن دليل منفصل آخر يقول : إنّ هذا الوجوب يكون في كلّ يوم أو مستمرّا» ، وأمثال ذلك :

والسّر في ذلك أنّ العموم الأزماني إن كان مربوطا بالحكم يصير الحكم موضوعا للعموم الأزماني ، ولا يمكن أن يكون دليل واحد مبيّنا للحكم ومتكفّلا لجعل الحكم موضوعا لحكم آخر حتّى يكون معنى قوله : «أكرم العلماء في كلّ يوم» أنّ وجوب الإكرام ثابت للعلماء ، وأنّ هذا الوجوب موضوع للاستمرار والدوام ، أو يستفاد ذلك من مقدّمات الحكمة.

ثمّ قال بعد بيان هذه المقدّمة : إنّ المولى إذا قال : «أكرم العلماء في كلّ يوم» ، ثمّ قال بعده : «لا تكرم زيدا يوم الجمعة» وشككنا في يوم السبت أنّه واجب الإكرام أم لا؟ يصحّ التمسّك بالعموم في فرض ارتباط العموم الأزماني

٣١٢

بالمتعلّق ؛ إذ المتعلّق يتحقّق قبل الحكم إذا تحقّق الشكّ في شئون المتعلّق يمكن الرجوع إلى عموم العامّ ، كما هو المرجع إذا كان الشكّ في أصل التخصيص ، وهكذا في التخصيص الزائد.

وأمّا في فرض ارتباط العموم الأزماني بنفس الحكم فيصير الحكم بمنزلة الموضوع للعموم الأزماني ، فإذا قال المولى : «يجب إكرام العلماء» ، ثمّ قال : «وهذا الوجوب مستمرّ» كان هذا الوجوب بمنزلة الموضوع ، ومستمرّ بمنزلة الحكم ، وفي مقابل هذين الدليلين قال : «لا تكرم زيدا العالم يوم الجمعة» وشككنا في وجوب إكرامه يوم السبت فلا يمكن التمسّك بالعموم الأزماني ، فإنّ معناه الرجوع إلى قوله : «هذا الوجوب مستمر» وقلنا : إنّ «هذا الوجوب» موضوع لا بدّ من إحرازه يوم السبت ، ثمّ الحكم باستمراره ، والمفروض أنّه في يوم السبت مشكوك فكيف يمكن الحكم باستمراره؟ هذا تمام كلامه رحمه‌الله مع توضيح منّا (١).

وأجاب عنه استاذنا السيّد الإمام رحمه‌الله بأنّ عدم جواز كشف الموضوع بالحكم وإثباته به إنّما هو فيما إذا تعلّق الحكم بموضوع مفروض الوجود كالقضايا الحقيقيّة ، مثل : «أكرم العلماء» الذي كان حاصل مفاده : «كلّ ما وجد في الخارج وكان عالما يجب إكرامه» فلا يمكن في مثل تلك القضايا إثبات الموضوع بالحكم.

وأمّا إذا كان المحمول بدلالة لغوية يدلّ على وجود الحكم في جميع الأزمان استقلالا أو على نحو الاستمرار فيكشف عن حاله ، فلو قال المولى : «إنّ وجوب إكرام العلماء مستمر إلى الأبد» فقد يشكّ في أصل تعلّق وجوب

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٥٣٦ ـ ٥٤٠.

٣١٣

الإكرام بالفسّاق ـ مثلا ـ أي يشكّ في التخصيص ، فلا يكون قوله : «مستمرّ» رافعا لهذا الشكّ ، بل الرافع له قوله : «أكرم العلماء» وأمّا إذا شكّ في وجوب إكرامه في يوم كذا بعد العلم بأصل وجوب الإكرام ، أي يشكّ في استمرار الحكم فيكون قوله : «حكمي مستمرّ» كاشفا عن استمراره وتحقّقه في اليوم المشكوك فيه.

والسّر في ذلك : أنّ أصل الحكم بالنسبة إلى المحمول ـ أي قوله «مستمرّ» ـ اخذ مفروض الوجود كما في القضايا الحقيقيّة ، وأمّا بالنسبة إلى استمراره فلا يمكن أن يؤخذ كذلك ، لأنّه يلزم أن ترجع قضيّة : «حكمي مستمرّ» إلى قضيّة ضروريّة بشرط المحمول ، أي حكمي المفروض استمراره مستمر ، وهو كما ترى (١).

فلا بدّ من الرجوع إلى العموم في موارد الشكّ ، بلا فرق بين استفادة الاستمرار من طريق اللفظ أو من طريق مقدّمات الحكمة.

ثمّ قال استاذنا السيّد الإمام رحمه‌الله : نعم ، قد يقال إنّ مقتضى ما ذكرت من أنّ العموم والإطلاق الزمانيّين ـ سواء كانا مستفادين من مثل قوله : «أكرم العلماء في كلّ زمان» أو «أوفوا بالعقود مستمرّا» ، أو من مقدّمات الحكمة ـ متفرّعان على العموم الأفرادي وأنّ محطّ التخصيص الأفرادي غير محطّ التخصيص والتقييد الزمانيّين ؛ هو التفصيل بين ما إذا خرج في أوّل الزمان وشكّ في خروجه مطلقا أو في زمان ـ كما إذا قال المولى في ليلة الجمعة ـ مثلا ـ : «أكرم العلماء كلّ يوم» ثمّ قال في أوّل النهار من يوم الجمعة : «لا تكرم زيدا يوم الجمعة» ـ وبين ما إذا خرج في الأثناء مع العلم بدخوله قبل الخروج ـ كما إذا

__________________

(١) الاستصحاب : ١٩٦.

٣١٤

قال في ليلة الخميس : «أكرم العلماء كلّ يوم» وقال في ليلة الجمعة : «لا تكرم زيدا يوم الجمعة» ـ فيتمسّك بالاستصحاب في الأوّل وبعموم الدليل أو إطلاقه في الثاني ؛ لأنّ الأمر في الأوّل دائر بين التخصيص الفردي وبين التخصيص الزماني أو تقييد الإطلاق ، فيكون من قبيل العلم الإجمالي بورود تخصيص إمّا في العامّ الفوقاني ، فلا يكون مخالفة للعامّ التحتاني وإمّا في العامّ التحتاني فلا يكون مخالفة للعامّ الفوقاني ، أو يكون من قبيل العلم الإجمالي بورود تخصيص في العامّ مع بقاء الإطلاق على ظاهره ؛ لأنّ الإخراج الموضوعي ليس مخالفة للإطلاق أو تقييدا في الإطلاق مع حفظ ظاهر العموم ؛ لأنّ تقييد إطلاق دليل العامّ ليس تخصيصا حتى يخالف أصالة العموم ، فبعد تعارض الأصلين يتمسّك بالاستصحاب.

وأمّا الخارج في الأثناء مع العلم بدخوله تحت حكم العامّ قبل زمان القطع بخروجه كخيار التأخير وخيار الغبن ـ بناء على كون ظهور الغبن شرطا شرعيّا له ـ فيتمسّك بالعموم أو الإطلاق للقطع بعدم التخصيص الفردي ، بل الأمر دائر بين قلّة التخصيص وكثرته أو قلّة التقييد وكثرته ، فيؤخذ بالقدر المتيقّن ويتمسّك في المشكوك فيه بأصالة العموم أو الإطلاق.

ثمّ قال : وهذا التفصيل تقريبا عكس التفصيل الذي اختاره المحقّق الخراساني وشيخنا العلّامة الحائري في مجلس بحثه.

ثمّ أجاب عن التفصيل بقوله : ويمكن أن يقال : إنّ أصالة العموم جارية في العموم الأفرادي الفوقاني ، ولا تعارضها أصالة العموم في العامّ التحتاني الزماني ، ولا أصالة الإطلاق ؛ لأنّ التعارض فرع كون المتعارضين في رتبة واحدة والعموم الأفرادي في رتبة موضوع العموم والإطلاق الزمانيّين ، ففي

٣١٥

الرتبة المتقدّمة تجري أصالة العموم من غير معارض ، فيرجع التخصيص أو التقييد إلى الرتبة المتأخّرة.

ثمّ قال : اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ العقلاء في إجراء الاصول لا ينظرون إلى أمثال هذه التقدّمات والتأخّرات الرتبيّة.

وأجاب عنه بقوله : ويمكن أن يقال : إنّه بعد ورود قوله : «أكرم العلماء في كلّ يوم» الذي هو الحجّة على مفاده إذا ورد دليل على عدم وجوب إكرام زيد ، وكان المتيقّن منه هو عدمه يوم الجمعة ـ مثلا ـ فرفع اليد عن العموم أو الإطلاق في غير يوم الجمعة رفع اليد عن الحجّة من غير حجّة لدى العقلاء.

ثمّ قال في ذيل كلامه : والتحقيق عدم جريان أصالة العموم والإطلاق في التحتاني ؛ لما حقّقناه في العامّ والخاصّ من أنّ مورد جريانهما فيما إذا شكّ في المراد لا فيما علم المراد ودار الأمر بين التخصيص والتخصّص ، مضافا إلى أن هذه الاصول إنّما جرت في مورد يترتّب عليها أثر عملي لا مطلقا ، فحينئذ نقول : إنّ جريانهما في التحتاني غير ذي أثر ؛ للعلم بخروج اليوم الأوّل ـ مثلا ـ فلا يعقل جريانهما لإدخال ما علم خروجه.

ولو اجري الأصل لإثبات لازمه وهو ورود التخصيص على الفوقاني فمع بطلانه في نفسه ـ لأنّ إثبات اللازم فرع إثبات الملزوم الممتنع في المقام ـ يلزم من إثبات اللازم عدم الملزوم ؛ لأنّه موضوعه ، ومع رفعه يرفع الحكم ، فيلزم من وجوده عدم الوجود. وأيضا إنّا نعلم بعدم جريان ، الأصل في التحتاني ؛ إمّا لورود التخصيص به أو بالفوقاني الرافع لموضوعه ، فتدبّر جيّدا (١).

وحاصل كلامه : أنّ إكرام زيد في يوم السبت مشكوك فيتمسّك بأصالة

__________________

(١) الاستصحاب : ١٩٧ ـ ٢٠٠.

٣١٦

العموم الأفرادي ونستكشف بها المراد ، وثمرتها المترتّبة عليها في مقام العمل وجوب إكرامه فيه، ولا يترتّب على أصالة العموم أو الإطلاق الزمانيّين أثر ، فلذا لا يجريان في المقام ولا تعارض في البين ؛ إذ التعارض فرع جريان المتعارضين في نفسهما ، فتبقى أصالة العموم الأفرادي بلا معارض ، وعلى أيّ تقدير لا مجال للتمسّك بالاستصحاب ، فلا بدّ من الرجوع إلى العامّ في جميع الموارد إمّا بالعامّ الزماني وإمّا بالعامّ الأفرادي ، وإمّا بالإطلاق الزماني.

تكملة :

لا يخفى أنّ المراجعة إلى أصالة العموم وأصالة الإطلاق تكون لتبيين الحكم والمراد منه ، لا لتبيين كيفيّة المراد ، والغرض من جريانهما إثبات حكم العامّ والمطلق في مورد الشكّ في التخصيص والتقييد ، وأمّا إذا علمنا بخروج فرد من تحت العموم أو المطلق ولكن لا نعلم أنّ خروجه منه بنحو التخصيص أو التخصّص ، فإن تمسّك بأصالة العموم ويستفاد خروجه بنحو التخصّص وأنّه ليس بعالم فهو ليس بجائز ، وهكذا في أصالة الإطلاق.

فإذا قال المولى في ليلة الجمعة : «أكرم العلماء في كلّ يوم» ، ثمّ قال : «لا تكرم زيدا يوم الجمعة» وشككنا في يوم السبت وما بعده أنّه واجب الإكرام أم لا؟

إن قلت : إنّا نعلم إجمالا إمّا بورود التخصيص على العموم الأفرادي وأنّه غير واجب الإكرام دائما ، وإمّا بوروده على العموم والإطلاق الزمانيّين ، وأنّه بعد يوم الجمعة واجب الإكرام ، ويتساقطان بعد التعارض ، فيبقى استصحاب حكم المخصّص بلا معارض.

وجواب استاذنا السيّد الإمام رحمه‌الله : أنّ التعارض فرع جريان كلا الأصلين في أنفسهما ، فإن لم يجر أحدهما لا تصل النوبة إلى التعارض ، وجريان أصالة

٣١٧

العموم الأفرادي في حدّ نفسها لا إشكال فيه ، وجريان أصالة العموم الأزماني فاقد للشرط ، فإنّ أصالة العموم الأفرادي في يوم السبت مبيّن للحكم ، والمراد أنّه واجب الإكرام مثل سائر أفراد العلماء ، بخلاف أصالة العموم الزماني ، فإنّ المستفاد من جريانها أنّ خروج زيد في يوم الجمعة يكون بعنوان التخصيص الفردي ، وأنّ بقاء أصالة العموم الأزماني بالنسبة إلى بقية أفراد العامّ لا ريب فيه ، فجريانها يكون لبيان كيفيّة خروج زيد ولا تجري في مثل هذا المورد عند العقلاء ، ومن عدم جريانها في نفسها يستفاد أنّه لا مجال للعلم الإجمالي ، وهكذا في أصالة الإطلاق ، فالمرجع هاهنا عبارة عن أصالة العموم الأفرادي.

والإنصاف أنّ هذا التحقيق قابل للقبول وبيان جيّد في مقابل سائر التفصيلات.

٣١٨

التنبيه الرابع عشر

في أنّ المراد من الشكّ في أدلّة الاستصحاب وكلمات الأصحاب هو

خصوص تساوى الطرفين أو عدم اليقين الشامل للظن غير المعتبر؟

والظاهر أنّ المراد منه خلاف اليقين الشامل للظنّ فإنّه هو المتعارف في لغة العرب ، وجعل الظنّ مقابلا للشكّ واليقين اصطلاح مستحدث ، فالشكّ في مفهومه العرفي شامل للظنّ ، مضافا إلى وجود القرينة على جريان الاستصحاب مع الظنّ بارتفاع الحالة السابقة في أدلّة الاستصحاب ، وهي امور :

الأوّل : قوله عليه‌السلام «ولكن تنقضه بيقين آخر» حيث أنّ ظاهره أنّه في مقام بيان تحديد ما ينقض به اليقين ، وأنّه ليس إلّا اليقين.

الثاني : قوله عليه‌السلام : «لا ، حتى يستيقن أنّه قد نام» بعد السؤال عمّا إذا حرّك في جنبه شيء وهو لا يعلم ، حيث دلّ بإطلاقه ـ مع ترك الاستفصال بين ما إذا أفادت هذه الأمارة الظنّ وما إذا لم تفد ؛ بداهة أنّها لو لم تكن مفيدة له دائما لكانت مفيدة له أحيانا ـ على عموم النفي لصورة الإفادة.

الثالث : نفس مقابلة اليقين للشكّ في الأدلّة ، مثل : قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ» ـ بعد ما ذكرنا أنّ اليقين بما فيه من الاستحكام والإبرام لا ينقض بما

٣١٩

لا يكون كذلك ـ تدلّ على كون المقصود من الشكّ فيها هو ضدّ اليقين ، أعمّ من الظنّ والوهم والشكّ المتساوي الطرفين ، مضافا إلى أنّه لا يمكن تحصيل اليقين بالوضوء الصحيح الواقعي بالماء الطاهر الواقعي ، فإنّ احتمال عدم إباحة الماء وتحقّق أجزاء النجاسة فيه ، واحتمال عدم وصول الماء إلى البشرة ، وأمثال ذلك ليس بمنتف ، ومع ذلك قال الإمام عليه‌السلام في رواية زرارة في استصحاب الوضوء : «لا تنقض اليقين بالشكّ» وهكذا في روايته الاخرى في استصحاب طهارة الثوب.

ويستفاد من ذلك ـ كما ذكرنا سابقا ـ أنّ المراد باليقين فيها هو الحجّة ، فمقابله اللاحجّة ، فكأنّه قال : «لا ينبغي رفع اليد عن الحجّة بغير الحجّة» ، فلذا قلنا بجريان الاستصحاب في مؤدّى الأمارات الشرعيّة والعقلائيّة ، كما إذا قامت البيّنة على ملكيّة زيد لدار كذا ، ثمّ شككنا في بقاء ملكيّته له ، فيجري استصحاب بقاء الملكيّة ، وهكذا في مؤدّى الخبر الواحد وقاعدة اليد ونحو ذلك من الأمارات والحجج ، فلا يصحّ انحصار الاستصحاب بما قلّما يتّفق إن لم نقل بعدم اتّفاقه أصلا.

وذكرنا أيضا أنّ كلمة «نقض» في قوله : «لا تنقض اليقين» ناظرة إلى نفس اليقين وما يقوم مقامه بلحاظ تحقّق الاستحكام والإبرام فيه ، فلا يكون قابلا للنقض بما ليس كذلك ولا يرتبط بالمتيقّن ، فلذا لا فرق في المتيقّن بين كونه مستعدّا للبقاء أم لا؟

وبعبارة اخرى : لا فرق في جريان الاستصحاب بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع.

وأمّا بناء على ما أفاده الشيخ الأنصاري رحمه‌الله ـ من كون اليقين بمعنى المتيقّن

٣٢٠