دراسات في الأصول - ج ٤

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-95-8
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٤٨٠

التنبيه السابع

في حجّيّة الأمارات المثبتة دون الاصول

ذهب المشهور إلى أنّ مثبتات الاصول ليست بحجّة بخلاف مثبتات الأمارات ووقع الخلاف بين المحقّقين في دليل ذلك ، ولكن لا بدّ لنا قبل ملاحظة الآراء وأدلّتهم من بيان محلّ النزاع.

فنقول : إنّ المستصحب قد يكون موضوعا من الموضوعات الخارجيّة ، وقد يكون حكما من الأحكام الشرعيّة ، فإن كان من الأحكام الشرعيّة فلا شكّ في ترتّب الآثار واللوازم العقليّة والعاديّة عليه ، كما إذا شككنا في وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة ـ مثلا ـ وبعد جريان الاستصحاب فيه يستفاد أنّ صلاة الجمعة واجبة بالوجوب الظاهري المماثل للحكم الواقعي ، وتترتّب عليه الآثار العقليّة ، مثل : حكم العقل بوجوب الإطاعة ووجوب الوفاء بالنذر إن كان متعلّق النذر الشركة فيها دائما في صورة كونها واجبة.

وأمّا إن كان المستصحب موضوعا للأحكام الشرعيّة فيترتّب عليه الحكم الشرعي الذي يتوقّع ترتّبه عليه بلا واسطة ، مثل : ترتّب الحرمة على استصحاب خمريّة المائع المشكوك الخمريّة.

وأمّا إذا كان للمستصحب لازم عقلي أو عادي أيضا في عرض الأثر

٢٤١

الشرعي ، وكان هذا اللازم العقلي أو العادى موضوعا للحكم الشرعي الآخر ، فهل يترتّب هذا الحكم الشرعي أيضا عليه أم لا؟ كما يترتّب على استصحاب حياة زيد الآثار الشرعيّة المترتّبة بلا واسطة ، مثل : حرمة التصرّف في أمواله ، وحرمة ترويج زوجته ونحو ذلك.

وأمّا ترتّب الآثار الشرعيّة المترتّبة بالنذر على بياض لحيته أو كونه في السن كذا فهو محلّ البحث والنزاع ، والمفروض أنّه ليست لنفس اللازم العقلي أو العادي حالة سابقة متيقّنة حتّى يجري الاستصحاب فيه مستقلّا لترتّب لازمه الشرعي.

والمشهور بين المحقّقين من الاصوليّين التفصيل بين الأمارات والاصول ، بأنّه يترتّب على استصحاب حياة زيد ـ مثلا ـ ما يترتّب عليه بلا واسطة من الآثار الشرعيّة فقط ، وإن قامت بيّنة على حياته فيترتّب عليها جميع الآثار الشرعيّة ، سواء كان ترتّبها مع الواسطة أو بلا واسطة.

وإنّما الكلام في وجه هذا التفصيل ، فذهب المحقّق الخراساني رحمه‌الله إلى أنّ وجهه إطلاق أدلّة الأمارات بالنسبة إلى جميع الآثار دون الاصول ؛ لوجود القدر المتيقّن في مقام التخاطب فيها ، وهو آثار نفس المستصحب بلا توسّط شيء (١).

وفيه : أنّ حجّيّة الأمارات يمكن أنّ تكون تأسيسيّة ، بمعنى تعبّد الشارع بها بالأدلّة اللفظيّة المستقلّة ، ويمكن أن تكون إمضائيّة ، بمعنى تأييد الشارع بنحو من الأنحاء أو عدم ردعه لما هو مورد بناء العقلاء ، والظاهر من كلام صاحب الكفاية رحمه‌الله إطلاق أدلّة حجّيّة الأمارات مع كونها أدلّة لفظيّة تعبديّة ، ولكن نقول : إنّ معنى الحجّيّة التعبّديّة هي الكاشفيّة التعبّديّة لا الكاشفيّة الواقعيّة

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٣٢٦ ـ ٣٢٧.

٢٤٢

والتكوينيّة.

سلّمنا أنّ في مرحلة تكوين الواقعيّات لا ينفكّ اليقين بالملزوم عن اليقين باللازم والملازم ، وهكذا الظنّ بالملزوم مساوق للظنّ باللازم ، والملازم ، وأمّا في مرحلة التعبّد فلا يصحّ التعدّي من دائرة المتعبّد به إلى اللوازم والملزومات ، بل لا بدّ من التعبّد بالمدلول المطابقي للدليل والمخبر به ، فلا فرق في التعبّد بمفاد المطابقي والقدر المتيقّن من الدليل بين دليل الأصل والأمارة ، فكما أنّ قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ» لا يتعدّى من القضيّة المتيقّنة والمشكوكة كذلك قوله «صدّق العادل» ـ مثلا ـ لا يتعدّى عن المخبر به.

وأمّا إن كان دليل اعتبار الأمارات بناء العقلاء ، وحجّيّتها كانت إمضائيّة ـ كما هو التحقيق ـ فلا بدّ من معاملتها معاملة بناء العقلاء من ترتّب جميع الآثار واللوازم بلحاظ حصول الوثوق والاطمئنان بها.

وقال المحقّق النائيني رحمه‌الله : إنّ وجهه اختلاف المجعول في باب الأمارات والاصول ، فإنّ المجعول في الأوّل هو الطريقيّة والكاشفيّة واعتبارها علما بالتعبّد فكما أنّ العلم الوجداني بالشيء يقتضي ترتّب آثاره وآثار لوازمه كذلك العلم التعبّدي الجعلي ، وفي الثاني هو مجرّد تطبيق العمل على مؤدّى الأصل والجري العملي على طبق اليقين السابق ، وحيث إنّ اللازم لم يكن متيقّنا فلا وجه للتعبّديّة (١).

وفيه : أنّه لا يمكن أن تكون الطريقيّة التعبديّة دليلا على حجّيّة مثبتات الأمارات ، فإنّها لا تكون طريقيّة تكوينيّة عقلائيّة حتّى يترتّب عليها جميع الآثار واللوازم.

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٤٨٤ ـ ٤٨٧.

٢٤٣

نعم ، سلّمنا أنّ العلم الوجداني يقتضي ترتّب جميع الآثار حتّى ما كان منها بتوسّط اللوازم العقليّة أو العاديّة ؛ لأنّه من العلم بالملزوم يتولّد العلم باللازم بعد الالتفات إلى الملازمة ، فترتّب آثار اللازم ليس من جهة العلم بالملزوم ، بل من جهة العلم بنفس اللازم المتولّد من العلم بالملزوم ، بخلاف العلم التعبّدي المجعول فإنّه لا يتولّد منه العلم الوجداني باللازم وهو واضح ، ولا العلم التعبّدي به ؛ لأنّ العلم التعبّدي تابع لدليل التعبّد ، وهو مختصّ بالملزوم دون لازمه ؛ لأنّ المخبر إنّما أخبر به عنه لا عن لازمه.

فلا وجه لحجّيّة مثبتات الأمارات إلّا اعتبارها من طريق بناء العقلاء وإمضاء الشارع له.

والمهمّ في الكلام عبارة عن علّة عدم حجّيّة مثبتات الاصول وعرفت ما نقلناه عن صاحب الكفاية رحمه‌الله من أنّ علّته عدم إطلاق أدلّة حجّيّة الاصول لتحقّق القدر المتيقّن في مقام التخاطب ، وهو الأثر الشرعي المترتّب عليها بلا واسطة ، فلذا لا تشتمل الآثار الشرعيّة المترتّبة على اللوازم العقليّة والعاديّة.

وهكذا ما نقلناه عن المحقّق النائيني رحمه‌الله من أنّ علّته عدم جعل الكاشفيّة والطريقيّة لها ، بل المجعول فيها تطبيق العمل على طبق مؤدّاها ، ولا محالة يكون مقصوده أنّ مؤدّى الاستصحاب هو الأثر الشرعي المترتّب على المستصحب بلا واسطة.

وقال الشيخ الأنصاري رحمه‌الله : «إنّ معنى عدم نقض اليقين والمضي عليه هو ترتيب آثار اليقين السابق الثابتة بواسطته للمتيقّن ، ووجوب ترتيب تلك الآثار من جانب الشارع لا يعقل إلّا في الآثار الشرعيّة المجعولة من الشارع لذلك الشيء ؛ لأنّها القابلة للجعل دون غيرها من الآثار العقليّة والعاديّة ،

٢٤٤

فالمعقول من حكم الشارع بحياة زيد وإيجابه ترتيب آثار الحياة في زمان الشكّ هو حكمه بحرمة تزويج زوجته والتصرّف في ماله ، لا حكمه بنموّه ونبات لحيته ؛ لأنّ هذه غير قابلة لجعل الشارع.

نعم ، لو وقع نفس النموّ ونبات اللحية موردا للاستصحاب أو غيره من التنزيلات الشرعيّة أفاد ذلك جعل آثارهما الشرعيّة دون العقليّة والعاديّة ، لكنّ المفروض ورود الحياة موردا للاستصحاب».

ثمّ قال : «والحاصل : أنّ تنزيل الشارع المشكوك منزلة المتيقّن كسائر التنزيلات إنّما يفيد ترتيب الأحكام والآثار الشرعيّة المحمولة على المتيقّن السابق ، فلا دلالة فيها على جعل غيرها من الآثار العقليّة والعاديّة ؛ لعدم قابليّتها للجعل ، ولا على جعل الآثار الشرعيّة المترتّبة على تلك الآثار ؛ لأنّها ليست آثار نفس المتيقّن ولم يقع ذوها موردا لتنزيل الشارع حتّى تترتّب هي عليه» (١).

وكان لاستاذنا السيّد الإمام رحمه‌الله هنا بيان مفصّل ويستفاد منه دليل آخر على عدم حجّيّة الاصول المثبتة ، ولا بدّ من ذكر مقدّمة لتوضيح مراده ، وهي : أنّه يتصوّر للمستصحب ـ مثل حياة زيد ـ في المرحلة الاولى اللازم الشرعي واللازم العقلي واللازم العادي ، وفي المرحلة الثانية يمكن أن يكون لكلّ واحد من هذه اللوازم أثر شرعيّ ، فلا إشكال في ترتّب الأثر الشرعي الواقع في المرحلة الاولى على استصحاب حياة زيد ـ مثلا ـ وأمّا الآثار الشرعيّة المتحقّقة في المرحلة الثانية المترتّبة على اللازم العقلي أو العادي فهي القدر المتيقّن من مثبتات الاصول ، ومحلّ البحث هنا.

__________________

(١) فوائد الاصول ٢ : ٧٧٦.

٢٤٥

ويمكن أن يكون للأثر الشرعي الواقع في المرحلة الاولى ـ مثل حرمة التصرّف في أموال زيد بعد استصحاب حياته ـ أثر شرعيّ آخر ، مثل : أن يقول القائل : إن كانت أموال زيد في هذه الشرائط محرّمة التصرّف لله عليّ إعطاء الصدقة ، ومعلوم أنّ ذكر «قيد في هذه الشرائط» لما ذكرناه من أنّه لا بدّ للأثر الشرعي أنّ لا يكون قابلا للاستصحاب مستقلّا ، فيقع البحث في جهتين :

الاولى : في الآثار الشرعيّة المترتّبة على اللازم العقلي أو العادي للمستصحب.

الثانية : في الآثار الشرعيّة المترتّبة على الأثر الشرعي للمستصحب ، وقد اختلطت الجهتان في كلام استاذنا السيّد الإمام رحمه‌الله.

وبعد الفراغ من ذلك فلنبدأ بكلامه رحمه‌الله فإنّه قال : وأمّا الاصول وعمدتها الاستصحاب فالسّر في عدم حجّيّة مثبتاتها وحجّيّة لوازمها الشرعيّة ـ ولو مع الوسائط إذا كان الترتّب بين الوسائط كلّها شرعيّا ـ يتّضح بعد التنبيه على أمرين :

أحدهما : أنّ اليقين إذا تعلّق بشيء له لازم وملازم وملزوم وكان لكلّ منها أثر شرعي ، يصير تعلّق اليقين به موجبا لتعلّق يقين آخر على لازمه ، ويقين آخر على ملازمه ، ويقين آخر على ملزومه ، فتكون متعلّقات أربعة ، كلّ واحد منها متعلّق ليقين مستقلّ وإن كانت ثلاثة منها معلولة لليقين المتعلّق بالملزوم لكن يكون لزوم ترتيب الأثر على كلّ متعلّق لأجل استكشافه باليقين به ، لا اليقين المتعلّق بغيره من ملزومه أو لازمه أو ملازمه ، فإذا تيقّنت بحياة زيد وحصل منه يقين بنبات لحيته ويقين آخر ببياضها وكان لكلّ منها أثر شرعي يجب ترتيب أثر حياته للعلم بها ونبات لحيته للعلم به لا للعلم بحياته ،

٢٤٦

وترتيب أثر بياضها للعلم به لا بنبات اللحية أو الحياة ، فالعلم بكلّ متعلّق موضوع مستقلّ لوجوب ترتيب أثره وإن كان بعض العلوم معلولا لبعض آخر.

وثانيهما : أنّ الكبرى الكلّيّة في الاستصحاب وهي قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» : إمّا أن يكون المراد منها هو إقامة المشكوك فيه مقام المتيقّن في ترتيب الآثار ، فيكون المفاد وجوب ترتيب آثار المتيقّن على المشكوك فيه ، كما هو الظاهر من الشيخ ومن بعده من الأعلام.

وإمّا أن يكون المراد منها إبقاء اليقين في اعتبار الشارع وإطالة عمره وعدم نقضه بالشكّ ؛ لكونه أمرا مبرما لا ينقض بما ليس كذلك ، فيكون معنى عدم نقض اليقين بالشكّ هو التعبّد ببقاء اليقين الطريقي في مقام العمل ، لما عرفت في محلّه من أنّ اليقين السابق لا يمكن أن يكون طريقا وأمارة على الشيء المشكوك في زمان ، فلا يمكن أن يكون اعتبار بقاء اليقين إلّا إيجاب العمل على طبق اليقين الطريقي ، أي التعبّد ببقاء المتيقّن ، فتصير نتيجة الاعتبارين واحدة ، وهي وجوب ترتيب الآثار في زمان الشكّ وإن كان الاعتباران مختلفين وطريق التعبّد بوجوب ترتيب الأثر مختلفا كما ستأتي الإشارة إليه.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ قوله «لا ينقض اليقين بالشكّ» إن كان بمعنى تنزيل المشكوك فيه منزلة المتيقّن في الآثار فلا يترتّب عليه بهذا الدليل إلّا آثار نفس المتيقّن دون آثار الآثار ، أي لوازم اللوازم الشرعيّة وإن كان الترتّب شرعيّا فضلا عن آثار اللوازم والملزومات والملازمات العقليّة والعاديّة ، وذلك لوجهين :

الأوّل : أنّ آثار المتيقّن ليست إلّا ما يترتّب عليه ويكون هو موضوعا لها ،

٢٤٧

وأمّا أثر الأثر فيكون موضوعه الأثر لا المتيقّن ، كما أنّ أثر اللازم أو الملزوم أو الملازم مطلقا يكون موضوعه تلك الامور لا المتيقّن ، ومعنى «لا ينقض اليقين بالشكّ» بناء عليه أنّه رتّب آثار المتيقّن على المشكوك فيه ، والفرض أنّه لم يتعلّق اليقين إلّا بنفس المتيقّن ، فاذا تعلّق اليقين بحياة زيد دون نبات لحيته وشكّ في بقائها يكون التعبّد بلزوم ترتيب الأثر بلحاظ أثر المتيقّن ، وهو ما يترتّب على الحياة المتيقّنة ، لا ما ليس بمتيقّن كنبات اللحية ، فإنّ التنزيل لم يقع إلّا بلحاظ المتيقّن والمشكوك فيه وذلك من غير فرق بين الآثار المترتّبة على الوسائط الشرعيّة والعاديّة والعقليّة.

وليس ذلك من جهة انصراف الأدلّة عن الآثار الغير الشرعيّة أو عدم إطلاقها أو عدم تعقّل جعل ما ليس تحت يد الشارع كما ذهب إلى كلّ ذاهب ، بل لقصور الأدلّة وخروج تلك الآثار موضوعا وتخصّصا ، وهذا الوجه يظهر من كلام الشيخ أيضا.

والثاني : أنّ دليل الأصل لا يمكن أن يتكفّل بآثار الآثار وآثار الوسائط ولو كانت شرعيّة ؛ لأنّ الأثر إنّما يكون تحقّقه بنفس التعبّد ، ولا يمكن أن يكون الدليل المتكفّل للتعبّد بالأثر متكفّلا للتعبّد ، بأثر الأثر ؛ لأنّ أثر المتيقّن متقدّم ذاتا واعتبارا على أثره ، أي أثر الأثر ؛ لكونه موضوعا له ، فلا بدّ من جعل الأثر والتعبّد به أوّلا وجعل أثر ذلك الأثر والتعبّد به في الرتبة المتأخّرة عن الجعل الأوّل ، ولا يمكن أن يكون الجعل الواحد والدليل الفارد متكفّلا لهما ؛ للزوم تقدّم الشيء على نفسه وإثبات الموضوع بالحكم.

ثمّ قال : وممّا ذكرنا يعلم أنّه لو كان معنى «لا ينقض اليقين بالشكّ» هو التعبّد بإبقاء اليقين وإطالة عمره لما نفع في ترتّب آثار الوسائط الشرعيّة فضلا عن

٢٤٨

غيرها ؛ لعين ما ذكرنا من الوجهين (١).

وحاصل كلامه رحمه‌الله : أنّ دليل الاستصحاب قاصر عن شمول آثار اللوازم العقليّة والعاديّة ؛ لمحدوديّته بدائرة صدق نقض اليقين بالشكّ ، ولا يتحقّق هذا العنوان فيها حتّى يشملها قوله «لا تنقض اليقين بالشكّ» فلذا لو فرض تحقّق الإطلاق للدليل لا يفيد في المقام ؛ إذ الإطلاق لا يوجب سراية الحكم إلى العنوان الخارج عن دائرة لفظ المطلق ، فالحكم دائر مدار صدق عنوان صدق اليقين بالشكّ ، إذ انتفى العنوان انتفى الحكم.

وما ذكره الشيخ رحمه‌الله من عدم قابليّة تعلّق الجعل التشريعي باللوازم العقليّة والعاديّة مع صحّته في نفسه ومتانته لا يفيد في المقام ؛ إذ لو فرضنا كونها قابلة للجعل التشريعي لا يكون مؤثّرا في ما نحن فيه ؛ إذ لا دليل للجعل سوى قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ» ، وهو لا يتعدّى من دائرة صدق عنوان نقض اليقين بالشكّ ، فلا يكون الأثر العقلي العادي مصداقا له ، وهذا البيان دقيق ومتين وقابل للاطمئنان.

وهذا كلّه بالنسبة إلى الجهة الاولى من البحث ، وأمّا الجهة الثانية فهي عبارة عن الآثار الشرعيّة المترتّبة على الأثر الشرعي المترتّب على المستصحب ، والمفروض أنّه لا يتحقّق للأثر الشرعي الأوّل حالة سابقة وجوديّة متيقّنة حتّى نجري الاستصحاب فيه مستقلّا ، كما إذا شككنا في مطهّريّة ماء الحوض المغسول به اليد النجسة فنستصحب المطهريّة ، والأثر الشرعي المترتّب عليها طهارة اليد المغسولة بهذا الماء ، والأثر الشرعي المترتّب على طهارة اليد طهارة ملاقيه مع الرطوبة ، مع أنّ استصحاب طهارة

__________________

(١) الاستصحاب : ١٥٢ ـ ١٥٥.

٢٤٩

اليد لا يكون جاريا ؛ لكونها أمرا حادثا مسبوق العدم ، فهل يترتّب هذا الأثر الشرعي المترتّب على الأثر الشرعي الأوّل على المستصحب ـ أي طهارة الملاقي على مطهريّة الماء ـ أم لا؟ وما ذكرناه في عدم ترتّب الأثر الشرعي المترتّب على اللازم العقلي والعادي ينطبق هاهنا أيضا ، طابق النعل بالنعل ، أي خروجه عن الدليل تخصّصا مع تحقّق إشكال آخر في ما نحن فيه ، وهو ما ذكره استاذنا السيّد الإمام رحمه‌الله بعنوان الجواب الثاني من عدم إمكان كون الجعل الواحد متكفّلا للتعبّد بما في الرتبة المتقدّمة وما في الرتبة المتأخّرة معا ؛ للزوم تقدّم الشيء على نفسه وإثبات الموضوع بالحكم ، فإنّ طهارة اليد بمنزلة الموضوع لطهارة الملاقي وهي مترتّبة عليها ، ولا يمكن جعل الموضوع والحكم معا بقوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ».

وهذا الإشكال نظير ما ورد على أدلّة حجّيّة خبر الثقة بالنسبة إلى الأخبار مع الواسطة بأنّ شمول قوله : «صدّق العادل» لها يستلزم أن يكون متكفّلا لبيان وجعل الموضوع معا ، وهذا ممتنع.

ولا يمكن دفع الإشكال هاهنا بما دفع به الإشكال هناك ؛ لإمكان أن يقال هناك : إنّ قوله : «صدّق العادل» قضيّة حقيقيّة تنطبق على كلّ مصداق وجد منها ولو كان مصداقا تعبديّا ، أو أن يقال : إنّ العرف يحكم بإلغاء الخصوصيّة أو يدّعى العلم بالمناط وأنّ المصداق المتحقّق بنفس دليل التعبّد لا بدّ وأن يترتّب عليه الأثر.

ولا يرد شيء منها في المقام ؛ لأنّ التعبّد بعدم نقض اليقين بالشكّ لا يوجب حصول مصداق تعبّدي من الشكّ واليقين حتّى ينطبق عليه عدم نقضه به ، فإذا علم بمطهّريّة الماء وشكّ فيها يجب ترتيب طهارة اليد المغسولة به عليه ، لقوله :

٢٥٠

«لا تنقض اليقين بالشكّ» ، فيحكم بطهارة اليد به ، فإذا كانت طهارة اليد موضوعا لأثر شرعي فلا يمكن أن يكون دليل لا تنقض حاكما بوجوب ترتّبه عليها ؛ لعدم تكفّل هذا التعبّد لإيجاد مصداق تعبّدي لقوله : «لا تنقض اليقين» حتّى يقال : إنّه قضيّة حقيقيّة تشمل ما وجد بنفس التعبّد.

كما لا يمكن دعوى إلغاء الخصوصيّة عرفا أو العلم بالمناط بعد عدم كونه مصداقا للكبرى ولو تعبّدا ، وبعد كون ترتّب الأثر على الموضوع لأجل تعلّق اليقين ، وهو مفقود ، فدعوى وحدة المناط أو إلغاء الخصوصيّة مجازفة محضة.

إنّما الكلام في مفاد قوله «لا تنقض اليقين بالشكّ» بالنسبة إلى الاستصحاب الجاري في الموضوعات ، مثل : استصحاب عدالة زيد أو خمريّة هذا المائع ، ويستفاد من كلام صاحب الكفاية رحمه‌الله أنّ مفاده جعل الحكم المماثل بلا فرق بين الاستصحاب الجاري في الأحكام والموضوعات ، فمعنى استصحاب الخمريّة أنّ هذا المائع كان في السابق حراما والآن أيضا يكون حراما (١).

والتحقيق : أنّ الاستصحاب الجاري في الموضوعات لا يكون ناظرا إلى الأحكام والآثار ، ومفاده التعبّد ببقاء المستصحب وإن كان له آثار وأحكام في الشريعة ، فمفاد استصحاب الخمريّة أنّه أيّها المنقاد للشرع ، تعبّد بأنّ هذا المائع خمر ، كما أنّ مفاد البيّنة أيضا يكون كذلك إلّا أنّ حجّيّتها على نحو الطريقيّة بلا فرق بينهما من حيث المفاد.

والقاعدة أيضا تقتضي ذلك ؛ إذ المشكوك فيه فعلا والمتيقّن سابقا عبارة عن نفس عنوان الموضوع بدون لحاظ الأحكام والآثار ، وربّما لا يلتفت الشاكّ إليها أصلا ، فمفاد استصحاب الحرمة هو جعل الحكم المماثل بخلاف

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٣٢٥.

٢٥١

استصحاب الخمريّة ، وبعد التعبّد بأنّ هذا المائع خمر بالاستصحاب وإحراز الموضوع وتحقّقه ينطبق عليه حكم الشارع بأنّ الخمر حرام ، كما أنّ البيّنة تكون محرزة ومبيّنة للموضوع لا تكون متكفّلة لبيان الحكم ، وهكذا الاستصحاب يكون كذلك ، فترتّب الحكم في استصحاب الموضوعات لا يرتبط بالاستصحاب.

فإذا كان المستصحب هو الخمريّة وكان له لازم شرعي ـ أي الحرمة ـ وكان للازمه أيضا لازم شرعي آخر ـ أي ارتداد منكر حرمته ـ فيستفاد من قوله «لا تنقض اليقين بالشكّ» التعبّد بأنّ هذا المائع خمر وإحراز الموضوع فقط ، والحرمة تستفاد من دليل آخر ، مثل : كلّ خمر حرام ، وارتداد منكر حرمته من دليل ثالث ، فلا يرتبط حكم الأثر وحكم أثر الأثر بدليل الاستصحاب ، كما لا يخفى ، بل كلّ أثر شرعي يصير موضوعا لأثر من بعده ، وهكذا إلى سائر الآثار الشرعيّة الطوليّة.

ولا يتوهّم جريان هذا المعنى في الآثار الشرعيّة المترتّبة على اللوازم العقليّة والعاديّة أيضا ، فإنّه لا دليل لنا لإحراز نفس اللوازم ، لا بالعلم ولا بالبيّنة ولا بالتعبّد ؛ لمحدوديّة دائرة دليل التعبّد بالمتعبّد به ـ أي المتيقّن والمشكوك ـ فلا يتعدّى عمّا يترتّب عليه بلا واسطة ، فإذا احرزت حياة زيد بالاستصحاب يترتّب عليها حرمة التزويج بزوجته ، وحرمة تقسيم أمواله ، وأمّا نبات لحيته أو بياض لحيته أو كونه في السنّ كذا ، فلا يحرز لنا بأيّ دليل حتّى يترتّب عليها آثارها الشرعيّة ، وهذا دليل الافتراق بين الآثار الشرعيّة المترتّبة على الآثار الشرعيّة ، والآثار الشرعيّة المترتّبة على اللوازم العقليّة والعاديّة.

٢٥٢

وهكذا في الاستصحاب الموضوعي إن كان لملازم المستصحب أثر شرعيّ لا ترتّب عليه ؛ لمحدوديّة دائرة دليل التعبّد بأحد المتلازمين العقليّين ولا يتعدّى عنه.

نعم ، إذا كانت الملازمة شرعيّة يترتّب الأثر الشرعي لأحد المتلازمين على استصحاب الملازم الآخر ، كما أنه يترتّب في الاستصحاب الحكمي الأثر الشرعي لأحد المتلازمين على استصحاب الملازم الآخر.

وإن كانت الملازمة عقليّة مثل ترتّب الأثر الشرعي للمقدّمة على استصحاب وجوب ذي المقدّمة وهكذا إذا كان لملزوم المستصحب أثر شرعيّ لا يترتّب على استصحاب اللازم ، إذ لا دليل لإثبات الملزوم والتعبّد به ، وبعد انحصار دليل التعبّد بالمتعبّد به فكيف تترتّب آثار الملزوم؟

تكميل : في استثناء الوسائط الخفيّة

من الاصول المثبتة إذا كانت الواسطة بين المستصحب والأثر الشرعي خفيّة يجري الاستصحاب ويترتّب عليه الأثر ، ولا يكون من الاصول المثبتة ، والمراد من خفاء الواسطة ، فإنّ العرف ـ ولو بالنظر الدقيق ـ لا يرى وساطة الواسطة في ترتّب الحكم على الموضوع ، ويكون لدى العرف ثبوت الحكم للمستصحب من غير واسطة ، وإنّما يرى العقل بضرب من البرهان كون الأثر مترتّبا على الواسطة لبّا وإن كان مترتّبا على ذي الواسطة.

وذكر استاذنا السيّد الإمام رحمه‌الله مثالا له ولكنّه خارج عن محلّ البحث إلّا أنّه مبيّن لخفاء الواسطة وعلّة جريان الاستصحاب فيه.

وهو : أنّ الشارع إذا قال : «حرّمت عليكم الخمر». يكون الموضوع للحرمة هو الخمر عرفا ، لكنّ العقل يحكم بأنّ ترتّب الحرمة على الخمر لا يمكن إلّا

٢٥٣

لأجل مفسدة قائمة بها تكون تلك المفسدة علّة واقعيّة للحرمة.

ثمّ لو فرض أنّ العقل اطّلع على جميع الخصوصيّات الواقعيّة للخمر وحكم بالدوران والترديد أنّ العلّة الواقعيّة للحرمة هي كونها مسكرة ـ مثلا ـ فيحكم بأنّ إسكار الخمر علّة لثبوت الحكم بالحرمة ، ثمّ يحكم بأنّ موضوع الحرمة ليس هو الخمر بحسب الملاكات الواقعيّة ، بل الموضوع هو المسكر بما أنّه مسكر ، ولمّا كان متّحدا في الخارج مع الخمر حكم بحرمته بحسب الظاهر ، ولكن الموضوع الواقعي ليس إلّا حيثيّة المسكريّة ؛ لأنّ الجهات التعليليّة هي الموضوعات الواقعيّة لدى العقل ، فإذا علم أنّ مائعا كان خمرا سابقا وشكّ في بقاء خمريّته فلا إشكال في جريان استصحاب الخمريّة وثبوت الحرمة له.

ولا يصحّ أن يقال : إنّ استصحاب الخمريّة لا يثبت المسكريّة التي هي موضوع الحكم لدى العقل إلّا بالأصل المثبت ؛ لأنّ ترتّب الحرمة إنّما يكون على المسكر أوّلا وبالذات وعلى الخمر ثانيا وبالواسطة ، وليس المراد بخفاء الواسطة أنّ العرف يتسامح وينسب الحكم إلى الموضوع دون الواسطة مع رؤيتها ؛ لأنّ الموضوع للأحكام الشرعيّة ليس ما يتسامح فيه العرف ، بل الموضوع للحكم هو الموضوع العرفي حقيقة ومن غير تسامح ، فالدم الحقيقي بنظر العرف موضوع للنجاسة ، فإذا تسامح وحكم على ما ليس بدم عنده أنّه دم لا يكون موضوعا لها ، كما أنّه لو حكم العقل بالبرهان بكون شيء دما أو ليس بدم لا يكون متّبعا ؛ لأنّ الموضوع للحكم الشرعي ما يكون موضوعا لدى العرف.

والسرّ في ذلك : أنّ الشارع لا يكون في إلقاء الأحكام على الامّة إلّا كسائر الناس ، ويكون في محاوراته وخطاباته كمحاورات بعض النّاس بعضا ، فكما

٢٥٤

أنّ المقنّن العرفي إذا حكم بنجاسة الدّم لا يكون موضوعها إلّا ما يفهمه العرف مفهوما ومصداقا ، فلا يكون اللون دما عنده وليس موضوعا لها ، كذلك الشارع بالنسبة إلى قوانينه الملقاة إلى العرف ، فالمفهومات عرفيّة وتشخيص مصاديقها أيضا كذلك (١).

ولكن عرفت خروج هذا المثال عن محلّ البحث ؛ لأنّ للواسطة العقليّة ـ أي مسكريّة هذا المائع ـ حالة سابقة وجوديّة ، وتكون قابلة للاستصحاب بالاستقلال ويترتّب عليه الحرمة بدون الاحتياج إلى استصحاب الخمريّة ، ومحلّ البحث فيما لا يكون الأثر العقلي قابلا للاستصحاب مستقلّا.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري رحمه‌الله ذكر مثالين لخفاء الواسطة بقوله : «منها : ما إذا استصحب رطوبة النجس من المتلاقيين مع جفاف الآخر ، فإنّه لا يبعد الحكم بنجاسته مع أنّ تنجّسه ليس من أحكام ملاقاته للنجس رطبا ، بل من أحكام سراية رطوبة النجاسة إليه وتأثّره بها بحيث يوجد في الثوب رطوبة متنجّسة.

ومن المعلوم أنّ استصحاب رطوبة النجس الراجع إلى بقاء جزء مائيّ قابل للتأثير لا يثبت تأثّر الثوب وتنجّسه بها» (٢).

ويرد عليه : أنّ الواسطة بالنظر العرفي الدقيق جليّة ؛ إذ العرف يلتفت بأدنى تأمّل إلى أنّ السّراية مؤثّرة في تنجّس الملاقي لا الرطوبة ، ومعلوم أنّ السّراية لازم عقلي للرطوبة ، فلا يمكن إثبات الأثر المترتّب على السراية باستصحاب الرطوبة ، وهذا من موارد الاصول المثبتة.

هذا بالنسبة إلى مثاله الأوّل ، وأمّا مثاله الثاني فهو ما ذكره بقوله : «ومنها

__________________

(١) الاستصحاب : ١٥٨ ـ ١٥٩.

(٢) فوائد الاصول ٢ : ٧٨٣.

٢٥٥

أصالة عدم دخول هلال شوّال في يوم الشكّ المثبت لكون غده يوم العيد ، فيترتّب عليه أحكام العيد من الصلاة والغسل وغيرهما ، فإنّ مجرّد عدم الهلال في يوم لا يثبت آخريّة اليوم ولا أوّليّة غده للشهر اللاحق ، لكنّ العرف لا يفهمون من وجوب ترتيب آثار عدم انقضاء رمضان وعدم دخول شوّال إلّا ترتيب أحكام آخريّة ذلك اليوم لشهر وأوليّة غده لشهر آخر» (١).

ولكن حلّ المسألة منه رحمه‌الله بخفاء الواسطة وقع مورد البحث والإشكال عند المحقّقين ؛ إذ لا يمكن باستصحاب عدم خروج شهر رمضان إثبات كون اليوم الذي بعد أوّل شهر شوّال إلّا بالقول بتركّب عنوان الأوّليّة من جزءين ؛ أحدهما : وجودي ، وهو كون هذا اليوم من شوّال ، وثانيهما : عدمي ، وهو عدم مضيّ يوم آخر منه قبله فيثبت بالاستصحاب المذكور كون هذا اليوم أوّل شوّال ؛ لأنّ الجزء الأوّل محرز بالوجدان ، والجزء الثاني يحرز بالأصل ، فبضميمة الوجدان إلى الأصل يتمّ المطلوب.

وأمّا على القول بكونه أمرا بسيطا منتزعا من وجود يوم من الشهر غير مسبوق بيوم آخر منه ، فلا يمكن إثبات هذا العنوان البسيط بالاستصحاب المذكور إلّا على القول بالأصل المثبت ، فإنّ الأوّليّة بهذا المعنى لازم عقلي للمستصحب وغير مسبوق باليقين ، وحيث إنّ التحقيق بساطة معنى الأوّليّة بشهادة العرف لا يمكن إثباتها بالاستصحاب المزبور.

وقد التزم المحقّق النائيني رحمه‌الله في مقام دفع الإشكال بأنّ اليوم الأوّل في موضوع الأحكام غير اليوم الأوّل الواقعي ، فإنّه عبارة عن يوم رؤية الهلال أو اليوم الواحد والثلاثين من الشهر الماضي ، فالمراد من ثامن ذي الحجّة هو

__________________

(١) المصدر السابق.

٢٥٦

الثامن من رؤية الهلال أو ما بعد انقضاء ثلاثين يوما من ذي القعدة ، سواء كان مطابقا للواقع أو لا (١).

ولكنّه لا يكون طريقا مناسبا لحلّ الإشكال ؛ إذ ما من مسلم إلّا ويعلم بالضرورة أنّ يوم عيد الفطر هو اليوم الأوّل الواقعي من شوّال ، ويوم عيد الأضحى هو اليوم العاشر الواقعي من ذى الحجّة ، وهكذا.

وكان لاستاذنا السيّد الإمام رحمه‌الله طريق آخر لحلّ الإشكال ، وهو ؛ أنّ بناء المسلمين من صدر الإسلام إلى الآن على ترتيب آثار العيد على يوم رؤية الهلال ، ويجعلون يوم الرؤية أو اليوم الذي بعد يوم الشكّ أو الذي بعد انقضاء ثلاثين يوما من الشهر السابق اليوم الأوّل ، وثانيه الثاني ، وهكذا لا من جهة أنّ موضوع الحكم الشرعي غير الموضوع الواقعي ، فإنّه ضروري البطلان ، بل لأنّ هذا حكم ظاهري ثابت من الصدر الأوّل إلى الآن من غير إشكال في جميع الطبقات (٢).

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٥٠٠.

(٢) الاستصحاب : ١٦٢.

٢٥٧
٢٥٨

التنبيه الثامن

في الامور المذكورة في ذيل البحث عن الاصول المثبتة

الأمر الأوّل :

أنّ استصحاب العنوان المنطبق على الخارج ليس بمثبت.

. قال صاحب الكفاية رحمه‌الله : «إنّه لا تفاوت في الأثر المترتّب على الاستصحاب بين أن يكون مترتّبا عليه بلا واسطة شيء أو بواسطة عنوان كلّي ينطبق ويحمل عليه بالحمل الشائع ويتّحد معه وجودا ، كان منتزعا عن مرتبة ذاته أو بملاحظة بعض عوارضه ممّا هو خارج المحمول لا بالضميمة ...».

وحاصل كلامه : أنّ الأثر الشرعي في الاستصحابات الموضوعيّة قد يترتّب على المستصحب بدون الواسطة ، مثل ترتّب وجوب الإكرام على استصحاب بقاء حياة زيد ، وهو القدر المتيقّن من ترتّب الأثر في الاستصحابات الموضوعيّة ، وقد يترتّب على لازم المستصحب أو ملازمه ، أو ملزومه ، سواء كان عقليّا أو عاديّا ، وهو القدر المتيقّن من مثبتات الاصول ، وقد مرّ ذكره ، وقد يترتّب على عنوان كلّي ينطبق في الخارج على المستصحب ويتّحد معه وجودا.

ومنشأ الانطباق والاتّحاد إمّا أن يكون هذا العنوان من الذات والذاتيّات

٢٥٩

للمستصحب كالنوع أو الجنس أو الفصل ، وإمّا أن يكون من الأعراض الخارجة عن ذات المستصحب ، وهي على قسمين :

قسم منها يعبّر عنه بخارج المحمول ـ كالملكيّة والغصبيّة والزوجيّة ـ وقسم منها يعبّر عنه بالمحمول بالضميمة كالأبيض والأسود. ويستفاد من مثاله لخارج المحمول أنّه أمر انتزاعي اعتباري لا حقيقة له ولا وجود إلّا وجود منشأ الاعتبار والانتزاع.

وقال صاحب الكفاية رحمه‌الله بجريان الاستصحاب فيما يترتّب على عنوان كلّي يكون من الذات والذاتيّات للمستصحب ؛ لاتّحادهما من حيث الوجود ، ولا حقيقة لهذا العنوان سوى المستصحب ، فإنّ الطبيعي لا يتحقّق إلّا بتحقّق مصداقه ، وهكذا بجريانه فيما يترتّب على عنوان كلّي يكون من أعراض خارج المحمول للمستصحب ؛ إذ لا وجود لهذا الأمر الانتزاعي إلّا بوجود منشأ انتزاعه واعتباره ، فاستصحاب منشأ الانتزاع لترتّب الأثر الانتزاعي لا يكون بمثبت ، بخلاف إذا ترتّب الأثر على عرض المحمول بالضميمة للمستصحب كالسواد والبياض ، فإنّهما واقعيّتان مختلفتان ، وترتّب أثر أحدهما على الآخر يكون من الأصل المثبت (١).

والظاهر من كلام الشيخ عدم حجّيّة الاستصحاب في جميع هذه الصور ، حيث قال: «ولا فرق فيما ذكرنا بين كون العنوان الذي يكون واسطة متّحد الوجود مع المستصحب أو مغايرة» (٢).

وما ذكره صاحب الكفاية رحمه‌الله قابل للبحث في مقامين :

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٣٢٩ ـ ٣٣٠.

(٢) فوائد الاصول ٢ : ٧٧٧.

٢٦٠