دراسات في الأصول - ج ٤

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-95-8
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٤٨٠

الأوّل : ما إذا علمنا بوجود زيد في الدار ، فانهدم الطرف الشرقي منها ، فلو كان زيد فيه فقد مات بانهدامه ، ولو كان في الطرف الغربي فهو حيّ ، فحياة زيد وإن كانت مشكوكا فيها إلّا أنّه لا مجال معه لاستصحاب الكلّي ، والمقام من هذا القبيل بعينه.

الثاني : ما إذا كان لزيد درهم واشتبه بين ثلاثة دراهم مثلا ، ثمّ تلف أحد الدراهم ، فلا معنى لاستصحاب الكلّي بالنسبة إلى درهم زيد ، فإنّه جزئيّ (١).

وأجاب عنه تلميذ بعض الأعلام قدس‌سره : بأنّ هذا الجواب غير تامّ ، فإنّ الإشكال ليس في تسمية الاستصحاب الجاري في مسألة العباءة باستصحاب الكلّي ، بل الإشكال إنّما هو في أنّ جريان استصحاب النجاسة لا يجتمع مع القول بطهارة الملاقي لأحد أطراف الشبهة ، سواء كان الاستصحاب من قبيل استصحاب الكلّي أو الجزئيّ ، فكما أنّه لا مانع من استصحاب حياة زيد في المثال الأوّل كذلك لا مانع من جريان الاستصحاب في مسألة العباءة.

وأمّا المثال الثاني فالاستصحاب فيه معارض بمثله ، فإنّ أصالة عدم تلف درهم زيد معارض بأصالة عدم تلف درهم غيره ، ولو فرض عدم الابتلاء بالمعارض لا مانع من جريان الاستصحاب فيه ، كما إذا اشتبهت خشبة زيد ـ مثلا ـ بين أخشاب لا مالك لها لكونها من المباحات الأصليّة ، فتلف أحدها ، فتجري أصالة عدم تلف خشبة زيد بلا معارض(٢).

والإنصاف أنّ هذا الجواب عجيب منه ؛ إذ الغرض من الشبهة العبائيّة هو جريان استصحاب الكلّي فيها حتّى يكون مانعا من جريان استصحاب الكلّي

__________________

(١) المصدر السابق.

(٢) المصدر السابق.

١٨١

من القسم الثاني ، وهذه الشبهة إشكال ونقض على جريان استصحاب الكلّي ، وكانت في مقام سدّ الطريق على جريانه في الكلّي من القسم الثاني ، وإذا كان الاستصحاب فيها جزئيّا ـ كما يقول سواء كان من قبيل استصحاب الكلّي أو الجزئي ـ فكيف يكون إشكالا ونقضا عليه؟!

ومعلوم أنّ عدم جريان استصحاب الجزئي في مورد لمانع لا يكون مانعا عن جريانه في موارد اخرى ، فهذا الجواب ليس بتامّ.

والتحقيق في الجواب عمّا ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله : أنّ الاستصحاب في الشبهة العبائيّة هو استصحاب الكلّي ، فإنّ نجاسة الطرف الأسفل متيقّن الارتفاع ، ونجاسة الطرف الأعلى مشكوك الحدوث ، فلا يقين بالنسبة إلى الفرد حتّى يستصحب في حال الشكّ ، فلا بدّ من جريان استصحاب الكلّي بدون الإضافة إلى خصوص الطرف الأسفل أو الأعلى بأنّ يقال : إنّ النجاسة في العباءة كانت متيقّنة والآن هي مشكوكة ، فنستصحب النجاسة الكلّيّة ؛ إذ لا شكّ في وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة في هذه الصورة.

وأمّا ما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله من المثال ، وهو قوله : ما إذا علمنا بوجود زيد في الدار ، فانهدم الطرف الشرقي منها ، فلو كان زيد فيها فقد مات بانهدامه ، ولو كان في الطرف الغربي فهو حيّ ، فحياة زيد وإن كانت مشكوكا فيها إلّا أنّه لا مجال معه لاستصحاب الكلّي ، والمقام من هذا القبيل بعينه.

فجوابه : أوّلا : أنّ جريان استصحاب الفرد لا يكون مانعا عن جريان استصحاب الكلّي ، ففي المثال كما يجري استصحاب بقاء زيد في الدار ، كذلك يجري استصحاب بقاء الإنسان في الدار ، وقد ذكرنا في القسم الأوّل من أقسام الكلّي أنّ استصحاب الكلّي ليس بمانع عن استصحاب الفرد وبالعكس ،

١٨٢

بل يجري كلّ منهما بلحاظ ترتّب الأثر.

وثانيا : أنّه يتحقّق الفرق بين المثال وما نحن فيه بأنّ كون زيد في الجانب الشرقي من الدار لا يترتّب عليه أثر ، وكون زيد في الجانب الغربي من الدار لا يترتّب عليه أثر ، وما يترتّب عليه الأثر هو بقاء زيد في الدار ، أو بقاء الإنسان في الدار ، وإضافة زيد إلى الجانب الغربي والشرقي لا يوجب التعدّد فيه ولا يخرجه من الجزئي الحقيقي ، وما نحن فيه ليس كذلك ، فإنّ إضافة النجاسة إلى الطرف الأسفل من العباءة يترتّب عليه الأثر من وجوب الغسل حين الصلاة ووجوب الاجتناب عنه ، وهكذا إضافتها إلى الطرف الأعلى منه ، ومعلوم أنّ ذيل العباءة متنجّس وصدر العباءة متنجّس آخر ، لا أنّه نفس ذاك المتنجّس ، والأمر مردّد بينهما ، ولكلّ منهما أحكام وآثار ، وإذا كان الذيل متنجّسا فيجب تطهيره ، وملاقاته تكون موجبة للتنجّس ، وهكذا الصدر ، فقياس المثال على ما نحن فيه غير تام.

وذكر بعض الأعلام قدس‌سره جوابا آخر عن الشبهة العبائيّة وقال : «فالإنصاف في مثل مسألة العباءة هو الحكم بنجاسة الملاقي لا لرفع اليد عن الحكم بطهارة الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة على ما ذكره السيّد الصدر قدس‌سره من أنّه على القول بجريان استصحاب الكلّي لا بدّ من رفع اليد عن الحكم بطهارة الملاقي لأحد أطراف الشبهة ؛ بل لعدم جريان القاعدة التي نحكم لأجلها بطهارة الملاقي في المقام ؛ لأنّ الحكم بطهارة الملاقي إمّا أن يكون لاستصحاب الطهارة في الملاقي ، وإمّا أن يكون لجريان الاستصحاب الموضوعي ، وهو أصالة عدم ملاقاته النجس. وكيف كان ، يكون الأصل الجاري في الملاقي في مثل مسألة العباءة محكوما باستصحاب النجاسة في العباءة ، فمن آثار هذا الاستصحاب

١٨٣

هو الحكم بنجاسة الملاقي. ولا منافاة بين الحكم بطهارة الملاقي في سائر المقامات والحكم بنجاسته في مثل المقام ؛ للأصل الحاكم على الأصل الجاري في الملاقي ، فإنّ التفكيك في الاصول كثير جدّا ، فبعد ملاقاة الماء ـ مثلا ـ لجميع أطراف العباءة نقول : إنّ الماء قد لاقى شيئا كان نجسا ، فيحكم ببقائه على النجاسة ؛ للاستصحاب ، فيحكم بنجاسة الماء» (١).

ولكنّ الالتزام بنجاسة الماء وترتّبها على استصحاب النجاسة ليس بتامّ إلّا على القول بالأصل المثبت وترتّب الآثار واللوازم العقليّة ، وبعد ما ذكرناه في الجواب عن الشبهة العبائيّة من مثبتيّة هذا الأصل فلا محلّ لهذا الجواب.

القسم الثالث : وهو ما إذا كان الشكّ في بقاء الكلّي لاحتمال قيام فرد آخر مقام الفرد المعلوم ارتفاعه ، فيتصوّر على وجهين :

أحدهما : ما إذا كان منشأ الشكّ احتمال مقارنة فرد لوجود الفرد المعلوم ، بحيث يحتمل اجتماعهما في الوجود.

وثانيهما : ما إذا كان منشؤه احتمال حدوث فرد مقارنا لزوال الفرد المعلوم.

واختار الشيخ قدس‌سره التفصيل بين الصورتين وقال بجريان الاستصحاب في الاولى دون الثانية ، بدعوى أنّه في الصورة الاولى يكون الكلّي المعلوم سابقا مردّدا بين أن يكون وجوده على نحو لا يرتفع بارتفاع الفرد المعلوم ارتفاعه ، وأن يكون على نحو يرتفع بارتفاع ذلك الفرد، فيحتمل كون الثابت في الآن اللاحق عين الموجود سابقا ، فيجري الاستصحاب فيه ، بخلاف الصورة الثانية ، فإنّ الكلّي المعلوم سابقا قد ارتفع يقينا ، ووجوده في ضمن فرد آخر مشكوك الحدوث من الأوّل ، فلا يمكن جريان الاستصحاب فيه (٢).

__________________

(١) مصباح الاصول ٣ : ١١٢ ـ ١١٣.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٧٥٥.

١٨٤

والتحقيق : أنّ هذا التفصيل ليس بتامّ ؛ إذ النظر في استصحاب الكلّي لا يكون إلى الخصوصيّات الفرديّة وأنّه يتحقّق في ضمن أيّ خصوصيّة ، ولا يلزم أن تكون خصوصيّة الكلّي في البقاء عين خصوصيّة الكلّي في الحدوث ، بل النظر متمركز إلى عنوان الكلّي ، وهو في ما نحن فيه عنوان الإنسانيّة ـ مثلا ـ وبالنسبة إلى هذا العنوان لا فرق بين الصورتين ، والقضيّة المتيقّنة والمشكوكة في كلا الفرضين عبارة عن أنّه : كان الإنسان موجودا في الدار قطعا والآن نشكّ في بقاء الإنسان في الدار ، فإن قلنا بجريان الاستصحاب فلا بدّ من القول به فيهما ، وهكذا إن قلنا بعدم جريانه ، بلا فرق بينهما.

والمحقّق النائيني رحمه‌الله قائل بعدم جريان الاستصحاب في الكلّي من القسم الثالث مطلقا ، وقال : «بداهة أنّ العلم بوجود الفرد الخاصّ في الخارج إنّما يلازم العلم بوجود حصّة من الكلّي في ضمن الفرد الخاصّ ، لا أنّه يلازم العلم بوجود الكلّي بما هو هو ، بل للفرد الخاصّ دخل في وجود الحصّة حدوثا وبقاء ، والحصّة من الكلّي الموجود في ضمن الفرد الخاصّ تغاير الحصّة الموجودة في ضمن فرد آخر ، ولذا قيل : إنّ نسبة الكلّي إلى الأفراد نسبة الآباء المتعدّدة إلى الأبناء المتعدّدة ، فلكلّ فرد حصّة تغاير حصّة الآخر ، والحصّة التي تعلّق بها اليقين سابقا إنّما هي الحصّة التي كانت في ضمن الفرد الذي علم بحدوثه وارتفاعه ، ويلزمه العلم بارتفاع الحصّة التي تخصّه أيضا ، ولا علم بحدوث حصّة اخرى في ضمن فرد آخر ، فأين المتيقّن الذي يشكّ في بقائه ليستصحب؟» (١).

وقال استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره في مقام الجواب عنه : «إنّ هذا ناش من عدم

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٤٢٤ ـ ٤٢٥.

١٨٥

تعقّل الكلّي الطبيعي وكيفيّة وجوده ، وعدم الوصول إلى مغزى مراد القوم ، من أنّ نسبة الكلّي إلى الأفراد نسبة الآباء ؛ ضرورة أنّ الكلّي الطبيعي لدى المحقّقين موجود بتمام ذاته مع كلّ فرد من الأفراد ، فكلّ فرد في الخارج بتمام هويّته عين الكلّي ، لا أنّه حصّة منه ولا تعقل الحصص للكلّي ، فزيد إنسان ، لا نصف إنسان ، أو جزء إنسان ، أو حصّة منه ، فلا معنى للحصّة أصلا.

وبالجملة ، هذا الإشكال بمكان من الضعف يغني تصوّر الكلّي عن ردّه ، والعجب أنّ بعض أعاظم العصر ادّعى البداهة لما اختاره من الحصص للكلّي مع كونه ضروري الفساد» (١).

ومعلوم أنّ بعد بطلان هذا المبني لا يصحّ ترتّب الأثر المذكور عليه ، فنقول في المثال : كان الإنسان في الدار موجودا قطعا ، وبعد خروج زيد واحتمال وجود عمرو معه من الابتداء أو دخوله في الدار مقارنا مع خروجه عنه نشكّ في بقاء الإنسان فيه ، فنستصحب كلّي الإنسان ، ونرتّب آثاره الشرعيّة عليه.

ثمّ إنّ الشيخ الأنصاري قدس‌سره بعد اختياره التفصيل بين الفرضين من استصحاب الكلّي من القسم الثالث والقول بعدم جريانه في الفرض الثاني استثنى موردا منه بقوله : «ويستثنى من عدم الجريان في القسم الثاني ـ أي الفرض الثاني من القسم الثالث ـ ما يتسامح به العرف ، فيعدّون الفرد اللاحق مع الفرد السابق كالمستمرّ الواحد ، مثل ما لو علم السواد الشديد في محلّ وشكّ في تبدّله بالبياض أو بسواد أضعف من الأوّل ، فإنّه يستصحب السواد» (٢).

والتحقيق : أنّ تبدّل مرتبة من العرض بمرتبة اخرى ليس من القسم الثالث

__________________

(١) الاستصحاب : ٩٢.

(٢) فرائد الاصول ٢ : ٧٥٥.

١٨٦

رأسا ؛ لأنّ شخصيّة الفرد وهويّته باقية في جميع المراتب عقلا وعرفا ، فالسواد الشديد إذا صار ضعيفا ليس تبدّله من الكمال إلى النقص تبدّل فرد بفرد آخر ، أمّا عقلا فواضح ، وأمّا عرفا فلأنّ المراتب عندهم في أمثاله من قبيل الحالات والشئون للشيء ، فشدّة السواد وضعفه من حالات نفس السواد مع بقائه ذاتا وتشخّصا ، فالاستصحاب في مثله من استصحاب الشخصي والجزئي ، فما ذكره الشيخ قدس‌سره من الاستثناء المنقطع.

نعم ، فيما إذا علم بوجوب شيء وقطع بزواله ، واحتمل تبدّله بالاستحباب يكون من القسم الثالث ؛ لأنّه من قبيل تبدّل فرد من الطلب بفرد آخر مغايرا عرفا وعقلا.

وقال صاحب الكفاية قدس‌سره : «وأمّا إذا كان الشكّ في بقاء الكلّي من جهة الشكّ في قيام خاصّ آخر في مقام ذاك الخاصّ الذي كان في ضمنه بعد القطع بارتفاعه ، ففي استصحابه إشكال أظهره عدم جريانه ، فإنّ وجود الطبيعي وإن كان بوجود فرده إلّا أنّ وجوده في ضمن المتعدّد من أفراده ليس من نحو وجود واحد له ، بل متعدّد حسب تعدّدها ، فلو قطع بارتفاع ما علم وجوده من الأفراد لقطع بارتفاع وجود الكلّي وإن شكّ في وجود فرد آخر مقارن لوجود ذاك الفرد أو لارتفاعه ، بنفسه أو بملاكه ، كما إذا شكّ في الاستحباب بعد القطع بارتفاع الايجاب بملاك مقارن أو حادث» (١).

وقال استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره في مقام الجواب عنه : «وأمّا ما أفاده المحقّق الخراساني قدس‌سره من تعدّد الطبيعي بتعدّد الفرد ، وأنّ الكلّي في ضمن فرد غيره في آخر ، ولذا اختار عدم الجريان مطلقا ، فهو حقّ في باب الكلّي الطبيعي عقلا

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٣١٢.

١٨٧

كما حقّق في محلّه ، لكن جريانه لا يتوقّف على الوحدة العقليّة ، بل الميزان وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها عرفا ، ولا إشكال في اختلاف الكلّيّات بالنسبة إلى أفرادها لدى العرف.

وتوضيحه : أنّ الأفراد قد تلاحظ بالنسبة إلى النوع التي هي تحته ، كزيد وعمرو بالنسبة إلى الإنسان ، وقد تلاحظ بالنسبة إلى الجنس القريب كزيد وحمار بالنسبة إلى الحيوان ، وقد تلاحظ بالنسبة إلى الجنس المتوسّط أو البعيد ، وقد تلاحظ بالنسبة إلى الكلّي العرضيّ ، كأفراد الكيفيّات والكمّيات التي هي مشتركة في العروض على المحلّ.

ولا يخفى أنّ الأفراد بالنسبة إلى الكلّيّات مختلفة عرفا ، فإذا شكّ في بقاء نوع الإنسان إلى ألف سنة يكون الشكّ في البقاء عرفا مع تبدّل الأفراد ، لكنّ العرف يرى بقاء النوع مع تبدّل أفراده ، وقد يكون الجنس بالنسبة إلى أفراد الأنواع كذلك ، وقد لا يساعد عليه نظر العرف ، كأفراد الإنسان والحمار بالنسبة إلى الحيوان ، فإنّ العرف لا يرى الإنسان من جنس الحيوان ، وقد لا يساعد عليه نظر العرف في أفراد الأجناس البعيدة ، وقد يساعد على ذلك.

وبالجملة ، الميزان وحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوك فيها عرفا ، ولا ضابط لذلك (١).

فلا نقول بجريان استصحاب الكلّي في هذا القسم مطلقا ، ولا بعدم جريانه مطلقا ، ولا بالتفصيل الذي ذكره الشيخ قدس‌سره ، بل جريانه وعدم جريانه تابع لوحدة القضيّتين بنظر العرف وعدمها.

وقال بعض الأعلام قدس‌سره : «والصحيح عدم جريان الاستصحاب في

__________________

(١) الاستصحاب : ٩٣.

١٨٨

الصورتين ؛ لأنّ الكلّي لا وجود له إلّا في ضمن الفرد ، فهو حين وجوده متخصّص بإحدى الخصوصيّات الفرديّة ، فالعلم بوجود فرد معيّن يوجب العلم بحدوث الكلّي بنحو الانحصار ـ أي يوجب العلم بوجود الكلّي المتخصّص بخصوصيّة هذا الفرد ـ وأمّا وجود الكلّي المتخصّص بخصوصيّة فرد آخر فلم يكن معلوما لنا ، فما هو المعلوم لنا قد ارتفع يقينا ، وما هو محتمل للبقاء لم يكن معلوما لنا ، فلا يكون الشكّ متعلّقا ببقاء ما تعلّق به اليقين ، فلا يجري فيه الاستصحاب» (١).

وجوابه : أنّ احتياج وجود الكلّي إلى الخصوصيّات الفرديّة لا بحث فيه ، إلّا أنّ الكلّي بعد التحقّق والوجود كأنّه ينحلّ إلى أمرين أو حيثيّتين : إحداهما حيثيّة الكلّي المتحقّق ، والاخرى حيثيّة الخصوصيّات الفرديّة ، والاستصحاب يجري في الأمر الأوّل ـ أي الكلّي المتحقّق ـ ولا فرق بين زيد وعمرو وسائر الأفراد في كلّي الإنسانيّة المتحقّقة ، والفرق إنّما يرجع إمّا إلى مقالة صاحب الكفاية ، وإمّا إلى ما ذكره النائيني رحمه‌الله وبعد ردّ ما ذكراه تستفاد وحدة كلّي الإنسان المتحقّق في ضمن زيد مع كلّي الإنسان المتحقّق في ضمن عمرو ـ مثلا ـ ، والاختلاف في الخصوصيّات الفرديّة فقط ، فلا مانع من استصحاب الكلّي هنا.

وترد على هذا القسم من الكلّي أيضا شبهة نظير الشبهة العبائيّة في القسم الثاني منه ، وهي : أنّه إذا قام أحد من النوم واحتمل جنابته في حال النوم لم يجز له الدخول في الصلاة مع الوضوء ، بناء على جريان الاستصحاب في الصورة الاولى من القسم الثالث من استصحاب الكلّي ، وذلك لجريان استصحاب

__________________

(١) مصباح الاصول ٢ : ١١٤ ـ ١١٥.

١٨٩

الحدث حينئذ بعد الوضوء ؛ لاحتمال اقتران الحدث الأصغر مع الجنابة ، وهي لا ترتفع بالوضوء. ولا يلتزم بهذا الحكم الشيخ قدس‌سره ولا غيره ؛ فإنّ كفاية الوضوء حينئذ من الواضحات. وهذا يكشف من عدم جريان الاستصحاب في القسم الثالث مطلقا.

وقال بعض الأعلام قدس‌سرهم في مقام الجواب عنه : «ولكنّ الإنصاف عدم ورود هذا النقض على الشيخ رحمه‌الله وذلك ؛ لأنّ الواجب على المحدث هو الوضوء ؛ لقوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ)(١) ، والجنب خارج من هذا العموم ويجب عليه الغسل ؛ لقوله تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا)(٢) ، فيكون وجوب الوضوء مختصّا بغير الجنب ، فإنّ التقسيم قاطع للشركة ، فالمكلّف بالوضوء هو كلّ محدث لا يكون جنبا ، فهذا الذي قام من نومه ويحتمل كونه جنبا حين النوم تجري في حقّه أصالة عدم تحقّق الجنابة ، فكونه محدثا محرز بالوجدان ، وكونه غير جنب محرز بالتعبّد الشرعي ، فيدخل تحت قوله تعالى : (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ...) فيكون الوضوء في حقّه رافعا للحدث ، ولا مجال لجريان الاستصحاب في الكلّي ؛ لكونه محكوما بالأصل الموضوعي» (٣).

ويمكن الجواب عنه بأنّ الآية مشتملة على قضيّتين ، كأنّه قال : إذا تحقّق النوم يجب الوضوء ، وإذا تحقّقت الجنابة يجب الاغتسال ، ولا ارتباط بينهما ولا دليل لتقييد موضوع وجوب الوضوء وتركيبيه ـ أي النوم وعدم الجنابة ـ كما إذا قال المولى لعبده : «إن جاءك زيد فأكرمه» ، ثمّ قال : «إن جاءك عمرو فأهنه» ، فمجيء زيد سبب مستقلّ لوجوب إكرام زيد ، ولا دليل لدخالة قيد

__________________

(١) المائدة : ٦.

(٢) المائدة : ٦.

(٣) مصباح الاصول ٣ : ١١٥ ـ ١١٦.

١٩٠

آخر أو جزء آخر فيه ـ أي مجيء عمرو وعدم مجيئه ـ وهكذا في القضيّة الثانية.

وأمّا استشهاده بذيل الآية ـ أي (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً)(١) ، واستفادته تقييد موضوع الوضوء بوجدان الماء بقرينة المقابلة بين الصدر والذيل فليس بصحيح ؛ فإنّ هذا التقييد يستفاد من نفس الأمر بالوضوء مع قطع النظر عن ذيل الآية.

والتحقيق : أنّ هذا الجواب ليس بصحيح ، بل ما ذكره بعض الأعلام قدس‌سره في كمال الدقّة والمتانة ، فإنّ الظاهر من قوله تعالى : (إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ ...) أنّه : إذا قمتم من النوم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم ... وهذا المعنى في القضيّة الاولى واضح.

وأمّا ارتباط القضيّة الشرطيّة الثانية بالصلاة ، فيستفاد من ذكرها عقيب القضيّة الاولى ، فالقيام من النوم إلى الصلاة محفوظ فيهما ، فالمستفاد من الآية صدرا وذيلا أنّ القائم من النوم على قسمين : قد يكون القائم من النوم جنبا وقد يكون غير جنب ، كأنّه قال : «إذا قمتم من النوم إلى الصلاة ولم تكونوا جنبا فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ، وإذا قمتم من النوم إلى الصلاة وكنتم جنبا فاطّهروا ويجب عليكم الاغتسال» ، وبهذا الاستظهار من الآية يصحّ الجواب عن الشبهة ، وأنّ موضوع الوضوء في صدر الآية مقيّد ومركّب من الجزءين ـ أي القيام من النوم وعدم الجنابة ـ والأوّل محرز بالوجدان والثاني بالاستصحاب ،

فبعد جريان استصحاب الموضوع ـ أي عدم الجنابة ـ لا تصل النوبة إلى استصحاب كلّي الحدث بعد الوضوء ، ولا تقاس الآية بالمثال

__________________

(١) المائدة : ٦.

١٩١

المذكور ، كما هو واضح ، ونفس الآية مع قطع النظر عن الروايات تدلّ على كفاية الغسل للصلاة بعد الجنابة. هذا كلّه بالنسبة إلى الجواب الأوّل من الشبهة.

والجواب الثاني : أنّ المستصحب لا بدّ من كونه مجعولا وحكما شرعيّا أو موضوعا للحكم الشرعي ، ومعلوم أنّ الحدث الكلّي لا يكون من الأحكام المجعولة الشرعيّة ، فإنّه أمر انتزاعي انتزعه المتشرّعة لا يكون هذا العنوان في لسان الشارع محكوما بحكم ، ولا يكون موضوعا للحكم الشرعي ؛ إذ لا نرى في الشريعة أن يكون مطلق الحدث والعنوان الجامع بين الأصغر والأكبر محكوما بحكم.

ولكن يمكن أن يتحقّق بعض موارد في الشرع أن يكون عنوان المحدث محكوما بحكم ، مثل : «المحدث لا يجوز له مسّ كتابة القرآن» ، وهكذا ، فإن كان كذلك فليس هذا الجواب بتامّ ؛ إذ لا مانع من استصحاب كلّي الحدث لترتّب هذه الآثار الشرعيّة.

وأمّا القسم الرابع من الكلّي فهو ما إذا علمنا بوجود عنوانين يحتمل انطباقهما على فرد واحد وعدمه ، أو علمنا بوجود فردين وشكّ في تعاقبهما وعدمه ، والمثال للأوّل أنّه : إذا علمنا لوجود زيد في الدار لوجود متكلّم فيها يحتمل انطباقه على زيد وعلى غيره ، وبعد القطع بخروج زيد عنها نشكّ في بقاء المتكلّم فيها ؛ لاحتمال بقائه في ضمن غيره ، فنستصحب بقاء كلّي الإنسان فيها ، أو أنّه : إذا علمنا بالجنابة ليلة الخميس ـ مثلا ـ وقد اغتسلنا منها ، ثمّ رأينا منيّا في ثوبنا يوم الجمعة ، فنعلم بكوننا جنبا حين خروج هذا المني ، ولكن نحتمل أن يكون هذا المني من الجنابة التي قد اغتسلنا منها ، أو يكون من غيرها ، فنستصحب بقاء كلّي الجنابة.

١٩٢

والمثال للثاني : ما إذا علم أحد بوضوءين وبحدث ، ولكن لا يدري أنّ الوضوء الثاني كان تجديديّا ليكون الحدث بعدهما وباقيا فعلا ، أو كان رافعا للحدث ليكون متطهّرا فعلا ، فيمكن استصحاب كلّي الطهارة.

ولا شكّ في أنّ الاستصحاب في المثال الأوّل استصحاب الكلّي ، ولا شكّ في كونه قسما آخر في مقابل كلّي القسم الثاني والثالث ، فإنّه قد مرّ أنّه إذا علمنا بتحقّق كلّي الحيوان في الدار وشككنا في كونه في ضمن فرد قصير العمر أو طويل العمر ، فهو كلّي من القسم الثاني ، وإذا علمنا بتحقّق كلّي الإنسان في ضمن زيد ـ مثلا ـ في الدار وخروجه عنها ، وشككنا في تحقّق عمرو فيها مقارنا مع دخول زيد فيها أو مقارنا لخروجه عنها ، فهو كلّي من القسم الثالث. وفي ما نحن فيه علمنا بوجود زيد في الدار وخروجه عنها وعلمنا أيضا بوجود متكلّم فيها ، وشككنا في انطباق هذا العنوان الكلّي على زيد أو غيره.

وأمّا الاستصحاب في المثال الثاني على فرض جريانه ، فلا يكون استصحابا كلّيّا ، فإنّ استصحاب الجنابة الحاصلة عقيب هذا المنيّ المشخّص الموجود في الثوب استصحاب شخصي ؛ إذ الجنابة بهذه الأوصاف لا يمكن أن تكون كلّيّة ، والشكّ في زمان الجنابة لا يوجب كلّيّتها.

وهكذا استصحاب الطهارة في المثال الثالث ليس باستصحاب الكلّي ؛ إذ المتيقّن والمستصحب في الواقع عبارة عن الطهارة الحاصلة بعد الوضوء الثاني ، سواء كان تجديديّا أو رافعا للحدث ، والترديد في سبب هذه الطهارة أنّه وضوء الأوّل والثاني ، والترديد في سببيّتها لا يوجب كلّيّتها ، فهذان المثالان خارجان عن تحت عنوان استصحاب الكلّي ، فيبقى المثال الأوّل فقط ، ويجري استصحاب الكلّي ، فإنّا كنّا متيقّنين بوجود المتكلّم الكلّي في الدار وبعد خروج زيد نشكّ في بقاءه فيها فنستصحب بقاءه.

١٩٣

وربّما يقال بعدم جريان الاستصحاب في هذا القسم من أقسام استصحاب الكلّي ؛ نظرا إلى أنّه لا بدّ في جريان الاستصحاب من إحراز صدق عنوان نقض اليقين بالشكّ على رفع اليد عن اليقين السابق بعد جواز إحراز عالميّة زيد ـ مثلا ـ في صورة الشكّ فيه بالتمسّك بعموم إكرام كلّ عالم ، فإنّه من التمسّك بالعام في الشبهة المصداقيّة ، وفي المقام لم يحرز هذا ؛ لأنّه بعد اليقين بارتفاع الفرد المتيقّن ـ أي زيد في المثال ـ واحتمال انطباق العنوان الآخر ـ أي المتكلّم ـ عليه يحتمل أن يكون رفع اليد عن اليقين به من نقض اليقين باليقين ، فلا يمكن التمسّك بقوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ» ، فإنّه من التّمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة.

وجوابه : أنّ احتمال الانطباق إنّما هو في نفس العنوان لا بوصف أنّه متيقّن ، فإنّه بهذا الوصف يستحيل انطباقه على الفرد الأوّل بالضرورة ، ففي المثال المتقدّم إنّما نحتمل انطباق نفس عنوان المتكلّم على زيد ، إلّا أنّه بوصف أنّه متيقّن لا يحتمل أن ينطبق عليه ، فبعد اليقين بوجود المتكلّم في الدار لا يرتفع هذا اليقين باليقين بخروج زيد منها ، بل الشكّ في بقائه فيها موجود بالوجدان ، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه.

وبالجملة ، الشبهة المصداقيّة غير متصوّرة في الاصول العلميّة ؛ لأنّ موضوعها اليقين والشكّ ، وهما من الامور الوجدانيّة ، فإمّا أن يكونا موجودين أو لا ، فلا معنى لقولنا : لا نعلم أنّا نشكّ في أمر كذا أم لا.

هذا تمام الكلام في استصحاب الكلّي ، وذكر أعاظم الفنّ تبعا للشيخ الأنصاري قدس‌سره في ذيل استصحاب الكلّي من القسم الثالث مسألة اختلافيّة بين المشهور والفاضل التوني قدس‌سره بالنسبة إلى استصحاب عدم التذكية وقد مرّ الكلام فيها مفصّلا في تنبيهات أصالة البراءة ، ولا نعيدها إعراضا عن التطويل.

١٩٤

التنبيه الرابع

في جريان الاستصحاب في التدريجيّات

ربّما يقال : إنّ مقتضى تعريف الاستصحاب وأخبار الباب ـ من اعتبار الشكّ في البقاء فيه ـ عدم جريانه في الزمان والزمانيّات ؛ لعدم تصوّر البقاء فيها ، فأنكر المحقّق الحائري قدس‌سره اعتبار الشكّ في البقاء قائلا : إنّ الميزان فيه هو مفاد الأخبار ، والمعتبر فيها هو صدق نقض اليقين بالشكّ ، وهو صادق في التدريجيّات وغيرها ؛ ضرورة أنّها ـ ما لم تنقطع ـ وجود واحد حقيقي وإن كان متصرّما ، فلو شكّ في تحقّق الحركة أو الزمان بعد العلم بتحقّقهما فقد شكّ في تحقّق عين ما كان متحقّقا سابقا ، فلا يحتاج في التمسّك بالأخبار إلى المسامحة العرفيّة.

نعم ، لو كان المعتبر في الاستصحاب الشكّ في البقاء أمكن أن يقال : مثل الزمان والزمانيّات المتصرّمة خارج عن العنوان المذكور ؛ لعدم تصوّر البقاء لها إلّا بالمسامحة العرفيّة ، لكن ليس هذا العنوان في الأدلّة (١).

ويظهر من الشيخ الأنصاري قدس‌سره أيضا هذا المعنى حيث تفصّى عن الإشكال

__________________

(١) درر الفوائد : ٥٣٨.

١٩٥

بأحد وجهين :

أوّلهما : أنّ التعبير بالبقاء في تعريف الاستصحاب بلحاظ صدقه في الزمانيّات وإن لم يصدق في نفس الزمان.

وثانيهما : أنّ البقاء أعمّ من الحقيقي كما في الزمانيّات ، والمسامحي كما في الزمان ، وإلّا فالعبرة بالشكّ في وجوده العلم بتحقّقه قبل زمان الشكّ ، وإن كان تحقّقه بنفس تحقّق زمان الشكّ (١).

والتحقيق بعد ملاحظة هذه المباحث : أنّه لا بدّ من البحث في مقامين :

الأوّل : في أنّ الشكّ في البقاء حقيقة معتبر في الاستصحاب أم لا؟ وأنّه على فرض اعتباره ، ما الدليل على ذلك؟

الثاني : أنّ الاستصحاب يجري في الزمان والحركة وأمثال ذلك أم لا؟

أمّا المقام الأوّل فالتحقيق : أنّ الشكّ في البقاء معتبر في الاستصحاب ، والدليل على ذلك لا يكون تعاريف القوم ـ بإبقاء ما كان وأمثال ذلك ـ إذ لا دليل لحجّيّتها ، بل يستفاد هذا المعنى من أدلّة الاستصحاب ؛ لأنّ مقتضى قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» أنّ اليقين الفعلي لا ينقض بالشكّ الفعلي ، ولازمه أن يكون هنا شكّ فعليّ متعلّق بعين ما تعلّق به اليقين الفعلي ، ولا يتصوّر ذلك إلّا بأن يكون الشكّ في بقاء ما علم وجوده سابقا ، فقوله : «لأنّك كنت على يقين من طهارتك فشككت ، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا» (٢) عبارة اخرى عن الشكّ في بقاء الطهارة.

وأمّا المقام الثاني فلا مانع من جريان الاستصحاب في الزمان ، لوحدة

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٧٥٩.

(٢) الوسائل ٢ : ١٠٥٣ ، الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، الحديث ١.

١٩٦

القضيّة المتيقّنة والمشكوكة عرفا ، فإذا شككنا في بقاء النهار ـ مثلا ـ يجري استصحاب وجوده بلا إشكال ، وهكذا إذا شككنا في بقاء الليل ، أو الشهر ، أو السّنة ، وإن قلنا بأنّ الزمان مركّب من الآنات الصغيرة المنصرمة ، نظير ما ذكره بعضهم من تركيب الأجسام من الأجرام الصغيرة غير القابلة للتجزئة ، فلا مانع من جريان الاستصحاب فيه أيضا ، لوحدة القضيّة المتيقّنة والمشكوكة بنظر العرف ، والمدار في جريان الاستصحاب على وحدة الموضوع بنظر العرف لا بالدّقة العقليّة.

وإن لاحظنا المسألة بنظر العقل ، فهو يوافق نظر العرف ، فإنّ الوجود على نوعين : نوع منه وجود قارّ ومستقرّ والنوع الآخر منه الوجود المتدرّج والمتصرّم الذي يوجد وينعدم ، فإذا كانت ذات الموجود عبارة عن التدرّج والتصرّم فيتصوّر فيه الشكّ في البقاء ، فالنهار موجود مستمرّ تدريجي يبتدأ من أوّل جزء النهار ويستمرّ إلى آخره ، يتحقّق فيه البقاء ولو بالدّقة العقليّة.

وقال صاحب الكفاية قدس‌سره : «إنّ الانصرام والتدرّج في الوجود في الحركة في الأين وغيره إنّما هو في الحركة القطعيّة ، وهي كون الشيء في كلّ آن في حدّ أو مكان ، لا التوسطيّة وهي كونه بين المبدأ والمنتهى ، فإنّه بهذا المعنى يكون قارّا مستمرّا ، فانقدح بذلك أنّه لا مجال للإشكال في استصحاب مثل الليل والنهار وترتيب ما لهما من الآثار» (١).

والتحقيق : أنّ تعريف الحركة القطعيّة بكون الشيء في كلّ آن في حدّ ومكان ، ليس بتامّ عند أهل الفنّ ، بل هو تعريف للحركة التوسّطيّة عندهم ـ بمعنى انقطاع كلّ حدّ وآن عن سابقه ولا حقه ، ووجود الحدّ الآخر والآن

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٣١٥.

١٩٧

الآخر بعده منقطعا عن الحدّ والآن الآخر ـ ولكنّه مستلزم لتوالي الفاسدة من إنكار الحركة أوّلا ، فإنّ تبادل الآنات لا يوجب وجود الحركة ، والجزء الذي لا يتجزّأ وتتالي الآنات ، ولهذا تكون الحركة بمعنى التوسّط والآن السيّال ممّا لا وجود لها ، بل ما هو الموجود هو الحركة القطعيّة والزمان ، لكنّ نحو وجودها يكون بالامتداد التصرّمي والاستمرار التجدّدي ، فلا إشكال في صدق البقاء عرفا على استمرار النهار والليل وكذا الحركات ، فإذا تحرّك شيء تكون حركته موجودة باقية عرفا إلى انقطاعها بالسكون ، ولا تكون الحركة مجموع دقائق وساعات منضمّ بعضها إلى بعض ، وهذا ممّا لا إشكال فيه.

إنّما الإشكال في كونه مثبتا ، فإنّ استصحاب بقاء النهار أو الليل ، لا يثبت كون الجزء المشكوك فيه متّصفا بكونه من النهار أو الليل ، حتّى يصدق على الفعل الواقع فيه أنّه واقع في الليل أو النهار ، إلّا على القول بالأصل المثبت ، فإنّ وقوع الإمساك في النهار أو الليل لازم عقلي لبقاء النهار.

ولذا عدل الشيخ قدس‌سره عن جريان الاستصحاب في الزمان في مثله إلى جريانه في الحكم ، بأن نقول بعد الشكّ في بقاء النهار : إنّ وجوب الإمساك الواقع في النهار كان ثابتا قبل هذا ، فالآن كما كان (١).

وعدل صاحب الكفاية قدس‌سره أيضا عن جريان الاستصحاب في الزمان ، وفي الحكم إلى جريانه في فعل المكلّف المقيّد بالزمان ، بأن يقال بعد الشكّ في بقاء النهار : إنّ الإمساك قبل هذا كان واقعا في النهار ، والآن كما كان (٢).

فلا بدّ لنا من ملاحظة أنّ استصحاب بقاء النهار مثبت أم لا؟ وعلى فرض

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٧٦.

(٢) كفاية الاصول ٢ : ٣١٧.

١٩٨

مثبتيّته هل يكفي ما ذكره العلمين لحلّ الإشكال أم لا؟

والتحقيق : أنّ ما ذكره الشيخ قدس‌سره لا يكون جوابا عن الإشكال ؛ إذ المشكوك لنا ليس وجوب الإمساك في النهار ؛ لكونه متيقّنا أبدا ، وما هو المشكوك أنّ هذا الزمان من الليل أو النهار؟ ولا يمكن باستصحاب بقاء وجوب الإمساك في النهار إثبات كون الإمساك في هذه اللحظة المشكوكة في النهار ؛ إذ لا يمكن للحكم إثبات موضوعه ؛ لتقدّمه عليه رتبة.

وما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره من الاستصحاب وإن كان جاريا في مثل الإمساك إلّا أنّه غير جار في جميع موارد الشكّ في الزمان ، فإنّ من أخّر صلاة الظهرين حتّى شكّ في بقاء النهار لا يمكنه إجراء الاستصحاب في الفعل ، بأن يقال : الصلاة قبل هذا كانت واقعة في النهار والآن كما كانت ؛ إذ المفروض أنّ الصلاة لم تكن موجودة إلى الآن.

اللهمّ إلّا أن يتشبّث بذيل الاستصحاب التعليقي ، فيقال : لو أتى بالصلاة قبل هذا لكانت واقعة في النهار ، فالآن كما كانت ، ولكنّ الاستصحاب التعليقي مع عدم صحّته في نفسه مختصّ عند قائله بالأحكام ، مثل العصير العنبي إذا غلى ينجس ، فلا يجري في الموضوعات كما يأتي التعرّض له قريبا إن شاء الله تعالى.

ولكن يستفاد من روايات باب الاستصحاب أنّه لا إشكال في جريان استصحاب بقاء النهار ، فإنّ استصحاب بقاء الطهارة يستفاد من قوله عليه‌السلام : «فإنّه على يقين من وضوئه ، ولا ينبغي له أن ينقض اليقين بالشكّ» (١) ، مع أنّ المأمور به عبارة عن الصلاة مع الطهارة ، ولا يثبت باستصحاب بقاء الطهارة وقوع الصلاة في حال الطهارة إلّا بالأصل المثبت ، فإنّ معنى قوله : «صلّ مع

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٧٥ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ١.

١٩٩

الطهارة ـ مثلا ـ لا تكون الصلاة المتّصفة بكونها واقعة في حال الطهارة ، بل معناه أنّ الواجب هو مركّب عن الصلاة والطهارة في حال الصلاة ، وبعد الشكّ في الطهارة وإتيان الصلاة بالطهارة المستصحبة يحرز أحد الجزءين بالوجدان وهو الصلاة ، والآخر بالتعبّد وهو الطهارة ، وهكذا في ما نحن فيه يحرز الإمساك بالوجدان وبقاء النهار بالاستصحاب ، وقد ثبت في محلّه كفاية كون المستصحب جزء الموضوع للحكم الشرعي ؛ لجريان الاستصحاب ، فبقاء النهار بعنوان جزء الموضوع للحكم الشرعي يمكن جريان الاستصحاب فيه.

ثمّ إنّ ما ذكرناه في الزمان يتحقّق في الحركة أيضا من تحقّق التصرّم والتدرّج في ذاتها ، وكيفيّة وجودها كذلك لا ينافي البقاء والاستمرار ، بل هي موجود قابل للبقاء والدوام عرفا وعقلا ، ولذا لا إشكال في جريان الاستصحاب فيها في صورة الشكّ في بقائها ، مثلا : حركة زيد من المنزل إلى المدرسة وجود واحد متصرّم ومستمرّ ، ففي صورة الشكّ فيها يجري الاستصحاب لترتّب الأثر الشرعي عليها.

استصحاب الزمانيّات

قال استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره : «وأمّا غير الحركة من الزمانيّات المتصرّمة المتقضّية فهي على أقسام :

منها : ما يكون تصرّمه وتقضّيه ممّا لا يراه العرف ، بل يكون بنظرهم ثابتا كسائر الثابتات ، كشعلة السراج التي يراها العرف باقية من أوّل الليل إلى آخره من غير تصرّم وتغيّر ، مع أنّ الواقع خلافه ، وكشعاع الشمس الواقع على الجدار الذي يرونه ثابتا غير متغيّر.

ومنها : ما يرى العرف تصرّمه وتغيّره ، لكن يكون نحو بقائه كبقاء نفس

٢٠٠