دراسات في الأصول - ج ٤

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-95-8
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٤٨٠

وملاحظة النقض بالنسبة إلى المتيقّن ، وكون قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ» بمعنى لا تنقض الطهارة المتيقّنة بالشكّ ، وعدم إمكان استعمال كلمة «النقض» في المتيقّن الذي لا يكون صالحا للبقاء وجعله شاهدا لانحصار الاستصحاب في الشكّ في الرافع فقط ـ فلا مجال للاستدلال في ما نحن فيه بمقابلة الشكّ لليقين وأن المراد من الشكّ في الأدلّة هو غير اليقين.

ولذا تمسّك الشيخ رحمه‌الله بأدلّة اخرى ، وذكر صاحب الكفاية رحمه‌الله دليلين منها ، وهما الأوّل : الإجماع القطعي على اعتبار الاستصحاب مع الظنّ بالخلاف على تقدير اعتباره من باب الأخبار (١).

ويرد عليه : أوّلا : أنّ الإجماع المنقول ليس بحجّة ، والمحصّل منه بعد العلم بمستند المجمعين لا مجال له.

وثانيا : أنّ الإجماع على قضيّة تعليقيّة كيف يتصوّر أن يكون كاشفا عن رأي المعصوم؟! فلا يكون الاستدلال بالإجماع قابلا للبيان.

الثاني : أنّ الظنّ الغير المعتبر ـ بارتفاع الحالة السابقة ـ إن علم بعدم اعتباره بالدليل كالظنّ المتولّد من القياس فمعناه أنّ وجوده كعدمه عند الشارع ، وأنّ كلّ ما يترتّب شرعا على تقدير عدمه فهو المترتّب على تقدير وجوده ، وإن كان ممّا شكّ في اعتباره فمرجع رفع اليد عن اليقين بالحكم الفعلي السابق بسببه إلى نقض اليقين بالشكّ ، فتأمّل جيّدا (٢).

ويرد عليه : أوّلا : سلّمنا أنّ الدليل القطعي قائم على أنّ الظنّ القياسى ليس بحجّة ، ومعناه عدم إثبات مظنونه به شرعا وتعبّدا ، وليس معناه أنّه ليس بظنّ

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٣٤٤ ـ ٣٤٥ ، فرائد الاصول ٢ : ٨٠٦.

(٢) المصدر السابق.

٣٢١

ووجوده كالعدم ، فالمنفي بالدليل هي حجّيّة الظنّ القياسي لا واقعيّته.

وثانيا : أنّ نقض اليقين بالظنّ المشكوك الحجّيّة ليس نقض اليقين بالشكّ بل هو نقض اليقين بالظنّ ، فإنّ الشكّ المبحوث عنه في كونه ناقضا لليقين أم لا هو الشكّ المتعلّق بالمتيقّن كاليقين ، والشكّ المتعلّق بالطهارة ـ مثلا ـ فلا يرتبط الشكّ في شيء آخر باليقين بالطهارة.

كأنّه وقع الخلط في المسألة ؛ إذ يتحقّق هنا ثلاثة امور : اليقين بالطهارة السابقة ، والظنّ بارتفاعها ، والشكّ في حجّيّة هذه المظنّة ، ومعلوم أنّ متعلّق الشكّ عبارة عن الحجّيّة لا الطهارة ، بل لا يرتبط بها ، فهذا الوجه أيضا ليس بصحيح ، ولكن لا نحتاج إلى هذه الوجوه ، فإنّ نفس مقابلة اليقين للشكّ في الأدلّة تهدينا إلى أنّ الشكّ فيها أعمّ من الظنّ بارتفاع الحالة السابقة والظنّ على وفقها وتساوي طرفي الشكّ.

خاتمة

يعتبر في الاستصحاب بقاء الموضوع وعدم أمارة معتبرة هناك ولو على وفاقه ، فههنا مقامان :

المقام الأوّل : أنّه لا إشكال في اعتبار بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب ، ولكنّ البحث أوّلا أنّ المراد من بقاء الموضوع ما هو؟ وثانيا : أنّ الدليل على اعتباره ما هو؟ ويستفاد من التّتبع في الكلمات تحقّق ثلاثة أقوال في بقاء الموضوع :

الأوّل : أن يكون المراد منه البقاء بحسب الخارج والوجود الخارجي ، ولازم ذلك أنّه إذا علمنا بقيام زيد في السابق ثمّ شككنا في بقائه له معناه : أنّ زيدا الموجود هل يكون قائما أم لا؟ فنجري استصحاب البقاء ، وأمّا إذا علمنا

٣٢٢

بوجود زيد في السابق ثمّ شككنا في بقائه فلا يجري استصحاب بقاء الوجود ؛ لعدم إحراز الموضوع خارجا ، وإن كان بقاؤه محرزا فلا يبقى شكّ في البين ، ففي صورة الشكّ في الوجود لا يجري الاستصحاب.

الثاني : أنّ الشيخ الأنصاري رحمه‌الله بعد ملاحظة ورود هذا الإشكال على القول الأوّل اختار قولا آخر ، وهو أنّ المراد ببقاء الموضوع في الزمان اللاحق هو معروض المستصحب ، فإذا اريد استصحاب قيام زيد أو وجوده فلا بدّ من تحقّق زيد في الزمان اللاحق على النحو الذي كان معروضا في السابق ، سواء كان تحقّقه في السابق بتقرّره ذهنا أو بوجوده خارجا ، فزيد معروض للقيام في السابق بوصف وجوده الخارجي ، وللوجود بوصف تقرّره ذهنا لا وجوده الخارجي (١).

ويرد عليه : أوّلا : أنّ الوجود الذهني والوجود الخارجي متضادّان غير قابلين للاجتماع ، فلا يعقل أن يكون الموجود الذهني مع وصف وجوده في الذهن متحقّقا في الخارج ، وهكذا في الموجود الخارجي ، فلا يعقل أنّ تكون قضيّة «زيد موجود» بمعنى «زيد المتقرّر في الذهن موجود في الخارج» فإنّه ممتنع وبديهي البطلان ، بل الموضوع فيها هو ذات زيد مع قطع النظر عن إضافته إلى الوجودين الذهني والخارجي ، نظير قضيّة «الماهيّة موجودة» ؛ فإنّ الموضوع فيها نفس الماهيّة وذاتها مع قطع النظر عن الوجود الذهني والخارجي ، فليسأل عن الشيخ رحمه‌الله أنّه بعد اعتبار إحراز بقاء الموضوع في الاستصحاب ما معنى إحراز بقائه في قضيّة «زيد موجود؟» هذا أوّلا.

وثانيا : أنّ المستفاد من كلام الشيخ رحمه‌الله أنّ المستصحب في قضيّة «زيد قائم»

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٨٠٨ ـ ٨٠٩.

٣٢٣

هو قائم وفي قضيّة «زيد موجود» هو موجود ، والموضوع والمعروض في الاولى عبارة عن زيد الموجود في الخارج ، وفي الثانية عبارة عن زيد الموجود في الذهن ، والإشكال عليه يحتاج إلى مقدّمة وبيانها يهدينا إلى القول الثالث وما هو التحقيق في المسألة ، والمقدّمة وهي : أنّ الدليل في باب الاستصحاب منحصر في قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ» ، ومعلوم أنّ متعلّق اليقين والشكّ عبارة عن القضايا والمعاني التصديقيّة ، ولا يمكن تعلّقهما بالمفاهيم التّصوريّة ، فإنّها قابلة للوجود والعدم ، فتكون متعلّقات الأوصاف النفسانيّة من اليقين والشكّ والظنّ والوهم عبارة عن المعاني التصديقيّة والقضايا.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ الاستصحاب يجري في المتيقّن ، والمتيقّن قضيّة ، فالاستصحاب في جميع الموارد يجري في القضيّة والمسند والمسند إليه ، فالمستصحب قضيّة مشتملة على الموضوع والمحمول ، ومعنى استصحاب الوضوء : «أني كنت متطهّرا والشكّ في هذا الحال هل أكون متطهّرا أم لا؟».

ويستفاد من استعمال كلمة اليقين والشكّ في دليل الاستصحاب تحقّق القضيّة المتيقّنة والمشكوكة ، كأنّه قال : لا تنقض القضيّة المتيقّنة بالمشكوكة.

ويستفاد من استعمال كلمة النقض فيه تحقّق الاتّحاد بين القضيّتين بتمام المعنى إلّا من حيث الزمان ـ أي السبق واللحوق ـ فلا بدّ من اتّحادهما موضوعا ومحمولا.

وعلى هذا المعنى لا فرق بين قضيّة «زيد قائم» وقضيّة «زيد موجود» ؛ إذ المستصحب فيهما نفس القضيّة ، وتحقّق الاتّحاد بين القضيّتين من حيث الموضوع والمحمول ممّا لا ريب فيه ، ولا نحتاج إلى القول بلزوم بقاء الموضوع ولا إلى ما ذكره الشيخ رحمه‌الله من التوجيه في قضيّة : «زيد موجود» ، فالمعتبر في

٣٢٤

جريان الاستصحاب هو اتّحاد القضيّة المشكوكة مع المتيقّنة موضوعا ومحمولا ، فلا إشكال في البين ، وهذا المعنى يستفاد من نفس أدلّة الاستصحاب.

ثمّ إنّ الشيخ رحمه‌الله ـ بعد القول بأنّ المراد ببقاء الموضوع هو معروض المستصحب ـ استدل بالدليل العقلي على اعتبار هذا الشرط في جريان الاستصحاب ، وحاصل كلامه :

أنّه إذا قلنا بعدم اعتبار بقاء الموضوع والمعروض ، مع أنّ معنى الاستصحاب إبقاء العرض والمستصحب في الزمان اللاحق ، فيتصوّر تحقّق العرض بدون المعروض على ثلاثة وجوه : الأوّل : أن يتحقّق العرض في الخارج بلا موضوع ومعروض وهو ممتنع.

الثاني : أن يتحقّق العرض مع خصوصيّته في معروض آخر ، وهو أيضا ممتنع ؛ لاستحالة انتقال العرض العارض على معروض إلى معروض آخر ، فإنّ تشخّص العرض وجودا بالمعروض ، فكيف يمكن عروضه مع تشخّصه على معروض آخر؟

الثالث : أن يحدث مثل هذا العرض في موضوع جديد فيخرج عن الاستصحاب ، فالمعتبر هو العلم ببقاء الموضوع حتّى يصدق عنوان «إبقاء ما كان» (١).

ويرد عليه : أوّلا : أنّ الاستدلال بالدليل العقلي في الاستصحاب المتّخذ من الأدلة الشرعيّة ليس بصحيح.

وثانيا : أنّ انفكاك المستصحب عن الموضوع وانحصاره في المحمول بعد

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٨٠٩.

٣٢٥

إثبات جريان الاستصحاب في القضيّة ليس بتامّ.

وثالثا : أنّ استحالة وجود العرض بلا موضوع إنّما هو في الوجود التكويني لا الوجود التشريعي التعبّدي ، فإنّ الوجود التعبّدي ليس إلّا التعبّد بالوجود بترتيب آثاره بأمر الشارع ، فلا استحالة في التعبّد بانتقال عرض من موضوع إلى موضوع آخر ، فإذا أمر المولى بأنّه إن كنت على يقين من عدالة زيد فتعبّد بعدالة أبيه بترتيب آثارها ، فلا استحالة فيه أصلا ، فما يثبت بأدلّة الاستصحاب هو ترتيب الآثار الشرعيّة لبقاء العرض لا إبقاء العرض بدون المعروض.

المعتبر إحراز موضوع القضيّة المستصحبة وجدانا

ثمّ إنّه بعد ما علم لزوم اتّحاد القضيّة المتيقّنة والمشكوكة فيها موضوعا ومحمولا فلا بدّ من إحرازه وجدانا وإلّا لا يجري الاستصحاب ، والإحراز الوجداني كما في جريان الاستصحاب في مفاد «كان التامّة» مثل قضيّة : «زيد موجود» فإنّا نقول بعد الشكّ : «زيد موجود كان متيقّنا ، والآن يكون مشكوكا» ونحرز من طريق الوجدان عدم المغايرة والاختلاف بين القضيّتين.

وهكذا في قضيّة «زيد عادل» إذا علمنا ببقاء حياة زيد وشككنا في بقاء عدالته ، فيجرى استصحاب العدالة ، ونقول : «كان زيد عادلا متيقّنا ، والآن يكون مشكوك العدالة» ، ولا يتحقّق بين القضيّتين التغاير والاختلاف ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب.

إنّما الإشكال في قضيّة : «زيد عادل» إذا كانت حياة زيد أيضا مشكوكة ، والإشكال الأقوى فيما إذا اخذت الحياة بعنوان القيد في القضيّة في لسان الشرع ، كما إذا قال : «إذا كان زيد الحي عادلا يجوز الاقتداء به» ، فيكون

٣٢٦

المشكوك عندنا هو المحمول وقيد الموضوع معا كأنّ المشكوك هاهنا قضيّتين ـ أي قضيّة «زيد حيّ» ، وقضيّة «زيد الحي عادل» ـ فكيف يجري الاستصحاب؟

يمكن أن يقال : يجري الاستصحاب في الابتداء بالنسبة إلى قيد الموضوع حتّى يتحقّق بمعونته مقدّمة جريان الاستصحاب في ناحية المحمول ، فيستصحب بقاء حياة زيد ، وبعد إحراز الحياة بالاستصحاب له تصل النوبة إلى قضيّة «زيد الحي عادل» ، وجريان استصحاب بقاء العدالة ، وهذا طريق آخر لإحراز اتّحاد القضيّتين.

قلت : إنّ جريان استصحاب بقاء حياة زيد لترتّب آثارها الشرعيّة ـ مثل عدم جواز تقسيم أمواله بين ورثته وعدم جواز تزويج زوجته ـ ممّا لا إشكال فيه ، وأمّا جريانه بداعي جعله مقدّمة لاستحكام استصحاب العدالة وجريانه فليس بصحيح ؛ إذ يرد عليه :

أوّلا : أنّ زيدا المقيّد بالحي أو زيدا الحيّ الذي جعل موضوعا لقضيّة ثانية لا يكون أثرا شرعيا لاستصحاب الحياة.

وثانيا : أنّ مرجع قوله : «إذا كان زيد الحي عادلا يجوز لاقتداء به» إلى أنّ «زيد الذي أحرزت حياته بالوجدان إذا كان عادلا يجوز الاقتداء به» ، فلو فرض كون زيد الحي أثرا شرعيّا مترتّبا على استصحاب الحياة لا يمكن جعله موضوعا للقضيّة الثانيّة ، فإنّ الاستصحاب لا يحرز الموضوع وجدانا ، فلا مجال لجريان استصحاب العدالة.

ولكن المحقّق النائيني رحمه‌الله قائل بجريان استصحاب الحياة هاهنا ، وصريح كلامه : «أنّ بعد ما كان الموضوع لجواز التقليد مركّبا من الحياة والعدالة ، وهما

٣٢٧

عرضان لمحلّ واحد ، فلا بدّ من إحراز كلا جزئي المركّب ، إمّا بالوجدان وإمّا بالأصل ، فإذا كانت الحياة محرزة بالوجدان فالاستصحاب إنّما يجري في العدالة ويلتئم الموضوع المركّب من ضمّ الوجدان بالأصل ، وإن كانت الحياة مشكوكة فالاستصحاب يجري في كلّ من الحياة والعدالة ، ويلتئم الموضوع المركّب من ضمّ أحد الأصلين بالآخر ؛ لأنّ كلّا منهما جزء الموضوع ، فلكلّ منهما دخل في الحكم الشرعي (١).

ويرد عليه : أنّ هذا خروج عن محلّ البحث ؛ إذا الكلام ليس في الأوصاف المتعدّدة العارضة لموضوع واحد ، كما لو قال المولى : «إذا كان زيد حيّا عادلا يجوز تقليده» بمعنى أنّ زيدا إذا كان واجدا لوصف الحياة والعدالة ، يجوز تقليده ، ففي صورة الشكّ في بقاء الحياة والعدالة يجوز استصحابهما بلا إشكال ؛ إذ الموضوع ـ أي ماهيّة زيد ذاته ـ ليس بمشكوك لنا بقاء حتّى نجري الاستصحاب فيه ، وبيانه في هذا المورد لا ريب في تماميّته.

إنّما الكلام فيما كان الموضوع مشكوكا لنا ، كما لو قال المولى : «إذا كان زيد الحيّ عادلا يجوز تقليده» ـ بحيث يكون «الحي» قيدا للموضوع ـ وشككنا في بقاء الموضوع والعدالة ، والمفروض أنّ بقاء الموضوع غير محرز لنا ، هل يمكن إحراز الحياة بعنوان قيد الموضوع بالاستصحاب أم لا؟ قلنا بعدم إمكان إحرازه به ؛ لعدم ترتّب الأثر الشرعي عليه أوّلا ، وظاهر قول المولى كون الحياة مفروضة الوجود ومحرزة بالوجدان ثانيا.

فالحاصل : أنّ المعتبر في الاستصحاب اتّحاد القضيّة المشكوكة والمتيقّنة ، وإحراز الاتّحاد بالوجدان لا بالاستصحاب.

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٥٦٩ ـ ٥٧٠.

٣٢٨

هل الحاكم بالاتّحاد هو العرف أو لسان الدليل؟

ثمّ بعد ما علم لزوم اتّحاد القضيّة المتيقّنة والمشكوكة فهل المناط في وحدتهما أن يكون موضوعهما واحدا بحكم العقل وتشخيصه أو بحكم العرف وتشخيصه ، أو أنّ الموضوع في القضيّة المشكوكة لا بدّ وأن يكون هو الذي اخذ في الدليل الدّال ، على الحكم في القضيّة المتيقّنة؟

والفرق بين الأخذ من العقل وغيره واضح ؛ لأنّ العقل قلّما يتّفق أو لا يتّفق أن لا يشكّ في بقاء الموضوع في استصحاب الأحكام حتّى في باب النسخ ؛ لأنّ الشكّ في الحكم لا يكون إلّا من جهة الشكّ في تغيير خصوصيّة من خصوصيّات الموضوع.

وجميع الجهات التعليليّة ترجع إلى الجهات التقييديّة لدى العقل وتكون دخيلة في موضوعيّة الموضوع ، فإذا ورد حكم على موضوع لا يكون تعلّقه به جزافا بحكم العقل ، فلا بدّ من خصوصيّة في الموضوع لأجلها يكون متعلّقا للحكم ، ومع بقاء تلك الخصوصيّة الموجبة أو الدخيلة في المتعلّق مع سائر الخصوصيّات لا يمكن رفع الحكم عن الموضوع ، فإذا علم تعلّق حكم على موضوع وشكّ في نسخه فلا يمكن أن يشكّ فيه مع العلم ببقاء جميع خصوصيّات الموضوع الدخيلة في تعلّق الحكم عليه من القيود الزمانيّة والمكانيّة وغيرها ؛ لأنّ ذلك يرجع إلى الجزاف المستحيل ، وكثيرا ما يقع الإشكال في الاستصحابات الموضوعيّة أيضا كاستصحاب الكرّيّة.

وأمّا الفرق بين الأخذ من العرف أو موضوع الدليل فهو أنّ الحكم في الدليل قد يثبت العنوان أو الموضوع المتقيّد بقيد بحيث يكون الدليل قاصرا عن إثبات الحكم لغير العنوان أو غير مورد القيد ، فإذا ارتفع العنوان أو القيد

٣٢٩

يرتفع موضوع الدليل ، كما إذا قال : «الماء المتغيّر نجس» وعلمنا بوجود الماء المتغيّر بلحاظ الملاقاة مع النجس في الخارج ، ثمّ زال تغيّره من قبل نفسه بعد مضي الأيّام ، وشككنا في بقاء نجاسته ، فلا إشكال في قصور الدليل الواقعي عن شمول غير العنوان المأخوذ في موضوعه لتغيّر موضوعه ، فلا يمكن التمسّك بالدليل المذكور لإثبات حكم النجاسة له.

ولو بنينا على أخذ موضوع القضيّة المتيقّنة والمشكوكة من الدليل لا يجري الاستصحاب أيضا لتغيّر الموضوع وعدم اتّحاد القضيّة المتيقّنة والمشكوكة.

وأمّا لو كان الاتّحاد بنظر العرف فجريانه ممّا لا مانع منه ؛ لأنّ هذا الماء كان معلوم النجاسة ، وزوال تغيّره من قبل نفسه ليس مغيّرا له إلّا في حاله وعرضه ، فيصير محكوما بالنجاسة بالاستصحاب ؛ لعدم الاختلاف بين القضيّة المشكوكة والمتيقّنة عرفا.

والمستفاد من كلام صاحب الكفاية رحمه‌الله أنّ موضوع الدليل قد يكون بحسب المتفاهم العرفي عنوانا ، ولكنّ أهل العرف يتخيّلون بحسب ارتكازهم ومناسبات الحكم والموضوع أنّ الموضوع أعمّ من ذلك ، لكن لا بحيث يصير ذلك الارتكاز وتلك المناسبة موجبين لصرف الدليل عمّا هو ظاهره المفهوم عرفا ، كما إذا دلّ الدليل على أنّ العنب إذا غلى يحرم ، وفهم العرف منه أنّ الموضوع هو العنب بحسب الدليل ، لكن يتخيّل بحسب ارتكازه تخيّلا غير صارف للدليل أنّ الموضوع أعمّ من الزبيب وأنّ العنبيّة والزبيبيّة من حالاته المتبادلة ، بحيث لو لم يكن الزبيب محكوما بما حكم به العنب يكون عنده من ارتفاع الحكم عن موضوعه.

فالفرق بين أخذ الموضوع من العرف وبين أخذه من الدليل بحسب ما ذكر

٣٣٠

أنّ موضوع الدليل هو العنوان حقيقة ، لكن العرف تخيّل موضوعا آخر غير موضوع الدليل بل أعمّ منه ، ويكون الموضوع الحقيقي غير باق والموضوع التخيّلي باق ، فيستصحب ـ مثلا ـ ما ثبت بالدليل للعنب إذا صار زبيبا ؛ لبقاء الموضوع واتّحاد القضيّتين عرفا (١).

ويرد عليه : أنّ بعد عدم شمول الدليل للزبيب عرفا إن كان التخيّل العرفي والارتكاز بحدّ صار بمنزلة القرينة الصارفة لظهور الدليل فيشمله نفس الدليل ولا مجال للاستصحاب ، وإن لم يكن بهذا الحدّ فلا يكون مؤثّرا في بقاء الموضوع في باب الاستصحاب.

ولكنّ المحقّق النائيني رحمه‌الله التزم بأنّ موضوع الدليل عين الموضوع العرفي ، وأنّه لا وجه للمقابلة بينهما ، فإنّ مفاد الدليل يرجع بالأخرة إلى ما يقتضيه نظر العرف ؛ لأنّ المرتكز العرفي يكون قرينة صارفة عمّا يكون الدليل ظاهرا فيه ابتداء ، فلو كان الدليل ظاهرا بدوا في قيديّة العنوان وكانت مناسبة الحكم والموضوع تقتضى عدمه ، فاللازم هو العمل على ما تقتضيه مناسبة الحكم والموضوع ، لأنّها بمنزلة القرينة المتّصلة فلم يستقرّ للدليل ظهور على الخلاف ، فالمقابلة بين العرف والدليل إنّما هي باعتبار ما يكون الدليل ظاهرا فيه ابتداء ، مع قطع النظر عن المرتكز العرفي ، وإلّا فبالأخرة يتّحد ما يقتضيه مفاد الدليل مع ما يقتضيه المرتكز العرفيّ (٢). انتهى.

والتحقيق : أنّ بين أخذ الموضوع من العرف وأخذه من لسان الدليل يتحقّق كمال الفرق ولكن لا بالطريق المذكور في كلام صاحب الكفاية رحمه‌الله بل بطريق

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٣٤٧ ـ ٣٤٩.

(٢) فوائد الاصول ٤ : ٥٨٥ ـ ٥٨٦.

٣٣١

آخر ، وهو أنّه لا شكّ في مغايرة العنب والزبيب من حيث المفهوم عند العرف ، وأنّ قوله : «العنب إذا غلى يحرم» لا يشمل الزبيب قطعا ولا يكون متعرّضا لحكمه ، لا نفيا ولا إثباتا، والحكم الثابت لمفهوم لا يسري منه إلى مفهوم آخر ، ولكن بعد تحقّق مصداق العنب في الخارج وشموله الدليل المذكور نشكّ في أنّ بعد مضى الأيّام عليه وتبدّل حالة رطوبته باليبوسة ، وصدق عنوان الزبيب عليه ، فنقول : هذا الموجود كان إذا غلى يحرم ، هل يكون في هذه الحالة العارضة أيضا كذلك أم لا؟ والعرف يحكم ببقاء الموضوع واتّحاد القضيّة المتيقّنة والمشكوكة إن قلنا بأخذ الموضوع من العرف ، بخلاف ما إذا قلنا بأخذه من لسان الدليل.

كما في قوله : «الماء المتغيّر نجس» ؛ إذ الحكم لا يتعدّى من العنوان المأخوذ في لسان الدليل قطعا عند العرف ، وهو «الماء المتغيّر» ، ولكن إذ زال تغيّره من قبل نفسه فلا يشمله الدليل عرفا ، إلّا أنّ العرف بعد الشكّ في بقاء نجاسة هذا الماء يحكم بتحقّق الاتّحاد بين القضيّتين ، ويجري استصحاب النجاسة ، فالمتّبع في اتّحاد القضيّتين وعدمه هو نظر العرف دون العقل ولسان الدليل ، ولا يخفى أنّ العرف قد يحكم بتوسعة الموضوع كما في الأمثلة المذكورة ، وقد يحكم بتضييقه كما في مسألة الوجوب والاستحباب ؛ إذ العقل يقول بأنّ الاستحباب مرتبة ضعيفة من مراتب البعث والطلب ، والوجوب مرتبة شديدة منها ، والعرف يقول بتباينهما كمال المباينة ، فلا يتحقّق الاتّحاد بينهما.

المقام الثاني : أنّه لا إشكال ولا خلاف في عدم جريان الاستصحاب مع قيام الأمارة على طبق الحالة السابقة أو على خلافها ، بل يجب العمل بها ، وإنّما الكلام في وجه تقديم الأمارة على الاستصحاب ، وأنّه من باب التخصيص

٣٣٢

أو الورود أو الحكومة؟ وقال صاحب الكفاية رحمه‌الله : «وإنّما الكلام في أنّه للورود أو الحكومة أو التوفيق بين دليل اعتبارها وخطابه؟»

والتحقيق : أنّه للورود ، فإن رفع اليد عن اليقين السابق بسبب أمارة معتبرة على خلافه ليس من نقض اليقين بالشكّ بل باليقين ، وعدم رفع اليد عنه مع الأمارة على وفقه ليس لأجل أن لا يلزم نقضه به بل من جهة العمل بالحجّة.

لا يقال : نعم ، هذا لو اخذ بدليل الأمارة في مورد ولكنّه لم لا يؤخذ بدليله ويلزم الأخذ بدليلها؟

فإنّه يقال : ذلك إنّما هو لأجل أنّه لا محذور في الأخذ بدليلها ، بخلاف الأخذ بدليله فإنّه يستلزم تخصيص دليلها بلا مخصّص إلّا على وجه دائر ؛ إذ التخصيص به يتوقّف على اعتباره معها ، واعتباره كذلك يتوقّف على التخصيص به ؛ إذ لو لاه لا مورد له معها كما عرفت آنفا.

وأمّا حديث الحكومة فلا أصل له أصلا ؛ فإنّه لا نظر لدليلها إلى مدلول دليله إثباتا وبما هو مدلول الدليل وإن كان دالّا على إلغائه معها ثبوتا وواقعا ؛ لمنافاة لزوم العمل بها مع العمل به لو كان على خلافها ، كما أنّ قضيّة دليله إلغاؤها كذلك ، فإنّ كلّا من الدليلين بصدد بيان ما هو الوظيفة للجاهل ، فيطرد كلّ منهما الآخر مع المخالفة.

هذا ، مع لزوم اعتباره معها في صورة الموافقة ، ولا أظنّ أن يلتزم به القائل بالحكومة ، فافهم فإنّ المقام لا يخلو من دقّة.

وأمّا التوفيق فان كان بما ذكرنا فنعم التوفيق ، وإن كان بتخصيص دليله بدليلها فلا وجه له ؛ لما عرفت من أنّه لا يكون مع الأخذ به نقض يقين بشكّ ،

٣٣٣

لا أنّه غير منهي عنه مع كونه من نقض اليقين بالشكّ (١).

ولا بدّ لنا قبل الورود في البحث من بيان مقدّمة يتّضح في ضمنها ما هو التحقيق في المقام ، وهي :

أنّه إذا لاحظنا الدليلين الصادرين عن المولى ، فقد لا يتحقّق الارتباط بينهما من حيث الموضوع والمحمول ، ولا يتحقّق التعارض بينهما ، ولا يتحقّق التقدّم والتأخّر بينهما ، مثل : قوله : «يجب إكرام العلماء» وقوله : «يحرم إكرام الجهّال».

وقد يتحقّق بينهما التعارض بدون أن يكون أحدهما متقدّما على الآخر ، كلّ يتعرّض لما ينفيه الآخر ، مثل : قوله : «يجب إكرام العلماء» وقوله : «يحرم إكرام العلماء».

وقد يتحقّق الترجيح والتقدّم لأحد الدليلين على الآخر بعد التعارض ، وإنّما الكلام في مناط الرجحان وملاك الترجيح والتقدّم ، والمعروف والمتعارف منه عبارة عن الأقوائيّة في الظهور من تقدّم النصّ على الأظهر ، والأظهر على الظاهر ، مثل : قوله : «رأيت أسدا» وقوله في كلام منفصل : «رأيت أسدا يرمي» ؛ إذ يتحقّق لكلّ من الكلامين ظهور إلّا أنّ أحدهما يكون متقدّما على الآخر ؛ لرجحان ظهوره عليه ، ولعلّه كان تقديم الدليل المخصّص على الدليل العامّ بهذا الملاك كما سيأتي تفصيله في باب التعادل والتراجيح.

وقد يكون ملاك التقديم والترجيح تعرّض أحد الدليلين لما لم يتعرّضه الآخر ، مثل : قوله : «أكرم العلماء» وقوله : «الفسّاق ليسوا من العلماء» ، بمعنى أنّ الحكم الثابت للعلماء لا يشمل الفسّاق منهم ، كما هو المتداول في المحاورات العرفيّة ، مع أنّ الدليل الأوّل لا يكون متعرّضا لبيان المصداق ، ولا شكّ في

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٣٥٠ ـ ٣٥١.

٣٣٤

تقديم الدليل الثاني على الأوّل بمناط يعبّر عنه اصطلاحا بالحكومة ، فإنّ الدليل الحاكم متعرّض لما يكون الدليل المحكوم فاقدا لتعرّضه لفظا ودلالة.

وهكذا في مثل قوله : «أكرم العلماء» وقوله : «التحيّة إكرام» أو قوله : «النحوي ليس بعالم» فلا يتحقّق التعارض والتنافي بين الدليلين ؛ إذ التعارض فرع التعرّض ، ولا منافاة بين التعرّض وعدم التعرّض ، بخلاف العامّ والخاصّ ، مثل : قوله : «أكرم العلماء» وقوله : «لا تكرم الفسّاق» ؛ إذ يتحقّق التعارض بينهما في مادّة الاجتماع ، وتكون دائرة الحكومة وسيعة قد تستفاد منها فائدة التخصيص ، وقد تستفاد منها فائدة التقييد.

مثلا : إذا لاحظنا آية الوضوء مع آية الحرج ، كقوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ)(١) ، وقوله تعالى : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(٢) ، ومعناه : عدم تعلّق الجعل والتشريع بالفعل الحرجي وخروجه عن دائرة الجعل ، ومعلوم أنّ آية الوضوء لا تكون متعرّضة لتعلّق الجعل وعدمه بأيّ شيء ، ومفاده : أنّ الوضوء واجب للصلاة وإن كان لازمه المجعوليّة ، فدليل الحرج متعرّض لما لم يتعرّضه دليل الوضوء ، وهذه هي نتيجة التقييد بلسان الحكومة. وإن قال في مقابل آية الوضوء : «الوضوء الحرجي ليس بواجب» يكون هذا تقييد لإطلاق الآية ، فإنّ أحد الدليلين يكون مقيّدا للآخر بمدلوله اللفظي.

فيكون ملاك تقدّم أحد الدليلين على الآخر إمّا أقوائيّة الظهور كما في تقديم الدليل الخاصّ والدليل المقيّد على العامّ والمطلق ، وإمّا تعرّض الدليل المتقدّم لما

__________________

(١) المائدة : ٦.

(٢) الحج : ٧٨.

٣٣٥

لم يتعرّضه الدليل الآخر ، كما في تقديم الدليل الحاكم على المحكوم ، بلا فرق بين أن يكون الدليل الحاكم أقوى ظهورا منه أم لا؟ مع عدم ملاحظة نسبة العموم والخصوص وسائر النسب بينهما لا يتصوّر ملاكا ثالثا للتقدّم ، فلا بدّ من جعل الورود شعبة من شعب الحكومة ، وأنّ ثمرتها قد تكون عبارة عن التخصيص ، وقد تكون عبارة عن التقييد ، وقد تكون عبارة عن الورود ، ومعناه : نفي موضوع الحكم تعبّدا بمعونة الدليل الشرعي ، لا تكوينا كما ذكره استاذنا السيّد الإمام رحمه‌الله (١).

والتحقيق : أنّ حصر الملاك بالنسبة إلى ظهورات الأدلّة ودلالاتها بهذين الملاكين لا شبهة فيه ولا كلام ، ولكن يمكن أن يتصوّر ملاك ثالث خارجا عن هذا المقسم ، وهو أن يكون وجود الدليل المقدّم موجبا لأن لا يبقى مجال للدليل المؤخّر بدون الارتباط باللفظ والدلالة والظهور اللفظي ، مثل : تقدّم قول الشارع بحرمة «شرب التتن» ـ مثلا ـ على قاعدة قبح العقاب بلا بيان والبراءة العقليّة ، فإنّ نفس وجود الدليل على الحرمة مصداق للبيان ، ومعه لا يبقى مجال للقاعدة ، وهذا ما نسمّيه بالورود كما أشار إليه استاذنا السيّد الإمام رحمه‌الله في ذيل كلامه (٢).

فيكون ملاك التقدّم في باب الورود ملاكا آخر غير مرتبط بالظهورات اللّفظيّة ؛ إذ يمكن أن يتحقّق بين الدليلين اللفظيّين أو بين الدليلين اللّبّيين أو بين الدليل اللفظي والدليل اللبّي ، فإذا كان مفاد الاستصحاب وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة ، ومفاد رواية معتبرة عدم وجوبها ، يكون تقدّم الأمارة

__________________

(١) الاستصحاب : ٢٣٦.

(٢) الاستصحاب : ٢٣٨.

٣٣٦

على الاستصحاب بملاك الورود ، فإنّ مفاد دليل الاستصحاب أنّه «لا تنقض الحجّة بلا حجّة ، بل انقضها بحجّة اخرى» ، ونفس وجود الرواية المعتبرة وتحقّقها في مقابله حجّة ، فلا يبقى مجال لقوله : «لا تنقض الحجّة بلا حجّة» ، فهذا التقدّم يكون على نحو الورود ، فكما أنّ تقدّم دليل حرمة شرب التتن على قاعدة قبح العقاب بلا بيان يكون تقدّما وروديّا ، كذلك تقدّم دليل حجّيّة الخبر على دليل الاستصحاب ، فلا يكون الورود شعبة من شعب الحكومة بخلاف ما ذكره الإمام رحمه‌الله (١).

ومن هنا علم الفرق والمغايرة بين الورود والحكومة والتخصّص ، بأنّ الحكومة تتحقّق بين الدليلين الواجد لتعرّض خصوصيّة والفاقد له ، ولا منافاة بينهما وملاك تقدّم الدليل الحاكم هو تعرضه لها ، والورود أيضا يتحقّق بين الدليلين إلّا أنّ ملاك التقدّم لا يرتبط بدلالة اللفظ ، بل لا يبقى مجال للدليل المورود مع وجود الدليل الوارد تعبّدا.

وأمّا التخصّص فلا يتحقّق بين الدليلين ، بل المولى إذا قال : «أكرم العلماء» نعلم بخروج الجهّال منه تخصّصا وتكوينا ، سواء كان للجهّال حكم أم لم يكونوا محكومين بحكم.

وأمّا في مقام تعارض سائر الاصول مع الاستصحاب فلا خلاف في تقدّمه عليها ، فلذا قالوا : إنّ الاستصحاب عرش الاصول وفرش الأمارات ، بلا فرق بين كون سائر الاصول شرعيّا محضا ، مثل : أصالة الإباحة وأصالة الطهارة ، أو عقليّا محضا ، مثل : أصالة التخيير وأصالة الاشتغال والاحتياط ، أو شرعيّا وعقليّا معا ، مثل : أصالة البراءة.

__________________

(١) الاستصحاب : ٢٣٦.

٣٣٧

إنّما الكلام في علّة تقدّمه عليها ، وأمّا تقدّمه على البراءة العقليّة وقبح العقاب بلا بيان فيكون من باب الورود ؛ إذ مع وجود دليل الاستصحاب يتحقّق البيان ولا يبقى مجال لقاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وهكذا تقدّمه على الاحتياط يكون من باب الورود ، فإنّ دليل أصالة الاحتياط هو لزوم دفع العقاب المحتمل عقلا ، كما إذا كان مقتضى الاشتغال وجوب صلاة الظهر والجمعة في عصر الغيبة ، ومقتضى الاستصحاب عدم وجوب صلاة الظهر في عصر الغيبة ، فيكون نفس اعتبار الاستصحاب ووجود دليله بمعنى أنّه لا مجال لاحتمال العقوبة على ترك صلاة الظهر ، فلا يبقى مجال لحكم القاعدة بلزوم الاحتياط.

وهكذا تقدّمه على أصالة التخيير يكون من باب الورود ؛ لأنّها مبنيّة على عدم إمكان الاحتياط ، ودوران الأمر بين المحذورين كالوجوب والحرمة ، وعدم وجود مرجّح لأحدهما في البين ، كما إذا دار أمر صلاة الجمعة في عصر الغيبة بين الوجوب والحرمة فيحكم العقل بالتخيير بينهما ، وإذا كان مقتضى الاستصحاب وجوبها في هذا العصر فيكون دليل الاستصحاب مرجّحا لناحية الوجوب ، فإذا كان وجوده بعنوان المرجّح وصالحا للمرجّحيّة لا يبقى مجال لحكم العقل.

وأمّا تقدّمه على الاصول الشرعيّة العمليّة كالبراءة الشرعيّة وأصالة الإباحة وأصالة الطهارة فنرى بعد ملاحظة أدلّتها أنّ العلم اخذ فيها بعنوان الموضوع أو بعنوان الغاية ، كقوله في دليل أصالة الحلّيّة : «كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا حتّى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه» (١) ، ومعناه : أنّ كلّ شيء غير معلوم الحرمة يكون محكوما بالحلّيّة ، وقوله في دليل قاعدة

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٥٩ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ١.

٣٣٨

الطهارة : «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر» (١) بمعنى أنّ كلّ شيء غير معلوم النجاسة محكوم بالطهارة ، وقوله في دليل أصالة البراءة «رفع ما لا يعلمون» (٢) ، ومعلوم أنّ المراد من العلم فيها ليس اليقين الوجداني ، بل المراد منه هو تحقّق الحجّة على الطهارة ، وتحقّق الحجّة على الحلّيّة ، وتحقّق الحجة على التكليف فالمراد من العلم هو مطلق الحجّة الشرعيّة أو العقليّة ، فمعنى قوله : «رفع ما لا يعلمون» أنّه رفع التكليف الذي لا يكون على إثباته حجّة وقوله «كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه» أنّ كلّ شيء لم تقم الحجّة على حرمته فهو محكوم بالحلّيّة ، وهكذا دليل قاعدة الطهارة ، ونظر العرف أيضا يساعد على هذا المعنى ، كما لا يخفى.

وقد عرفت أنّ مفاد قوله «لا تنقض اليقين بالشكّ» أنّه لا تنقض الحجّة بلا حجّة ، فجعل الشارع اليقين السابق حجّة تعبديّة بالنسبة إلى الزمان اللاحق وزمان الشكّ ، فإذا كان الاستصحاب في مورد الاصول المذكورة جاريا لا يبقى مجال لجريانها ، فإنّ مورد جريانها مختصّ بفقدان الحجّة ، فوجود الاستصحاب يوجب اضمحلال موضوعاتها ؛ لكونه حجّة تعبّديّة لإثبات الحكم وإثبات الحرمة والنجاسة ، فيكون تقدّمه عليها بنحو الورود ، وتقدّم الأمارات على الاصول العمليّة أيضا يكون من هذا القبيل.

تعارض الاستصحابين

وكان لصاحب الكفاية رحمه‌الله هنا كلام جامع (٣) مع تكملة لنا ، وهو : أنّ

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٠٥٤ ، الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، الحديث ٤.

(٢) الوسائل ١١ : ٢٩٥ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس وما يناسبه ، الحديث ١.

(٣) كفاية الاصول ٢ : ٣٥٤.

٣٣٩

التعارض بين الاستصحابين إن كان لعدم إمكان العمل بهما بدون علم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما ، كاستصحاب وجوب أمرين حدث بينهما التضادّ في زمان الاستصحاب ، فهو من باب تزاحم الواجبين والحكم فيهما التخيير ، مثل : إنقاذ الغريقين.

وإن كان مع العلم بانتقاض الحالة السابقة في أحدهما ، فتارة لا تكون بين الشكّين السببيّة والمسببيّة ، كما إذا علمنا بإصابة النجاسة بأحد الإنائين ، فإنّ جريان الاستصحاب في كلّ منهما معارض لجريانه في الآخر ؛ للعلم الإجمالي بنجاسة أحدهما.

واخرى يكون الشكّ في مستصحب ، أحدهما مسبّبا عن الشكّ في مستصحب الآخر ، كالشكّ في نجاسة الثوب المغسول بماء مشكوك الطهارة وقد كان طاهرا ، ومعلوم أنّ استصحاب الطهارة في الماء معارض مع استصحاب نجاسة الثوب ولكنّه مقدّم عليه بالتقدم الشرعي.

وقد تكون السببيّة عاديّة كالشكّ في نبات لحية زيد الناشئ عن الشكّ في بقاء حياته ، وتعارض استصحاب بقاء حياته مع استصحابه عدم نبات لحيته ، وتقدّم استصحاب بقاء الحياة عليه تقدّم عادي.

وقد تكون السببيّة عقليّة كالشكّ في تحقّق الحرارة الناشئ من الشكّ في بقاء النار ، وتعارض استصحاب عدم تحقّق الحرارة مع استصحاب بقاء النار ، وتقدّم استصحاب بقاء النار عليه تقدّم عقلي ، فلا بدّ لنا من البحث في جميع هذه الصور.

وأمّا البحث فيما كانت السببيّة بينهما سببيّة شرعيّة فالمستفاد من الكلمات تحقّق الاتّفاق بين المحقّقين في تقدّم الاستصحاب في الشكّ السببي على

٣٤٠