دراسات في الأصول - ج ٤

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-95-8
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٤٨٠

التبعي والانتزاع عن تعلّق الأمر بالمركّب.

والتحقيق : أنّ ادّعاء الانحصار ليس بصحيح ؛ إذ يمكن جعل الجزئيّة والشرطيّة مستقلّا بدون الأمر بالمركّب ، كما إذا قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد قوله تعالى : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ) : «لا صلاة إلّا بفاتحة الكتاب» ، و«لا صلاة إلّا بطهور» ، ومعناه أنّ فاتحة الكتاب جزء من الصلاة ، وأنّ الطهور شرط لها ، ولا شبهة أنّ هذا الجعل استقلاليّ.

كما أنّه يدلّ قوله تعالى : (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ)(١) على أنّه تعالى جعل استقبال المسجد الحرام شرطا للصلاة بالجعل الاستقلالي ، ولا يكون من قبيل نسخ حكم الصلاة رأسا وإبداء حكم آخر وجعل شرطيّة الاستقبال تبعا له ، بل كان الجعل متعلّقا به بالاستقلال ، وهكذا في باب المانعيّة والقاطعيّة لا مانع من قول الشارع بدليل مستقلّ ـ بعد الأمر بالصلاة ـ إنّي جعلت الحدث قاطعا للصلاة مثلا.

وأمّا بالنسبة إلى القسم الثالث فكان لنا كلامان : الكلام الأوّل : ما هو الجواب عمّا ذكره الشيخ الأنصاري ـ بعد قوله بانتزاعيّة جميع الأحكام الوضعيّة من الأحكام التكليفيّة ، وأنّ الملكيّة تنتزع من جواز التصرّف المترتّب على عقد البيع ، وهكذا في باب الزوجيّة والحريّة والرقّيّة وأشباه ذلك ـ (٢) وأنّ مراده إن كان امتناع اعتبار الملكيّة والزوجيّة مستقلّا عند الشارع والعقلاء ، فنقول : أيّ دليل دلّ على امتناع اعتبارها كذلك؟

وإن كان مراده مخالفة ظاهر الأدلّة لهذا المعنى فنقول : إنّ ظاهر الأدلّة

__________________

(١) البقرة : ١٤٤.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ١٢٥ ـ ١٢٧.

١٦١

موافق له ، كقوله : «من حاز ملك» (١) ، وقوله : «من أحيا أرضا ميتة فهي له» (٢) ، والظاهر منهما جعل الملكيّة مستقلّة ، وهكذا في سائر العقود والإيقاعات إذا قلنا : «يجوز للزوج النظر إلى زوجته» فلازم تأخّر الحكم عن موضوعه اعتبار الزوجيّة قبله ، وهكذا في قاعدة «الناس مسلّطون على أموالهم» لا بدّ من اعتبار الملكيّة وفرض الأموال التي هي ملك لهم ، ثمّ الحكم بتسلّطهم عليها ، فالإنصاف بيننا وبين وجداننا ـ بعد ملاحظة الأدلّة ـ يقتضي أنّ الجعل الاستقلالي لها غير قابل للإنكار.

الكلام الثاني : ما هو الجواب عمّا ذكره المحقّق الخراساني قدس‌سره ـ بعد قوله بأنّ السببيّة للسبب أمر ذاتي له ، بلا فرق بين الأحكام التكليفيّة والوضعيّة ، فلا تكون قابلة للجعل والعناية ، كعدم قابليّة جعل الزّوجيّة للأربعة (٣) ـ وأنّ السبب الشرعي غير السبب التكويني ، ومعنى قولنا : «عقد النكاح سبب للزوجيّة» هو اعتبار الزوجيّة عقيب العقد ، وأنّ الشارع جعل العقد موضوعا لاعتبار الزوجيّة ، لا أنّه يتحقّق في باطن العقد خصوصيّة واقعيّة تترشّح منها الزوجيّة كترشّح الحرارة من النار ، وهكذا في قولنا : «عقد البيع سبب للملكيّة».

وقد اتّضح إلى هنا أنّ الأحكام الوضعيّة على قسمين : قسم منها قابل للجعل الاستقلالي ، وقسم منها منتزع من تعلّق الأمر بالمقيّد بالأمر الوجودي ، كقوله : «صلّ مع الطهارة» أو بالأمر العدمي ، كقوله : «لا تصلّ في وبر ما لا يؤكل

__________________

(١) لم نعثر على هذه الجملة في روايات الخاصّة والعامّة.

(٢) الوسائل ٢٥ : ٤١٢ ، الباب ١ من أبواب إحياء الموات ، الحديث ٤.

(٣) كفاية الاصول ٢ : ٣٠٣.

١٦٢

لحمه» ، وينتزع من الأوّل شرطيّة الطهارة ، ومن الثاني مانعيّة أجزاء ما لا يؤكل لحمه ، ولا نجد في الشريعة حكما وضعيّا لا تناله يد الجعل ، لا أصالة ولا تبعا ، وإلّا كيف يكون الحكم الشرعي أو المجعول الشرعي كما ذكرناه؟

ولا مانع من جريان الاستصحاب في كلا القسمين منها ، فكما أنّه يجري في صورة الشكّ في بقاء وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة ـ مثلا ـ كذلك يجري في صورة الشكّ في بقاء زوجيّة كذا وملكيّة كذا ، هذا في المجعولات الاستقلاليّة.

وأمّا في المجعولات المنتزعة فلا بدّ من جريان الاستصحاب في المنتزع منه ؛ إذ الشكّ في بقاء شرطيّة الطهارة ـ مثلا ـ مسبب عن الشكّ في بقاء المنتزع منه ، ونتيجة جريان الأصل في منشأ الانتزاع بقاء هذا الأمر الانتزاعي.

فما ذكره بعض الأعاظم من التفصيل بين الأحكام التكليفيّة والأحكام الوضعيّة بجريان الاستصحاب في الاولى دون الثانية ليس بتامّ ، فالاستصحاب حجّة مطلقا.

١٦٣
١٦٤

تنبيهات الاستصحاب

١٦٥
١٦٦

التنبيه الأوّل

في اعتبار فعليّة اليقين والشكّ في الاستصحاب

وأخذهما في موضوعه على نعت الموضوعيّة

يعتبر في الاستصحاب فعليّة الشكّ واليقين بناء على أخذهما موضوعا وركنا فيه ، وليس المراد من فعليّتهما تحقّقهما في خزانة النفس ولو كان الإنسان غافلا عنهما ، بل بمعنى الالتفات إلى يقينه السابق وشكّه اللاحق ، فلا يجري الاستصحاب مع الغفلة ؛ لعدم الشكّ فعلا ولو فرض أنّه يشكّ لو التفت ؛ ضرورة أنّ الاستصحاب وظيفة الشاكّ ، ولا شكّ مع الغفلة أصلا.

ثمّ إنّ صاحب الكفاية قدس‌سره رتّب على هذا المعنى حكم الفرعين ، وقال : «فيحكم بصحّة صلاة من أحدث ثمّ غفل وصلّى ، ثمّ شكّ في أنّه تطهّر قبل الصلاة ؛ لقاعدة الفراغ ، بخلاف من التفت قبلها وشكّ ثمّ غفل وصلّى ، فيحكم بفساد صلاته فيما إذا قطع بعدم تطهيره بعد الشكّ ؛ لكونه محدثا قبلها بحكم الاستصحاب ، مع القطع بعدم رفع حدثه الاستصحابي.

لا يقال : نعم ، ولكنّ استصحاب الحدث في حال الصلاة بعد ما التفت بعدها يقتضي أيضا فسادها ، فإنّه يقال : نعم لو لا قاعدة الفراغ المقتضية لصحّتها

١٦٧

المتقدّمة على أصالة فسادها» (١).

والتحقيق : أنّ جريان قاعدة الفراغ هنا لا يخلو عن إشكال ؛ لاختصاص ظهور أخبارها في حدوث الشكّ بعد العمل ، وهذا الشكّ ليس حادثا بل كان باقيا في خزانة النفس ، ويكون من قبيل إعادة ما سبق ، أو الالتفات إلى ما كان موجودا ، فالصلاة في الفرع الأوّل باطلة ؛ إمّا لأجل استصحاب الحدث قبل الصلاة على القول بعدم اعتبار فعليّة الشكّ واليقين ، وإمّا لأجل استصحاب الحدث بعد الصلاة على القول باعتبار فعليّتهما وعدم جريان قاعدة الفراغ.

وأمّا الفرع الثاني فيرد عليه : أنّه لا يمكن استناد بطلان الصلاة فيه إلى استصحاب الحدث قبل الصلاة ، فإنّ الاستصحاب لا يتحقّق في حال الصلاة ؛ إذ المفروض أنّه حال الغفلة والذهول ، والمعتبر فيه فعليّة اليقين والشكّ ، واستصحاب الحدث قبل حال الغفلة لا يفيد بالمقام ، ولا يمكن الالتزام بصحّة الصلاة في هذا الفرع مستندا إلى قاعدة الفراغ ؛ لاختصاصها في مورد حدوث الشكّ بعد الفراغ عن الصلاة وكان الإنسان بعد الفراغ عنها غافلا عن خصوصيّاتها وكيفيّة إتيانها ، والمفروض هنا تحقّق الشكّ قبل الصلاة وكون المصلّي عالما بجزئيّات صلاته وخصوصيّاتها.

وبعد عدم جريان الاستصحاب وقاعدة الفراغ فلا بدّ من إعادة الصلاة مستندا إلى قاعدة الاشتغال ، فما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره بعنوان الثمرة لفعليّة اليقين والشكّ ليس بتامّ.

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٣٠٨.

١٦٨

التنبيه الثاني

في البحث عن جريان الاستصحاب

في مؤدّيات الأمارات والطرق الشرعيّة وعدمه

ربّما يقال : بعدم جريانه فيها ؛ إذ لا بدّ في الاستصحاب من تحقّق اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء ، والأمارات مطلقا لا تفيد اليقين ، بعد ما ذكرنا أنّ حجّيّة الأمارات بنحو الطريقيّة والكاشفيّة ، بمعنى المنجّزيّة عند موافقة الواقع والمعذّريّة عند مخالفة الواقع ، وقيام الطرق والأمارات لا يوجب جعل الحكم الظاهري على طبق مؤدّياتها ، كما أنّ حجّيّة القطع أيضا تكون كذلك ، ولازم عدم جريانه فيها انسداد باب الاستصحاب إلّا في بعض الموارد ، وهذا الإشكال مهمّ وتترتّب عليه ثمرة فقهيّة مهمّة.

قال صاحب الكفاية قدس‌سره : «يمكن أن يذبّ عمّا في استصحاب الأحكام التي قامت الأمارات المعتبرة على مجرّد ثبوتها ، وقد شكّ في بقائها على تقدير ثبوتها ، من الإشكال : بأنّه لا يقين بالحكم الواقعي ، ولا يكون هناك حكم آخر فعلي بناء على ما هو التحقيق ، من أنّ قضيّة حجّيّة الأمارة ليست إلّا تنجّز التكاليف مع الإصابة والعذر مع المخالفة ، كما هو قضيّة الحجّة المعتبرة عقلا ، كالقطع والظنّ في حال الانسداد وعلى الحكومة ، لا إنشاء أحكام فعليّة

١٦٩

شرعيّة ظاهريّة ، كما هو ظاهر الأصحاب ، ووجه الذبّ بذلك : أنّ الحكم الواقعي الذي هو مؤدّى الطريق حين الشكّ محكوم بالبقاء ، فتكون الحجّة على ثبوته حجّة على بقائه تعبّدا ؛ للملازمة بين بقائه وثبوته واقعا.

إن قلت : كيف وقد اخذ اليقين بالشيء في التعبّد ببقائه في الأخبار ولا يقين في فرض تقدير الثبوت؟

قلت : نعم ، ولكنّ الظاهر أنّه اخذ كشفا عن الحكم الواقعي ومرآتا لثبوته ليكون التّعبّد في بقائه ، والتعبّد مع فرض ثبوته إنّما يكون في بقائه ، فافهم» (١).

ويرد عليه : أوّلا : لزوم التهافت بين ما اختاره في التنبيه الأوّل من اعتبار فعليّة الشكّ واليقين في الاستصحاب ، وبين ما اختاره في التنبيه الثاني من الاكتفاء في صحّة الاستصحاب بالشكّ في بقاء شيء على تقدير ثبوته وإن لم يحرز ثبوته ، كما ذكره استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (٢).

وثانيا : أنّ اليقين في قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ» طريقيّ بلحاظ المتعلّق والمتيقّن ، وموضوعيّ بلحاظ حكم «لا تنقض» كموضوعيّته في قولنا : «اليقين حجّة عقلا» ، فلا ينافي مرآتيّة اليقين وكاشفيّته مع موضوعيّته بلحاظ حكم عدم النقض ، والمفروض قوام الاستصحاب باليقين والشكّ واعتبار فعليّتهما ، فلا بدّ من طريق آخر لحلّ الإشكال.

وقال المحقّق النائيني رحمه‌الله وبعض تلامذته في مقام الجواب عن الإشكال : إنّ معنى جعل حجّيّة الأمارات هو جعل الأمارات من أفراد العلم في عالم الاعتبار ، فيكون اليقين حينئذ فردان : اليقين الوجداني ، واليقين الجعلي الاعتباري ، فكما لو علمنا بحكم من الأحكام ، ثمّ شككنا في بقائه نرجع إلى

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٣٠٩ ـ ٣١٠.

(٢) الاستصحاب : ٧٩.

١٧٠

الاستصحاب ، كذلك إذا قامت الأمارة أو الطريق على ثبوت حكم أو موضوع ذي حكم ثمّ شكّ في بقائهما لا مانع من استصحاب بقاء مؤدّى الطريق والأمارة (١).

وفيه : أنّ اعتبار الطرق والأمارات عند الشارع كثيرا ما يكون من باب التصويب وإمضاء ما هو معتبر عند العقلاء ، وذكرنا في باب حجّيّة خبر الواحد أنّ أدلّ دليل على حجّيّته هو عدم ردع الشارع بناء العقلاء في العمل بخبر الثقة ، وبعد الرجوع إلى العقلاء نستكشف أنّ خبر الثقة طريق غير علميّ جعل حجّة على الواقع ، بمعنى المنجّزيّة على تقدير الإصابة والمعذّريّة على تقدير المخالفة للواقع ، كما أنّ القطع طريق إلى الواقع بل على رأس الطرق وحجّة عقلا ، كذلك خبر الثقة طريق إليه وحجّة شرعا وعقلاء في مورد فقد القطع واليقين ، فإنّ انحصار الطريق باليقين يوجب المعضلات والمشكلات في مسائل الفرد والمجتمع ولا يكون عندهم مؤدّى الطرق والأمارات المتيقّن التعبّدي في مقابل المتيقّن الوجداني ، ولا يكون مفاد خبر الثقة بنجاسة الثوب ـ مثلا ـ هو القول ب : أنّي أراك متيقّنا بالنجاسة وأنت عالم في عالم الاعتبار» ، وهكذا في سائر الأمارات والطرق.

والتحقيق في الجواب : أنّ إضافة النقض إلى اليقين في قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ» تكون بلحاظ الإبرام والاستحكام المتحقّق فيه ، وهذا الاستحكام لا يرتبط به بما أنّه صفة قائمة بالنفس ، فإنّه ربّما يزول عن النفس سريعا بخلاف الشكّ ، بل يرتبط بالمتيقّن والكشف عنه كأنّه يراه بالعيان ، وملاك الاستحكام عبارة عن حجّيّة القطع ، فهو بلحاظ حجّيّته واجد للاستحكام والإبرام ،

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٤٠٤ ، مصباح الاصول ٣ : ٩٩.

١٧١

لا بلحاظ كشفه عن الواقع بدون التخلّف ، كأنّه يقول : «لا تنقض اليقين الذي هو حجّة بالشكّ ، الذي ليس بحجّة» ، وهذا الملاك يتحقّق في سائر الأمارات والطرق المعتبرة أيضا ، فالشكّ باعتبار عدم حجّيّته وعدم إحرازه للواقع لا ينقض اليقين الذي هو حجّة ومحرز له ؛ فإنّه لا ينبغي أن ترفع اليد عن الحجّة بغير الحجّة ، فيلحق الظنّ المعتبر باليقين ، والظنّ الغير المعتبر بالشكّ.

هذا توضيح ما ذكره استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره في المقام ، ثمّ ذكر مؤيّدات له وقال : «ويؤيّد ذلك ـ بل يدلّ عليه ـ قوله في صحيحة زرارة الثانية : «لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت ، فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا» (١) الظاهر منه إجراء استصحاب طهارة اللباس ، ولا بدّ أن تحمل الطهارة على الواقعيّة منها ؛ لعدم جريان الاستصحاب في الطهارة الظاهريّة لما ذكرنا سابقا. ومعلوم أنّ العلم الوجداني بالطهارة الواقعيّة ممّا لا يمكن عادة ، بل العلم إنّما يحصل بالأمارات كأصالة الصحّة ، وإخبار ذي اليد ، وأمثالهما ، فيرجع مفاده إلى أنّه لا ترفع اليد عن الحجّة القائمة بالطهارة بالشكّ.

بل يمكن أن يؤيّد بصحيحته الاولى أيضا ؛ فإنّ اليقين الوجداني بالوضوء الصحيح أيضا ممّا لا يمكن عادة ، بل الغالب وقوع الشكّ في الصحة بعده ، ويحكم بصحّته بقاعدة الفراغ ، بل الشكّ في طهارة ماء الوضوء يوجب الشكّ فيه ، فاليقين بالوضوء أيضا لا يكون يقينا وجدانيّا غالبا ، تأمّل» (٢).

فلا يكون اليقين فيهما في مقابل الأمارات المعتبرة فيستفاد منهما صحّة جريان الاستصحاب في موارد الطرق والأمارات المعتبرة.

__________________

(١) الوسائل ٣ : ٤٦٦ ، الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، الحديث ١.

(٢) الاستصحاب : ٨١ ـ ٨٢.

١٧٢

التنبيه الثالث

في تردّد المستصحب

وأنّه قد يكون فردا معيّنا ، كما إذا شككنا في بقاء زيد في الدار بعد العلم بدخوله فيها لترتّب أثر شرعي ، وقد يكون فردا مردّدا ، كما إذا علمنا بتحقّق فرد في الدار ولكنّه مردّد بين زيد وعمرو ، وشككنا بعد ساعة في بقائه فيها ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب في هذين الموردين ، إلّا أن جريانه في مورد الثاني يكون لترتّب الآثار المشتركة على بقاء الفردين لا الآثار المختصّة على بقاء أحد الفردين.

ربّما يقال : يتصوّر هنا قسم ثالث للفرد ويعبّر عنه بالفرد المنتشر ، ولكنّه ليس بصحيح ؛ إذ الفرديّة مساوقة للتشخّص والتعيّن ، ولا يمكن الجمع بين التعيّن والتشخّص الفردي والانتشار والسعة ، وهو في الحقيقة كلّي معيّن في الخارج ، ومثاله : قول البائع للمشتري : «بعتك صاعا من هذه الصبرة» ، وإن كان المستصحب من هذا القبيل فهو استصحاب الكلّي ، لا استصحاب الفرد.

وقد يكون المستصحب كلّيّا واستصحاب الكلّي على أقسام

القسم الأوّل : ما إذا علمنا بتحقّق الكلّي في ضمن فرد معيّن ، ثمّ شككنا في بقاء هذا الفرد وارتفاعه ، فلا محالة نشكّ في بقاء الكلّي وارتفاعه أيضا ، فإذا

١٧٣

كان الأثر للكلّى فيجري الاستصحاب فيه ، مثاله المعروف : ما إذا علمنا بوجود زيد في الدار ، فنعلم بوجود الإنسان فيها ، ثمّ شككنا في خروج زيد عنها ، فنشكّ في بقاء الإنسان فيها ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب ببقائه إذا كان له أثر ، وجريان الاستصحاب في الفرد والكلّي تابع للأثر ، إذا كان الأثر للفرد يجرى الاستصحاب فيه ، وإذا كان الأثر للكلّي يجري الاستصحاب فيه ، وما يستفاد من عبارة الكفاية (١) من التخيير في إجراء الاستصحاب في الكلّي والفرد ليس بصحيح إلّا في الآثار المشتركة ؛ لمغايرتهما عند العرف وإن كان وجود الكلّي عين وجود أفراده عند أهل المنطق والفلسفة.

القسم الثاني : ما إذا علمنا بوجود الكلّي في ضمن فرد مردّد بين متيقّن الارتفاع ومتيقّن البقاء ، كما إذا علمنا بوجود إنسان في الدار مع الشكّ في كونه زيدا أو عمروا ، مع العلم بأنّه لو كان زيدا فهو خارج يقينا ، ولو كان عمروا فهو باق يقينا ، ومثاله في الحكم الشرعي : ما إذا رأينا رطوبة مشتبهة بين البول والمني ، فتوضّأنا ، فنعلم أنّه لو كان الحدث الموجود هو الأصغر فقد ارتفع ، ولو كان هو الأكبر فقد بقي ، وكذا لو اغتسلنا في المثال فنعلم أنّه لو كان الحدث هو الأكبر فقد ارتفع ، وإن كان هو الأصغر فقد بقي ؛ لعدم ارتفاعه بالغسل ، فنجري الاستصحاب في الحدث الجامع بين الأكبر والأصغر ـ أي الكلّي ـ ونحكم بترتّب أثره ، كحرمة مس كتابة القرآن وعدم جواز الدخول في الصلاة ، ولا يجري استصحاب الفرد ، فإنّ أحد الفردين متيقّن الارتفاع والآخر متيقّن البقاء.

واستشكل صاحب الكفاية رحمه‌الله بعنوان التّوهّم في جريان الاستصحاب في

__________________

(١) الكفاية ٢ : ٣١١.

١٧٤

هذا القسم : بأنّ الاستصحاب فيه وإن كان جاريا في نفسه لتماميّة موضوعه من اليقين والشكّ ، إلّا أنّه محكوم بأصل سببيّ ، فإنّ الشكّ في بقاء الكلّي مسبّب عن الشكّ في حدوث الفرد الطويل ، والأصل عدمه ، ففي المثال يكون الشكّ في بقاء الحدث مسبّبا عن الشكّ في حدوث الجناية ، فتجري أصالة عدم حدوث الجناية ، وبانضمام هذا الأصل إلى الوجدان يحكم بارتفاع الحدث ، فإنّ الحدث الأصغر مرتفع بالوجدان ، والحدث الأكبر منفيّ بالأصل.

ثمّ أجاب عنه بجوابين : الأوّل : بأنّ الشكّ في بقاء الكلّي ليس مسبّبا عن الشكّ في حدوث الفرد الطويل ، بل مسبّب عن الشكّ في كون الحادث طويلا أو قصيرا ، وبعبارة اخرى : الشكّ في بقاء الكلّي مسبب عن الشكّ في خصوصيّة الفرد الحادث ، وليس له حالة سابقة حتّى يكون موردا للأصل ، فتجري فيه أصالة عدم كونه طويلا ، فما هو مسبوق بالعدم ـ وهو حدوث الفرد الطويل ـ ليس الشكّ في بقاء الكلّي مسببا عنه ، وما يكون الشكّ فيه مسببا عنه ـ وهو كون الحادث طويلا ـ ليس مسبوقا بالعدم حتّى يكون موردا للأصل.

الثاني : أنّ بقاء الكلّي عين بقاء الفرد الطويل ، فإنّ الكلّي عين الفرد ، لا أنّه من لوازمه ، فلا تكون هناك سببيّة ومسبّبيّة (١).

وكان لاستاذنا السيّد الإمام قدس‌سره هنا إشكال مهمّ من حيث العلم لا العمل ، وهو قوله : «لكنّ الإنصاف أنّه لو اغمض النظر عن وحدتهما عرفا ، فلا يمكن التخلّص من الإشكال ، سواء اريد إجراء استصحاب الكلّي المعرّى واقعا عن الخصوصيّة أو استصحاب الكلّي المتشخص بإحدى الخصوصيّتين ـ أي

__________________

(١) الكفاية ٢ : ٣١١ ـ ٣١٢.

١٧٥

خصوصيّة زيديّة أو خصوصيّة عمرويّة ـ أو الكلّي الخارجي مع قطع النظر عن الخصوصيّة ، بدعوى أنّ الموجود الخارجي له جهتان : جهة مشتركة بينه وبين غيره من نوعه أو جنسه في الخارج ، وجهة مميّزة والعلم بوجود أحد الفردين موجب لعلم تفصيلي بجهة مشتركة خارجيّة بينهما ، وذلك لاختلال ركني الاستصحاب أو أحدهما على جميع التقادير.

أمّا على التقدير الأوّل فللعلم بعدم الوجود الكلّي المعرّى واقعا عن الخصوصيّة ؛ لامتناع وجوده كذلك ، فيختلّ ركناه.

وأمّا على الثاني فلأن ذلك عين العلم الإجمالي بوجود أحدهما ؛ لأنّ الكلّي المتشخّص بكلّ خصوصيّة يغاير المتشخّص بالخصوصيّة الاخرى ، فتكون القضيّة المتيقّنة العلم الإجمالي بوجود أحدهما ، وقضية اعتبار وحدتها مع المشكوك فيها أن يشكّ في بقاء المعلوم بالإجمال ، وفي المقام لا يكون الشكّ في بقاء المعلوم بالإجمال بل يعلم في الزمان الثاني إجمالا ، إمّا ببقاء الطويل ، أو ارتفاع القصير ، وإنّما يكون الشكّ في البقاء إذا احتمل ارتفاع ما هو المعلوم ، طويل العمر كان أو قصيره ، فاختلّ الركن الثاني منه.

وأمّا على التقدير الثالث فلأنّ الجهة المشتركة بما هي مشتركة غير موجودة في الخارج ، إلّا على رأي الرجل الهمداني الذي يلزم منه مفاسد ، كما حقّق في محلّه.

وعلى المسلك المنصور تكون الطبيعة في الخارج طبيعتين ، فكما لا علم تفصيلي بإحدى الخصوصيّتين لا علم تفصيلي بإحدى الطبيعتين ؛ لامتناع حصول العلم التفصيلي إلّا مع وحدة الطبيعة المعلومة ، فحينئذ يأتي فيه الإشكال المتقدّم. فالتخلّص عن الإشكال هو ما أشرنا إليه من وحدة

١٧٦

القضيّتين عرفا ، وهي المعتبرة في الاستصحاب» (١).

فيجري الاستصحاب إن لاحظنا وحدة القضيّتين بنظر العرف كما هو الحقّ ، بخلاف ما إذا لاحظناها بالدقّة العقليّة.

بقي هنا إشكال آخر على استصحاب الكلّي ، وهو منسوب إلى سيّد إسماعيل الصدر قدس‌سره ، وهذا الإشكال معروف بالشبهة العبائيّة.

توضيح ذلك : أنّه من المعلوم عدم جريان الاستصحاب في الشبهة المفهوميّة ، كما إذا شككنا بعد استتار القرص وقبل زوال الحمرة المشرقيّة في انتهاء النهار وأنّه ينتهي بأيّهما ، ولا يجري استصحاب بقاء النهار ؛ إذ الشكّ في معنى النهار ومفهومه من حيث العرف واللغة وأنّ اختتامه لغة وعرفا باستتار القرص أو بزوال الحمرة المشرقية ، لا في الواقعة الخارجيّة بعد العلم باستتار القرص وعدم زوال الحمرة.

ويمكن أن يتوهّم أنّ ما نحن فيه أيضا من هذا القبيل ، فإنّا نعلم بارتفاع الكلّي إن تحقّق في ضمن الفرد القصير ، وبقائه إن تحقّق في ضمن الفرد الطويل.

وجوابه : أنّ الشكّ هنا في الواقعة وأنّ الكلّي تحقّق في ضمن أيّ الفردين ، لا في المفهوم اللغوي والعرفي ، فلا مانع من جريان استصحاب الكلّي.

وأمّا ما ذكره السيّد الصدر قدس‌سره فهو أنّه : لو علمنا إجمالا بنجاسة أحد طرفي العباءة ثمّ غسلنا أحد الطرفين ، فلا إشكال في أنّه لا يحكم بنجاسة الملاقي لهذا الطرف المغسول ؛ للعلم بطهارته بعد الغسل ، إمّا بالطهارة السابقة أو بالطهارة الحاصلة بالغسل ، وكذا لا يحكم بنجاسة الملاقي للطرف الآخر ؛ لأنّ المفروض عدم نجاسة الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة ، ثمّ لو لاقى شيء مع الطرفين

__________________

(١) الاستصحاب : ٨٥ ـ ٨٦.

١٧٧

فلا بدّ من الحكم بعدم نجاسته أيضا ؛ لأنّه لاقى طاهرا يقينا وأحد طرفي الشبهة ، والمفروض أنّ ملاقاة شيء منهما لا توجب النجاسة مع أنّ مقتضى استصحاب الكلّي هو الحكم بنجاسة الملاقي للطرفين ، فلا بدّ من رفع اليد عن جريان الاستصحاب في الكلّي أو القول بنجاسة الملاقي لأحد أطراف الشبهة المحصورة ؛ لعدم إمكان الجمع بينهما في المقام (١).

وجوابه : أوّلا : ما يستفاد من كلام سيّدنا الإمام قدس‌سره والمحقّق النائيني رحمه‌الله وهو : أنّ جريان استصحاب النجاسة وإن كان ممّا لا مانع منه ؛ لأنّ وجود النجاسة في الثوب كان متيقّنا ، ومع تطهير أحد طرفيه يشكّ في بقائه فيه ، إلّا أنّه لا يترتّب على ملاقاة الثوب أثر ملاقاة النجس ، فإنّ استصحاب بقاء الكلّي أو الشخص الواقعي لا يثبت كون ملاقاة الأطراف ملاقاة النجس إلّا بالأصل المثبت ؛ لأنّ ملاقاة الأطراف ملاقاة للنجس عقلا.

وليس لأحد أن يقول : إنّه بعد استصحاب نجاسة الثوب تكون الملاقاة معها وجدانيّة ؛ لأنّ ما هو وجداني هو الملاقاة مع الثوب لا مع النجس ، واستصحاب بقاء النجاسة بالنحو الكلّي ، وكذا استصحاب النجس الذي كان في الثوب ، ـ أي الشخص الواقعي ـ لا يثبت أنّ الملاقاة مع الثوب بجميع أطرافه ملاقاة للنجاسة إلّا بالاستلزام العقلي ، وفرق واضح بين استصحاب نجاسة طرف معيّن من الثوب ، وبين استصحاب نجاسة فيه بنحو غير معيّن ؛ فإنّ ملاقاة الطرف المعيّن المستصحب النجاسة ملاقاة للنجس المستصحب وجدانا ، فإذا حكم الشارع بأنّ هذا المعيّن نجس ينسلك في كبرى شرعيّة هي : «أنّ ملاقي النجس نجس» ، وأمّا كون ملاقاة جميع الأطراف ملاقاة

__________________

(١) نهاية الافكار ٤ : ١٣٠.

١٧٨

للنجس الكلّي أو الواقعي ، فيكون بالاستلزام العقلي (١).

وأمّا ما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله كما نقله صاحب المصباح فهو : أنّ الاستصحاب المدّعى في المقام لا يمكن جريانه في مفاد كان الناقصة ، بأن يشار إلى طرف معيّن من العباءة ويقال : إنّ هذا الطرف كان نجسا وشكّ في بقائها ، فالاستصحاب يقتضي نجاسته. وذلك لأنّ أحد طرفي العباءة مقطوع الطهارة ، والطرف الآخر مشكوك النجاسة من أوّل الأمر ، وليس لنا يقين بنجاسة طرف معيّن يشكّ في بقائها ليجري الاستصحاب فيها.

نعم ، يمكن إجراؤه في مفاد كان التامّة ، بأن يقال : إنّ النجاسة في العباءة كانت موجودة وشكّ في ارتفاعها ، فالآن كما كانت ؛ لأنّ الحكم بنجاسة الملاقي يتوقّف على نجاسة ما لاقاه وتحقّق الملاقاة خارجا ، ومن الظاهر أنّ استصحاب وجود النجاسة في العباءة لا يثبت ملاقاة النجس إلّا على القول بالأصل المثبت ؛ ضرورة أنّ الملاقاة ليست من الآثار الشرعيّة لبقاء النجاسة ، بل من الآثار العقليّة ، وعليه فلا تثبت نجاسة الملاقي للعباءة.

وأجاب عنه بعض الأعلام قدس‌سره وقال : وفي هذا الجواب أيضا مناقشة ظاهرة ؛ إذ يمكن جريان الاستصحاب في مفاد كان الناقصة مع عدم تعيين موضع النجاسة بأن نشير إلى الموضع الواقعي ونقول : خيط من هذا العباءة كان نجسا والآن كما كان ، أو نقول : طرف من هذا العباءة كان نجسا والآن كما كان ، فهذا الخيط أو الطرف محكوم بالنجاسة للاستصحاب ، والملاقاة ثابتة بالوجدان ؛ إذ المفروض تحقّق الملاقاة مع طرفي العباءة ، فيحكم بنجاسة الملاقي لا محالة (٢).

__________________

(١) الاستصحاب : ٨٨ ، ومصباح الاصول ٣ : ١١١.

(٢) مصباح الاصول ٣ : ١١٢.

١٧٩

وجوابه : أنّ الحكم بنجاسة الملاقي في جزء غير معيّن يرتبط بالعقل ، بل لا طريق له غير العقل ، بخلاف الجزء المعيّن ، فإنّ نجاسته ثابتة بالاستصحاب وملاقاة اليد مع الرطوبة بالوجدان ، فلا نحتاج إلى حكم العقل ، وأمّا في الجزء المردّد فنقول بعد الملاقاة مع جميع أجزاء العباءة ، فلا محالة لاقى الجزء غير المعيّن المحكوم بالنجاسة ، وهذا حكم العقل.

والحاصل : أنّه إذا علمنا إجمالا بنجاسة الجزء الأعلى أو الأسفل من العباءة ، وبعد تطهير الجزء الأسفل منه والشكّ في بقاء النجاسة فيه ، فنستصحب كلّي النجاسة فيه ، ولكن ملاقاة اليد مع الرطوبة في كلا الطرفين ـ الأعلى والأسفل ـ لا يوجب نجاسته ، فإنّ المحرز بالاستصحاب هي النجاسة المتحقّقة في العباءة بوصف الكلّي فقط ، ولا دليل لنجاسة اليد ، ولا يشمله :«ملاقي النجس نجس» ؛ إذ لم يحرز أنّه لاقي النجس ، وكون ملاقاة العباءة ملاقاة للنجس لازم عقلي لا يترتّب على الاستصحاب.

وثانيا : أيضا ما يستفاد من كلام المحقّق النائيني رحمه‌الله كما ذكره صاحب المصباح قدس‌سره وهو : أنّ الاستصحاب الجاري في مثل العباءة ليس من استصحاب الكلّي في شيء ؛ لأنّ استصحاب الكلّي إنّما هو فيما إذا كان الكلّي المتيقّن مردّدا بين فرد من الصنف الطويل وفرد من الصنف القصير ، كالحيوان المردّد بين البق والفيل على ما هو المعروف ، بخلاف المقام ، فإنّ التردّد فيه في خصوصيّة محلّ النجس مع العلم بخصوصيّة الفرد ، والتردّد في خصوصيّة المكان أو الزمان لا يوجب كلّيّة المتيقّن ، فليس الشكّ حينئذ في بقاء الكلّي وارتفاعه حتّى يجري الاستصحاب فيه ، بل الشكّ في بقاء الفرد الحادث المردد من حيث المكان. وذكر لتوضيح مراده مثالين :

١٨٠