دراسات في الأصول - ج ٤

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-95-8
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٤٨٠

الزمان والحركة ممّا يكون واحدا عقلا وعرفا وإن كانت وحدته وبقاؤه بعين تصرّمه وتقضّيه ، كصوت ممتدّ مثل الرعد وأمثاله.

ومنها : ما تكون وحدته وبقاؤه بنحو من الاعتبار ، مثل ما فرضه الشيخ الأنصاري قدس‌سره بالنسبة إلى الزمان والزمانيّات مطلقا.

ولعلّ هذا الاعتبار محتاج إليه في هذا القسم ، وهو مثل التكلّم وقرعات النبض والساعة ، [والصلاة المركّبة من المقولات المختلفة].

ولا إشكال في جريان الاستصحاب في الأوّل منها ، سواء جرى في الزمان والحركة أم لا ، والقسم الثاني حاله حال نفس الزمان والحركة ، وقد عرفت جريانه فيهما من غير احتياج إلى الاعتبار الذي اعتبره الشيخ الأعظم.

والقسم الثالث أسوأ حالا من الزمان والحركة ، وإن كان الأقوى جريانه فيه أيضا ؛ لمساعدة العرف في صدق البقاء ، وأنّ رفع اليد عنه هو نقض اليقين بالشكّ ، وهذا ممّا لا شبهة فيه ، لكنّ الظاهر أنّه من قبيل القسم الثاني من القسم الثالث من الكلّي» (١).

وقد عرفت أنّ القسم الثاني منه ما إذا علمنا بوجود زيد في الدار وخروجه منها ، واحتمال دخول عمرو فيها مقارنا لخروج زيد منها ، وقلنا بجريان استصحاب كلّي الإنسان فيه دون استصحاب الفرد ، وهكذا في ما نحن فيه ، فإنّ التكلّم في مجلس وعظ واحد عبارة عن وجودات وأفراد متعدّدة من التكلّم ، وفي صورة الشكّ في بقاء واعظ في حال التكلّم وعدمه علمنا بتحقّق أفراد من التكلّم وانعدامها ، ونحتمل تحقّق أفراد اخرى من طبيعة التكلّم مقارنة لانعدامها ، فنستصحب بقاء كلّي التكلّم دون بقاء الأفراد ؛ لترتّب الأثر

__________________

(١) الاستصحاب : ١١٩.

٢٠١

الشرعي عليه.

والقسم الآخر من الزماني وهو ما يكون له الثبات في نفسه ، ولكنّه قيّد بالزمان في لسان الدليل ، كالإمساك المقيّد بالنهار ، فقد يكون الشكّ فيه من جهة الشبهة الموضوعيّة ، وقد يكون من جهة الشبهة الحكميّة ؛ أمّا القسم الأوّل فتارة يكون الفعل فيه مقيّدا بعدم مجيء زمان ، كما إذا كان الإمساك مقيّدا بعدم غروب الشمس أو كان جواز الأكل والشرب في شهر رمضان مقيّدا بعدم طلوع الفجر.

وعليه فلا إشكال في جريان الاستصحاب العدمي ، فباستصحاب عدم غروب الشمس يحكم بوجوب الإمساك ، كما أنّه باستصحاب عدم طلوع الفجر يحكم بجواز الأكل والشرب.

واخرى يكون الفعل مقيّدا في لسان الدليل بوجود الزمان لا بعدم ضدّه ، كما إذا كان الإمساك مقيّدا بالنهار وجواز الأكل والشرب مقيّدا بالليل ، فيجري الاستصحاب في نفس الزمان على ما تقدّم من الإشكال والجواب.

وأمّا القسم الثاني ـ وهو ما كان الشكّ فيه في بقاء الحكم لشبهة حكميّة ـ فقد يكون الشكّ فيه لشبهة مفهوميّة ، كما إذا شككنا في أنّ الغروب الذي جعل غاية لوجوب الإمساك هل هو عبارة عن استتار القرص ، أو ذهاب الحمرة المشرقيّة؟

وقد يكون الشكّ فيه لتعارض الأدلّة كما في آخر وقت العشاءين ، لتردّده بين انتصاف الليل كما هو المشهور ، أو طلوع الفجر كما ذهب إليه بعض ، مع الالتزام بحرمة التأخير عمدا عن نصف الليل.

وكيف كان ، فذهب الشيخ قدس‌سره ـ وتبعه جماعة ممّن تأخّر عنه ، منهم صاحب

٢٠٢

الكفاية قدس‌سره ـ إلى أنّ الزمان إذا اخذ قيدا للفعل فلا يجري الاستصحاب فيه ، وإذا اخذ ظرفا فلا مانع من جريانه.

فإذا كان الجلوس المقيّد بما قبل الزوال واجبا وشككنا بعد الزوال ببقاء الوجوب وعدمه فلا معنى لاستصحاب وجوب الجلوس ؛ فإنّ متعلّق الوجوب عنوان قد ارتفع وانتفى قطعا ، والجلوس بعد الزوال عنوان آخر ، وإذا كان الجلوس قبل الزوال واجبا بمعنى كون ظرف وجوبه عبارة عن قبل الزوال بدون الإثبات أو النفي بالنسبة إلى ما بعد الزوال ، فيمكن جريان الاستصحاب في حال الشكّ بأنّ الجلوس كان واجبا قبل الزوال ، والآن كما كان (١).

وكان لاستاذنا السيّد الإمام قدس‌سره هنا كلام جيّد ، وهو قوله : «وأمّا استصحاب نفس وجوب الجلوس بعد مضي النهار ، فليس موردا للبحث هاهنا ، ومناط الإشكال فيه ليس مناطه في الزمان والزمانيّات حتّى يقال : إنّ الزمان إذا اخذ قيدا لا يجري الاستصحاب بعده ، وإذا اخذ ظرفا يجري بعده ؛ لأنّ ذلك خروج عن محطّ البحث ومورد النقض والإبرام ، وهذا خلط واقع من الشيخ الأعظم وتبعه غيره» (٢).

وممّا ذكرنا يعلم أنّ ذكر كلام الفاضل النراقي قدس‌سره في ذيل المبحث غير مناسب ؛ لأنّ إشكاله إنّما هو معارضة الاستصحاب الوجودي بالعدميّ في الأحكام بعد مضيّ الزمان الذي اخذ ظرفا للواجب أو الوجوب ، وليست الشبهة مرتبطة بالشبهة التي في الزمان والزمانيّات (٣).

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٧٦٢ ، كفاية الاصول ٢ : ٣١٧.

(٢) المصدر السابق.

(٣) الاستصحاب : ١٢٠ ـ ١٢١.

٢٠٣

شبهة النراقي

وحاصل الشبهة : أنّ استصحاب الوجود دائما معارض باستصحاب العدم الأزلي في الأحكام ، تكليفيّة كانت أو وضعيّة ، فاستصحاب وجوب الجلوس بعد الزوال معارض باستصحاب عدم وجوب الجلوس المتقيّد بكونه بعد الزوال ، فإنّ عنوان الجلوس المتقيّد بما بعد الزوال من العناوين التي يمكن أن تكون مستقلّة في الحكم ، فهو غير محكوم بالوجوب في الأزل ، فيستصحب عدم الوجوب الأزلي ، ويعارض باستصحاب وجوب الجلوس الثابت قبل الزوال.

وإشكال عدم اتّصال زمان الشكّ باليقين مدفوع بأنّه قبل مجيء زمان وجوب الجلوس قبل الزوال ـ أي حينما صدر الدليل لوجوبه ـ يكون اليقين والشكّ حاصلين ومتّصلا أحدهما بالآخر بالنسبة إلى الجلوس بعد الزوال (١).

وأجاب عن الشبهة الشيخ الأنصاري قدس‌سره بأنّ الأمر الوجودي المجعول إن لوحظ الزمان قيدا له أو لمتعلّقه ، بأن لوحظ وجوب الجلوس المقيّد بكونه إلى الزوال شيئا والمقيّد بكونه بعد الزوال شيئا آخر متعلّقا للوجوب ، فلا مجال لاستصحاب الوجوب ؛ للقطع بارتفاع ما علم وجوده والشكّ في حدوث ما عداه ، ولذا لا يجوز الاستصحاب في مثل : «صم يوم الخميس» إذا شكّ في وجوب صوم يوم الجمعة.

وإن لوحظ الزمان ظرفا لوجوب الجلوس فلا مجال لاستصحاب العدم ؛ لأنّه إذا انقلب العدم إلى الوجود المردّد بين كونه في قطعة خاصّة من الزمان وكونه أزيد ، والمفروض تسليم حكم الشارع بأنّ المتيقّن في زمان لا بدّ

__________________

(١) مناهج الأحكام والاصول للمحقّق النراقي : ٢٣٩ ، السطر ٩.

٢٠٤

من إبقائه فلا وجه لاعتبار العدم السابق (١).

واستشكل عليه استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره بقوله : «والإنصاف عدم ورود هذا الإشكال عليه ؛ لأنّ فرض قيديّة الزمان للجلوس أو الحكم غير مذكور في كلامه ، ولا يكون دخيلا في مدّعاه ؛ لأنّ دعواه تعارض استصحاب الوجود بالعدم دائما ، لا جريان استصحاب الوجود دائما ، حتّى يرد عليه أنّه قد لا يجري استصحاب الوجود ، وذلك فيما إذا اخذ الزمان قيدا ، وهذا نظير ادّعاء أنّ استصحاب المسبّبي محكوم لاستصحاب السببي دائما ، فإنّ المدّعى ليس جريان الاستصحابين دائما ، بل المدّعى أنّه على فرض الجريان يكون أحدهما محكوما.

وبالجملة ، منظوره عدم جواز التمسّك بالاستصحاب لإثبات الأحكام ؛ لأنّه على فرض جريانه معارض باستصحاب العدم الأزلي الثابت لعنوان مقيّد بالزمان المتأخّر عن ظرف الحكم ، ففرض عدم جريان استصحاب الوجودي غير مناف لدعواه.

وأمّا على فرض ظرفيّة الزمان فجريان استصحاب العدم الأزلي للعنوان المتقيّد ممّا لا مانع منه ؛ لأنّ الموضوع المتقيّد غير الموضوع الغير المتقيّد ، فلا يكون ثبوت الوجوب للجلوس نقضا لعدم وجوب الجلوس المتقيّد بما بعد الزوال ؛ لإمكان أن يكون نفس الجلوس واجبا والجلوس المتقيّد غير واجب.

وبالجملة ، عنوان الجلوس بنحو الإطلاق غير الجلوس المتقيّد بالزمان ، فلا يكون الحكم المتعلّق نقضا للمقيّد بما أنّه مقيّد» (٢).

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٧٦٤.

(٢) الاستصحاب : ١٢٣.

٢٠٥

وكان لصاحب الكفاية قدس‌سره تقرير آخر لشبهة النراقي قدس‌سره وهو قوله : «لا يقال : إنّ الزمان لا محالة يكون من قيود الموضوع وإن اخذ ظرفا لثبوت الحكم في دليله ؛ ضرورة دخل مثل الزمان فيما هو المناط لثبوته ، فلا مجال إلّا لاستصحاب عدمه.

فإنّه يقال : نعم لو كانت العبرة في تعيين الموضوع بالدقّة ونظر العقل ، وأمّا إذا كانت العبرة بنظر العرف فلا شبهة في أنّ الفعل بهذا النظر موضوع واحد في الزمانين ، قطع بثبوت الحكم له في الزمان الأوّل ، وشكّ في بقاء هذا الحكم له وارتفاعه في الزمان الثاني ، فلا يكون إلّا لاستصحاب ثبوته مجال.

لا يقال : فاستصحاب كلّ واحد من الثبوت والعدم يجري لثبوت كلا النظرين ـ أي العرف والعقل ـ ويقع التعارض بين الاستصحابين كما قيل» ، هذا إشارة إلى شبهة النراقي ، ثمّ قال في مقام الجواب عنها :

فإنّه يقال : «إنّما يكون ذلك [أي تعارض الاستصحابين] لو كان في الدليل [أي دليل الاستصحاب] ما بمفهومه يعمّ النظرين ، وإلّا فلا يكاد يصحّ إلّا إذا سبق بأحدهما ؛ لعدم إمكان الجمع بينهما ، لكمال المنافاة بينهما ، ولا يكون في أخبار الباب ما بمفهومه يعمّهما ، فلا يكون هناك إلّا استصحاب واحد ، وهو استصحاب الثبوت فيما إذا اخذ الزمان ظرفا ، واستصحاب العدم فيما إذا اخذ قيدا» (١).

والفرق بين هذا التقرير من الشبهة وما ذكرناه : أنّ هذا التقرير مبتن على نظر العقل والعرف ، بأنّ العرف قائل بالظرفيّة والعقل بالقيديّة ، فيقع التعارض بين الاستصحابين بخلاف ما ذكرناه من التقرير ، فإنّه مبتن على أخذ الزمان

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٣١٧ ـ ٣١٨.

٢٠٦

ظرفا فقط.

ويرد عليه : أوّلا : أنّه وقع الخلط في كلامه بين مقام الثبوت والإثبات ، فإنّ قوله : «لو كان في الدليل ما بمفهومه يعمّ النظرين» ناظر إلى مقام الإثبات ، وقوله : «لعدم إمكان الجمع بينهما ؛ لكمال المنافاة بينهما» ناظر إلى مقام الثبوت ، وقوله : «ولا يكون في أخبار الباب ما بمفهومه يعمّهما» ناظر إلى مقام الإثبات.

وثانيا : أنّ عدم إمكان كون الزمان ظرفا وقيدا للحكم بحسب الواقع ممّا لا يكون قابلا للإنكار ، إلّا أنّ شمول أخبار الباب لمواردها يكون بنحو الإطلاق ، ولا يكون ناظرا إلى الخصوصيّات الفردية من إمكان الجمع بين الاستصحابين وعدمه ، فكلّما صدق «نقض اليقين بالشكّ» ، يشمله قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ» ، فلذا نلاحظ تحقّق التعارض بين الاستصحابين في موارد عديدة ، وعلّة التعارض هي عدم إمكان الجمع بينهما ، ومراد القائل في قوله : «لا يقال» هو وقوع التعارض بين الاستصحابين ، لا أنّ كلاهما متّبع بعد الجريان ، ولا بدّ من العمل بهما ، فكيف يوجب عدم إمكان الجمع والمنافاة انتفاء أصل تعارض الاستصحابين في ما نحن فيه بخلاف سائر الموارد ، فما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره بعنوان الجواب عن الشبهة ليس بتامّ.

وأجاب المحقّق النائيني رحمه‌الله عن الشبهة بعدم جريان استصحاب العدم أصلا ، وحاصل كلامه : «أنّه إذا وجب الجلوس إلى الزوال ، فالعدم الأزلي انتقض إلى الوجود قطعا ، فإذا فرض ارتفاع الوجوب بعد الزوال لأخذ الزوال قيدا للوجوب ، فعدم الوجوب بعد الزوال لا يكون هو العدم الأزلي ؛ لأنّه مقيّد بكونه بعد الزوال ، والعدم المقيّد غير العدم المطلق المعبّر عنه بالعدم الأزلي ، فالمستصحب بعد الزوال ليس هو العدم المطلق ؛ لأنّه مقطوع الانتقاض

٢٠٧

بوجوب الجلوس قبل الزوال ، وأمّا العدم المقيّد بما بعد الزوال بلحاظ قوامه وتحقّقه بما بعد الزوال فلا يمكن استصحابه ، إلّا إذا آن وقت الزوال ولم يثبت الوجود ، ففي الآن الثاني يستصحب العدم ، والمفروض أنّه في أوّل الزوال شكّ في الوجود والعدم ، وقبل الزوال ليس العدم المقيّد بما بعد الزوال متحقّقا إلّا على نحو السالبة بانتفاء الموضوع ، فلا مجال لاستصحاب العدم».

ثمّ قال : «نعم ، يمكن جريان الاستصحاب في الجعل بأنّه إذا شكّ في جعل وجوب الجلوس بعد الزوال أزلا ، فالأصل عدم الجعل ؛ لأنّ كلّ جعل شرعي مسبوق بالعدم ، من غير فرق بين أخذ الزمان قيدا أو ظرفا ، ولكن يرد عليه : أوّلا : أنّه لا أثر لاستصحاب عدم الجعل إلّا باعتبار ما يلزمه ، من عدم المجعول ـ أي عدم جعل الوجوب ملازم مع عدم الوجوب ـ وإثبات عدم الوجوب باستصحاب عدم الجعل يكون من الأصل المثبت.

وثانيا : أنّ استصحاب البراءة الأصليّة ـ المعبّر عنه باستصحاب حال العقل ـ لا يجري مطلقا ؛ لأنّ العدم الأزلي ليس هو إلّا عبارة عن اللاحكميّة واللاحرجيّة ، وهذا المعنى بعد وجود المكلّف واجتماع شرائط التكليف فيه قد انتقض قطعا ولو إلى الإباحة ، فإنّ اللاحرجيّة في الإباحة بعد اجتماع شرائط التكليف غير اللاحرجيّة قبل وجود المكلّف ؛ إذ الأوّل يستند إلى الشارع ، والثاني لا يستند إليه ، فلا مجال لجريان استصحاب العدم ، ويبقى استصحاب الوجوب الثابت قبل الزوال إذا كان الزمان ظرفا للحكم أو الموضوع» (١).

ويرد عليه : أوّلا : أنّ عدم وجوب الجلوس المقيّد بما بعد الزوال عدم مطلق ، له حالة سابقة لا نعلم بانتقاضه ، كما أنّ عدم وجوب الجلوس بلا قيد عدم

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٤٤٥ ـ ٤٤٨.

٢٠٨

مطلق ، لكنّه انتقض بالعلم بوجوده قبل الزوال ، فعدم كليهما عدم مطلق ذو حالة سابقة متيقّنة بلا فرق بينهما ، فكما أنّ عدم الإنسان عدم مطلق ، كذلك عدم الإنسان العالم عدم مطلق ، وهكذا في ما نحن فيه ، فيكون عدم وجوب الجلوس المقيّد بما بعد الزوال قابلا للاستصحاب.

وثانيا : أنّ جواب المحقّق النائيني رحمه‌الله لا ينطبق على شبهة النراقي قدس‌سره فإنّ المفروض في الشبهة كون قبل الزوال ظرفا للحكم وجريان استصحاب الوجودي بلا إشكال ، وإذا كان قبل الزوال قيدا له ، فلا يجري استصحاب الوجودي أصلا ، وأمّا عنوان ما بعد الزوال في تقريب استصحاب العدمي فيكون قيدا ، إمّا قيدا للحكم وإمّا لمتعلّقه ـ أي الوجوب أو الجلوس في المثال ـ ولا يكون القيد خارجا عن هذه الدائرة ، فتتحقّق حالة سابقة عدميّة لكليهما.

وأمّا في كلام المحقّق النائيني رحمه‌الله فيكون عنوان ما بعد الزوال قيدا لعدم وجوب الجلوس ، وإذا كان ما بعد الزوال قيدا للعدم فلا يكون له حالة سابقة متيقّنة ، فإنّ عدم وجوب الجلوس المقيّد بما بعد الزوال لا يمكن استصحابه ، إلّا إذا آن وقت الزوال ولم يثبت وجوده ، ففي الآن الثاني يستصحب هذا العدم ، والمفروض أنّه في أوّل الزوال مشكوك كما ذكره قدس‌سره ولكنّه لا يرتبط بشبهة النراقي قدس‌سره ، فوجوب الجلوس المقيّد بما بعد الزوال لم يتحقّق إلى الآن ، وله حالة سابقة عدميّة متيقّنة ، والآن بعد وجوب الجلوس قبل الزوال نشكّ في تحقّقه ، فنستصحب عدم وجوبه ، فيجري استصحاب العدم والوجود معا وتعود الشبهة.

والتحقيق في الجواب عن شبهة النراقي قدس‌سره : أنّه لا يتحقّق التعارض بين

٢٠٩

الاستصحابين ، بل لا مانع من جريانهما معا.

توضيح ذلك : أنّ التعارض قد يكون بين الدليلين بالذات ، وقد يكون بالعرض ، مثال الأوّل كقولنا : صلاة الجمعة واجبة ، وصلاة الجمعة ليست بواجبة ؛ لعدم إمكان اجتماع نفي حكم عن موضوع واحد وإثباته فيه ، فلا يكون مفاد الدليلين في أنفسهما قابلا للاجتماع ، ومثال الثاني كما إذا علمنا إجمالا بنجاسة إمّا العباءة أو القباء ونجري استصحاب الطهارة في كليهما ، ومعلوم أنّه لا منافاة ذاتا بين استصحاب طهارتهما ، ولكن العلم بنجاسة أحدهما ، إجمالا يوجب إلقاء التعارض بينهما ، وهذا يسمّى التعارض بالعرض.

والظاهر من كلام النراقي قدس‌سره في الشبهة أنّ التعارض بين الاستصحابين يكون بالذات وعدم إمكان اجتماع بين مفادهما ، ولكنّه ليس كذلك ، فإنّ تمام الموضوع في الاستصحاب الوجودي هو عنوان الجلوس فقط ، كان الجلوس واجبا قبل الزوال والآن يكون مشكوكا ، فنستصحب وجوب الجلوس بدون أيّ قيد زائد ، وأمّا في الاستصحاب العدمي فنقول : الجلوس المقيّد بما بعد الزوال لم يكن واجبا يقينا ، وبعد وجوب الجلوس قبل الزوال نشكّ في بقاء تلك الحالة السابقة العدميّة ، فنستصحب عدم وجوب الجلوس المقيّد بما بعد الزوال ، ولا منافاة بين مفاد الاستصحابين ، فإنّ الجلوس بما أنّه جلوس واجب ، وبما أنّه مقيّد بهذا الزمان ليس بواجب ، كما نقول : إنّ نفقة الزوجة على الزوج بما أنّه زوج واجب ، وبما أنّه زوج عالم ليس بواجب ، بل إن قلنا بوجوبها عليه بهذا العنوان فهو بهتان على الله تعالى ، وهكذا في ما نحن فيه ، فلا تعارض بين الاستصحابين لا بالذات ولا بالعرض ؛ لتعدّد موضوعهما.

٢١٠

التنبيه الخامس

في الاستصحاب التعليقي

الأقوال والاحتمالات فيه مختلفة من جريانه مطلقا ، وعدم جريانه كذلك ، والتفصيل بين التعليق في الحكم والموضوع أو بين ما كان التعليق شرعيّا وغيره.

ولا بدّ لنا قبل الورود في البحث من بيان امور :

الأوّل : أنّ محطّ البحث والنقض والإبرام في الاستصحاب التعليقي هو أنّ تعليقيّة الحكم أو الموضوع هل توجب خللا في أركان الاستصحاب وشرائط جريانه أم لا؟ وعلى الثاني هل يكون الاستصحاب التعليقي مفيدا ومنتهيا إلى العمل أم لا ؛ لابتلائه بالمعارضة دائما؟ فلا بدّ من تمحّض البحث في ذلك.

وأمّا قضيّة بقاء الموضوع وعدمه أو إرجاع القضيّة التعليقيّة إلى القضيّة التنجيزيّة ، فهي خارجة عن محطّ البحث ومورد النقض والإبرام.

الثاني : أنّ التعليقات الواقعة في لسان الشرع والقضايا المشروطة كقوله «إذا كان الماء قدر كرّ لا ينجّسه شيء» (١) ، وقوله : «إذا نشّ العصير أو غلى حرم» (٢).

__________________

(١) الوسائل ١ : ١١٧ ، الباب ٩ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ١ و ٢.

(٢) الوسائل ١٧ : ٢٢٩ ، الباب ٣ من أبواب الاشربة المحرّمة ، الحديث ٤.

٢١١

تحتمل ثبوتا لامور :

منها : جعل الحكم متعلّقا بموضوعاتها على تقدير شيء ، فيكون المجعول في قوله : «إذا غلى العصير حرم» هو حرمته على تقدير الغليان ، وفي قوله : «إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» هو الاعتصام على تقدير الكرّيّة.

ومنها : جعل الحكم متعلّقا بموضوع متقيّد بعنوان ، فيكون المجعول فيهما هو الحرمة المتعلّقة بالعصير المغلي والاعتصام للماء البالغ حدّ الكرّ ، فيكون قوله : «إذا بلغ الماء قدر كرّ لم ينجّسه شيء» عبارة اخرى عن أنّ الكرّ لا ينجّسه شيء ، فيكون التعبير بذلك تفنّنا في البيان أو تنبيها على أنّ السرّ في نجاسة المغلي هو غليانه ، وفي اعتصام الماء هو كرّيّته ، وعلى هذا يكون الموضوع مركّبا من ذات وقيد.

ومنها : جعل سببيّة المعلّق عليه للمعلّق ، فيكون مفاد القضيّتين أنّ الغليان سبب للحرمة والكرّيّة للاعتصام.

ومنها : جعل الملازمة بين الكرّيّة والاعتصام والحرمة والغليان.

كلّ ذلك محتمل بحسب مقام الثبوت ، أمّا الأوّلان فلا كلام فيهما ، وأمّا الأخيران فقد مرّ التحقيق في مثلهما في الأحكام الوضعيّة وقلنا : إنّ السببيّة والملازمة وأمثالهما قابلة للجعل ، وإنّ المنكر لإمكانه فيها خلط بين التكوين والتشريع وبين السببيّة الحقيقيّة التكوينيّة والاعتباريّة القانونيّة.

وأمّا بحسب مقام الإثبات والاستظهار من الأدلّة فهو خارج عمّا نحن بصدده والأدلّة مختلفة بحسب المقامات ومناسبات الأحكام والموضوعات.

الثالث : أنّ التعليق قد يكون في كلام الشارع كأمثال ما ذكرناه ، وقد لا يكون في كلامه لكن العقل يحكم به.

٢١٢

مثلا : لو ورد : «أنّ الماء البالغ حدّ الكرّ لا ينجّسه شيء» ، و«أنّ العصير المغلي يحرم» يحكم العقل بأنّ الماء إذا بلغ قد كرّ لا ينجّسه شيء ، وأنّ العصير إذا غلى يحرم ، لكن ليس هذا من التعليق الشرعي ، بل هو تعليق عقليّ يدركه العقل من القضيّة المنجّزة. وهذا التعليق قد يكون في الأحكام كما عرفت ، وقد يكون في الموضوعات ، كما يحكم بأنّ الماء إذا بلغت مساحته ثلاثة أشبار ونصفا طولا وعرضا وعمقا فهو كرّ ، ويحكم على الماء الناقص عن الكرّ بمنّ بأنّه إذا زيد عليه منّ يصير كرّا ، وهذا تعليق عقلي في الموضوع ، كما أنّ ما مرّ تعليق عقلي في الحكم ، ويمكن أن يقع التعليق في الموضوع في كلام الشارع ويرجع إلى التعبّد بوجود موضوع الحكم على تقدير كذائي وترتيب آثاره عليه على فرض تحقّقه.

الرابع : إذا اخذ عنوان في موضوع حكم يكون ظاهرا في الفعليّة ، فإذا قيل : «الكرّ معتصم» و«المستطيع يجب عليه الحجّ» يكون ظاهرا في أنّ الكرّ الفعلي معتصم ، والمستطيع الفعلي يجب عليه الحجّ وهكذا ، وهذا واضح.

لكن يقع الكلام في قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ» أنّ الميزان فعليّة اليقين والشكّ ، أو فعليّة المتيقّن؟ فعلى الأوّل لا ينظر إلى المتيقّن هل هو متحقّق فعلا أم لا ، بخلاف الثاني.

وقد مرّ الكلام فيه سابقا ، وقلنا : إنّ الحقّ ـ بحسب النظر إلى أدلّة الاستصحاب ، ومناسبة الحكم والموضوع ، وأنّ اليقين لإبرامه لا ينقض بالشكّ ؛ لعدم إبرامه ـ أنّ الموضوع هو نفس اليقين والشكّ بما أنّ اليقين طريق وكاشف ، فلا يعتبر فيه إلّا فعليّة الشكّ واليقين.

نعم ، لا بدّ وأن يكون المستصحب ممّا يترتّب على التعبّد به أثر عملي ، فلو

٢١٣

فرض أنّ اليقين بأمر تعليقي يترتّب عليه أثر عملي لو تعبّد ببقائه لجرى الاستصحاب بلا إشكال ؛ لفعليّة الشكّ واليقين ، وعدم اعتبار أمر آخر ، سواء كان المتيقّن وجوديّا أم لا ، وفعليّا أم لا ؛ لعدم الدليل على كونه كذلك ، فإذا تعلّق اليقين بقضيّة تعليقيّة ، وفرضنا أنّ بقاءها في زمن الشكّ يكون ذا أثر شرعي ـ كما لو فرض أنّ نفس القضيّة موضوعة لحكم في زمان الشكّ ـ لجرى الاستصحاب فيها بلا إشكال وريب ، لفعليّة اليقين والشكّ وكون المتيقّن ذا أثر شرعي في زمن الشكّ أو منتهيا إليه ، وأمّا لزوم كون المتيقّن وجوديّا فعليّا فلا يعتبر.

إذا عرفت ما ذكرناه نقول : إنّ التعليق إذا ورد في دليل شرعي ـ كما لو ورد : «أنّ العصير العنبي إذا غلى يحرم» ، ثمّ صار العنب زبيبا ، فشكّ في أنّ عصيره أيضا يحرم إذا غلى أو لا ـ فلا إشكال في جريان استصحابه من حيث التعليق ؛ لما عرفت من أنّ المعتبر في الاستصحاب ليس إلّا اليقين والشكّ الفعليّين وكون المشكوك فيه ذا أثر شرعي أو منتهيا إليه ، وكلا الشرطين حاصلان ، أمّا فعليّتهما فواضحة ، وأمّا الأثر الشرعي فلأنّ التعبّد بهذه القضيّة التعليقيّة أثره فعليّة الحكم لدى حصول المعلّق عليه من غير شبهة المثبتيّة ، لأنّ التعليق إذا كان شرعيّا معناه التعبّد بفعليّة الحكم لدى تحقّق المعلّق عليه ، وإذا كان الترتّب بين الحكم والمعلّق عليه شرعيّا لا ترد شبهة المثبتيّة فتحقّق الغليان وجدانا بمنزلة تحقّق موضوع الحكم الشرعي وجدانا.

والحاصل : أنّ البحث متمركز ومتمحّض في أنّ تعليقيّة الحكم هل تكون مانعا عن جريان الاستصحاب أم لا؟ وأمّا إرجاع الاستصحاب التعليقي إلى التنجيزي ، والقول بأنّ معنى قضيّة «العصير العنبي إذا غلى يحرم» العصير بعد

٢١٤

الغليان ملازم للحرمة ، والملازمة كالسببيّة والمسببيّة من الأحكام التنجيزيّة ، كما يستفاد من كلام الشيخ رحمه‌الله فهو خارج عن محلّ البحث ، كما أنّ القول بأنّ إثبات حكم العصير العنبي بالاستصحاب للعصير الزبيبي مع أنّهما عنوانان مختلفان ، والمعتبر في الاستصحاب وحدة الموضوع أيضا خارج عن البحث.

والمجعول في القضيّة التعليقيّة ـ مثل : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) و«إذا زالت الشمس فقد وجبت الصلاتان» و«إن جاءك زيد فاكرمه» ـ هو الحكم التعليقي ، وبعد تحقّق المعلّق عليه يصير فعليّا ، فالحكم الشرعي قد يكون فعليّا ، وقد يكون تعليقيّا ـ أي الحكم المعلّق في لسان الشارع ـ وإذا شككنا في بقاء الحكم التعليقي الشرعي لتبدّل حال من حالات الموضوع لا ماهيّته ، هل يكون التعليق مانعا عن الاستصحاب أم لا؟ كما إذا قال المولى لعبده : «إن جاءك زيد فأكرمه» في حال كون زيد صديقا للمولى ، وقبل تحقّق مجيء زيد ذهبت صداقتهما وشكّ العبد في بقاء الحكم في هذا الحال ، فلا مانع من جريان الاستصحاب لتماميّة أركانه من اليقين بالحكم التعليقي ، والشكّ في بقائه ووحدة الموضوع ، فيشمله دليل «لا تنقض اليقين بالشكّ» ولا دليل لاختصاصه بما كان المتيقّن عبارة عن الحكم التنجيزي.

ويمكن أن يقال : إنّ استفادة وجوب الإكرام الفعلي بعد مجيء زيد من استصحاب الحكم التعليقي تكون من مصاديق الاصول المثبتة.

وجوابه أوّلا : أنّ الشكّ في بقاء الحكم التعليقي وجريان الاستصحاب قد يكون قبل تحقّق مجيء زيد ، فالمستفاد هو الحكم التعليقي لا الفعلي.

وثانيا : أنّ المستصحب إن كان الحكم الشرعي يترتّب عليه جميع اللوازم حتّى اللوازم العقليّة كما يترتّب حكم العقل بالإطاعة على استصحاب وجوب

٢١٥

صلاة الجمعة ، كذلك يترتّب حكم العقل بفعليّة الحكم بعد تحقّق المعلّق عليه على استصحاب الحكم التعليقي.

فلا مانعيّة لتعليقيّة الحكم بما هي من جريان الاستصحاب.

وكان للمحقّق النائيني رحمه‌الله هنا كلام مفصّل ، وخلاصته : أنّ المستصحب إذا كان حكما شرعيّا فإمّا أن يكون حكما جزئيّا ، وإمّا أن يكون حكما كليّا ، ونعني بالحكم الجزئي : هو الحكم الثابت لموضوعه عند تحقّق الموضوع خارجا ، الموجب لفعليّة الحكم.

ثمّ إنّ الشكّ في بقاء الحكم الجزئي لا يتصوّر إلّا إذا عرض لموضوعه الخارجي ما يشكّ في بقاء الحكم معه ، ولا إشكال في استصحابه.

وأمّا الشكّ في بقاء الحكم الكلّي فهو يتصوّر على أحد وجوه ثلاث :

الأوّل : الشكّ في بقائه من جهة احتمال النسخ ، كما إذا شكّ في نسخ الحكم الكلّي المجعول على موضوعه المقدّر وجوده ، ولا إشكال أيضا في جريان استصحاب بقاء الحكم على موضوعه وعدم نسخه عنه.

ونظير استصحاب بقاء الحكم عند الشكّ في النسخ استصحاب الملكيّة المنشأة في العقود العهديّة التعليقيّة كعقد الجعالة والسبق والرماية ، فإنّ العاقد ينشأ الملكيّة على تقدير خاصّ كرد الضالّة في عقد الجعالة ونحو ذلك ، فكانت الملكيّة المنشأة في هذه العقود تشبه الأحكام المنشأة على موضوعاتها المقدّر وجودها ، فلو شكّ في كون عقد الجعالة من العقود اللازمة التي لا تنفسخ بفسخ أحد المتعاقدين أو من العقود الجائزة التي تنفسخ بفسخ أحدهما ، يجري استصحاب بقاء الملكيّة المنشأة إذا فسخ أحد المتعاقدين قبل ردّ الضالة.

الوجه الثاني : الشكّ في بقاء الحكم الكلّي على موضوعه المقدّر وجوده عند

٢١٦

فرض تغيّر بعض حالات الموضوع ، كما لو شكّ في بقاء النجاسة في الماء المتغير الذي زال عنه التغيّر من قبل نفسه ، ولا إشكال في جريان استصحاب بقاء الحكم في هذا الوجه أيضا ، ولا بدّ في هذا الوجه من فرض وجود الموضوع ليمكن حصول الشكّ في بقاء حكمه عند فرض تبدّل بعض حالاته.

الوجه الثالث من الوجوه المتصورة في الشكّ في بقاء الحكم الكلّي : هو الشكّ في بقاء الحكم المترتّب على موضوع مركّب من جزءين عند فرض وجود أحد جزئيّة وتبدّل بعض حالاته قبل فرض وجود الجزء الآخر ، كما إذا شكّ في بقاء الحرمة والنجاسة المترتّبة على العنب على تقدير الغليان عند فرض وجود العنب وتبدّله إلى الزبيب قبل غليانه ، فيستصحب بقاء النجاسة والحرمة للعنب على تقدير الغليان ، ويترتّب عليه نجاسة الزبيب عند غليانه إذا فرض أنّ وصف العنبيّة والزبيبيّة من حالات الموضوع لا أركانه ، وهذا القسم من الاستصحاب هو المصطلح عليه بالاستصحاب التعليقي.

ثمّ قال : وبعبارة أوضح : نعني بالاستصحاب التعليقي «استصحاب الحكم الثابت على الموضوع بشرط بعض ما يلحقه من التقادير» ، فيستصحب الحكم بعد فرض وجود المشروط وتبدّل بعض حالاته قبل وجود الشرط ، كاستصحاب بقاء حرمة العنب عند صيرورته زبيبا قبل فرض غليانه.

ثمّ قال : وفي جريان استصحاب الحكم في هذا الوجه وعدم جريانه قولان ، أقواهما عدم الجريان ؛ لأنّ الحكم المترتّب على الموضوع المركّب إنّما يكون وجوده وتقرّره بوجود الموضوع بما له من الأجزاء والشرائط ؛ لأنّ نسبة الموضوع إلى الحكم نسبة العلّة إلى المعلول ، ولا يعقل أنّ يتقدّم الحكم على موضوعه ، والموضوع للنجاسة والحرمة في مثال العنب إنّما يكون مركّبا من

٢١٧

جزءين : العنب والغليان ، من غير فرق بين أخذ الغليان وصفا للعنب كقوله «العنب المغلي يحرم وينجس» أو أخذه شرطا له كقوله «العنب إذا غلى يحرم وينجس» ؛ لأنّ الشرط يرجع إلى الموضوع ويكون من قيوده لا محالة ، فقبل فرض غليان العنب لا يمكن فرض وجود الحكم ، ومع عدم فرض وجود الحكم لا معنى لاستصحاب بقائه ؛ لما تقدّم من أنّه يعتبر في الاستصحاب الوجودي أن يكون للمستصحب نحو وجود وتقرّر في الوعاء المناسب له ، فوجود أحد جزئي الموضوع المركّب كعدمه لا يترتّب عليه الحكم الشرعي ما لم ينضم إليه الجزء الآخر.

ثمّ قال : نعم ، الأثر المترتّب على أحد جزئي المركّب هو أنّه لو انضمّ إليه الجزء الآخر لترتّب عليه الأثر ، وهذا المعنى مع أنّه عقلي مقطوع البقاء في كلّ مركّب وجد أحد جزئيّة ، فلا معنى لاستصحابه ؛ إذ لا يمكن استصحاب الصحّة التأهّليّة لجزء المركّب عند احتمال طرو القاطع أو المانع ؛ لأنّ الصحّة التأهّليّة ممّا لا شكّ في بقائه ، فإنّها عبارة عن كون الجزء على وجه لو انضمّ إليه الجزء الآخر لترتّب عليه الأثر ، ففي ما نحن فيه ليس للعنب المجرّد عن الغليان أثر إلّا كونه لو انضمّ إليه الغليان لثبتت حرمته وعرضت عليه النجاسة ، وهذا المعنى ممّا لا شكّ في بقائه ، فلا معنى لاستصحابه.

ثمّ قال : وحاصل الكلام أنّ الشكّ في بقاء الحرمة والنجاسة المحمولين على العنب المغلي إنّما يمكن بوجهين : أحدهما : الشكّ في رفع الحرمة والنجاسة عنه بالنسخ.

ثانيهما : الشكّ في بقاء الحرمة والنجاسة عند تبدّل بعض الحالات بعد فرض وجود العنب المغلي بكلا جزئيّة كما إذا شكّ في بقائهما عند ذهاب ثلثه ،

٢١٨

ولا إشكال في استصحاب بقاء الحرمة والنجاسة للعنب في كلّ من الوجهين كما تقدّم.

وليس هذا مراد القائل بالاستصحاب التعليقي ، ونحن لا نتصوّر للشكّ في بقاء ، النجاسة والحرمة للعنب المغلي وجها آخر غير الوجهين المتقدّمين ، فالاستصحاب التعليقي بمعنى المذكور لا يرجع إلى استصحاب عدم النسخ ، ولا إلى استصحاب الحكم عند فرض وجود الموضوع بجميع أجزائه وقيوده ، وتبدّل بعض حالاته ممّا لا أساس له ولا يرجع إلى معنى محصّل (١).

ويرد عليه : أوّلا : أنّ كون الاستصحاب التعليقي بمعنى الشكّ في بقاء الحكم المترتّب على موضوع مركّب من جزءين عند فرض وجود أحد جزئيّة وتبدّل بعض حالاته قبل فرض وجود الجزء الآخر ... ليس بصحيح ؛ إذ لا تعليق أصلا في بعض الموارد التي ذكرها بعنوان المثال ، كقوله : «العنب المغلي يحرم وينجس» وإن كان مفهومه أنّ «العنب غير المغلي ليس بحرام» ، ولكنّه لا يرتبط بالاستصحاب التعليقي ؛ لعدم التعليق فيه حكما وموضوعا ، وهو نظير قولنا : «جاءني زيد العالم».

أمّا في قوله «العنب إذا غلى يحرم وينجس» بعد تصريحه بأنّ الشرط يرجع إلى الموضوع ويكون من قيوده ، فلا تعليق في الحكم أصلا ، وتعليق الموضوع لا يكون ملازما لتعليق الحكم ، والغرض في الاستصحاب التعليقي هو استصحاب الحكم التعليقي وذكرنا في ما تقدّم أنّ محلّ النزاع في الاستصحاب التعليقي ما كان الحكم في لسان الشارع والدليل الشرعي معلّقا على شيء ، مثل : قوله : «إن جاءك زيد فأكرمه» معناه أن وجوب الإكرام معلّق على مجيء

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٤٦٠ ـ ٤٦٨.

٢١٩

زيد ، ويستصحب في صورة الشكّ هذا الحكم المعلّق.

ومعلوم أنّ إنكار الواجب المشروط وعدم إرجاع القيد إلى الوجوب ـ تبعا للشيخ رحمه‌الله في مقابل المشهور ـ لا يوجب انطباق الاستصحاب التعليقي المبحوث عنه في كلماتهم على طبق نظره.

وثانيا : أنّه استدلّ لعدم جريان الاستصحاب التعليقي بعدم تحقّق الحالة السابقة للحكم المستصحب ، فإنّه قبل فرض غليان العنب الذي هو جزء الموضوع لا يمكن فرض وجود الحكم ، فكيف يمكن استصحابه مع أنّه لا بدّ للمستصحب نحو وجود وتقرّر في الوعاء المناسب له؟

وجوابه : أنّ الوجود والتحقّق في كلّ حكم لا بدّ وأن يكون متناسبا معه ، فإن كان الحكم عبارة عن الوجوب المطلق فمعنى ثبوته وتحقّقه أن يكون فعليّا ، وإن كان عبارة عن الوجوب المشروط فمعنى ثبوته وتحقّقه جعل المولى وصدوره منه وإعلامه وبيانه للمكلّفين ، كما ذكرنا أنّ قولنا : «إن جاءك زيد فأكرمه» يتصوّر فيه ثلاثة أحوال :

الأوّل : حال قبل بيانه من ناحية المولى وعدم جعله.

الثاني : حال جعله وبيانه من ناحيته قبل تحقّق مجيء زيد.

الثالث : حال تحقّق المجيء وفعليّة الحكم.

ومعلوم أنّ حال الثاني غير حال الأوّل ، ولا يمكن التعبير بأنّه ليس هنا حكم أصلا ، بل للحكم تحقّق وثبوت وجدانا ، ولكنّ الثبوت المتناسب مع كونه التعليقي والمشروط ، فمعنى إرجاع الشرط إلى الحكم أنّ فعليّته متوقّفة على الشرط لا أصل الحكم ، بحيث لو لم يتحقّق الشرط لم يتحقّق الحكم ولم يصدر من المولى أصلا ، فإذا تحقّق الحكم بنحو التعليق نتمسّك لبقائه في صورة

٢٢٠