دراسات في الأصول - ج ٤

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-95-8
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٤٨٠

حكم واحد في مادّة الاجتماع ، إمّا وجوب الإكرام وإمّا حرمته ، ولا يكون محرزا لنا تحقّق مناط كلا الحكمين ، ولذا يتحقّق التعارض.

إذا عرفت ذلك فالظاهر من تقريرات المحقّق النائيني رحمه‌الله في آخر كلامه الالتزام بشمول الأخبار العلاجيّة للعامّين من وجه ، وأنّهما متعارضان في بعض المدلول لا في تمامه (١).

ولكنّ التحقيق عدم شمول تلك الأخبار لهما ؛ لعدم كونهما متعارضين عند العرف والعقلاء بعد كونهما عنوانين متغايرين وكلّ منهما متعلّق للحكم الخاصّ ، ولا ينتقل الذهن من مفهوم أحدهما إلى الآخر ؛ لعدم الارتباط بينهما ، وصرف اجتماعهما في مورد لا يوجب تحقّق عنوان التعارض والاختلاف عرفا.

هذا ، مضافا إلى أنّ الجواب الوارد في الأخبار العلاجيّة بطرح ما خالف الكتاب أو ما وافق العامّة ، وضربه على الجدار يشهد بخروج العامّين من وجه ؛ إذ لا وجه لطرح شيء منهما بعد عدم إمكان رفع اليد من مادّة افتراقهما ، غاية الأمر إخراج مورد الاجتماع عن تحت واحد منهما لا طرحه بالكلّيّة ، فإذا لم يكن العامّان من وجه مشمولين لتلك الأخبار ، فعدم شمولها للمتعارضين بالعرض بكلا قسميه ، وكذا للمتعارضين بالالتزام بطريق أولى.

ولكن يمكن القول بأنّ بعد عدم شمول الأخبار العلاجيّة للعامّين من وجه ففي مادّة الاجتماع لا بدّ من الرجوع إلى القاعدة ، ومقتضاها في باب التعارض هو التساقط.

ويرد عليه : أنّه كيف يحكم الشارع في المتعارضين بالتباين على خلاف القاعدة بالرجوع إلى تلك الأخبار والأخذ بذي الترجيح ومع فقده بالتخيير ،

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٧٩٣.

٤٢١

بخلاف المتعارضين في الجملة؟ فلذا لا بدّ من الالتزام بعدم شمول تلك الأخبار للعامّين من وجه بلحاظ قصور البيان واللسان ، وشمولها لهما من حيث المناط بل الأولويّة.

هل المرجّحات جارية في العامّين من وجه أم لا؟

لا يخفى أنّ المرجّحات على أقسام : قسم منها يوجب تقوية صدور الرواية عن المعصوم عليه‌السلام مثل : أصدقيّة الراوي وأوثقيّته وأعدليّته ، وقسم منها يوجب تقوية صدور الرواية لبيان الحكم الواقعي ، مثل : مخالفة العامّة ، وقسم منها يوجب تقوية مضمون الرواية ، مثل : موافقة الكتاب والشهرة.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّه على فرض شمول الأخبار العلاجيّة للعامين من وجه لسانا أو مناطا ، فهل يجري فيهما جميع المرجّحات الصدوريّة والجهتيّة والمضمونيّة ، أو يختصّ بخصوص الأخيرتين ولا يجوز الرجوع فيهما إلى المرجّحات الصدوريّة؟

صرّح المحقّق النائيني رحمه‌الله بالثاني ، واستدل عليه بأنّ التعارض في العامّين من وجه إنّما يكون في بعض مدلولهما وهو مادّة الاجتماع فقط ، ومع هذا الفرض لا وجه للرجوع إلى المرجّحات الصدوريّة ، لأنّه إن اريد من الرجوع إليها طرح ما يكون راويه غير أعدل أو غير أصدق ـ مثلا ـ فهو ممّا لا وجه له ؛ لأنّه لا معارض له في مادة الافتراق ، وإن اريد طرحه في خصوص مادّة الاجتماع فهو غير ممكن ؛ إذ الخبر الواحد لا يقبل التبعيض من حيث الصدور.

ودعوى أنّ الخبر الواحد ينحلّ إلى أخبار متعدّدة حسب تعدّد أفراد الموضوع ـ كما هو الشأن في جميع القضايا الحقيقيّة ـ واضحة الفساد ؛ لأنّ الانحلال في تلك القضايا لا يقتضي تعدّد الرواية ، بل ليس في البين إلّا رواية

٤٢٢

واحدة كما لا يخفى (١) ، انتهى ملخّص كلامه.

ويرد عليه : أوّلا : أنّ التبعيض في أقسام المرجّحات بمعنى جريان بعضها في جميع أقسام التعارض وجريان بعضها في بعض دون بعض مخالف لظاهر الأخبار العلاجيّة ؛ إذ الظاهر منها جريان جميع أنواع المرجّحات في المتعارضين ، ولعلّ الاولى جعله دليلا لعدم شمول تلك الأخبار للعامّين من وجه أصلا.

وثانيا : سلّمنا أنّه لا يمكن التبعيض في رواية واحدة من حيث الصدور الواقعي ، والقول بأنّ الرواية مع كونها رواية واحدة لم تصدر واقعا بالنسبة إلى مادّة الاجتماع وصدرت واقعا بالنسبة إلى مادة الافتراق ، وأمّا في محيط الشرع والتعبّد فلا مانع من التعبّد بصدورها بالنسبة إلى مادّة الافتراق وعدم صدورها بالنسبة إلى مادّة الاجتماع ، كما نقول في استصحاب حياة زيد ـ مثلا ـ بترتّب الآثار الشرعيّة عليه وعدم ترتّب اللوازم والملزومات العقليّة والعاديّة ؛ إذ التعبّد محدود بدائرة الآثار الشرعيّة ، فلا إشكال في التعبّد بصدور الخبر الواحد من جهة دون اخرى في محيط التشريع والتقنين وإن كان بحسب الواقع إمّا صادرا بتمامه وإمّا غير صادر كذلك.

وثالثا : أنّ الأخذ بالراجح من الروايتين لا يستلزم الحكم بعدم صدور المرجوح ، بل يمكن أن يكون صادرا ، غاية الأمر أنّ الراوي لم يتحفّظ قيده المخرج لها عن المعارضة مع الاخرى ؛ إذ الأوثقيّة ـ مثلا ـ تقتضي كون المتّصف بها متحفّظا في مقام أخذ الحكم عن الإمام عليه‌السلام بحيث لم يغب عن ذهنه الخصوصيّات المأخوذة والقيود المذكورة ، فترجيح مثل قوله : «أكرم العلماء»

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٧٩٢ ـ ٧٩٤.

٤٢٣

مرجعه إلى كون من يجب إكرامه هو العالم بدون خصوصيّة اخرى ، فقوله : «لا تكرم الفسّاق» حينئذ يكون على تقدير الصدور مشتملا على قيد ، وهو عدم كونهم من العلماء ، فترجيح الأوّل عليه لا يقتضي الحكم بعدم صدوره رأسا.

فعلى فرض شمول الأخبار العلاجيّة للعامّين من وجه يجري أقسام المرجّحات من الصدوريّة وغيرها فيهما ، إلّا أنّ الإشكال في أصل الشمول كما ذكرنا ، وتنقيح المناط المذكور لا يكون بنحو يقاوم في مقابل القاعدة.

إذا عرفت معنى التعارض وعنوان المتعارضين فلا بدّ من بيان أحكامه ، والبحث فيها يقع ضمن مقصدين :

٤٢٤

المقصد الأوّل

في الخبرين المتعارضين المتكافئين بحيث

لم تكن مزيّة وترجيح لأحدهما في البين

والكلام في ذلك قد يقع في حكمهما بنظر العقل ، وقد يقع فيما يستفاد من الأخبار العلاجيّة الواردة في هذا الباب ، وعلى تقدير الأوّل تارة يبحث فيهما بناء على كون الوجه في اعتبار الخبر هو بناء العقلاء ـ كما عرفت ـ أنّه الموافق للتحقيق ، واخرى يبحث في حكمهما بناء على دلالة الدليل الشرعي من الآيات والروايات على اعتبار خبر الواحد ، وعلى التقديرين تارة يتكلّم في ذلك بناء على الطريقيّة والكاشفيّة واخرى بناء على الموضوعيّة والسببيّة.

مقتضى الأصل بناء على الطريقيّة

فنقول : لو كان الوجه في اعتبار الخبر هو بناء العقلاء وسيرتهم عملا على الاعتماد على قول المخبر الموثّق ، بناء على الكاشفيّة والطريقيّة ، فمع التعارض وعدم المزيّة لا محيص عن القول بتساقطهما وعدم حجّيّة واحد منهما في مدلوله المطابقي ، بل وجوده بالنسبة إليه كالعدم ، وذلك لوجهين :

أحدهما : أنّه لا شبهة في أنّ اعتبار الخبر عند العقلاء إنّما هو لأجل كاشفيّته

٤٢٥

عن الواقع وإراءته له وأماريّته بالنسبة إليه ، ومن الواضح أنّ الإراءة والكشف إنّما هو مع عدم ابتلائه بمعارض مماثل أو أقوى ؛ ضرورة أنّه مع هذا الابتلاء يتردّد الطريق والكاشف بينهما ؛ إذ لا يعقل كون كلّ واحد منهما مع وجود الآخر كاشفا ، وإلّا لزم الخروج عن حدّ التعارض ، ومع تردّد الطريق والكاشف وعدم وجود مرجّح في البين لا بدّ من التوقّف ؛ لأنّ الأخذ بالمجموع ممّا لا يمكن ، وبواحد ترجيح من غير مرجّح.

وهذا نظير ما لو أخبر مخبر واحد بخبرين متعارضين ، فكما أنّه لا يكون شيء من الخبرين هناك بكاشف ولا طريق ، كذلك لا يكون شيء من الخبرين هنا بكاشف.

ثانيهما : أنّ معنى حجّيّة الخبر إنّما هو عبارة عن صحّة احتجاج المولى به على العبد ، وهي متوقّفة على شروط ثلاثة : الأوّل : تحقّق البيان من المولى ، الثاني : ايصاله إلى العبد ، والثالث : عدم ابتلائه بالمانع ، وإن لم يكن كذلك لا يبقى للمولى حقّ المؤاخذة والاعتراض ، فإذا كانت صلاة الجمعة واجبة واقعا وكانت الأمارة الدالّة على ذلك غير واصلة إلى المكلّف لا يجوز للمولى المؤاخذة والاعتراض لأجل الترك ؛ لأنّ البيان الذي يسدّ باب البراءة العقليّة الراجعة إلى عدم استحقاق العقوبة مع عدم وصول التكليف إنّما هو البيان الواصل إلى المكلّف ، ومع الجهل به لا مخرج للمورد عن البراءة ، ومعلوم أنّ مع ابتلاء البيان الواصل بمعارض مماثل لا يصحّ للمولى الاحتجاج أصلا ، وهذا ممّا لا شبهة فيه.

فاتّضح أنّ الخبرين المتكافئين لا يكون شيء منهما حجّة بالنسبة إلى مدلولهما المطابقي.

٤٢٦

وأمّا بالنسبة إلى المدلول الالتزامي الذي يشترك فيه الخبران ولا معارضة بينهما فيه ، كعدم الاستحباب والكراهة والإباحة فيما إذا قام أحد الخبرين على الوجوب والآخر على التحريم إذا تحقّق الاحتمال الثالث في البين ولا نعلم بانحصار الحكم الواقعي فيهما ، فلا شبهة في حجّيّتهما بالنسبة إليه ، إنّما الإشكال في أنّ الحجّة بالنسبة إليه ، هل هو كلا الخبرين أو واحد منهما معيّن بحسب الواقع ، وهو الخبر الذي لم يعلم كذبه؟

ويستفاد من كلام المحقّق النائيني رحمه‌الله القول بالأوّل حيث قال في مقام بيان توهّم سقوط المتعارضين عن الحجّيّة بالنسبة إلى نفي الثالث أيضا : «إنّ الدلالة الالتزاميّة فرع الدلالة المطابقيّة ، وبعد سقوط المتعارضين في المدلول المطابقي لا مجال لبقاء الدلالة الالتزاميّة لهما في نفي الثالث».

ثمّ قال في مقام دفع التوهّم وبيان فساده : «إن الدلالة الالتزاميّة إنّما تكون فرع الدلالة المطابقيّة في الوجود لا في الحجّيّة».

ثمّ قال : «وبعبارة أوضح : الدلالة الالتزاميّة للكلام تتوقّف على دلالته التصديقيّة ـ أي دلالته على المؤدّى ـ وأمّا كون المؤدّى مرادا فهو ممّا لا يتوقّف عليه الدلالة الالتزاميّة ، فسقوط المتعارضين عن الحجّيّة في المؤدّى لا يلازم سقوطهما عن الحجّيّة في نفي الثالث ؛ لأنّ سقوطهما عن الحجّيّة في المؤدّى إنّما كان لأجل التعارض ، وأمّا في نفي الثالث فلا معارضة بينهما ، بل يتّفقان فيه ، فيكونان معا حجّة في عدم الثالث» (١).

ويرد عليه : أنّه مع العلم بكذب أحدهما واقعا بالنسبة إلى المدلول المطابقي ـ لكونه لازم لا ينفكّ عن التعارض ـ كيف يمكن كونه حجّة بالنسبة إلى

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٧٥٥ ـ ٧٥٦.

٤٢٧

المدلول الالتزامي؟ ألا ترى أنّه لو كان كان هنا خبر واحد فقط مع عدم الابتلاء بالمعارض وعلم من الخارج بكذبه ، فهل يرضى أحد مع ذلك بكون العلم بالكذب يوجب سقوطه في خصوص مدلوله المطابقي ، وأمّا المدلول الالتزامي فهو بالنسبة إليه حجّة؟! وكذلك المقام ، فإنّا لا نتعقّل مع العلم بكذب واحد من الخبرين أن يكونا معا حجّة بالنسبة إلى نفي الثالث الذي هو من اللوازم العقليّة للمدلول المطابقي.

فالحقّ ما اختار المحقّق الخراساني رحمه‌الله من كون الحجّة على نفي الثالث هو أحدهما الغير المعيّن الذي هو الخبر الذي لم يعلم كذبه ؛ لا الخبرين معا (١).

وأمّا ما ذكر المحقّق النائيني رحمه‌الله من التفكيك بين الوجود والحجّيّة فلا دليل عليه ؛ إذ الخبر إذا كان حجّة يكون مدلوله المطابقى موجودا ، ومع الوجود لا مجال للتفكيك بين المدلولين ، وليست الدلالة الالتزاميّة من الدلالات اللفظيّة حتّى لا يكون دلالة اللفظ عليها متوقّفة على دلالته على المدلول المطابقي وإن عدّت هذه الدلالة في المنطق من جملة تلك الدلالات ، وذلك لأنّ دلالة اللفظ على أمر خارج عمّا وضع له مع عدم كونه مجازا ممّا لا يتصوّر ، بل قد عرفت أنّ في المجازات أيضا لا يكون اللفظ دالّا إلّا على المعنى الحقيقي ، والمعنى المجازي هو المعنى الحقيقي ادّعاء.

إن قلت : إنّ الالتزام بهذا المعنى يوجب عدم حجّيّة المتعارضين في نفي الثالث ، فإنّ بعد كون نفي الثالث معنى التزاميّا ، وتبعيّته للمدلول المطابقي وعدم ارتباطه باللفظ مستقيما ، وسقوطهما عن الحجّيّة بالنسبة إلى المدلول المطابقي لا يبقى دليل لنفي الثالث ولا طريق له.

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٣٨٥.

٤٢٨

قلت : لا مانع من التفكيك في الحجّيّة بالنسبة إلى الخبر الذي لم يعلم كذبه ويحتمل مطابقته للواقع بأنّه ساقط عن الحجّيّة بالنسبة إلى إثبات مدلوله المطابقي ، وأمّا من حيث الانتقال إلى المدلول الالتزامي وإثبات دلالته الالتزاميّة فلا يسقط عن الحجّيّة عند العقل ، فإنّ حجّيّة المدلول المطابقي بعنوان الطريقيّة إلى المدلول الالتزامي خارجة عن دائرة التعارض ، فالحجّيّة باقية من هذه الجهة بعد ابتلاء مدلوله المطابقي بالمعارض وكون مدلوله الالتزامي مورد توافق كلا الخبرين المتعارضين.

هذا كلّه بناء على كون الوجه في اعتبار الخبر هو بناء العقلاء على العمل به في جميع امورهم كما أنّه هو الوجه.

وأمّا بناء على كون الدليل لحجّيّة خبر الواحد عبارة عن الآيات والروايات التي استدلّ بها على ذلك ، فتارة يقال بكونها مهملة غير شاملة لحال التعارض ؛ لكونها في مقام إثبات حجّيته في الجملة من دون النظر إلى خصوصيّات مثل صورة التعارض والتخالف.

واخرى بكونها مطلقة ، وعلى هذا التقدير قد يراد بالإطلاق الإطلاق الشمولي اللحاظي بمعنى لحاظ الشمول والسريان بالإضافة إلى جميع أفراد الطبيعة ، وقد يراد به الإطلاق الذاتي ، فإن كانت الأدلّة مهملة غير شاملة لحال التعارض فيكون حكم صورة التعارض واضحا ؛ إذ لا دليل حينئذ على حجّيّة واحد من الخبرين ، فيسقطان عن الاعتبار الذي كان ثابتا لهما في حال عدم المعارضة وإن كانت مطلقة بالإطلاق الشمولي اللحاظي فاللازم أن يقال بثبوت التخيير في حال التعارض ، وإلّا تلزم اللغوية ؛ إذ لا يمكن الجمع بينهما والأخذ بهما معا ، ولا فائدة في التعبّد بصدورهما ورفع اليد عن مفادهما لتحقّق

٤٢٩

التعارض بينهما ، فلا بدّ من الالتزام بالتخيير في هذه الصورة.

وإن كان المراد به هو الإطلاق الذاتي بمعنى كون ماهيّة خبر الواحد وطبيعته محكوما بالحجّيّة ، وهو الذي اخترناه وحقّقناه في باب المطلق والمقيّد ، فقد يقال : بأنّ اللازم حينئذ التخيير أيضا ؛ نظرا إلى أنّ الدليل على اعتبار الخبر له عموم وإطلاق ، أمّا العموم فباعتبار شموله لجميع الإخبار ، وأمّا الإطلاق فباعتبار عدم كونه مقيّدا بحال عدم المعارض.

وحينئذ فإذا ورد الخبران المتعارضان يدور الأمر بين رفع اليد عن العموم والحكم بتساقطهما ، وبين حفظ العموم على حاله ورفع اليد عن الإطلاق والقول بحجّيّة كلّ واحد منهما مع رفع اليد عن الآخر ، فلا بدّ من الالتزام بالثاني ؛ إذ التصرّفات في الدليل تتقدّر بقدر الضرورة ، ومع إمكان التصرّف القليل لا مسوّغ للتصرّف الكثير ، وهذا نظير المتزاحمين ، حيث إنّ العقل يحكم فيهما بالتخيير ، لأجل عدم إمكان امتثالهما.

ويرد عليه : أنّ المستفاد من الأدلّة هو الحجّيّة من باب الكاشفيّة والطريقيّة ، فلا يقاس المقام بباب المتزاحمين ، إذ التكليف المتوجّه إلى المكلّف هناك تكليفان نفسيّان تعلّق كلّ واحد منهما بمتعلّق خاصّ ، وحيث لا يكون قادرا على جمعهما في مقام الامتثال ولا مرجّح في البين يحكم العقل بالتخيير.

وأمّا في المقام فالتكليف المتعلّق بتصديق العادل تكليف طريقي ، ومرجعه إلى لزوم متابعة الخبر ؛ لكونه طريقا وكاشفا عن الواقع ، ولا معنى للحكم بالتخيير بين الطريقين المختلفين ، بل العقل يحكم بتساقطهما ؛ لامتناع ثبوت الكاشفيّة لهما ، ولا معنى للتخيير بين الخبرين بكون كلّ واحد منهما كاشفا مع عدم العمل بالآخر ، بعد فرض كون أحدهما موصلا إلى الواقع

٤٣٠

والآخر مبعّدا عنه.

فمقتضى القاعدة في الخبرين المتعارضين المتكافئين بناء على الطريقيّة هو التساقط ، وأمّا بناء على السببيّة فلا فائدة في البحث عنه ، لعدم صحّة هذا المبنى رأسا.

مقتضى الأخبار الواردة في المتكافئين من حيث الفتاوى

والشهرة الفتوائيّة المحقّقة ـ بل الإجماع ـ على ما نقل في المتعارضين المتكافئين على عدم التساقط ، والروايات الدالّة عليه مختلفة ، فطائفة منها تدلّ على التخيير ، وطائفة على التوقّف ، ويستفاد من كلام المحقّق النائيني رحمه‌الله تحقّق طوائف أربع من الروايات في هذا الباب ، بأنّ الطائفة الدالّة على التخيير على قسمين : قسم منها تدلّ على التخيير بنحو الإطلاق ، وقسم منها تدلّ على التخيير في خصوص زمان الحضور. وهكذا الطائفة الدالّة على التوقّف.

وقد ادّعى الشيخ رحمه‌الله في الرسائل تواتر الروايات الدالّة على التخيير (١). ولكنّها حسبما تتبّعنا في مظانّها ـ التي هي الباب التاسع من كتاب قضاء الوسائل (٢) ، وكذا الباب التاسع من مستدركه (٣) ـ لا تتجاوز عن سبع روايات قاصرة من حيث السند والدلالة ، وقد مرّ بعضها ، وهو روايتا الحميري وعليّ بن مهزيار المتقدّمتان في فصل تعارض العامّ والخاصّ ، وهكذا أخبار التوقّف المذكورة في الباب التاسع من الكتابين ، فإنّها لا تتجاوز عن أربعة ، إلّا أنّ مجموع الطائفتين يوجب رفع اليد عن مقتضى القاعدة ، وهو التساقط ، فإنّا قد

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٧٦٣.

(٢) الوسائل ١٨ : ٧٥ ، كتاب القضاء ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي.

(٣) المستدرك ١٧ : ٣٠٢ ، كتاب القضاء ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي.

٤٣١

ذكرنا حجّيّة الروايات المتعارضة بالنسبة إلى نفي الثالث ، فكلّ من الروايات الدالّة على التخيير والتوقّف ينفي التساقط بالاشتراك.

ما قيل في وجه الجمع بين هاتين الطائفتين أو الطوائف من الأخبار

وقد وقع الاختلاف فيه وما قيل في ذلك وجوه :

منها : ما أفاده المحقّق النائيني رحمه‌الله من أنّ مقتضى التحقيق في الجمع بينها هو أنّ النسبة بين ما دلّ على التخيير في زمان الحضور وبين ما دلّ على التخيير المطلق وإن كانت هي العموم والخصوص ، وكذا بين روايات التوقّف ، إلّا أنّه لا منافاة بينهما ؛ لعدم المنافاة بين التوقّف المطلق والتوقّف في زمان الحضور ، وكذا بين التخييرين ، فالتعارض بين ما دلّ على التخيير وبين ما دلّ على التوقّف ، غايته أنّ التعارض بين ما دلّ على التوقّف والتخيير مطلقا يكون بالعموم من وجه ، وبين ما دل على التوقّف والتخيير في زمان الحضور يكون بالتباين.

ولا يهمّنا البحث في الثاني ، فإنّه لا أثر له ، فالحريّ رفع التعارض في الأوّل ، وقد عرفت أنّ النسبة بينهما العموم من وجه ، لكن نسبة ما دلّ على التخيير مطلقا مع ما دلّ على التوقّف في زمان الحضور هي العموم والخصوص ، فلا بدّ من تقييد إطلاق التخيير به ، وبه يتحقّق انقلاب النسبة من العموم من وجه إلى العموم المطلق ، ومقتضى الصناعة حمل أخبار التوقّف على زمان الحضور والتمكّن من ملاقاة الإمام عليه‌السلام ، فتصير النتيجة هي التخيير في زمان الغيبة كما عليه المشهور (١) ، انتهى كلامه ملخّصا.

ويرد عليه أوّلا : أنّه لم يظهر لنا أنّ النسبة بين ما دلّ على التخيير مطلقا وبين ما دلّ على التوقّف كذلك كيف تكون بالعموم من وجه بعد شمول كلّ منهما

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٧٦٤ ـ ٧٦٥.

٤٣٢

لحالتي الظهور والغيبة ، بل النسبة بينهما هي التباين كالنسبة بين أدلّة التوقّف والتخيير في زمان الحضور ، كما لا يخفى.

وثانيا : أنّه لا وجه لملاحظة دليل التخيير مطلقا مع دليل التوقّف في زمان الحضور حتّى يختصّ دليل التخيير بحال الغيبة وصار مخصّصا لدليل التوقّف المطلق بعد ما كانت النسبة بينهما هي العموم من وجه طبق ما أفاده ، فإنّه ليس بأولى من العكس ، وملاحظة دليل التوقّف مطلقا مع دليل التخيير في زمان الحضور وتخصيص دليل التوقّف مطلقا بحال الغيبة ثمّ جعله مخصّصا لدليل التخيير مطلقا ، ولازم ذلك انحصار الروايات الدالّة على التخيير في زمان الحضور والحكم بالتوقّف في زمان الغيبة ، كما أشار إليه الفاضل المقرّر في هامش فوائد الاصول (١).

وثالثا : أنّه لا وجه لملاحظة دليل التخيير مطلقا مع دليل التوقّف في زمان الحضور بعد كونه مبتلى بالمعارض على ما هو المفروض ، وهو دليل التخيير في زمان الحضور الذي ذكر أنّ النسبة بينهما التباين ، فلا وجه لملاحظة دليل التخيير مطلقا مع إحدى طرفي المعارضة ، وفرض الطرف الآخر كالعدم.

والحاصل : أنّ انقلاب النسبة فرع التقييد والتخصيص ، وهما فرع عدم الابتلاء بالمعارض ، ومع وجود المعارض لا يصلح للمقيّدية والمخصّصيّة ، فما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله من الطريق لاستفادة التخيير المشهور في عصر الغيبة ليس بتامّ.

ومنها : ما أفاده الشيخ الأنصاري رحمه‌الله في مقام الجمع من حمل أخبار التوقّف على صورة التمكّن من الوصول إلى الإمام عليه‌السلام وأخبار التخيير على صورة عدم

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٧٦٥.

٤٣٣

التمكّن منه (١).

والتحقيق : أنّ مراده من هذا الجمع إن كان شبيه ما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله فيرد عليه ما ورد عليه ، وإن كان مراده منه الجمع المقبول عند العقلاء فهذا جمع تبرّعي لا شاهد عليه ؛ إذ لا شاهد في روايات التخيير يوجب انحصارها في زمان عدم التمكّن من الوصول إلى الإمام عليه‌السلام ولا يكفي في الجمع صرف رفع التعارض على أيّ نحو كان ، بل لا بدّ من كونه مقبولا عند العقلاء.

مضافا إلى أنّ المراد من التمكّن إن كان هو التمكّن الذي كان الشخص معه قادرا على الرجوع إلى الإمام فورا ، كما إذا كان معه في مدينة واحدة ، فمن الواضح إباء أخبار التوقّف عن الحمل على خصوص هذه الصورة ، فإنّ اختصاصها بالمتمكّنين عن الوصول بهذه الكيفيّة في كمال البعد.

وإن كان المراد به هو التمكّن بمعنى مجرّد القدرة على الوصول إلى محضره ولو مع تحمّل مشقّة السفر فمن الواضح أنّ حمل أخبار التخيير على صورة عدم التمكّن بهذا المعنى بعيد جدّا ، مع كون الرواة المخاطبة بها ساكنين في المدينة أو الكوفة أو البصرة ، فكيف يمكن فرض عجزهم عن الوصول بهذه الكيفيّة؟ خصوصا مع كون الغاية في بعض الروايات ملاقاة من يخبره ، ومن المعلوم أنّ المخبر أعمّ من الإمام عليه‌السلام.

ومنها : ما أفاده المحقّق الحائري رحمه‌الله في مقام الجمع من حمل أخبار التوقّف على التوقّف في مقام الرأي والإفتاء ، وأخبار التخيير على التخيير في العمل (٢).

ويرد عليه : أوّلا : ـ بعد عدم إشعار حتّى رواية واحدة من الروايات بهذا المعنى ـ أنّه لا شاهد ولا دليل عليه.

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٣٦٣.

(٢) درر الفوائد : ٦٥٧.

٤٣٤

وثانيا : أنّ أخبار التوقّف ناظرة في النهي عن العمل بشيء منهما إمّا بالظهور وإمّا بالصراحة ، مثل : قوله عليه‌السلام في مقبولة عمر بن حنظلة : «فارجئه حتّى تلقى إمامك ، فإنّ التوقّف في الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات» (١). ونحو ذلك من الروايات ، ويظهر هذا المعنى بمراجعتها.

هناك وجوه أخر للجمع ، مثل : حمل أخبار التخيير على العبادات وأخبار الإرجاء والوقوف على المعاملات.

أو حمل أخبار التخيير على حقوق الله وأخبار التوقّف على حقوق الناس ، واستشهد لذلك بورود المقبولة في مورد الاختلاف في دين أو ميراث ، ولازم ذلك الالتزام باختصاص المرجّحات المذكورة فيها أيضا بباب حقوق الناس ، مع أنّه لا يتفوّه به أحد.

أو حمل أخبار التخيير على التعارض بنحو التناقض وأخبار التوقّف على غيره ـ أي فيما تحقّق طريق ثالث ـ وهذا يناسب قوله عليه‌السلام : «لا تعمل بواحد منهما» في مورد اخبار التوقّف أو حمل أخبار التخيير على المستحبّات والمكروهات وحمل أخبار التوقّف على الواجبات والمحرّمات ، وذكر أكثر هذه الوجوه العلّامة المجلسي رحمه‌الله في كتاب مرآة العقول(٢).

ولكنّ التحقيق يقتضي الالتزام بما ذكره استاذنا السيّد الأعظم رحمه‌الله في مقام الجمع هنا ، وهو أنّ أدلّة التخيير صريحة في جواز الأخذ بكلّ من الخبرين ، فإنّ قوله عليه‌السلام : «فموسّع عليك بأيّهما أخذت» (٣) صريح في التوسعة وجواز الأخذ بكلّ منهما ، وأمّا أخبار التوقّف فليس فيها ما كان نصّا في ذلك ،

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٧٥ ، كتاب القضاء ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ١.

(٢) مرآة العقول ١ : ٢١٨ ـ ٢١٩.

(٣) الوسائل ١٨ : ٨٧ ، كتاب القضاء ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٠.

٤٣٥

بل غايته الظهور في التوقّف وعدم الأخذ بشيء منهما ، والظاهر لا يقاوم النصّ ، فتحمل أخبار التوقّف على الاستحباب ، فانّ قوله عليه‌السلام في المقبولة : «فارجه حتّى تلقى إمامك» وإن كان ظاهرا في وجوب التوقّف والتأخير ، ولكن ملاحظة نصوصيّة أخبار التخيير في مقابله يحمل على الاستحباب ، مع أنّ تثليث الامور في المقبولة وتعليل ذيلها ب «أنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات» أقوى شاهد على كون الأمر في قوله : «أرجئه» إرشاديّا ولا يصلح للتعارض مع أخبار التخيير (١).

وقد استدلّ لحمل أخبار التخيير على المستحبّات والمكروهات وحمل أخبار التوقّف على الواجبات والمحرّمات برواية الميثمي التي أوردها في الوسائل في الباب التاسع من أبواب كتاب القضاء ، الحديث ٢١ ، قال : «وفي عيون الأخبار للصدوق رحمه‌الله عن أبيه ، ومحمّد بن الحسن بن أحمد بن الوليد جميعا ، عن سعد بن عبد الله ، عن محمّد بن عبد الله المسمعي ، عن أحمد بن الحسن الميثمي».

والإشكال في سند الرواية من ناحية محمّد بن عبد الله المسمعي فقط ، إلّا أن صاحب الوسائل بعد نقل هذه الرواية قال : «أقول : ذكر الصدوق أنّه نقل هذا من كتاب (الرحمة) لسعد بن عبد الله وذكر في الفقيه : أنّه من الاصول والكتب التي عليها المعوّل ، وإليها المرجع».

فيمكن تلقّى هذه الرواية بعنوان المعتبرة لا رميها بالضعف وكونها فاقدة الحجّيّة والاعتبار.

وأمّا الرواية فقال : أنّه سأل الرضا عليه‌السلام يوما وقد اجتمع عنده قوم

__________________

(١) معتمد الاصول ٢ : ٣٨٩.

٤٣٦

من أصحابه ، وقد كانوا يتنازعون في الحديثين المختلفين عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الشيء الواحد ، فقال عليه‌السلام : «إنّ الله حرّم حراما ، وأحلّ حلالا ، وفرض فرائض ، فما جاء في تحليل ما حرّم الله ، أو في تحريم ما أحلّ الله ، أو دفع فريضة في كتاب الله رسمها بين قائم بلا ناسخ نسخ ذلك ، فذلك ما لا يسع الأخذ به ؛ لأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لم يكن ليحرّم ما أحلّ الله ، ولا ليحلّل ما حرّم الله ، ولا ليغيّر فرائض الله وأحكامه ، كان في ذلك كلّه متّبعا مسلّما مؤدّيا عن الله ، وذلك قول الله : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ)(١) ، فكان صلى‌الله‌عليه‌وآله متّبعا لله ، مؤدّيا عن الله ما أمره به من تبليغ الرسالة».

قلت : فإنّه يرد عنكم الحديث في الشيء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ممّا ليس في الكتاب وهو في السنّة ، ثمّ يرد خلافه؟ فقال : «كذلك قد نهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عن أشياء نهي حرام ، فوافق في ذلك نهيه نهي الله ، وأمر بأشياء فصار ذلك الأمر واجبا لازما كعدل فرائض الله ، فوافق في ذلك أمره أمر الله ، فما جاء في النهي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهي حرام ، ثمّ جاء خلافه لم يسغ استعمال ذلك. وكذلك في ما أمر به ، لأنّا لا نرخّص فيما لم يرخّص فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولا نأمر بخلاف ما أمر به رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إلّا لعلّة خوف ضرورة ، فأمّا أن نستحلّ ما حرّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، أو نحرّم ما استحلّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا يكون ذلك أبدا ؛ لأنّا تابعون لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مسلّمون له ، كما كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تابعا لأمر ربّه ، مسلّما له ، وقال الله عزوجل : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(٢) ، وأنّ الله نهى عن أشياء ليس نهي حرام ، بل إعافة وكراهة ، وأمر بأشياء ليس بأمر فرض

__________________

(١) الأنعام : ٥٠ ، يونس : ١٥ ، الأحقاف : ٩.

(٢) الحشر : ٧.

٤٣٧

ولا واجب ، بل أمر فضل ورجحان في الدين ، ثمّ رخّص في ذلك للمعلول وغير المعلول ، فما كان عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله نهي إعافة أو أمر فضل فذلك الذي يسع استعمال الرخصة فيه ، إذا ورد عليكم عنّا الخبر فيه باتّفاق ، يرويه من يرويه في النهي ، ولا ينكره ، وكان الخبران صحيحين معروفين باتّفاق الناقلة فيهما ، يجب الأخذ بأحدهما ، أو بهما جميعا ، أو بأيّهما شئت وأحببت ، موسّع ذلك لك من باب التسليم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله والردّ إليه وإلينا ، وكان تارك ذلك من باب العناد والإنكار وترك التسليم لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مشركا بالله العظيم ، فما ورد عليكم من خبرين مختلفين فاعرضوهما على كتاب الله ، فما كان في كتاب الله موجودا حلالا أو حراما فاتّبعوا ما وافق الكتاب ، وما لم يكن في الكتاب فاعرضوه على سنن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فما كان في السنّة موجودا منهيّا عنه نهي حرام ، ومأمورا به عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر إلزام ، فاتّبعوا ما وافق نهي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمره ، وما كان في السنة نهي إعافة أو كراهة ، ثمّ كان الخبر الأخير خلافه فذلك رخصة فيما عافه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وكرهه ولم يحرّمه ، فذلك الذي يسع الأخذ بهما جميعا ، وبأيّهما شئت وسعك الاختيار من باب التسليم والاتّباع والرد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وما لم تجدوه في شيء من هذه الوجوه فردّوا إلينا علمه فنحن أولى بذلك ، ولا تقولوا فيه بآرائكم وعليكم بالكفّ والتثبّت والوقوف وأنتم طالبون باحثون ، حتّى يأتيكم البيان من عندنا».

ولكن لا دلالة للرواية على التخيير الذي هو المقصود في المقام ـ أي التخيير الظاهري ـ فإنّ التخيير الذي تدلّ هذه الرواية عليه هو التخيير الواقعي ؛ لأنّ موردها النهي التنزيهي مع دليل الرخصة أو الأمر غير الإلزامي مع ذلك الدليل ، ومعلوم أنّ التخيير في مثل هذه الموارد تخيير واقعي ، كما لا يخفى.

٤٣٨

نعم ، ذيلها يدلّ على التوقّف والتثبّت حتّى يأتي البيان من ناحيتهم ، فهذه الرواية أيضا من أخبار التوقّف ، بخلاف ما ذكره بعض الأعلام رحمه‌الله من انحصار أخبار التوقّف بمقبولة عمر بن حنظلة ورواية سماعة وطرحهما بلحاظ ضعف السند أو سقوطهما عن الحجّيّة بالتعارض ، فتكون هذه الرواية دليلا معتبرا للتوقّف بعد تصحيح سندها بما ذكرنا وتماميّة دلالة ذيلها عليه.

فالحكم في الخبرين المتكافئين بحسب الروايات عبارة عن التخيير من طريق الجمع بين أخبار التوقّف وأخبار التخيير بالنص والظاهر ، أو الأظهر والظاهر.

٤٣٩
٤٤٠