دراسات في الأصول - ج ٤

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-95-8
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٤٨٠

بدليل حجّيّة الاستصحاب ؛ لما عرفت من أنّ الشبهة مصداقيّة. هذا محصّل كلام صاحب الكفاية رحمه‌الله (١).

ويرد عليه : أوّلا : أنّ الشبهة المصداقيّة فيما إذا ارتبط أحد طرفي الاحتمال بعنوان الدليل الآخر المخالف له ، كما إذا قال المولى : «أكرم العلماء» وشككنا في عالميّة زيد ، نقول يحتمل أن يكون عالما فينطبق عليه عنوان الدليل ، ويحتمل أن لا يكون عالما فلا ينطبق عليه العنوان.

وهذا المعنى لا يتحقّق فيما نحن فيه ، فإنّ شبهة مصداقيّة قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ» فيما يحتمل أن يكون نقضا لليقين بالشكّ ، ويحتمل أن لا يكون كذلك ، ولا ينطبق هذا المعنى في ما نحن فيه ؛ إذ الملاقاة إن حدثت يوم السبت معناه حدوث الكرّيّة يوم الجمعة ، فليس هنا نقض اليقين بالشكّ ، بل نقض اليقين باليقين بالكرّيّة ، وإن حدثت يوم الجمعة معناه حدوث الكرّيّة يوم السبت ، فليس في يوم الجمعة نقض اليقين بالشكّ بل يستمرّ اليقين ، فالأمر دائر بين اليقين بالوفاق واليقين بالخلاف ، فلا تتحقّق هنا شبهة مصداقيّة قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ» ، هذا أوّلا.

وثانيا : أنّه يتولّد الشكّ من اليقينين الموجودين في القضيّتين التعليقيّتين ، كما إذا علمنا بأنّ زيدا إن ركب السيّارة الفلانيّة فقد مات قطعا ، وإن لم يركب فهو حي قطعا ، فاحتمال ركوب السيّارة وعدمه صار منشأ للشكّ في بقاء حياته ، ولا يضرّ باستصحاب حياته ، وكذا العلم بحدوث الكرّيّة والعلم بحدوث الملاقاة في يوم الجمعة ويوم السبت يوجبان الشكّ بتحقّق الكرّيّة في زمان الملاقاة وعدمه ، فلا مانع من استصحاب عدم الكرّيّة إلى زمان الملاقاة.

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٣٣٥ ـ ٣٣٦.

٢٨١

وثالثا : ما ذكره عدّة من المحقّقين منهم استاذنا السيّد الإمام رحمه‌الله وملخّصه : أنّ العناوين المأخوذة في أدلّة الموضوعات قد تكون من العناوين الواقعيّة الخارجيّة ـ كالخمر والعدالة ونحو ذلك إلّا أنّ واقعيّة كلّ شىء بحسبه ـ وقد تكون من الامور الوجدانيّة ـ كاليقين والظنّ والشكّ ـ ولا يخفى أنّ الشبهة المصداقيّة قابلة للتصوّر وأمر معقول في القسم الأوّل ، أي العناوين الواقعيّة الخارجيّة ، بخلاف القسم الثاني ، أي الامور الوجدانيّة ؛ إذ لا يمكن أن يكون الإنسان شاكّا في أنّ له يقينا بأمر كذائي أو لا أو أنّ له شكّا بأمر كذائي أو لا ، إلّا من بعض أهل الوسوسة الشاكّين في وجدانيّاتهم ، وهو خارج عن محلّ الكلام ، ولا بدّ من تصوّر الشبهة المصداقيّة في الامور الوجدانيّة بهذه الكيفية ـ أي الشكّ في أنّ الشكّ حصل له أم لا ـ وهو أمر غير معقول ، فإنّ أمرها دائر بين الوجود والعدم ولا تقبل الترديد ، فلا تتصوّر الشبهة المصداقيّة في الامور الوجدانيّة ، فلا يعقل الشكّ في عدم اتّصال الشكّ اللاحق واليقين السابق بحيث يصير الإنسان شاكّا في تخلّل يقين بالضدّ بين اليقين السابق والشكّ اللاحق فعلا ؛ لأنّ الملاك أن يكون الإنسان حين الجريان شاكّا ومتيقّنا ومتّصلا زمان شكّه بيقينه بحسب حاله فعلا ، والوجدان شاهد بتحقّق اليقين بعدم الكرّيّة يوم الخميس وتحقّق الشكّ في بقائه إلى زمان الملاقاة حين الجريان.

ويمكن أنّ يتوهّم تحقّق الشبهة المصداقيّة لقوله «لا تنقض اليقين بالشكّ» بالصورة التالية : لو علم المكلّف بأنّه كان مجنبا في أوّل النهار وتطهّر منها جزما ، ثمّ نام ورأى في ثوبه منيّا بعد الانتباه ، وعلم إجمالا بأنّه إمّا من جنابته التي قطع بارتفاعها بالغسل أو من جنابة جديدة ، فيكون إجراء استصحاب الجنابة المقطوعة الموجبة لتلوّث الثوب ممنوعا ؛ لعدم إحراز اتّصال زمان

٢٨٢

الشكّ باليقين ؛ لأنّ الجنابة أمرها دائر بين التي قطع بزوالها وبين التي قطع ببقائها ، فيحتمل الفصل بين زمان الشكّ واليقين بحصول الجنابة بيقين بزوالها ، فهذا من قبيل عدم إحراز الاتّصال.

وجوابه : أنّ هذا لا يكون من قبيل ذلك ؛ لأنّ عدم إجراء الاستصحاب فيه ليس لعدم إحراز الاتّصال ، بل لعدم اليقين السابق لا تفصيلا ولا إجمالا ، أمّا الأوّل فواضح ، وأمّا الثاني فلأنّ كون هذا المنيّ في الثوب من جنابة معلومة بالتفصيل أو الإجمال ممّا لا أثر له ، بل الأثر مترتّب على العلم بكون المكلّف كان جنبا تفصيلا أو إجمالا ، فشكّ في بقائها ، والمفروض أنّه يعلم تفصيلا بحصول الجنابة له أوّل النهار وزوالها بالغسل بعده ، ويشكّ بدوا في حصول جنابة جديدة له ، فأين العلم الإجمالي حتّى يستصحب؟ فعلمه الإجمالي ممّا لا أثر له ، وما له أثر لا يعلم به.

إن قلت : إنّه يعلم بكونه جنبا بعد خروج الأثر المردّد ولم يعلم بارتفاعها ، فيحكم ببقاء الجنابة بالاستصحاب.

قلت : لا يجري الاستصحاب الشخصي فيه ؛ لدوران الشخص بين جنابة أوّل النهار وجنابة بعد الزوال ، والاولى مقطوعة الزوال ، والثانية محتملة الحدوث ، فعدم الجريان لعدم تماميّة أركانه في شيء منهما.

وربما يقال بجريان الاستصحاب هنا بنحو كليّ القسم الثاني المردّد بين مقطوع الزوال ومقطوع البقاء.

وجوابه : أنّ الأمر في استصحاب كلّي القسم الثاني مردّد من حيث المصداق بأنّ فردا واحدا منه تحقّق من الابتداء في ضمن طويل العمر أو في ضمن قصير العمر ، بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ الأمر دائر هنا بين فردين ، أحدهما

٢٨٣

مقطوع الارتفاع والآخر مشكوك الحدوث.

نعم ، يمكن جريان الاستصحاب هنا بنحو كلّي القسم الثالث بأن يحتمل حدوث الجنابة الثانية عند زوال الاولى مقارنا له ، فلا مانع من استصحاب كلّي الجنابة في هذه الصورة.

فلا يرتبط عدم جريان الاستصحاب في غيرها بإحراز اتّصال زمان الشكّ باليقين وعدمه أصلا (١).

ومن الموارد التي يتوهّم أنّها من الشبهة المصداقيّة لدليل الاستصحاب من حيث اعتبار عدم تخلّل يقين آخر بين اليقين السابق والشكّ اللاحق فلا لا يجري الاستصحاب ، هو ما إذا علمنا بعدالة زيد ـ مثلا ـ في زمان وشككنا في بقائها الآن ، ولكن نحتمل كوننا متيقّنين بفسقه بعد اليقين بعدالته ، فلا يجري استصحاب العدالة ؛ لاحتمال تخلّل اليقين بالفسق بين اليقين بالعدالة والشكّ في بقائها ، فتكون الشبهة مصداقيّة.

وجوابه : أنّه لا يعتبر في الاستصحاب سبق اليقين على الشكّ ، بل يكفي حدوثهما معا ، فمع فرض اليقين الفعلي بحدوث العدالة في زمان والشكّ في بقائها لا يمنع من جريان الاستصحاب احتمال وجود اليقين بفسقه سابقا ، بل لا يقدح في الاستصحاب اليقين بوجود اليقين بفسقه مع احتمال كون اليقين بالفسق مخالفا للواقع ، فضلا عن احتمال اليقين بفسقه ، فإذا علمنا يوم الجمعة بعدالة زيد ، ثمّ علمنا بفسقه يوم السبت ، ثمّ تبدّل اليقين بفسقه بالشكّ الساري فيه يوم الأحد ، فيوم الأحد نعلم بحدوث عدالته يوم الجمعة ونشكّ في بقائها الآن ؛ لاحتمال كون اليقين بفسقه يوم السبت مخالفا للواقع ، فباعتبار هذا اليقين الفعلي

__________________

(١) الاستصحاب : ١٧٢ ـ ١٧٣.

٢٨٤

يوم الأحد بحدوث العدالة يوم الجمعة والشكّ في بقائها يجري الاستصحاب ، ولا يقدح فيه اليقين بالفسق بعد تبدّله بالشكّ الساري ، فكيف باحتمال اليقين بالفسق؟

مضافا إلى أنّنا ذكرنا فيما تقدّم أنّ الشبهة المصداقيّة في الامور الوجدانيّة غير قابلة للتصوّر ، فلا مانع من جريان الاستصحاب في المثال. والشكّ الساري الذي يعبّر عنه بقاعدة اليقين لا يكون مانعا ؛ لعدم اعتباره كما يأتي في محلّه.

ومضافا إلى أنّه لو كان احتمال اليقين مانعا عن جريان الاستصحاب لمنع منه في كثير من الموارد التي لا يلتزم بعدم جريان الاستصحاب فيها أحد ، وهي الموارد التي يكون ارتفاع المتيقّن السابق فيها مستلزما للعلم بالارتفاع ، فيكون احتمال الارتفاع ملازما لاحتمال العلم بالارتفاع ، كما إذا كان زيد محدثا وشكّ في الطهارة من الوضوء أو الغسل ، فإنّ احتمال ارتفاع الحدث بالوضوء أو الغسل ملازم لاحتمال العلم ؛ لأنّ الوضوء والغسل من الامور العباديّة التي لا يمكن تحقّقها إلّا مع العلم والالتفات ، فلا بدّ من القول بعدم جريان الاستصحاب على المبنى المذكور ؛ لاحتمال العلم بالانتقاض ، ولا يلتزم به أحد.

ومن الموارد التي يتوهّم أنّها من الشبهة المصداقيّة ما ذكره المحقّق النائيني ردّا على السيّد رحمه‌الله في العروة ، وبيانه : أن السيّد رحمه‌الله ذكر في العروة : أنّه إذا علمنا بنجاسة إناءين ـ مثلا ـ ثمّ علمنا بطهارة أحدهما ، فيتصوّر ذلك بصور ثلاث : الاولى : أن نعلم بطهارة أحدهما علما تفصيليّا ، فاشتبه الطاهر المعلوم بالتفصيل بغيره.

الثانية : أن نعلم بطهارة أحدهما لا بعينه بحيث لا يكون للطاهر تعيّن وامتياز

٢٨٥

بوجه من الوجوه ، بل يمكن أن لا يكون له في الواقع أيضا تعيّن ، كما إذا كان كلاهما طاهرا في الواقع.

الثالثة : أن نعلم بطهارة أحدهما بعنوان معيّن ونشكّ في انطباقه ، كما لو علمنا بطهارة إناء زيد وشككنا في انطباق هذا العنوان على هذا الإناء أو ذاك.

وحكم السيّد رحمه‌الله بنجاسة الإنائين في جميع هذه الصور الثلاث ؛ عملا بالاستصحاب.

ولا يخفى أنّ الدليل لعدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي قد يكون لزوم التناقض في الدليل صدرا وذيلا ، كما في قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ أبدا ، بل انقضه بيقين آخر» ، فيحكم صدر الدليل بنجاسة الإنائين بالاستصحاب ، وذيله بطهارة أحدهما للعلم الإجمالي ، وقد يكون لزوم المخالفة العمليّة مع التكليف المعلوم بالإجمال ، وعلى هذا لا يجري الاستصحاب فيما كانت الحالة السابقة في الإنائين عبارة عن الطهارة ، فإنّ جريان استصحاب الطهارة في كليهما يوجب المخالفة العمليّة مع العلم الإجمالي بنجاسة أحدهما ، بخلاف ما إذا كانت الحالة السابقة فيهما عبارة عن النجاسة كما في ما نحن فيه ، فإنّ استصحاب نجاستهما والاجتناب عنهما لا يوجب المخالفة ، وهذا المبنى اختاره صاحب العروة في ما نحن فيه ولذا قال بجريان استصحاب النجاسة.

وردّ عليه المحقّق النائيني رحمه‌الله واختار عدم جريان الاستصحاب في جميعها ، لكن لا بمناط واحد ، بل حكم بعدم جريانه في الصورة الاولى والثالثة ، لكون الشبهة مصداقيّة ، فإنّا نعلم بانتقاض اليقين بالنجاسة بالطهارة بالنسبة إلى أحد الإنائين ، إمّا باليقين التفصيلي ـ كما في الصورة الاولى ـ وإمّا باليقين المتعلّق بعنوان معيّن شككنا في انطباقه ـ كما في الصورة الثالثة ـ فلا مجال

٢٨٦

لجريان الاستصحاب في شيء من الإنائين ؛ لأنّ كلّ واحد منهما يحتمل أن يكون هو الإناء الذي انتقض العلم بنجاسته بالعلم بطهارته.

وأمّا الصورة الثانية فحكمه بعدم جريان الاستصحاب فيها ليس مبنيّا على احتمال انفصال زمان الشكّ عن زمان اليقين بيقين آخر ـ كما في الصورة الاولى والثالثة ـ فإنّ الشكّ في بقاء النجاسة في كلّ منهما متّصل باليقين بالنجاسة ، ولم يتخلّل بين زمان اليقين وزمان الشكّ يقين آخر ، والعلم الإجمالي بطهارة أحدهما لا بعينه يكون منشأ للشكّ في بقاء النجاسة في كلّ منهما ، بخلاف الصورة الاولى والثالثة ، فإنّ منشأ الشكّ في بقاء النجاسة فيهما هو اجتماع الإنائين واشتباه الطاهر بالنجس ، لا العلم بطهارة أحدهما ، فإنّ متعلّق العلم كان معلوما بالتفصيل أو بالعنوان ، فحكمه بعدم جريان الاستصحاب في الصورة الثانية مبنيّ على أنّ العلم الإجمالي بنفسه مانع عن جريان الاستصحاب ، ولو لم تلزم منه مخالفة عمليّة قطعيّة. هذا ملخّص مختاره رحمه‌الله (١).

وجوابه : أوّلا : ما ذكرناه في جواب صاحب الكفاية رحمه‌الله من أنّ المندرج في معنى الشبهة المصداقيّة ارتباط أحد طرفي الاحتمال بالعنوان المأخوذ في الدليل ، وهذا لا يتحقّق في دليل الاستصحاب ، فإنّا نعلم بطهارة أحد الإنائين بالعلم التفصيلي ولكنّه اشتبه علينا بغيره في الصورة الاولى ، فيكون أحد الإنائين معلوم الطهارة والآخر معلوم النجاسة ، ففي كليهما يتحقّق نقض اليقين باليقين ، إمّا بالوفاق وإمّا بالخلاف ، ولا يصدق في أيّ من الطرفين نقض اليقين بالشكّ ، فكيف تتصوّر الشبهة المصداقيّة لقوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ»؟

وثانيا : أنّه لا يعتبر في الاستصحاب كون اليقين سابقا على الشكّ ، بل يمكن

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٥١٠ ـ ٥١٥.

٢٨٧

أن يكون بالعكس ـ كما إذا شككنا بطهارة الثوب ونجاسته ، وعلمنا بعد ساعة بطهارته قبل يومين ـ بل المعتبر كون المتيقّن سابقا على المشكوك فيه ، فالميزان في جريان الاستصحاب هو اليقين الفعلي بالحدوث والشكّ الفعلي في البقاء ، وهما موجودان بالنسبة إلى كلّ واحد من الإنائين بخصوصه ، ولا يقدح في الاستصحاب احتمال كون هذا الإناء متعلّقا لليقين بالطهارة سابقا ، فإنّ الاستصحاب جار باعتبار اليقين الفعلي بحدوث النجاسة مع الشكّ في بقائها ، لا باعتبار اليقين السابق.

ومنه يظهر الحال فيما إذا كان اليقين متعلّقا بعنوان شكّ في انطباقه ، فإنّ عدم قدح احتمال انطباق عنوان تعلّق به اليقين في جريان استصحاب النجاسة أوضح من عدم قدح احتمال اليقين التفصيلي بطهارة أحدهما بعد كون الميزان فيه هو اليقين الفعلي لا اليقين السابق.

وما يحتمل في كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله في بيان عدم اتّصال زمان الشكّ باليقين : من فرض زمانين ـ أي يوم الجمعة ويوم السبت ـ بعد زمان العلم بعدم حدوثهما ـ أي يوم الخميس ـ أحدهما : زمان حدوث واحد منهما ، والثاني : زمان حدوث الآخر ، والشكّ في الآن الأوّل منهما ـ أي يوم الجمعة ـ وإن كان شكّا في وجود كلّ منهما بالإضافة إلى أجزاء الزمان ولكن لا يكون شكّا فيه بالإضافة إلى الآخر ، إلّا في الآن الثاني ، أي يوم السبت ؛ لأنّ الشكّ في المتقدّم والمتأخّر منهما لا يمكن إلّا بعد العلم بوجودهما ، فزمان الثالث ـ أي يوم السبت ـ زمان الشكّ في المتقدّم والمتأخّر أو الشكّ في وجود أحدهما بالإضافة إلى زمان وجود الآخر ، وهو ظرف العلم الإجمالي بوجود كلّ منهما ، إمّا في الزمان المتقدّم أو في الزمان المتأخّر ، ولما شكّ في أنّ أيّهما مقدّم وأيّهما مؤخّر

٢٨٨

لم يحرز اتّصال زمان الشكّ باليقين ، بل يحرز الانفصال بين زمان الشكّ واليقين (١).

وفيه : أوّلا : أنّ هذا الاحتمال لا يناسب ظاهر استدلاله رحمه‌الله ، فإنّ تعبيره أنّه : «لم يحرز اتّصال زمان الشكّ بزمان اليقين» ، ومعناه تحقّق الاحتمالين : احتمال الانفصال ، واحتمال الاتّصال ، ولا يمكن حمل هذه العبارة على تحقّق الانفصال القطعي بينهما.

وثانيا : على فرض استفادة هذا الاحتمال من كلامه رحمه‌الله فإنّ الملاك في تحقّق اليقين السابق والشكّ اللاحق هو تحقّقهما في حال جريان الاستصحاب ، ولا دخل لزمان حدوث الشكّ واليقين هنا ، فعدم جريان استصحاب عدم كرّيّة في حال الملاقاة في يوم الجمعة ـ بلحاظ عدم تحقّق كلا الحادثين ـ لا يكون مانعا من جريانه في يوم السبت ، فإنّ بعد العلم بتحقّق الحادثين ـ أي يوم السبت ـ لا يتحقّق الفصل بين اليقين والشكّ ؛ لأنّنا نعلم بعدم الكرّيّة في حال الملاقاة ، والآن نشكّ في بقائه ، فنجري الاستصحاب. إلى هنا تمّ كلام صاحب الكفاية رحمه‌الله.

ويتحقّق نوع من التهافت بين صدر كلام استاذنا السيّد الإمام رحمه‌الله وذيله ، فإنّه يقول في ابتداء البحث : إنّ الشكّ في الاتّصال والانفصال عبارة اخرى عن الشبهة المصداقيّة لقوله «لا تنقض اليقين بالشكّ» ، وفي ذيل كلام صاحب الكفاية رحمه‌الله قائل بعدم ارتباط مسألة عدم إحراز الاتّصال بالشبهة المصداقيّة ، ثمّ يقول في بحث معلوم التأريخ : «ولعلّ الشبهة المصداقيّة أحد محتملات الكفاية».

وحاصل البحث في مجهولي التأريخ : أنّ الأثر إن كان مترتّبا على عدم

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٣٣٦.

٢٨٩

أحدهما بنحو ليس التامّة في زمان وجود الآخر فيجري الاستصحاب ويترتّب الأثر وفاقا للشيخ الأنصاري رحمه‌الله وخلافا للمحقّق الخراساني رحمه‌الله لإحراز اتّصال زمان الشكّ باليقين هنا.

وبعبارة اخرى : يتحقّق عنوان نقض اليقين بالشكّ ولا تكون الشبهة مصداقيّة لقوله «لا تنقض اليقين بالشكّ».

ولازم ذلك أنّ الأثر إن كان مترتّبا على عدم كلّ واحد منهما في زمان وجود الآخر يجري الاستصحاب في كليهما ، ولكنّهما يتساقطان بالمعارضة. إلى هنا تمّ البحث في مجهولي التأريخ.

وأمّا لو علم بتأريخ أحدهما فهو كما لو علمنا بعدم الكرّيّة وعدم الملاقاة في يوم السبت ، وعلمنا يوم الإثنين ـ مثلا ـ بتحقّق الملاقاة مع النجاسة ، وعلمنا يوم الثلاثاء بحدوث الكرّيّة ، وشككنا في أنّها تحقّقت قبل الملاقاة أو بعدها ، فإن تحقّقت قبل الملاقاة ـ أي يوم الأحد ـ فلا توجب الملاقاة الانفعال ، وإن تحقّقت بعدها ـ أي يوم الثلاثاء ـ اتّصف الماء بالنجاسة والانفعال ؛ لعدم الكرّيّة حال الملاقاة.

وذكر صاحب الكفاية رحمه‌الله هاهنا جميع الفروض المذكورة في مجهولي التأريخ ، ولا فرق بينهما من حيث الأحكام ، فلا فائدة لتكرارها إلّا فرضا واحدا ، وهو أن يكون الأثر مترتّبا على عدمه ـ أي عدم الكرّيّة حال الملاقاة ـ الذي هو مفاد ليس التامّة في زمان الآخر. وقال صاحب الكفاية بجريان الاستصحاب هنا.

والسرّ في ذلك : أنّ بعد العلم بتأريخ الملاقاة ـ سواء لاحظنا عدم الكرّيّة بالنسبة إلى الزمان أو بالنسبة إلى الملاقاة أي يوم الإثنين ـ يتّصل زمان شكّه

٢٩٠

بزمان يقينه.

هذا بالنسبة إلى ما كان الأثر مترتّبا على عدم مجهول التأريخ ، في زمان وجود معلوم التأريخ وأمّا إن كان الأثر مترتّبا على عدم معلوم التأريخ فهو كما لو علمنا بحدوث الكرّيّة يوم الاثنين ، وعلمنا يوم الثلاثاء بتحقّق الملاقاة ، ولكن شككنا في أنّها تحقّقت قبل الكرّيّة أو بعدها ، والمفروض أنّه لا أثر لاستصحاب عدم الملاقاة حال الكرّيّة ، بل الأثر لاستصحاب عدم الكرّيّة حال الملاقاة.

وقال صاحب الكفاية رحمه‌الله بعدم جريان الاستصحاب هنا ؛ لانتفاء الشكّ فيه في زمان ، فإنّا نعلم حدوث الكرّيّة يوم الإثنين وإنّما الشكّ فيه بإضافة زمانه إلى الآخر ، وأنّ عدم الكرّيّة المتيقّنة انتقض في حال الملاقاة أم لا؟ فإن كانت الملاقاة يوم الثلاثاء انتقض قطعا بالكرّيّة يوم الإثنين ، وإن كانت يوم الأحد لم ينتقض بل يبقى عدم الكرّيّة حال الملاقاة ، فلا يجري الاستصحاب ؛ لعدم إحراز اتّصال زمان الشكّ باليقين وكونه الشبهة المصداقيّة لقوله «لا تنقض اليقين بالشكّ» (١).

والتحقيق : أنّه لا فرق بين ما نحن فيه ومجهولي التأريخ من حيث جريان الاستصحاب فيهما ؛ إذ الشكّ في الكرّيّة حال الملاقاة محفوظ في كلا الموردين ، سواء علم تأريخ الملاقاة أم لا؟

وقال صاحب الكفاية رحمه‌الله في ذيل هذا البحث : «أنّه لا مورد للاستصحاب أيضا فيما تعاقب حالتان متضادّتان ـ كالطهارة والنجاسة ـ وشكّ في ثبوتهما وانتفائهما للشكّ في المقدّم والمؤخر منهما ؛ وذلك لعدم إحراز الحالة السابقة

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٣٣٧.

٢٩١

المتيقّنة المتّصلة بزمان في ثبوتهما وتردّدها بين الحالتين ، وأنّه ليس من تعارض الاستصحابين ، فافهم وتأمّل في المقام فإنّه دقيق (١).

وحكي عن المشهور الحكم بلزوم التطهير ؛ لمعارضة استصحاب الحدث لاستصحاب الطهارة وتساقطهما ، وحكم العقل بتحصيل الطهارة للصلاة لقاعدة الاشتغال (٢). ونتيجة القولين واحدة ولا تتحقّق هنا ثمرة عمليّة ، وعلى أيّ تقدير نحتاج إلى طهارة جديدة.

وعن المحقّق في المعتبر لزوم الأخذ بضدّ الحالة السابقة ؛ لأنّها ارتفعت يقينا وانقلبت إلى ضدّها ، وارتفاع الضدّ غير معلوم.

قال على ما حكي عنه : «يمكن أن يقال : ينظر إلى حاله قبل تصادم الاحتمالين ، فإن كان حدثا بنى على الطهارة ؛ لأنه تيقّن انتقاله عن تلك الحالة إلى الطهارة ولم يعلم تجدد الانتقاض ، فصار متيقّنا للطهارة وشاكّا في الحدث ، فيبنى على الطهارة ، وإن كان قبل تصادم الاحتمالين متطهّرا بنى على الحدث ؛ لعين ما ذكرنا من التنزيل» (٣). وهذه الفتوى وقعت مورد تأييد استاذنا السيّد الإمام رحمه‌الله في مورده (٤).

ومن هنا يظهر أنّه تتحقّق للمسألة صورتان : بأنّا قد لا نعلم بالحالة السابقة على الحالتين ، وقد نعلم بها ، أمّا في صورة عدم العلم بالحالة السابقة فحكم المسألة مبتن على النزاع المذكور ، من جريان استصحاب بقاء الطهارة واستصحاب بقاء الحدث ، وتساقطهما بالمعارضة ، والاحتياج إلى الطهارة

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٣٣٨.

(٢) جواهر الكلام ٢ : ٣٥٠ و ٣٥١.

(٣) المعتبر : ٤٥ ، السطر ١٧.

(٤) الاستصحاب : ١٨٢.

٢٩٢

الجديدة عندنا ، وعدم جريان الاستصحاب ؛ لعدم إحراز اتّصال زمان الشكّ باليقين عند صاحب الكفاية رحمه‌الله.

وأمّا في صورة العلم بالحالة السابقة فقد تكون عبارة عن الطهارة ، وقد تكون عبارة عن الحدث ، فلا بدّ من ملاحظة الخصوصيّات في محلّ البحث ، وهي كما يلي :

الخصوصيّة الاولى : أن يكون تأريخ كلا الحادثين مجهولا.

الثانية : أن يكون الحدث السابق على الحالتين من سنخ الحدث الجديد المسلّم حدوثه من حيث كونهما أصغرين أو أكبرين ، ولا بدّ لنا قبل الورود في البحث من ذكر الأمرين بعنوان المقدّمة :

الأمر الأوّل : أنّ المتوضّي والمتطهّر إذا صدر منه الحدث فإنّه يوجب بطلان الوضوء ويوجب الاحتياج إلى وضوء جديد بالحدث الأوّل ، ولا يكون الحدث الثاني الواقع بعده مؤثّرا فعليّا وإن كان مؤثّرا شأنيّا ، فالسببيّة الفعليّة للحدث الأول ، هذا من المسلّمات في الفقه.

الأمر الثاني : أنّه من المسلم أيضا كفاية مسبّب واحد ـ من الوضوء والغسل ـ عقيب أسباب متعدّدة ، سواء قلنا في باب التداخل : إنّ مقتضى القاعدة هو التداخل أو عدمه.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ المكلّف إذا كان متيقّنا بكونه محدثا في أوّل النهار ، فعلم بحدوث طهارة وحدث أثناء النهار وشكّ في المتقدّم والمتأخّر ، فيكون استصحاب الطهارة المتيقّنة ممّا لا إشكال فيه ، كما قال به المحقّق في المعتبر.

ولا يجري استصحاب الحدث ؛ لعدم تيقّن الحالة السابقة ، لا تفصيلا ولا إجمالا ، فإنّ الحدث المعلوم بالتفصيل الذي كان متحقّقا أوّل النهار قد زال

٢٩٣

يقينا ، وليس له علم إجمالي بوجود الحدث إمّا قبل الوضوء أو بعده ؛ لأنّ الحدث قبل الوضوء معلوم تفصيلي وبعده مشكوك فيه بالشكّ البدوي.

وهذا نظير العلم الإجمالي بإصابة قطرة دم إمّا في الإناء المعلوم طهارته وإمّا في الإناء المعلوم نجاسته ، ولا يترتّب على هذا العلم أثر بوجه أصلا فإنّ منجزيّة العلم الإجمالي مشروطة بكونه ذا أثر في كلّ من الطرفين ، وليس المثال كذلك ، فإنّ إصابة الدم الإناء المعلوم نجاسته تكون بلا أثر ، وإصابة الآخر مشكوكة بالشكّ البدوي ، فيجرى استصحاب الطهارة.

وما نحن فيه من هذا القبيل فإنّ وقوع الحدث قبل الوضوء بلحاظ مسبوقيّته بالحدث في أوّل النهار لا يترتّب عليه أثر ، وترتّب الأثر مختصّ بوقوعه بعد الوضوء ، فلا أثر لهذا العلم الإجمالي ، فيجري استصحاب الطهارة بلا معارض.

وأمّا إذا كان المكلّف متيقّنا بكونه متطهّرا في أوّل النهار فعلم بحدوث الحدث والطهارة أثناء النهار وشكّ في المتقدّم والمتأخّر فيكون استصحاب الحدث المتيقّن ممّا لا إشكال فيه بعين ما ذكرناه في الفرع السابق ، فيجب عليه تحصيل الطهارة للصلاة ، كما قال به في المعتبر ، هذا كلّه بالنسبة إلى مجهولي التاريخ.

فيما إذا كان أحدهما معلوم التاريخ

وأمّا إذا جهل تأريخ الحدث وعلم تأريخ الطهارة مع كون الحالة السابقة هي الحدث ، كما إذا علم كونه محدثا في أوّل النهار ، وعلم أنّه تطهّر ظهرا ، وعلم بحدوث حدث إمّا بعد الطهارة وإمّا قبلها ، فلا يجري استصحاب الحدث ؛ للعلم بزوال الحدث المعلوم تفصيلا وعدم العلم بتحقّق حدث غيره ، فلا تكون

٢٩٤

حالة سابقة متيقّنة للحدث ، وأمّا استصحاب الطهارة المتحقّقة في أوّل الظهر فلا مانع من جريانه ؛ للعلم بوجودها والشكّ في زوالها ، ففي هذه الصورة نحكم بكونه متطهّرا ، والعلم الإجمالي بحدوث الحدث الثاني بمنزلة الشكّ البدوي لا يترتّب عليه أثر ، فنأخذ بضدّ الحالة السابقة.

وأمّا إذا جهل تأريخ الطهارة مع كون الحالة السابقة المتيقّنة هي الحدث ، وعلم تأريخ الحدث ، كما إذا علم كونه محدثا في أوّل النهار ، وعلم بصدور الحدث منه ثانيا في أوّل الظهر ، وعلم أنّه تطهّر إمّا قبل الظهر وإمّا بعده ، فيجري استصحاب الحدث المعلوم التأريخ ، ويجري استصحاب الطهارة المعلومة بالإجمال فيتساقطان بالمعارضة ونحكم بلزوم تحصيل الطهارة عقلا لقاعدة الاشتغال ، ففي هذه الصورة لا يمكن الأخذ بضدّ الحالة السابقة.

وأمّا إذا كانت الحالة السابقة المتيقّنة هي الطهارة وعلم أنّه أحدث في أوّل الظهر ، وعلم أنّه تطهّر إمّا قبل الظهر وإمّا بعده ، فلا يبقى مجال لاستصحاب الطهارة ، فإنّ الطهارة المعلومة بالإجمال مردّدة بين ما له الأثر وما لا يترتّب عليه الأثر ، فيجري استصحاب الحدث ، فإنّه مؤثّر في نقض الطهارة ، سواء تحقّق قبل الطهارة الثانية أو بعدها ، ففي هذه الصورة نأخذ بضدّ الحالة السابقة.

وأمّا إذا كانت الحالة السابقة المتيقّنة هي الطهارة ، وعلم أنّه تطهّر أيضا في أوّل الظهر ، وعلم بأنّه أحدث إمّا قبل الظهر وإمّا بعده فيجب تحصيل الطهارة ؛ لتعارض استصحاب الطهارة المعلومة في الظهر ـ للعلم بها والشكّ في زوالها ـ مع استصحاب الحدث المعلوم بالإجمال ؛ للعلم بوجود ، إمّا قبل الظهر أو بعده والشكّ في زواله ، وفي هذه الصورة أيضا نأخذ بضدّ الحالة السابقة.

٢٩٥
٢٩٦

التنبيه الثاني عشر

في الامور الاعتقاديّة

هل يجري الاستصحاب في الامور الاعتقاديّة أم لا؟ ومنشأ الشبهة في هذا المعنى وما يوجب بيان هذا النزاع أمران :

الأوّل : توهّم اختصاص الاستصحاب بالامور الخارجيّة ؛ لكونه من الاصول العمليّة ، فلا يجري إلّا في أفعال الجوارح المعبّر عنها بالأعمال ، والامور الاعتقاديّة مربوطة بالجوانح لا بالجوارح.

الثاني : أنّ الجاثليق في احتجاجات الإمام عليّ بن موسى الرضا عليهما‌السلام معه تمسّك لبقاء نبوّة نبيّه بالاستصحاب.

والتحقيق : أنّه لا مانع من جريان الاستصحاب في الامور الاعتقاديّة ، فإنّ مناط جريانه ـ أي اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء وكون الأثر قابلا للتعبّد ـ محقّق هاهنا ، ومعنى كونه من الاصول العلميّة أنّه ليس من الأدلّة الاجتهاديّة الكاشفة عن الواقع ، فإنّها وظائف عمليّة للجاهل بالواقع وليست كاشفة عنه ، لا أنّها مختصّة بالامور الجوارحيّة ، فلو كان التباني القلبي على شيء واجبا وشككنا في بقائه من جهة الشبهة الحكميّة أو الموضوعيّة لا مانع من جريان الاستصحاب.

٢٩٧

وكان لصاحب الكفاية رحمه‌الله هنا بيان جيّد ، وهو قوله : «وأمّا الامور الاعتقاديّة التي كان المهمّ فيها شرعا هو الانقياد والتسليم والاعتقاد بمعنى عقد القلب عليها من الأعمال القلبيّة الاختياريّة ، فكذا لا إشكال في الاستصحاب فيها حكما وكذا موضوعا فيما كان هناك يقين سابق وشكّ لاحق ؛ لصحّة التنزيل ، وعموم الدليل. وكونه أصلا عمليّا إنّما هو بمعنى أنّه وظيفة الشاكّ تعبّدا قبالا للأمارات الحاكية عن الواقعيّات ، فيعمّ العمل بالجوانح كالجوارح. وأمّا التي كان المهمّ فيها شرعا وعقلا هو القطع بها ومعرفتها فلا مجال له موضوعا ، ويجري حكما ، فلو كان متيقّنا بوجوب تحصيل القطع بشيء ـ كتفاصيل القيامة ـ في زمان وشكّ في بقاء وجوبه يستصحب.

وأمّا لو شكّ في حياة إمام زمان فلا يستصحب لأجل ترتيب لزوم معرفة إمام زمانه ، بل يجب تحصيل اليقين بموته أو حياته مع إمكانه ، ولا يكاد يجدي في مثل وجوب المعرفة عقلا أو شرعا إلّا إذا كان حجّة من باب إفادته الظنّ ، وكان المورد ممّا يكتفى به أيضا ، فالاعتقاديّات كسائر الموضوعات لا بدّ في جريانه فيها من أن يكون في المورد أثر شرعي يتمكّن من موافقته مع بقاء الشكّ فيه ، كان ذاك متعلّقا بعمل الجوارح أو الجوانح (١).

والتحقيق : النبوّة كالولاية والإمامة تكون من المناصب المجعولة كما يستفاد من ظواهر الآيات ، كقوله تعالى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(٢) ، ولا تكون ناشئة من كمال النفس بمثابة يوحى إليها قهرا ، وإن

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٣٣٨ ـ ٣٣٩.

(٢) البقرة : ١٢٤.

٢٩٨

كانت كذلك فلا يجري الاستصحاب فيها ؛ إمّا لعدم الشكّ فيها بعد اتّصاف النفس بها ، أو لكونها من الصفات الخارجيّة التكوينيّة ، ولا يترتّب عليها أثر شرعي مهمّ كما أشار إليه صاحب الكفاية.

وأمّا على ما هو التحقيق من كونها من المناصب المجعولة الإلهيّة لمن كان صالحا وأهلا لها ، فهل يجري الاستصحاب فيها أم لا؟

وتفصيل الكلام في المقام : أنّ استدلال الكتابي لإثبات دينه بالاستصحاب لا يخلو من وجهين : إمّا أن يكون استدلاله لمعذوريّته في البقاء على اليهوديّة ـ مثلا ـ وإمّا أن يكون لإلزام المسلمين ودعوتهم إلى اليهوديّة ، فإن كان مراده الأوّل فنقول له : أنت شاكّ في بقاء نبوة نبيّك أم لا؟ فإن اختار الثاني فلا معنى للاستصحاب ؛ إذ لا بدّ فيه من الشكّ في بقاء المتيقّن ، وإن اختار الأوّل فنقول له : لا بدّ لك من الفحص ، فإنّ النبوّة ليست بأقلّ من الفروع التي يتوقّف جريان الاستصحاب فيها على الفحص ، وبعد الفحص يصل إلى الحقّ ويزول الشكّ عنه ، ومع فرض بقاء شكّه لا فائدة في الاستصحاب ؛ لكون النبوّة من الامور التي تجب المعرفة واليقين بها ، فليست قابلة للتعبّد الاستصحابي ، ومع فرض كفاية الظنّ فيها نقول : الاستصحاب لا يفيد الظنّ أوّلا ، ولا دليل على حجّيّة الظنّ الحاصل منه ثانيا.

هذا كلّه في استصحاب النبوّة ، وأمّا استصحاب بقاء أحكام الشريعة السابقة فغير جار أيضا ، إذ نقول له : الاستصحاب إن كان حجّة في الشريعة السابقة لا يمكن التمسّك به لبقاء أحكام الشريعة السابقة ؛ إذ حجّيّة الاستصحاب من جملة تلك الأحكام ، فيلزم التمسّك به لإثبات بقاء نفسه ، وهو دور ظاهر.

٢٩٩

وإن كان الاستصحاب حجّة في الشريعة اللاحقة فصحّة التمسّك بالاستصحاب ـ لإثبات بقاء أحكام الشريعة السابقة ـ فرع حقّيّة الشريعة اللاحقة ، وبعد الالتزام بحقّيّتها لم يبق مجال للاستصحاب ؛ لليقين بارتفاع أحكام الشريعة السابقة حينئذ.

وإن كان مراده الثاني ـ أي إلزام المسلمين ودعوتهم إلى اليهوديّة ـ فنقول له : جريان الاستصحاب متوقّف على اليقين بالحدوث والشكّ في البقاء ، وليس لنا يقين بنبوّة موسى إلّا من طريق شريعتنا ، فإنّ التواتر لم يتحقّق في جميع الطبقات من زمان موسى إلى زماننا هذا ، والتوراة الموجودة عند اليهود ليس هو الكتاب المنزل من الله سبحانه على موسى ، ومن راجعه يجد فيه ما يوجب العلم بعدم كونه من عند الله ؛ من نسبة الزنا والفواحش إلى الأنبياء وغير ذلك ممّا يجده من راجعها.

نعم ، علمنا بنبوّة موسى لأخبار نبيّنا بنبوّته ، فتصديقه يوجب التصديق بنبوّته ، وهذا الاعتراف من المسلمين لا يضرّهم ولا يوجب جريان الاستصحاب في حقّهم ـ كما هو الظاهر ـ وهذا المعنى هو المحتمل من الحديث المتضمّن لجواب الرضا عليه‌السلام عن احتجاج الجاثليق بالاستصحاب ، من أنّا معترفون بنبوّة كلّ موسى وعيسى أقرّ بنبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وننكر نبوّة كلّ من لم يقرّ بنبوّة نبيّنا ، فلا يرد ـ على الجواب المذكور ـ ما ذكره الشيخ رحمه‌الله من أنّ موسى بن عمران أو عيسى بن مريم ليس كلّيّا حتّى يصحّ الجواب المذكور ، بل جزئي حقيقي اعترف المسلمون بنبوّته ، فعليهم إثبات نسخها.

والحاصل : أنّه ليس لنا علم بنبوّة موسى إلّا بإخبار نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وهو كما يخبر بها يخبر بارتفاعها ، فلا مجال للاستصحاب.

٣٠٠