دراسات في الأصول - ج ٤

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-95-8
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٤٨٠

بعد تعلّق اليقين بالحالة السابقة والشكّ بالحالة اللاحقة مع أنّهما أمران متغايران ، فكيف ينطبق هنا قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ»؟

والتحقيق : أنّ هذا الإشكال باعث لالتزام المحقّق الهمداني قدس‌سره باليقين التقديري والمحقّق النائيني رحمه‌الله باليقين بالحدوث والبقاء ، ولكن يتصوّر : أوّلا : أن يكون متعلّق اليقين والشكّ شيئا واحدا في زمان واحد ، وهو ممتنع.

وثانيا : أن يكون متعلّق اليقين طهارة الثوب ـ مثلا ـ عند الزوال ، ومتعلّق الشكّ أيضا طهارة الثوب عند الزوال ، ولكن زمان اليقين أوّل الظهر ، وزمان الشكّ ساعتين بعده ، وهذه قاعدة اليقين.

وثالثا : أن يكون متعلّق اليقين والشكّ شيئا واحدا ، مثل طهارة الثوب ، إلّا أنّ المتيقّن والمشكوك مختلفان من حيث الزمان ، إذ المتيقّن طهارة الثوب عند الزوال ، والمشكوك بقاؤها ساعتين بعده ، ويهدينا إلى هذا المعنى التعليل الذي بمنزلة الصغرى في الرواية ، وهو قوله : «فإنّه على يقين من وضوئه» ، وهذا هو مجرى الاستصحاب وإن كان خلاف الظاهر ولكن لا محيص من الالتزام به.

ويمكن أن يقال : إنّ قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» لا يكون حكما تعبّديّا محضا ، بل هو ناظر إلى ما هو المرتكز عند العقلاء ، سيما قوله : «ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ» ، فإنّه ناظر ظاهرا إلى أنّ نقض اليقين بالشكّ مخالف للسيرة المستمرّة بين العقلاء ، وبعد الرجوع إلى ما هو المرتكز عند العقلاء يستفاد اختصاص بنائهم بذلك في موارد الشكّ في الرافع دون موارد الشكّ في المقتضي.

قلنا : إنّ تمسّك العقلاء في الجملة بالاستصحاب لا شبهة فيه ، ولعلّ ما هو القدر المتيقّن من بنائهم خصوص الشكّ في الرافع ، ولم يحرز لنا بناؤهم في الشكّ

١٢١

في المقتضي ، ولكن لا بدّ لنا من التحقيق في ملاك بناء العقلاء في التمسّك بالاستصحاب وما هو الملاك في الروايات.

والمستفاد من الأخبار الواردة في الباب أنّ تمام الملاك هو «اليقين بالحالة السابقة والشكّ في اللاحقة» ، ولا دخل لأيّ خصوصيّة اخرى ـ كالظنّ والاطمئنان بالبقاء وأمثال ذلك ـ في حكم عدم جواز النقض ؛ فهذا حكم تعبّدي ، كما عرفت أنّ العلم بالحالة السابقة غير كاشف عن الحالة اللاحقة.

وأمّا الملاك للعمل بالاستصحاب عند العقلاء فهو الوثوق والاطمئنان ببقاء الحالة السابقة فقط ، وهذا الوثوق يوجب رجوع الإنسان بل الحيوان إلى منزله ومأواه ، ولعلّ منشأ هذا الوثوق عبارة عن ندرة تحقّق الرافع ، كما أنّ منشأ الوثوق في أصالة السلامة ندرة تحقّق العيب في الأشياء وغلبة سلامتها ، كما قال به استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره (١).

مع أنّ ندرة تحقّق الرافع في الامور الشرعيّة لا يخلو من مناقشة ، فإنّ قابليّة البقاء والدوام لا يكون مستلزما للبقاء خارجا وواقعا وندرة تحقّق الرافع ؛ إذ الطهارة ـ مثلا ـ قابلة للدوام والاستمرار إلى يوم القيامة ، ولكن كثرة نواقضه خارجا ليس قابلا للإنكار. نعم ، هذا المعنى في مثل الدار صحيح.

والحاصل : أنّ نظارة الروايات ببناء العقلاء ـ بعد الاختلاف في المناط ـ ليس بتامّ ولا فرق بين قوله : «ليس ينبغي» بعد كونه بمعنى الحرمة وعدم الجواز ، وقوله «لا تنقض اليقين» ، فهذا التقريب لاختصاص الروايات في الشكّ في الرافع ليس بصحيح.

فالمستفاد من الرواية الصحيحة اعتبار الاستصحاب في جميع أبواب الفقه

__________________

(١) الاستصحاب : ٣٨.

١٢٢

أوّلا ، واعتباره في الشكّ في الرافع والمقتضي ثانيا ، واعتباره بالتعبّد الشرعي بالمناط المستقلّ ـ أي اليقين بالحالة السابقة والشكّ بالحالة اللاحقة ـ بدون الارتباط ببناء العقلاء ثالثا ، فالاستصحاب حجّة سواء تحقّق الوثوق بالبقاء أم لا.

ومعلوم أنّ اليقين بالحالة السابقة لا يتجاوز عن دائرة المتيقّن ، وليس له عنوان الكاشفيّة بالنسبة إلى الحالة اللاحقة ولو بالكشف الناقص ، والشكّ بالحالة اللاحقة أعمّ من الشكّ المساوي الطرفين والظنّ بأحد الطرفين ، وفي هذه الحالة جعل الشارع حكما تعبّديا بحسب الرواية وهو عدم جواز نقض اليقين بالشكّ ، نسمّيه بالاستصحاب ، فهو أصل عملي مجعول بعنوان الوظيفة في مقام الشكّ كما ذكرنا ، ولا أماريّة له ولا كاشفيّة عن الواقع كما لا يخفى. إلى هنا تمّ الاستدلال بالصحيحة الاولى لزرارة.

الثانية : ما عن الشيخ بإسناده عن زرارة مضمرا ، وعن الصدوق في «العلل» متصدّرا بأبي جعفر عليه‌السلام قال : قلت له : أصاب ثوبي دم رعاف أو غيره أو شيء من منيّ ، فعلّمت أثره إلى أن اصيب له الماء ، فأصبت وحضرت الصلاة ونسيت أنّ بثوبي شيئا وصلّيت ، ثمّ إنّي ذكرت بعد ذلك؟ قال : «تعيد الصلاة».

قلت : فإن لم أكن رأيت موضعه وعلمت أنّه قد أصابه ، فطلبته فلم أقدر عليه ، فلمّا صلّيت وجدته؟ قال : «تغسله وتعيد».

قلت : فإن ظننت أنّه قد أصابه ولم أتيقّن ذلك ، فنظرت فلم أر شيئا ، ثمّ صلّيت فيه فرأيت فيه؟ قال : «تغسله ولا تعيد الصلاة».

قلت : لم ذلك؟ قال : «لأنّك كنت على يقين من طهارتك ثمّ شككت ، فليس

١٢٣

ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشكّ أبدا».

قلت : فإنّي قد علمت أنّه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله؟ قال : «تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنّه قد أصابها حتّى تكون على يقين من طهارتك».

قلت : فهل عليّ إن شككت في أنّه أصابه شيء أن انظر فيه؟ قال : «لا ، ولكنّك إنّما يريد أن تذهب الشكّ الذي وقع في نفسك».

قلت : إن رأيته في ثوبي وأنا في الصلاة؟ قال : «تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه ثمّ رأيته ، وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطبا قطعت الصلاة وغسلته ، ثمّ بنيت على الصلاة ؛ لأنّك لا تدري لعلّه شيء اوقع عليك ، فليس ينبغي أن تنقض اليقين بالشكّ» (١).

مورد الاستدلال بالرواية واحتمالاته

ومورد الاستدلال بالرواية فقرتان : إحداهما : قوله «فإن ظننت أنّه قد أصابه ...» إلى آخرها.

وثانيتهما : قوله : «وإن لم تشكّ ثمّ رأيته رطبا ...» إلى آخرها.

أمّا الاولى منهما ففيها احتمالات :

أحدها : أنّه بعد الظنّ بالإصابة والنظر وعدم الرؤية صلّى من غير حصول علم أو اطمئنان له من النظر ، فلمّا صلّى رأى في ثوبه النجاسة ، وعلم بأنّها هي التي كانت مظنونة ، فعلم أنّ صلاته وقعت في النجس.

ثانيها : الصورة المتقدّمة ، أي عدم حصول العلم له من النظر ، لكن مع احتمال

__________________

(١) التهذيب ١ : ٤٢١ ، الحديث ١٣٣٥ ؛ علل الشرائع ٣٦١ : ١ ؛ الوسائل ٢ : ١٠٠٦ ، الباب ٧ ، الحديث ٢ ، وص ١٠٥٣ ، الباب ٣٧ ، الحديث ١ ، وص ١٠٦٣ ، الباب ٤٢ ، الحديث ٢ ، وص ١٠٦٥ ، الباب ٤٤ ، الحديث ١.

١٢٤

حدوث النجاسة بعدها ، واحتمال وقوع الصلاة فيها.

ثالثها : أنّه حصل له العلم من النظر بعدم النجاسة ، فلمّا صلّى تبدّل علمه بالعلم بالخلاف ، أي بأنّ النجاسة كانت من أوّل الأمر.

رابعها : هذه الصورة مع احتماله بعد الصلاة حدوث النجاسة بعدها ، واحتمال وقوع الصلاة فيها.

هذا ، ولكن تعليل الجواب ينافي إرادة الثالث ، والاحتمال الرابع المنطبق على قاعدة اليقين بعيد ؛ لأنّه لو حصل له العلم كان عليه ذكره في السؤال ، لوضوح احتمال دخالته في الحكم ، فعدم ذكره دليل على عدم حصوله ، والغفلة في مقام السؤال عن موضوعه خلاف الأصل.

مضافا إلى ظهور قوله : «ليس ينبغي لك أن تنقض اليقين» في فعليّة الشكّ واليقين ، تأمّل.

مع أنّ الظاهر أنّ الكبرى في هذا المورد وذيل الرواية واحدة ، ولا إشكال في أنّ الكبرى في ذيلها منطبقة على الاستصحاب لا القاعدة ؛ ضرورة أنّ قوله : «وإن لم تشكّ» معناه أنّك إن كنت غافلا وغير متوجّه إلى النجاسة ، ثمّ رأيته رطبا ، واحتملت كونها من أوّل الأمر وحدوثها فيما بعد ، وليس معناه اليقين بعدم الطهارة ، فالاحتمال الرابع غير مقصود ، فبقي الاحتمالان ، وهما مشتركان في إفادة حجّيّة الاستصحاب ، فلو كانت الرواية مجملة من هذه الجهة لا يضرّ بها ، وأمّا الاحتمالان فلا يبعد دعوى ظهورها في الأوّل منهما.

والحاصل : أنّ الفقرة الثانية لا إشكال في دلالتها على حجّيّة الاستصحاب.

وأمّا الفقرة الاولى فقد اورد عليها بما حاصله : أنّه كيف يصحّ أن يعلّل عدم وجوب إعادة الصلاة ـ بعد الالتفات والعلم بوقوعها في الثوب النجس ـ بقوله :

١٢٥

«لأنّك كنت على يقين من طهارتك» مع أنّ الإعادة حينئذ لا تكون من نقض اليقين بالشكّ ، بل من نقض اليقين باليقين.

نعم ، يصحّ تعليل جواز الدخول في الصلاة بذلك.

وجوابه : يحتاج إلى مقدّمة ، وهي : أنّ الإعادة لا يمكن وقوعها موضوعا للحكم الشرعي نفيا أو إثباتا ، ولا يتعلّق الحكم الشرعي الوجوبي أو التحريمي بها ، بل العقل إذا لاحظ موافقة المأتي به مع المأمور به الشرعي يحكم بأنّه لا يجب عليك الإعادة وإذا لاحظ مخالفته يحكم بأنّه يجب عليك الإعادة ، وأمّا استعمال الإعادة في كلام الشارع ، كما في قوله : «يعيد الصلاة» أو «لا يعيد الصلاة» أو «لا تعاد الصلاة إلّا من خمس» ونحو ذلك فهو من الاستعمالات الكنائيّة من قبيل ذكر اللازم وإرادة الملزوم ، وإشارة إلى المنشأ ، يعني شرطيّة الطهارة وأمثالها في الصلاة.

إذا عرفت ذلك فنقول : إنّ الظاهر من أدلّة اعتبار الطهارة في الصلاة هي الطهارة الواقعيّة ، ولازم ذلك بطلان الصلاة في مورد السؤال الثالث ؛ لوقوعها مع النجاسة ، ولكنّ التعليل في الرواية يكون بمنزلة التفسير للأدلّة الأوّليّة ، وأنّ الطهارة المعتبرة فيها ليست منحصرة بالطهارة الواقعيّة ، فالتعليل لا يرجع إلى عدم الإعادة ، بل الحكم به إرشاد إلى موافقة المأتي به للمأمور به ؛ لتوسعة دائرة الشرط إلى الطهارة الاستصحابيّة.

ثمّ إنّ هاهنا إشكالا ثانيا في الرواية ، وهو لزوم التفرقة بين وقوع تمام الصلاة في الثوب النجس ، وبين وقوع بعضها فيه ، حيث حكم في الأوّل بعدم الإعادة دون الثاني كما هو ظاهر قوله بعد ذلك : «تنقض الصلاة وتعيد إذا شككت في موضع منه» ، مع أنّ حمل حكم الإمام عليه‌السلام بالإعادة هنا على التعبّد خلاف

١٢٦

الظاهر وبعيد غايته.

ولا بدّ لنا قبل الجواب من بيان أمرين بعنوان المقدّمة :

الأوّل : أنّ مانعيّة النجاسة للصلاة مانعيّة مطلقة في جميع الحالات والآنات من افتتحها إلى اختتامها.

الأمر الثاني : أنّ المستفاد من الروايات عدم مانعيّة حدوث دم رعاف في أثناء الصلاة ، بل يجوز تطهيره والإتيان ببقيّة الصلاة بلا فصل ، وكان له خصوصيّتان : إحداهما : الحدوث من غير اختيار ، والثانية : الحدوث في الأثناء ، وبعد ملاحظة الأدلّة يستفاد مانعيّة نجاسة الثوب والبدن إلّا في صورة حدوثها من غير اختيار في أثناء الصلاة.

وجوابه بعد ذلك : أنّ التمسّك بالاستصحاب ـ فيما إذا علم بعد الصلاة بأنّ النجاسة كانت موجودة حالها ـ ممّا لا مانع منه ؛ لتحقّق الطهارة الاستصحابيّة للمكلّف في جميع الحالات والآنات ، بخلاف ما إذا علم بها في الأثناء ؛ لأنّ ما يمكن التمسّك فيه به هو حالة الشكّ ، وبعد العلم بأنّ الصلاة كانت من الابتداء مع النجاسة ، فلا طريق لتصحيحها ، فلذا قال الإمام عليه‌السلام على طبق القاعدة : «تنقض الصلاة وتعيد».

وأيضا : يرد إشكال آخر على ذيل الرواية ، وهو : لا يوجد فرق واضح بين وقوع بعض الصلاة في النجاسة مع الشكّ فيها من الابتداء والعلم بها في الأثناء ، وبين احتمال حدوث النجاسة في الأثناء ، حيث تمسّك الإمام عليه‌السلام في الثاني بالاستصحاب دون الأوّل.

ونقول في مقام الجواب : والفرق بينهما : أنّه إذا علم في الأثناء بأنّ النجاسة كانت من الأوّل لا يمكن تصحيح صلاته كما عرفت.

١٢٧

وأمّا إذا احتمل عروضها في البين فيمكن التمسّك بالاستصحاب لتصحيحها ، لا لأنّ أصالة عدم عروض النجاسة إلى الآن تثبت حدوثها ؛ ضرورة مثبتيّة هذا الأصل ، بل لأنّ أصالة عدم عروض النجاسة إلى الآن إنّما هي لتصحيح حال الجهل بها ، وحال العلم بالتلبّس يكون المصلّي شاكّا في كون هذه النجاسة الموجودة حادثة حتّى لا تكون مانعة أو باقية من الأوّل حتّى تكون مانعة ، فيكون شاكّا في مانعيّتها ، فتجري أصالة البراءة العقليّة والشرعيّة كما في اللباس المشكوك فيه.

فلا يخفى أنّ بين الصورتين فرقا بحسب الاصول والقواعد ، كما فرّق بينهما الإمام عليه‌السلام فدلالة الرواية على حجّيّة الاستصحاب لا إشكال فيها.

الثالثة : صحيحة اخرى لزرارة عن أحدهما عليهما‌السلام قال : قلت له : من لم يدر في أربع هو أو في ثنتين ، وقد أحرز الثنتين؟ قال : «يركع ركعتين وأربع سجدات ، وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهّد ولا شيء عليه ، وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث ، قام فأضاف إليها أخرى ولا شيء عليه ، ولا ينقض اليقين بالشكّ ، ولا يدخل الشكّ في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر ، ولكنّه ينقض الشكّ باليقين ، ويتمّ على اليقين فيبنى عليه ، ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات» (١).

يحتمل أن يكون قوله : «يركع ركعتين وأربع سجدات وهو قائم بفاتحة الكتاب ويتشهّد» ظاهرا في إتيان الركعتين مستقلّا ؛ إذ الظاهر منه تعيّن الفاتحة ، وإتيان الركعة المشكوكة منفصلة موافق لمذهب الخاصّة ومخالف لمذهب

__________________

(١) الوسائل ٥ : ٣٢١ ، الباب ١٠ ، الحديث ٣ ، والباب ١١ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة والتهذيب.

١٢٨

العامّة ؛ لإتيانهم بها ـ بعد البناء على الأقلّ ـ متّصلة.

ويحتمل أن يكون ظاهر الرواية الإتيان بالركعتين متّصلة وصدور صدر الرواية من باب التقيّة ، ولكنّه لا يناسب بيان الإمام عليه‌السلام بعد جواب زرارة موضوعا آخر ، والجواب عنه أيضا من باب التقيّة ، وهو قوله : «وإذا لم يدر في ثلاث هو أو في أربع وقد أحرز الثلاث ، قام فأضاف إليها اخرى ...» الظاهر منه الإتيان بها متّصلة.

والحاصل : أنّه يظهر من هذه الصحيحة آثار التقيّة ، مع عناية الإمام عليه‌السلام ببيان المذهب الحقّ في سترة وحجاب كما سيأتي بيانه.

١٢٩
١٣٠

بيان احتمالات الرواية

ثمّ إنّ في الرواية احتمالات :

منها : أنّ قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» يعني به لا يبطل الركعات المحرزة بسبب الشكّ في الزائدة ، بأنّ يستأنف الصلاة ، بل يعتدّ بالمتيقّنة ، ولا يدخل الشكّ في اليقين ، أي لا يعتدّ بالمشكوك فيها ، بأن يضمّها إلى المحرزة ، ويتمّ بها الصلاة من غير تدارك.

«ولا يختلط أحدهما بالآخر» عطف تفسير للنهي عن الإدخال.

«ولكنّه ينقض الشكّ باليقين» أي الشكّ في الركعة الزائدة ؛ بأن لا يعتدّ بها ، بل يأتي بالزيادة على الإيقان.

«ويتمّ على اليقين» أي يبني على المتيقّن فيها ، وعلى هذا لم يتعرّض لذكر فصل الركعة ووصلها في الفرعين ، وهذا الاحتمال ممّا أبدأه المحدّث الكاشاني قدس‌سره (١).

ومنها : أنّ قوله «لا ينقض اليقين بالشكّ» كما أفاده المحقّق المحدّث المتقدّم ، ولكن قوله : «لا يدخل الشكّ في اليقين» ، وقوله : «لا يخلط أحدهما بالآخر» يعني بهما فصل الركعتين أو الركعة المضافة للاحتياط ، بأن يراد بهما عدم

__________________

(١) الوافي ٢ : ١٤٧ ، السطر ١ ، باب الشكّ فيما زاد على الركعتين.

١٣١

إدخال المشكوك فيها في المتيقّنة ، وعدم خلط إحداهما بالاخرى ، فيكون المراد بالشكّ اليقين المشكوك فيها والمتيقّنة ، أي أضاف الركعتين إلى الركعتين المحرزتين ، والركعة إلى الثلاث المحرزة ، لكن لا يدخل المشكوك فيها في المتيقّنة ، ولا يخلط إحداهما بالاخرى بأن يأتي بالركعة والركعتين منفصلة لا متّصلة ؛ لئلّا يتحقّق الاختلاط وإدخال المشكوك فيها في المتيقّنة.

ولا يخفى أنّ هذا الاحتمال أظهر من الاحتمال الأوّل ، حيث إنّ الظاهر من النهي عن الإدخال والخلط أنّهما تحت اختيار المصلّي ، فيمكنه الإدخال والخلط وتركهما ، والركعة المشكوك فيها إمّا هي داخلة بحسب الواقع في المتيقّنة أو لا ، وليس إدخالها فيها وخلطها بها باختياره ، بخلاف الركعة التي يريد إضافتها إليها ، فإنّ له الإدخال والخلط بإتيانها متّصلة ، وعدمهما بإتيانها منفصلة.

كما أنّه على هذا الاحتمال يكون ظهور قوله : «ولا يدخل الشكّ في اليقين ولا يخلط أحدهما بالآخر» محكّما على ظهور الصدر في أنّ الركعة أو الركعتين لا بدّ أن يؤتى بها متّصلة ، فكأنّه قال : «قام فأضاف إليها اخرى من غير خلط الركعة المضافة المشكوك في كونها الرابعة أو الخامسة بالركعات المتيقّنة» ، ولا يكون هذا من قبيل تقييد الإطلاق كما أفاده المحقّق الخراساني قدس‌سره (١) وتبعه غيره (٢) ، بل من قبيل صرف الظهور البدوي.

ومنها : ما ذكره الشيخ الأنصاري قدس‌سره (٣) في جواب صاحب الوافية بقوله : «إن كان المراد بقوله : «قام فأضاف إليها اخرى» القيام للركعة الرابعة من دون

__________________

(١) كفاية الاصول : ٤٥٠.

(٢) فوائد الاصول ٤ : ٣٦٢ و ٣٦٣.

(٣) الرسائل ٣ : ٦٢ و ٦٣.

١٣٢

تسليم في الركعة المردّدة بين الثالثة والرابعة حتّى يكون حاصل الجواب هو البناء على الأقل ، فهو مخالف للمذهب ، وموافق لقول العامّة ، ومخالف لظاهر الفقرة الاولى من قوله : «يركع ركعتين بفاتحة الكتاب» ، فإنّ ظاهرها ـ بقرينة تعيين الفاتحة ـ إرادة ركعتين منفصلتين ، أعني : صلاة الاحتياط ، فتعيّن أن يكون المراد به القيام ـ بعد تسليم في الركعة المردّدة ـ إلى ركعة مستقلّة كما هو مذهب الإماميّة.

فالمراد ب «اليقين» ـ كما في «اليقين» الوارد في الموثّقة الآتية على ما صرّح به السيّد المرتضى قدس‌سره (١) ، واستفيد من قوله في أخبار الاحتياط : «إن كنت قد نقصت فكذا ، وإن كنت قد أتممت فكذا» (٢) ـ هو اليقين بالبراءة ، فيكون المراد وجوب الاحتياط وتحصيل اليقين بالبراءة ، بالبناء على الأكثر وفعل صلاة مستقلّة قابلة لتدارك ما يحتمل نقصه.

وقد اريد من «اليقين» و«الاحتياط» في غير واحد من الأخبار هذا النحو من العمل ، منها قوله : في الموثّقة الآتية : «إذا شككت فابن على اليقين».

فهذه الأخبار الآمرة بالبناء على اليقين وعدم نقضه ، يراد منها البناء على ما هو المتيقّن من العدد ، والتسليم عليه مع جبره بصلاة الاحتياط ، ولهذا ذكر في غير واحد من الأخبار ما يدلّ على أنّ هذا العمل محرز للواقع ، مثل قوله عليه‌السلام : «ألا اعلّمك شيئا إذا صنعته ، ثمّ ذكرت أنّك نقصت أو أتممت لم يكن عليك شيء» (٣).

__________________

(١) الانتصار : ٤٩.

(٢) الوسائل ٥ : ٣٨١ ، الباب ٨ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٣.

(٣) المصدر المذكور.

١٣٣

وعلى هذا المعنى لا ربط للرواية بالاستصحاب أصلا.

ومنها : ما يستفاد من كلام صاحب الكفاية رحمه‌الله (١) وهو : أنّ الاستدلال بها على الاستصحاب مبنيّ على إرادة اليقين بعدم الإتيان بالركعة الرابعة سابقا والشكّ في إتيانها ، وقوله : «قام فأضاف إليها اخرى» مطلق لا يدلّ على إتيان الركعة المشكوكة متّصلة أو منفصلة ، ولا مانع من تقييده بالروايات الواردة في باب الشكّ من الاحتياط بالبناء على الأكثر والإتيان بالمشكوك بعد التسليم مفصولة ، فدلالة الرواية على الاستصحاب وموافقتها مع مذهب الخاصّة لا إشكال فيها.

ويرد عليه : أنّ معنى دلالة قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» على الاستصحاب هو عدم الإتيان بالركعة المشكوكة في صورة الشكّ ، فلا بدّ من الإتيان بها متّصلة ، وهو موافق لمذهب العامة ، فكيف يمكن الجمع بين الرواية الصحيحة والروايات الواردة في الباب بالإطلاق والتقييد بعد منافاتهما من حيث الدلالة بالاتّصال والانفصال؟

ومنها : ما ذكره استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره بقوله : «وهو أن يراد من اليقين والشكّ في جميع الجمل نفس حقيقتهما الجامعة بين الخصوصيّات والأفراد كما هو ظاهرهما ، ولا ينافي ذلك اختلاف حكمهما باختلاف الموارد.

فيقال : إنّ طبيعة اليقين لا تنقض بالشكّ ، ولعدم نقضها به فيما نحن فيه مصداقان:

الأوّل : عدم نقض اليقين بالركعات المحرزة وعدم إبطالها لأجل الشكّ في الركعة الزائدة.

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٢٩٤.

١٣٤

والثاني : عدم نقض اليقين بعدم الركعة الرابعة بالشكّ في إتيانها ، وكلاهما داخلان تحت حقيقة عدم نقض اليقين بالشكّ.

وعدم إدخال حقيقة الشكّ في اليقين ، وعدم خلط أحدهما بالآخر له أيضا مصداقان :

أحدهما : عدم الاكتفاء بالركعة المشكوك فيها من تدارك.

وثانيهما : عدم إتيان الركعة المضافة المشكوك فيها متّصلة بالركعات المحرزة.

هذا إذا لم نقل بظهور النهي عن الإدخال والخلط في الفصل الاختياري ، وإلّا يكون له مصداق واحد.

«ولكنّه ينقض الشكّ باليقين» بالإتيان بالركعة المتيقّنة ، وعدم الاعتداد بالمشكوك فيها.

«ويتمّ على اليقين» بإتيان الركعة اليقينيّة ، وعدم الاعتداد بالمشكوك فيها.

و«لا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات» وعدم الاعتداد به فيما نحن فيه هو بالبناء على عدم الركعة المشكوك فيها ، والإتيان بالركعة.

وعلى هذا تكون الرواية مع تعرّضها للمذهب الحقّ ـ أي الإتيان بالركعة منفصلة ـ متعرّضة لعدم إبطال الركعات المحرزة ، واستصحاب عدم الركعة المشكوك فيها ، وتكون على هذا من الأدلّة العامة لحجّيّة الاستصحاب».

ثمّ ذكر قدس‌سره مؤيّدات ومرجّحات لبيانه ، وقال : «وهذا الاحتمال أرجح من سائر الاحتمالات ؛ أمّا أوّلا فلعدم التفكيك حينئذ بين الجمل ؛ لحمل الرواية على بيان قواعد كلّيّة ، هي عدم نقض اليقين بالشكّ ، وعدم إدخال الشكّ في اليقين ونقض الشكّ باليقين ، وعدم الاعتداد بالشكّ في حال من الأحوال ،

١٣٥

وهي قواعد كلّيّة يفهم منها حكم المقام لانطباقها عليه.

وأمّا ثانيا فلحفظ ظهور اللام في الجنس ، وعدم حملها على العهد ، وحفظ ظهور اليقين بإرادة نفس الحقيقة ، لا الخصوصيّات والأفراد.

وأمّا ثالثا فلحفظ الظهور السياقي ؛ فإنّ الظاهر أنّ قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» في جميع الروايات يكون بمعنى واحد ، هو عدم رفع اليد عن اليقين بمجرّد الشكّ ، والاستصحاب أحد مصاديق هذه الكلّيّة ، تأمّل.

نعم ، لا يدخل الشكّ الساري فيها ؛ لأنّ الظاهر فعليّة الشكّ واليقين ، كما في الاستصحاب وفي الركعات الغير المنقوضة بالركعة المشكوك فيها ، وأمّا في الشكّ الساري فلا يكون اليقين فعليّا» هذا تمام كلامه قدس‌سره.

والتحقيق : أنّ هذا البيان مع دقّته لا يخلو عن إشكال ؛ فإنّا ذكرنا أنّ قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ» حكم من أحكام نفس اليقين والشكّ بلا دخل للمتيقّن وقابليّته للاستمرار وعدمه في هذا الحكم ، ومعناه ـ على ما ذكره المحدّث الكاشاني قدس‌سره في هذه الرواية ـ أن لا يبطل الركعات المتيقّنة بالشكّ في إتيان الركعة الرابعة.

ولا يمكن استعمال كلمة «اليقين» في الجملة الواحدة في نفس اليقين بما هو يقين وفي المتيقّن ـ أي الركعات المحرزة ـ وإن كان المراد من اليقين جنسه وطبيعته ؛ لعدم تحقّق قدر الجامع بين المصداقين المذكورين في كلامه.

ومنها : ما ذكره بعض الأعاظم ، وهو أنّ معنى قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» هو استصحاب عدم الإتيان بالركعة الرابعة ، ولازم ذلك الإتيان بها متّصلة ، إلّا أنّ المصلّي في صورة اليقين بعدم الإتيان بها لا بدّ له من الإتيان بها متّصلة ، وفي صورة الشكّ لا بدّ له من ملاحظة الروايات الواردة في باب صلاة

١٣٦

الاحتياط الدالّة على إتيانها منفصلة.

فيكون موضوع صلاة الاحتياط مركّب من الجزءين :

أحدهما : الشكّ في إتيان الركعة الرابعة.

وثانيهما : عدم الإتيان بالركعة الرابعة ، والأوّل محرز بالوجدان ، والثاني محرز بالاستصحاب ، فبعد تحقّق كلا الجزءين يجب الإتيان بالركعة المشكوكة منفصلة.

ويؤيّد هذا المعنى بظهور قوله : «لا يدخل الشكّ في اليقين» ، وقوله : «لا يخلط أحدهما بالآخر» في الانفصال ، فلا إشكال في دلالة الرواية على الاستصحاب وعلى مذهب الحقّ» (١).

ويرد عليه : أوّلا : ـ بعد ما قال في جواب صاحب الكفاية قدس‌سره فليس التنافي بين الصحيحة على تقدير دلالتها على الاستصحاب وبين الروايات الأخر بالإطلاق والتقييد حتّى يجمع بينهما بتقييد الصحيحة بها ، بل التباين ؛ لدلالة الصحيحة على وجوب الإتيان بركعة اخرى متّصلة ، والروايات الأخر على وجوب الإتيان بها منفصلة ـ أنّ كون عدم الإتيان بالركعة الرابعة جزء الموضوع لانفصال الركعة مع كونه تمام الموضوع لاتّصال الركعة ـ كما هو الظاهر من الإشكال على المحقّق الخراساني قدس‌سره ـ كيف يتصوّر؟ وكيف يمكن الجمع بين كون شيء واحد جزء الموضوع لإتيان الركعة منفصلة وتمام الموضوع لضدّه؟

وثانيا : أنّ جعل الشكّ جزء الموضوع لصلاة الاحتياط واستصحاب عدم الإتيان جزء آخر ليس بصحيح ؛ فإنّ الاستصحاب حكم مترتّب على الشكّ

__________________

(١) مصباح الاصول ٣ : ٦٤.

١٣٧

ومتأخّر عنه ، لا أنّه واقع في عرضه ، ومعلوم أنّ الحكم والموضوع متغايران من حيث الرتبة ولا يمكن جعلهما في رتبة واحدة.

والتحقيق في الرواية ـ بعد ملاحظة المعاني والاحتمالات ـ : أنّه لا تقيّة فيها أصلا ، والشاهد عليه : أوّلا : بيان الإمام عليه‌السلام ـ بعد الجواب عن سؤال زرارة ـ فرعا آخر من قبل نفسه بقوله : «وإذا لم يدر في ثلاث أو في أربع وقد أحرز الثلاث ، قام فأضاف إليها اخرى» ، وهذا لا يناسب مقام التّقية.

وثانيا : أنّ قوله : «قام فأضاف إليها اخرى» ليس بمعنى القيام من القعود ؛ إذ يمكن أن يتحقّق الشكّ بين الثلاث والأربع في حال القيام ، بل بمعنى الابتداء في العمل الجديد بعد الفراغ عن العمل السابق ، فهذا شاهد على الإتيان بالركعة منفصلة.

ثمّ إنّ قوله : «ولا ينقض اليقين بالشكّ ، ولا يدخل الشكّ في اليقين ، ولا يخلط أحدهما بالآخر» تعبيرات مختلفة بالنسبة إلى الاستصحاب ، وتوهّم ارتباط قوله : «لا يدخل» وقوله «لا يخلط» بغير الاستصحاب لا يناسب قوله : «ولكنّه ينقض الشكّ باليقين» ؛ لبداهة ارتباطه بالاستصحاب ، ولا معنى لذكر الجملتين الغير المرتبطين بين ما يرتبط به.

فالحاصل : أنّ هذه الجملات وما في قوله : «ويتمّ على اليقين فيبني عليه ، ولا يعتدّ بالشكّ في حال من الحالات» مربوط بالاستصحاب بلا اختلاف فيها ، فلا شبهة في دلالة الرواية على الاستصحاب.

ومنها : موثّقة إسحاق بن عمّار عن أبي الحسن عليه‌السلام قال : «إذا شككت فابن على اليقين». قلت : هذا أصل؟

قال : «نعم» (١).

__________________

(١) وسائل الشيعة ٥ : ٣١٨ ، الباب ٨ من أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، الحديث ٢.

١٣٨

ودلالتها على الاستصحاب ظاهرة ؛ لظهورها في فعليّة الشكّ واليقين مع وحدة المتعلّق ، فلا تنطبق إلّا على الاستصحاب ؛ إذ المراد منها البناء على المتيقّن والإتيان بالمشكوك فيها منفصلة ، لأجل الأخبار الخاصّة ، ولا اختصاص لها بالشكّ في عدد الركعات ، بل قاعدة كلّيّة في باب الصلاة وغيرها ممّا شكّ فيه ، فإنّ الاختصاص يوجب الالتزام إمّا بحملها على التقيّة ، وإمّا بدلالتها على عدم الإتيان بالركعة المشكوكة وإتيانها منفصلة بالأدلّة الخاصّة ، والأوّل خلاف الظاهر ، والثاني ممّا لا ينافي الاستصحاب.

وليس المراد من اليقين هو اليقين بالبراءة بالبناء على الأكثر ، والإتيان بالمشكوك فيها منفصلة على ما ذكره الشيخ قدس‌سره ؛ إذ مع كونه خلاف الظاهر تحقّق في نفس الموثّقة ظهور في أنّ المراد من اليقين هو اليقين الموجود ، لا تحصيل اليقين فيما بعد ؛ فإنّ قوله : «فابن على اليقين» أمر بالبناء على اليقين ، لا أمر بتحصيل اليقين.

فدلالتها على الاستصحاب ممّا لا إشكال فيه.

ومنها : ما عن الخصال بسنده عن محمّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : من كان على يقين فشكّ فليمض على يقينه ؛ فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين» (١).

وفي نسخة اخرى : «من كان على يقين فأصابه شكّ فليمض على يقينه ، فإنّ اليقين لا يدفع بالشكّ» (٢).

واستشكل في دلالتها على حجّيّة الاستصحاب بأنّ صريحها سبق زمان

__________________

(١) الخصال : ٦١٩ ، الوسائل ١ : ١٧٥ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ٦.

(٢) الإرشاد للمفيد : ١٥٩ ، مستدرك الوسائل ١ : ٢٢٨ ، الباب ١ من أبواب الوضوء ، الحديث ٤.

١٣٩

اليقين على زمان الشكّ ، فهي دليل على قاعدة اليقين ؛ لاعتبار تقدّم اليقين على الشكّ فيها ، كأنّه قال : «من كان على يقين فتبدّل يقينه إلى الشكّ» بخلاف الاستصحاب ، فإنّ المعتبر فيه كون المتيقّن سابقا على المشكوك فيه ، أمّا اليقين والشكّ فقد يكونان متقارنين في الحدوث ، كحصول اليقين عند الغروب بطهارة الثوب عند الزوال ، والشكّ في بقائها الآن ، بل قد يكون الشكّ سابقا على اليقين كالشكّ في نجاسة الثوب عند الغروب بدون الالتفات إلى نجاسته وطهارته عند الزوال ، وبعد مضي زمان يحصل له اليقين بأنّه كان نجسا عند الزوال ، فلا ترتبط الرواية بالاستصحاب.

وأجاب عنه صاحب الكفاية بما حاصله : أنّ اليقين طريق إلى المتيقّن ، والمتداول في التعبير عن سبق المتيقّن على المشكوك فيه هو التعبير بسبق اليقين على الشكّ ؛ لما بين اليقين والمتيقّن من نحو من الاتّحاد ، فالمراد هو سبق المتيقّن على المشكوك فيه (١).

ولكنّه ليس بتامّ ؛ إذ قلنا سابقا : إنّ قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» في صحيحة زرارة نظير قولنا : «اليقين حجّة» ، كما أنّ الحجّيّة وصف عارض على نفس اليقين ، لا على المتيقّن كالطهارة والعدالة ونحو ذلك ، كذلك عدم جواز النقض حكم عارض على نفس اليقين والشكّ ، لا على المتيقّن. وكذا في هذه الرواية لا دليل على كون اليقين والشكّ بمعنى المتيقّن والمشكوك وإن كان بينهما نحو من الاتّحاد ، واليقين هو اليقين الطريقي ، ولكن لا مناسبة لأن يكون التقدّم والتأخّر الزماني بالنسبة إلى المتيقّن والمشكوك.

والتحقيق في الجواب أنّه : سلمنا ظهور قوله : «من كان على يقين فشكّ» في

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٢٩٦.

١٤٠