دراسات في الأصول - ج ٤

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-95-8
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٤٨٠

التعادل والتراجيح

لا يخفى أنّ هذا البحث من أهمّ المسائل الاصوليّة ؛ لشدّة ارتباطه وتأثيره في المسائل الفقهيّة ، ويستفاد من كلام صاحب الكفاية قدس‌سره التفاته إلى أمرين مهمّين :

الأوّل : جعله هذا البحث بعنوان مقصد من مقاصد علم الاصول ـ بخلاف من جعله خاتمة له المشعر بكونه خارجا عنه ـ ولعلّ شدّة ارتباطه بالفقه يوجب القول بأنّه من أهمّ مقاصد علم الاصول.

الثاني : جعله عنوان البحث أنّه في تعارض الأدلّة والأمارات ، ومعلوم أنّ المراد من الأمارات هي الأمارات المعتبرة ، وأنّ التكليف في صورة تعارض الدليلين والأمارتين ما هو؟ وهذا العنوان عامّ يشمل تعارض الروايات وغيرها ، ولا فرق بين الدليل والأمارة بحسب اصطلاح أكثر الاصوليّين ، والتعبير بالدليل الاجتهادي إذا كانت الطرق المعتبرة مربوطة بالأحكام وبالأمارة المعتبرة إذا كانت مربوطة بالموضوعات اصطلاح خاص للشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره.

ولكن مع عموميّة عنوان البحث يقتضي أمران اختصاص البحث وتمركزه في الروايات الأول : استفادة أكثر المسائل الفقهيّة من الروايات.

الثاني : اختصاص المرجّحات المذكورة في الأخبار العلاجيّة بالخبرين

٣٦١

المتعارضين ، وإن لم يكن جريان بعض المباحث في غير الخبرين المتعارضين قابلا للإنكار كالبحث في أنّ مقتضى القاعدة في باب التعارض ما هو؟

ولا بدّ من التكلّم في موضوع التعارض وتعريفه أوّلا ، وفي حكمه ، من التساقط أو الأخذ بأحدهما تعيينا أو تخييرا ثانيا ، فنقول : إنّ المذكور في الروايات عنوان «حديثان متعارضان» وعنوان «حديثان مختلفان» ، ولا فرق بينهما بحسب نظر العرف المتّبع هنا.

والمستفاد من الكفاية أنّ التعارض على نوعين ؛ لكونه حقيقيّا وعرضيّا ، والحقيقي : عبارة عن التنافي بين الدليلين بنحو التضادّ أو التناقض ، كما إذا دلّ أحدهما على وجوب الدعاء عند رؤية الهلال ، والآخر على عدم وجوبه ، أو على حرمته.

والمراد من التعارض العرضي : ما كان التنافي بينهما من جهة أمر خارج عن مدلولهما العرفي كالعلم الإجمالي بعدم مطابقة أحدهما للواقع ، كما إذا دلّ دليل على وجوب صلاة الجمعة يوم جمعة تعيينا ، والآخر على وجوب صلاة الظهر فيه كذلك ؛ فإنّه لا منافاة بينهما بحسب المفهوم العرفي ؛ لإمكان وجوب كلتيهما ، إلّا أنّا نعلم ـ بالضرورة من الدين ـ عدم وجوب ستّ صلوات في يوم واحد ، ولأجل هذا العلم يكون الدليل ـ الدال على وجوب صلاة الجمعة ـ نافيا لوجوب صلاة الظهر بالالتزام ، والدّليل على وجوب صلاة الظهر نافيا لوجوب صلاة الجمعة كذلك.

إذا عرفت هذا فيقع البحث :

أوّلا : أنّ التنافي بالعرض هل يكون عند العرف تعارضا أم لا؟ والظاهر أنّ العرف يحكم بالتعارض بين الدليلين المذكورين بلا ريب.

٣٦٢

وثانيا : أنّ موارد التخصيص هل تكون بنظر العرف من مصاديق التعارض أم لا؟ مع أنّا نرى وجود تخصيص العمومات القرآنيّة كتخصيص قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) بقوله تعالى : (أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) ، مع ملاحظة نفي الاختلاف والتعارض عن القرآن بقوله تعالى : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) ، فكيف لا يكون العامّ والخاصّ في القرآن موجبا للاختلاف؟

ومن هنا نستفيد أنّ موارد العامّ والخاصّ خارجة عن التعارض بنظر العرف.

توضيح ذلك : أنّ التعارض بين العامّ والخاصّ بنظر العقل والمنطق لا شبهة فيه ؛ إذ السالبة الجزئيّة نقيض الموجبة الكلّيّة ، والموجبة الجزئيّة نقيض السالبة الكلّيّة ، وهذه نسبة بين العامّ والخاصّ بحسب النوع والغالب.

وأمّا بنظر العرف فيتحقّق التعارض بين العامّ والخاصّ في كثير من الموارد والاستعمالات ، كالمحاورات والمكاتبات العاديّة حتى في الرسائل العمليّة ، ولكن لا يتحقّق التعارض والتنافي بين العامّ والخاصّ بنظر العرف في محيط التقنين ومقام جعل القانون ، بل الشائع بين العقلاء في مقام التقنين هو إلقاء حكم بصورة العموم ثمّ استثناء موارد منه بعنوان التبصرة ، وما يعبّر عنه في الاصطلاح بالتخصيص ، ولا يكون بنظر العقلاء والعرف بين التبصرة وأصل القانون تنافيا وتعارضا ، فلذا قلنا في بحث العامّ والخاصّ : إنّ التخصيص لا يستلزم التجوّز في العامّ ؛ لكونه موجبة لمحدوديّة الإرادة الاستعماليّة فقط ، وتعلّق المراد الجدّي بما عدى مورد التخصيص.

ولذلك يتوقّف التمسّك بالعمومات القانونيّة على الفحص عن المخصّص

٣٦٣

واليأس عن الظفر به ، بخلاف غيرها من العمومات ؛ إذ المخصّص يكون مبيّنا للعمومات القانونيّة وموضحا لها لا منافيا لها ، ومحلّ البحث والكلام هنا هي مسألة التقنين والتشريع ، فتكون علّة تقدّم الخاصّ على العامّ هو عدم رؤية العرف والعقلاء التنافي والتعارض بينهما في مقام التقنين وإن كان ظهور الخاصّ أضعف من ظهور العامّ.

ولكن كان لأعاظم الفن هنا كلمات وأقوال متعدّدة ولا بدّ من ملاحظتها :

ومنها : ما ذكره الشيخ الأعظم الأنصاري قدس‌سره بعد بيان عناوين التخصيص والورود والحكومة : «أنّ ما ذكرنا ـ من الورود والحكومة ـ جار في الاصول اللفظيّة أيضا ؛ فإنّ أصالة الحقيقة أو العموم معتبرة إذا لم يعلم هناك قرينة على المجاز».

وتعبيره بالمجاز فقط مع ذكره في العنوان أصالة العموم أيضا ؛ لأنّه قائل بأنّ التخصيص في العامّ مستلزم للمجازيّة ، وتكون أصالة العموم من مصاديق أصالة الحقيقة ، فيكون للعامّ والخاصّ أيضا المعنى الحقيقي والمعنى المجازي ، واكتفاؤه في العنوان ـ بقرينة المجاز ـ مبتن على هذا القول ، فأصالة العموم أيضا معتبرة ما إذا لم يعلم التخصيص.

ثمّ قال : «فإن كان المخصّص ـ مثلا ـ دليلا علميّا كان واردا على الأصل المذكور ، فالعمل بالنصّ القطعيّ في مقابل الظاهر كالعمل بالدليل العلميّ في مقابل الأصل العمليّ».

ويرد عليه : أنّ تسمية هذا بالورود ليس بصحيح ؛ لكونه تخصّصا ، والفرق بينهما كما ذكرنا : أنّ التخصّص خروج موضوعي واقعا وتكوينا ، مثل خروج الجاهل عن عموم أكرم العلماء ، وأمّا الورود فهو خروج موضوعي بمعونة

٣٦٤

التعبّد ، مثل ورود الرواية المعتبرة على حديث الرفع ، فإنّ معنى قوله : «لا يعلمون» ، ـ أي ما لا يكون لله على المكلّف حجّة ، لا اليقين الوجداني ، وإذا دلّ الخبر الواحد على وجوب شيء فهو حجّة تعبّدا ، وإذا علمنا بتخصيص العامّ لا نحتاج إلى التعبّد ؛ فإنّ حجّيّة أصالة العموم متوقّفة على عدم العلم بالتخصيص ، وبعد العلم به يكون اسمه بحسب الاصطلاح تخصّصا.

ثمّ قال : وإن كان المخصّص ظنّيا معتبرا كان حاكما على الأصل ؛ لأنّ معنى حجّيّة الظنّ جعل احتمال مخالفة مؤدّاه للواقع بمنزلة العدم ـ أي افرض نفسك كأنّك متيقّن ـ في عدم ترتّب ما كان يترتّب عليه من الأثر لو لا حجّيّة هذه الأمارة ، وهو وجوب العمل بالعموم ؛ فإنّ الواجب عرفا وشرعا العمل بالعموم عند احتمال وجود المخصّص وعدمه ، فعدم العبرة باحتمال عدم التخصيص إلغاء للعمل بالعموم ـ أي افرض كأنّك عالم بالتخصيص في جوّ التعبّد ـ فثبت أنّ النصّ وارد على أصالة الحقيقة إذا كان قطعيّا من جميع الجهات ، وحاكم عليه إذا كان ظنيّا في الجملة ، كالخاصّ الظنّيّ السند مثلا.

ثمّ قال : ويحتمل أن يكون الظنّيّ أيضا واردا ، بناء على كون العمل بالظاهر عرفا وشرعا معلّقا على عدم التعبّد بالتخصيص ، فحالها حال الاصول العقليّة ـ أي أصالة العموم معتبرة عند عدم التعبّد بالتخصيص ، وإذا تحقّقت الرواية الظنيّة السند تحقّق التعبّد على التخصيص تكوينا وواقعا ، فتكون واردة على العموم كورودها على قاعدة قبح العقاب بلا بيان.

وقوله : «فتأمّل» ، لعلّه إشارة إلى عدم قبول هذا الاحتمال عنده.

ثمّ قال : هذا كلّه على تقدير كون أصالة الظهور من حيث أصالة عدم القرينة ، وأمّا إذا كام من جهة الظنّ النوعيّ الحاصل بإرادة الحقيقة ـ الحاصل

٣٦٥

من الغلبة أو من غيرها ـ فالظاهر أنّ النصّ وارد عليها مطلقا وإن كان النصّ ظنّيا ؛ لأنّ الظاهر أنّ دليل حجّيّة الظنّ الحاصل بإرادة الحقيقة ـ الذي هو مستند أصالة الظهور ـ مقيّد بصورة عدم وجود ظنّ معتبر على خلافه ، فإذا وجد ارتفع موضوع ذلك الدليل ، نظير ارتفاع موضوع الأصل بالدليل.

ثمّ قال : ويكشف عمّا ذكرنا أنّا لم نجد ولا نجد من أنفسنا موردا يقدّم فيه العامّ ـ من حيث هو ـ على الخاصّ وإن فرض كونه أضعف الظنون المعتبرة ، فلو كان حجّيّة ظهور العامّ غير معلّق على عدم الظنّ المعتبر على خلافه ، لوجد مورد يفرض فيه أضعفيّة مرتبة ظنّ الخاصّ من ظنّ العامّ حتّى يقدّم عليه ، أو مكافئته له حتّى يتوقّف ، مع أنّا لم نسمع موردا يتوقّف في مقابلة العامّ من حيث هو والخاصّ ، فضلا عن أن يرجّح عليه. نعم ، لو فرض الخاصّ ظاهرا أيضا خرج عن النصّ ، وصار من باب تعارض الظاهرين ، فربّما يقدّم العامّ(١).

وحاصل كلامه قدس‌سره : أنّ المخصّص إن كان قطعيّا من جميع الجهات يكون تقدّمه على العامّ بنحو الورود ، وإن كان ظنيّا من حيث السند يكون تقدّمه عليه بنحو الحكومة أو الورود ، وإن كان ظنّيا من حيث الدلالة قد يكون مقدّما عليه وقد يتحقّق التعارض بينهما ، وقد يكون العامّ مقدّما عليه.

ويرد عليه : أوّلا : أنّ التخصيص لا يكون مستلزما للمجازيّة في العامّ على ما هو التحقيق كما مرّ في مباحث الألفاظ تفصيله.

وثانيا : أنّ مرجع الاصول اللفظيّة ـ كأصالة العموم ، وأصالة الحقيقة ، وأصالة الإطلاق ، وأصالة عدم القرينة ـ إلى أصالة الظهور ، وأنّها من شعبها لا في مقابلها ، فالأصل العقلائيّ المعتبر عند العقلاء هو أصالة الظهور ، ولكنّها

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ١٥ ـ ١٧.

٣٦٦

قد تتحقّق في الاستعمالات في المعنى الحقيقي ، مثل «رأيت أسدا» ، تسمّى بأصالة الحقيقة ، وقد تتحقّق في المعنى المجازي ، مثل : رأيت أسدا يرمي» ، ـ فكما أنّ قولنا : «رأيت أسدا» ظاهر في المعنى الحقيقيّ ، كذلك قولنا : «رأيت أسدا يرمي» ظاهر في المعنى المجازي بلحاظ أقوائيّة ظهور القرينة فيه ـ وقد تتحقّق في المعنى العامّ فتسمّى بأصالة العموم ، وقد تتحقّق في المعنى المطلق فتسمّى بأصالة الإطلاق ، ويكون تعدّد الأسامي بلحاظ اختلاف الموارد ، مع تحقّق أصالة الظهور في الاستعمالات المجازيّة أيضا.

فلا مجال للبحث من كون حجّيّة أصالة الظهور من باب أصالة عدم القرينة أو من باب الظنّ النوعيّ بإرادة الحقيقة ؛ لعدم اختصاصها في المعنى الحقيقي ، فالأصل العقلائي المعتبر الشائع في المحاورات عبارة عن أصالة الظهور.

وثالثا : أنّه على فرض إثبات حجّيّة أصالة الظهور واعتبارها من باب الظنّ النوعي عند العقلاء ، والمفروض أنّ الدليل العمدة لحجّيّة المخصّص مثل الخبر المعتبر هو بناء العقلاء بضميمة عدم ردع الشارع ، فيكون بناء العقلاء ملاك الحجّيّة في كليهما ، ولا دليل لإطلاق دائرة حجّيّة أحدهما وتقييد دائرة حجّيّة الآخر بعدم الظنّ على خلافه.

ورابعا : أنّ ما استفاده بعنوان النتيجة والقول بأنّ تقيّد حجّيّة هذا الظنّ النوعيّ دليل على عدم وجداننا موردا يقدّم فيه العامّ على الخاصّ ليس بصحيح ؛ إذ دليل تقديم الخاصّ على العامّ عند العقلاء ـ كما ذكرنا ـ أنّهم لا يروون في مقام التقنين وجعل القانون بينهما مغايرة واختلافا ، بل الخاصّ بيان للعامّ ، فلا تصحّ المقايسة بينهما من حيث أقوائيّة الظهور والتكافؤ ، فيقدّم الخاصّ وإن كان في أدنى مرتبة الظهور ، فما ذكره قدس‌سره

٣٦٧

من التفصيل لا يكون قابلا للالتزام.

ويستفاد من كلام صاحب الكفاية قدس‌سره : أنّ دليل تقدّم الخاصّ على العامّ أنّ الخاصّ إمّا نصّ بالنسبة إليه ، وإمّا أظهر ، وبناء العقلاء على كون النصّ أو الأظهر قرينة على التصرّف في الظاهر ، فيكون المخصّص أبدا أقوى ظهورا فلذا يقدّم على العامّ (١).

وجوابه : أنّ كلّيّة هذا المعنى لا تكون قابلة للقبول ؛ إذ لا يتصوّر أظهريّة المخصّص في بعض الموارد ، كما إذا قال المولى : «أكرم كلّ عالم» ، ثمّ قال : «أهن كلّ عالم فاسق» ؛ إذ لا فرق بينهما من حيث ظهور الألفاظ ومقام الدلالة ، وإن كان انطباق الخاصّ على مورده أوضح وأظهر من انطباق العامّ بلحاظ قلّة المصداق ، ولكنّه لا يرتبط بمقام الدلالة وظهور اللفظ ، فلا تكون أقوائيّة ظهور الخاصّ بنحو الكلّي ، وطريق تقديم الخاصّ بنحو الكلّي منحصر بما ذكرناه.

ويستفاد من كلام المحقّق النائيني قدس‌سره : أوّلا : ما يكون بمنزلة الصغرى ، وهو : أنّ الخاصّ يكون قرينة على التصرّف في ظهور العامّ وعدم إرادة ظهوره ؛ فإنّه قطعيّ الدلالة.

وثانيا : ما يكون بمنزلة الكبرى ، وهو : أنّ الظهور في كلّ قرينة يكون حاكما على أصالة الظهور في ذي القرينة ، وعلّة تقدّمه عليها عبارة عن الحكومة ، وإن كان ظهور القرينة أضعف من ظهور ذي القرينة ، مثل تقدّم ظهور كلمة «يرمي» في قولنا : «رأيت أسدا يرمي» على ظهور كلمة «الأسد» مع أنّ ظهوره أضعف من كلمة الأسد في المعنى الحقيقيّ ؛ فإنّه ظهور إطلاقي بخلاف ظهور كلمة الأسد ؛ لكونه ظهورا وضعيّا ، وأقوائيّة الظهور الوضعيّ بالنسبة

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٣٨١.

٣٦٨

إلى الظهور الإطلاقي ممّا لا ريب فيه ، ومع ذلك يكون مقدّما عليه من باب حكومة أصالة الظهور في القرينة على أصالة الظهور في ذي القرينة عند العقلاء ؛ لكونها مفسّرا ومبيّنا لذيها(١).

والإشكال عليه يتوقّف على بيان مقدّمة ، وهي : أنّ مورد جريان الاصول ـ لفظيّة كانت أو عمليّة ، شرعيّة كانت أو عقلائيّة ـ عبارة عن صورة الشكّ ، ولا مجال لجريانها في صورة اليقين بالمراد ، فكما لا مجال للتمسّك بأصالة الطهارة في صورة العلم بطهارة شيء أو العلم بنجاسته ، وكذلك لا مجال للتمسّك بأصالة الظهور في صورة العلم بمراد المتكلّم من قوله : «رأيت أسدا» بأيّ طريق ، وأنّه الحيوان المفترس أو الرجل الشجاع.

إذا عرفت ذلك فنقول : يمكن القول بأنّ كلمة «الأسد» في المثال تكون قرينة على التصرّف في كلمة «يرمي» لا بالعكس ؛ إذ التصرّف في الظهور الإطلاقي أولى وأسهل من التصرّف في الظهور الوضعيّ ، فيكون معناه في الواقع رأيت أسدا يرمي بالمخلب ؛ إذ الأسديّة تلازم الرمي بالمخلب ، فلا دليل لأن تكون كلمة «يرمي» قرينة ، وكلمة «الأسد» ذي القرينة.

إن قلت : علمنا بقرينيّة كلمة «يرمي» بطريق من الطرق.

قلت : إذا كنت عالما بالقرينة فلا مجال للتمسّك بأصالة الظهور ، ولا تصل النوبة إليها ، وحكومة أصالة الظهور في القرينة على أصالة الظهور في ذيها ، فإنّ مورد جريانها صورة الشكّ في مراد المتكلّم ، وبعد إحراز القرينة لا يبقى مجال للشكّ في القرينيّة ، فلا مجال لجريان أصالة الظهور والتمسّك بها حتّى نقول بحكومة أحد الأصلين على الآخر ، وإذا لم تكن القرينيّة محرزة فلا أثر

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٧٢٣ ـ ٧٢٥.

٣٦٩

للحاكميّة والمحكوميّة.

والتحقيق : أنّ الملاك في تشخيص القرينيّة منحصر في أقوائيّة الظهور ، وكلمة «يرمي» في المثال تكون أقوى ظهورا في الرمي بالنبل عند العرف ، ولعلّه كان منشأ ضعف ظهور كلمة «الأسد» شيوع استعمالها في المعنى المجازي ، فيصير الظهور الوضعي بلحاظ غلبة الاستعمال في المجاز موهونا في مقابل الظهور الإطلاقي ، ولا تتحقّق قاعدة كلّيّة لأقوائيّة الظهور ؛ لاختلافها بحسب المقامات والموارد ، فإذا كان الملاك لتشخيصها أقوائيّة الظهور فلا يبقى مجال للحاكميّة ، وبهذا الملاك يكون الخاصّ مقدّما على العامّ ، هذا أوّلا.

وثانيا : لو سلّمنا كلّيّة تقدّم أصالة الظهور في القرينة على أصالة الظهور في ذي القرينة بنحو الحكومة لا يصحّ الالتزام بكون الخاصّ ، قرينة على التصرّف في العامّ وفي مقابل العامّ ؛ لعدم مغايرته معه وعدم التنافي بينهما ، كما ذكرنا أنّ التخصيص لا يستلزم المجازيّة في العامّ ؛ إذ التخصيص تضييق في دائرة المراد الجدّي للمتكلم ، ولا دخل له في المراد الاستعمالي والإرادة الاستعماليّة والمستعمل فيه ، ولا فرق من هذه الجهة بين العامّ المخصّص وغيره ، كما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره.

وذكرنا أيضا أنّ عدم التنافي والتعارض مختصّ بمقام جعل القانون ومحيط التقنين ، ولا يتحقّق في المحاورات العرفيّة والتأليفات والتصنيفات والرسائل العمليّة ؛ فإنّ الفقيه لا يكون مقنّنا ، بل هو في مقام الإخبار عمّا استنبطه من القانون ، فلا ينبغي له الحكم في مورد بخلاف ما حكم به بنحو العموم ؛ إذ يتحقّق التنافي بينهما لدى العرف والعقلاء.

وأمّا الشائع في مقام التقنين فهو جعل القانون بنحو العموم ، ثمّ إلحاق

٣٧٠

التخصيص والتبصرة به بحسب اقتضاء الشرائط والموارد ، وربّما لا يلتفت المقنّن في حال جعل القانون إلى موارد التبصرة والتخصيص ، مع ذلك قابليّة إلحاق التبصرة لكلّ قانون محفوظة ، فلذا نرى إلحاق التبصرة إليه تدريجا بعد الالتفات إلى مواردها ، فلا منافاة بين العامّ والخاصّ عند العقلاء في محيط التقنين حتى يكون الخاصّ قرينة على التصرّف فيه.

نكتة : ذكرنا فيما تقدّم أنّ الاصول اللفظيّة ـ مثل أصالة الحقيقة وأصالة العموم وأصالة عدم القرينة وأصالة الإطلاق ـ من شعب أصالة الظهور ، وأنّها لا تختصّ في الاستعمالات الحقيقيّة ، بل تجرى في الاستعمالات المجازيّة أيضا ، فلا تجرى أصالة الظهور لتشخيص صغرى الظهور ، وأنّ هذا المعنى ظاهر من هذا اللفظ أم لا ، بل تجري لتشخيص الكبرى ، ومعناها أصالة كون الظهور مرادا جدّيّا للمتكلّم ، ويعبّر عنها بأصالة التطابق بين الإرادة الاستعماليّة والإرادة الجديّة ، فلا يصحّ أن يكون مستند أصالة الظهور هو أصالة عدم القرينة ؛ إذ تتحقّق في مثل قولنا : «رأيت أسدا يرمي» أصالة الظهور ، بخلاف أصالة عدم القرينة ، بل يكون مستندها بناء العقلاء الثابت في الألفاظ والأعمال والأفعال ؛ لحملهم الأعمال الموجبة للوهن على الالتفات والإرادة الجديّة إلّا أن يتحقّق دليلا على الخلاف.

والحاصل : أنّ تقدّم الخاصّ على العامّ لا يكون بلحاظ أظهريّة الخاصّ ، ولا بلحاظ حكومة أصالة الظهور في الخاصّ على أصالة الظهور في العامّ ، بل لعدم المنافاة بينهما في محيط التقنين عند العقلاء ، فلا تشملهما الأخبار العلاجيّة من الترجيح والتخيير في صورة فقدان المرجّحات.

ولكن يستفاد من كلام صاحب الكفاية قدس‌سره ـ بعد الاعتراف بعدم تحقّق

٣٧١

المنافاة والتعارض بينهما وبمساعدة نظر المشهور لهذا المعنى ـ أنّ شمول الأخبار العلاجيّة لهما يمكن أن يكون لأحد الامور التالية :

الأوّل : أن يكون السؤال فيها بملاحظة التحيّر في الحال والنظر البدوي ؛ لأجل ما يتراءى من المعارضة وإن كان يزول عرفا بحسب المآل.

الثاني : أن يكون السؤال للتحيّر في الحكم واقعا وإن لم يتحيّر فيه ظاهرا ، وهو كاف في صحّة السؤال قطعا.

الثالث : أن يكون السؤال لاحتمال الردع شرعا عن هذه الطريقة المتعارفة بين أبناء المحاورة في المعاملة مع العامّ والخاص. وجلّ العناوين المأخوذة في أسئلة الأخبار العلاجيّة تعمّ هذه الامور كما لا يخفى. انتهى كلامه مع زيادة توضيح (١).

والتحقيق : أنّ هذا الكلام لا يكون قابلا للالتزام به ؛ إذ التحيّر الابتدائي الزائل بأدنى تأمّل لا يقتضي كونهما داخلين في عنوان المتعارضين حتى نحتاج إلى علاج التنافي والتعارض بالأخبار العلاجيّة ، بعد مرجعيّة النظر الدقّي للعرف في هذه الموارد لا نظره البدوي.

مع أنّا لا نرى في الأخبار العلاجيّة موردا كان السؤال فيه عن العامّ والخاصّ حتّى نقول بكون السائل متحيّرا في الحكم الظاهريّ والواقعيّ ، بل كان السؤال فيها عن مطلق الخبرين المتعارضين مع حجّيّة كليهما ووظيفة المكلّف بالنسبة إليهما.

على أنّه لا نجد في الأخبار العلاجيّة بعد التتبّع فيها من السؤال عن ردع الشارع عن الطريقة المتعارفة بين العقلاء بالنسبة إليهما وعدمه أثرا ولا خبرا.

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٤٠٢.

٣٧٢

وعلى فرض إمكان وجوده يمكن أن يكون جواب الإمام عليه‌السلام عدم الردع عن الطريقة المذكورة.

والمحقّق الحائرى قدس‌سره أيضا قائل بشمول الأخبار العلاجيّة للعامّ والخاصّ بعد الاعتراف بأنّ عدم تحقّق المعارضة بينهما من المرتكزات العرفيّة ، ولكن مع ذلك يقول بعدم استلزام هذا لحمل السؤالات الواردة في الأخبار على غير مورد العامّ والخاصّ ؛ إذ المرتكزات العرفيّة لا يلزم أن تكون مشروحة ومفصّلة عند كلّ أحد حتّى يرى السائل في هذه الأخبار عدم احتياجه إلى السؤال عن حكم العامّ والخاصّ المنفصل وأمثاله ؛ إذ ربّ نزاع بين العلماء يقع في الأحكام العرفيّة مع أنّهم من أهل العرف.

ثمّ قال : سلّمنا التفات كلّ الناس إلى هذا الحكم حتّى لا يحتمل عدم التفات السائلين في تلك الأخبار ، فمن الممكن السؤال أيضا لاحتمال عدم إمضاء الشارع هذه الطريقة.

وجوابه : أنّه سلّمنا عدم لزوم كون المرتكزات العرفيّة مشروحة ... ولكن لا نرى في الأخبار العلاجيّة أثر من السؤال عن كلّي العامّ والخاصّ ، ولا من مصاديقهما ، بل السؤال فيها عن الخبرين المتعارضين أو الحديثين المختلفين ، وعدم مشروحيّة المرتكز العرفي عند بعض أهل العرف لا يوجب أن يكون السؤال عن الخبرين المتعارضين شاملا للعامّ والخاصّ ، وعدم التفات السائل إلى ما هو المرتكز عند العرف.

ثمّ قال قدس‌سره : «ودعوى السيرة القطعيّة على التوفيق بين العامّ والخاصّ والمطلق والمقيّد من لدن زمان الأئمّة عليهم‌السلام ، وعدم رجوع أحد العلماء إلى المرجّحات الأخر يمكن منعها ، كيف؟ ولو كانت لما خفيت على مثل شيخ

٣٧٣

الطائفة قدس‌سره ، فلا يظن بالسيرة ، فضلا عن القطع ، بعد ذهاب مثله إلى العمل بالمرجّحات في تعارض النصّ والظاهر ، كما يظهر من عبارته المحكيّة عنه في الاستبصار والعدّة ، وقد نقل العبارتين شيخنا المرتضى الأنصاري قدس‌سره في رسالة التعادل والتراجيح (١) ، فلاحظ.

وجوابه : أنّ لازم عدم كون الخاصّ مخصّصا للعامّ أن لا يبقى مجال للبحث عن العامّ والخاصّ في علم الاصول ، ولا بدّ من ملاحظة المرجّحات فيهما وتقديم ذو المزيّة أو التخيير ، مع أنّا نرى عدم حذف شيخ الطائفة البحث المذكور عن كتاب العدّة ، ومعناه التزامه بتخصيص العامّ بالخاص.

على أنّه لا نرى في كتبه الفقهيّة من المبنى المذكور أثرا ولا خبرا ، مع أنّ لازم الالتزام به ترتّب أحكامه عليه في الفقه ، مع أنّه لا يستفاد من عبارة كتاب العدّة والاستبصار هذا المعنى.

ثمّ قال : ويؤيّد عموم الأخبار ما ورد في رواية الحميري عن الحجّة عليه‌السلام من قوله عليه‌السلام : «في الجواب عن ذلك حديثان : أمّا أحدهما فإذا انتقل من حالة إلى اخرى فعليه التكبير ، وأمّا الآخر فإنّه روي أنّه إذا رفع رأسه من السجدة الثانيّة وكبّر ثمّ جلس ثمّ قام فليس عليه في القيام بعد القعود تكبير ...» (٢).

ولا شكّ أنّ الثاني أخصّ من الأوّل مطلقا ، مع أنّه عليه‌السلام أمر بالتخيير بقوله في آخر الخبر : «وبأيّهما أخذت من باب التسليم كان صوابا».

وجوابه : أوّلا : أنّ مكاتبات الحميري من حيث السند مورد للإشكال ، كما ثبت في محلّه.

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ٨٢ ـ ٨٣.

(٢) الوسائل ١٨ : ٨٧ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٣٩.

٣٧٤

وثانيا : أنّ جواب الإمام عليه‌السلام : «بأيّهما أخذت من باب التسليم كان صوابا» ـ المشعر بعدم علم الإمام عليه‌السلام بحكم المسألة ـ في جواب السؤال عن حكم شخصيّ وواقعة شخصيّة لا يناسب مقامه عليه‌السلام.

وثالثا : أنّ حكم الإمام عليه‌السلام بالتخيير يكون في الواقع تقديم الخاصّ على العامّ وإلغاء الدليل العامّ ؛ فإنّ مفاده وجوب التكبير على من انتقل من حالة إلى اخرى ، ومفاد الخاصّ عدم وجوبه في ابتداء الركعة الثانية والثالثة.

ثمّ ذكر رواية اخرى تأييدا لما ادّعاه بقوله : «وكذا ما رواه عليّ بن مهزيار ، قال : قرأت في كتاب لعبد الله بن محمّد إلى أبي الحسن عليه‌السلام : اختلف أصحابنا في رواياتهم عن أبي عبد الله عليه‌السلام في ركعتي الفجر في السفر ، فروى بعضهم : «صلّهما في المحمل» ، وروي بعضهم : «لا تصلّهما إلّا على وجه الأرض ...» (١) ، وواضح أنّ الروايتين من قبيل النصّ والظاهر ؛ لأنّ الاولى نصّ في الجواز ، والثانيّة ظاهرة في عدمه ؛ لإمكان حملها على أنّ إيقاعها على الأرض أفضل ، مع أنّه عليه‌السلام أمر بالتخيير بقوله عليه‌السلام : «موسّع عليك بأيّة عملت».

والإشكال عليه أيضا ما ذكرناه من عدم تناسب الجواب بالتخيير في واقعة شخصيّة مع مقام الإمام كما لا يخفى ، فالسيرة المستمرّة القطعيّة محكمة في تقديم الخاصّ على العامّ بلا ريب كما ذهب إليه المشهور.

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٨٨ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٤.

٣٧٥
٣٧٦

فصل

في قاعدة الجمع مهما أمكن أولى من الطرح

ولا بدّ من البحث في القضيّة المشهورة ، وهي : أنّ الجمع بين الدليلين مهما أمكن أولى من الطرح ، والظاهر أنّ المراد من الطرح أعمّ من طرح أحدهما لمرجّح في الآخر ، فيكون الجمع مع التعادل أولى من التخيير ، ومع وجود المرجّح أولى من الترجيح ، كما يستفاد من كلام الشيخ ابن أبي جمهور الأحسائي في عوالي اللئالي ؛ فإنّه قال : «إنّ كلّ حديثين ظاهرهما التعارض يجب عليك : أوّلا : البحث عن معناهما وكيفيّة دلالة ألفاظهما ، فإن أمكنك التوفيق بينهما بالحمل على جهات التأويل والدلالات فاحرص عليه واجتهد في تحصيله ؛ فإنّ العمل بالدليلين مهما أمكن خير من ترك أحدهما وتعطيله بإجماع العلماء ، فإذا لم تتمكّن من ذلك ولم يظهر لك وجهه ، فارجع إلى العمل بهذا الحديث» ـ وأشار بهذا إلى مقبولة عمر بن حنظلة ـ انتهى (١).

ولا يخفى أنّ كلمة «أولى» في القاعدة بمعنى الأولويّة التعيّنيّة ، لا الأولويّة الرجحانيّة ، كما في قوله تعالى : (وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ)(٢) ،

__________________

(١) عوالي اللئالي ٤ : ١٣٦.

(٢) عوالى اللئالي ٤ : ١٣٦.

٣٧٧

فلا يبقى للترجيح بمفاد الأخبار العلاجيّة إلّا الموارد النادرة.

واستدلّ على القاعدة بهذا المعنى : أوّلا : بإجماع العلماء ، كما ذكره الأحسائي قدس‌سره. وجوابه : مع عدم شمول أدلّة الحجّيّة للإجماع المنقول بخبر واحد أنّ سيرة الأصحاب والعلماء في الفقه خلاف ذلك من حيث العمل والفتوى ؛ فإنّا نرى كثيرا ما تمسّكهم بالأخبار العلاجيّة في الخبرين المتعارضين مع إمكان الجمع بالمعنى المذكور ـ أي جهات من التأويل ـ فيهما ، فيلزم أن يكون مورد الأخبار العلاجيّة مع كثرتها في غاية القلّة.

وثانيا : بأنّ الأصل في الدليلين الإعمال ، فيجب الجمع بينهما بما أمكن ؛ لاستحالة الترجيح من غير مرجّح.

وجوابه ـ بعد عدم انطباقه على المدّعى ؛ فإنّ مفاد القاعدة تقدّم الجمع على الأخبار العلاجيّة وإعمال المرجّحات بلا فرق بين وجود الترجيح وعدمه ، ومفاد الدليل تقدّمه في صورة فقدان المرجّح ـ أنّ المراد من الدليلين إن كان الدليلين المتعارضين لا نسلّم أن يكون الأصل فيهما الإعمال ، بل الأصل فيهما التساقط بمقتضى حكم العقل كما ذكر في محلّه ، وإن كان الدليلين مع قطع النظر عن التعارض فلا يرتبط بالبحث.

وثالثا : بأنّ دلالة اللفظ على تمام معناه أصليّة وعلى جزئه تبعيّة ، وعلى تقدير الجمع يلزم إهمال الدلالة التبعيّة ، وهو أولى ممّا يلزم على تقدير عدمه ، وهو إهمال الدلالة الأصليّة.

وجوابه : أنّ هذا الدليل أيضا لا ينطبق على المدّعى ؛ فإنّ تمام المدلول وجزء المدلول يتصوّر في العامّ والخاصّ فقط ؛ إذ دلالة «أكرم العلماء» ـ مثلا ـ بالنسبة إلى مجموع أفراده دلالة أصليّة ، وبالنسبة إلى بعض أفراده دلالة تبعيّة ، فإذا

٣٧٨

كان الخاصّ مخصّصا للعامّ وخرج بعض الأفراد كالفسّاق عنه فيلزم إهمال الدلالة التبعيّة ، ولا يتصوّر هذا المعنى في مثل قوله : «تجب صلاة الجمعة» ، وقوله : «لا تجب صلاة الجمعة» ونحو ذلك ، مع كون الوجوب أمرا بسيطا كما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره

ومن هنا يستفاد أنّ مفاد القاعدة لا يكون شيئا جديدا ؛ إذ المراد من الجمع هو الجمع العقلائيّ والمقبول عند العقلاء ـ أي النصّ قرينة للتصرّف في الظاهر ، وهكذا الأظهر قرينة للتصرّف فيه ، والمقيّد قرينة للتصرّف في المطلق بعد ملاحظة التعارض البدوي بينهما ، وأمّا بالنسبة إلى العامّ والخاصّ فذكرنا في مقام التعليل لعدم شمول الأخبار العلاجيّة لهما أنّ التنافي والتعارض لا يتحقّق بينهما عند العرف ـ فإذا تحقّق الجمع العقلائي لا يتحقّق عنوان التحيّر والإبهام ، فلا محالة خارج عن دائرة الأخبار العلاجيّة ، والقاعدة بهذا المعنى لا تحتاج إلى دليل خاصّ وهي مورد قبول بلا إشكال ويساعدها العرف.

ولكن قد أتعب الشيخ الأنصاري قدس‌سره نفسه وأطال الكلام في فقدان الدليل الدال على القاعدة بمعناها المعروف ، وسلّم في خلال كلماته بجريانها في مورد بصورة الاستدراك ، وهو فيما إذا كان ظاهر الدليلين القاعدة مع كونهما مقطوعي الصدور كالآيتين أو الروايتين المتواترين ، فتكون قطعيّة السند قرينة للتصرّف في الظاهرين أو أحدهما بحملهما أو أحدهما على خلاف الظاهر ، فلا بدّ من التصرّف في مقام الدلالة (١).

وجوابه : أنّ القرآن ينادي بأعلى صوته : (لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً)(٢) ، فإذا فرضنا الاختلاف والتعارض بين الآيتين إن كان

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ٢٧.

(٢) النساء : ٨٢.

٣٧٩

المراد منه التعارض الاستقراري فهو منفيّ بهذه الآية ، ولا يتحقّق في القرآن ، وإن كان المراد منه التعارض البدوي فلا يرتبط بالقاعدة.

وأمّا إن كان التعارض بين الروايتين المتواترين بحسب الظاهر فلا ينحصر طريق الالتئام بينهما بما ذكره قدس‌سره ، وهو حمل أحدهما على التقيّة وصدوره خوفا واتّقاء لدماء الشيعة ، وهذا لا ينافي تواتر السند كما لا يخفى.

وممّا ذكرنا يظهر أنّ خروج النصّ والظاهر ، والأظهر والظاهر من الأخبار العلاجيّة يكون خروجا موضوعيّا ؛ إذ الموضوع فيها الخبران المتعارضان والحديثان المختلفان ، وبعد تحقّق الجمع الدلاليّ المقبول عند العقلاء بينهما فلا يبقى عنوان التعارض والاختلاف فيهما ، ولا فرق بينهما من هذه الجهة.

ولكنّ الشيخ الأنصاري قدس‌سره في المقام الرابع من رسالة التعادل والترجيح قائل بالفرق بين النصّ والظاهر ، والأظهر والظاهر من جهتين :

الجهة الاولى : أنّ خروج النصّ والظاهر من الأخبار العلاجيّة خروج موضوعيّ بخلاف الأظهر والظاهر ؛ فإنّ خروجهما منها خروج حكميّ ، مثل خروج الفسّاق من عموم «أكرم العلماء».

وجوابه أوّلا : أنّ خروج الأظهر والظاهر منها أيضا خروج موضوعيّ وإلّا يلزم أن يتحقّق التعارض بينهما في جميع الاستعمالات المجازيّة حقيقة ، مثل : «رأيت أسدا يرمي» ، وهذا ممّا لم يلتزم به أحد.

وثانيا : لو سلّمنا عدم خروجهما من موضوع التعارض لا شكّ في احتياج التخصيص والإخراج الحكميّ إلى الدليل المخرج ، مع أنّ المراد من التعارض فيها هو التعارض الاستقراري ـ أي بقاء التحيّر بعد التأمّل والدقّة أيضا ـ لا التعارض البدوي ، فلا دليل لخروجهما عنها.

٣٨٠