دراسات في الأصول - ج ٤

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-95-8
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٤٨٠

الانحلال وعدمه بين ما لو كان متعلّق العلم الإجمالي بنفسه مردّدا بين الأقلّ والأكثر ، وبين ما كان عنوانا ليس مرددا بينهما من أوّل الأمر ، إنّما يتمّ لو كان متعلّق العلم الإجمالي في القسم الثاني نسبته إلى المعنون كنسبة المحصّل إلى المحصّل ، وأمّا لو لم يكن من هذا القبيل كما في المثال الذي ذكره فلا وجه لعدم الانحلال ؛ لانحلال التكليف إلى التكاليف المتعدّدة المستقلّة حسب تعدّد المعنونات وتكثّرها ، وحينئذ فلا يبقى فرق بين القسمين.

وثانيا : لو قطع النظر عن ذلك نقول : إنّ تعلّق العلم الإجمالي بعنوان يوجب تنجيز متعلّقه إذا كان متعلّقه موضوعا للحكم الشرعي ، وأمّا إذا لم يكن ممّا يترتّب عليه الحكم في الشريعة فلا أثر له بالنسبة إليه ، كما في المثال الذي ذكره ، فإنّ الموضوع للحكم بالحرمة ووجوب نفي البلد ـ مثلا ـ إنّما هو الحيوان الموطوء بما أنّه موطوء ، وأمّا كونه أبيض أو أسود فلا دخل له في ترتّب الحكم ، وحينئذ فالعلم الإجمالي بموطوئيّة البيض من هذا القطيع لا يؤثّر إلّا بالنسبة إلى ما علم كونه موطوءا ؛ لكونه الموضوع للأثر الشرعي.

وكذا المقام ، فإنّا إنّما نكون مأخوذين بالأحكام الواقعيّة الثابتة في الشريعة ، وأمّا عنوان كونها مضبوطة في الكتب التي بأيدينا فهو ممّا لا ارتباط له بذلك أصلا ، كما هو واضح.

ومن المعلوم أنّ العلم الإجمالي بتلك الأحكام الثابتة في الشريعة يكون من أوّل الأمر مردّدا بين الأقلّ والأكثر ، كما أنّ في مثال البيض يكون العلم الإجمالي بالعنوان الموضوع للحكم الشرعي مردّدا بين الأقلّ والأكثر بنفسه ومن أوّل الأمر.

وحينئذ نقول : لو صحّ ما ادّعاه من أنّ تعلّق العلم الإجمالي بعنوان يوجب

٢١

التّنجز بالنسبة إلى جميع الأفراد الواقعيّة لذلك العنوان يصير القسم الأوّل أيضا كالقسم الثاني في عدم الانحلال ، بل أولى منه ؛ لأنّ العنوان فيه يكون متعلّقا للحكم الشرعى بخلاف القسم الثاني.

وثالثا : أنّ ما أجاب به عن المناقشة الثانية لا يتمّ بناء على مذهبه من أنّ المقام من قبيل القسم الثاني من العلم الإجمالي ؛ لأنّ العلم الإجمالي العامّ تعلّق بعنوان «ما في الكتب» أعمّ من الكتب التي بأيدينا ، أو بعنوان «ما في الشريعة» وقد فرض أنّ تعلّقه به يوجب تنجّزه بجميع أفراده الواقعيّة ، ولا يعرض له الانحلال وإن تردّد بين الأقلّ والأكثر ، كما هو غير خفي.

ثمّ إنّ مثال الطومار الذي ذكره لا يكون مرتبطا بالمقام ؛ لأنّ وجوب الفحص التامّ في جميع صفحات الطومار ليس من آثار العلم الإجمالي باشتغال ذمّته لزيد ، بل يجب الفحص فيها ولو بدون العلم الإجمالي وكون الشبهة بدوية ، كما سيأتي أنّ هذا المحقّق يلتزم بوجوب الفحص في مثل المثال ولو مع عدم العلم الإجمالي ، فتدبّر جيّدا (١). انتهى كلامه رفع مقامه.

ولكن الجواب عن هذا الوجه ما ذكرناه من عدم ارتباطه بالمقام ، وبحث شرائط جريان البراءة خارج عن دائرة العلم الإجمالي.

والحاصل : أنّ قاعدة قبح العقاب بلا بيان قاعدة عقليّة لا تجري مع عدم الفحص ، فالصحيح الاستدلال لذلك بحكم العقل بوجوب الفحص وعدم حكمه بقبح العقاب قبل المراجعة إلى مظانّ ثبوت التكليف وبيانه ، ومع ذلك لا مجال لدعوى الإجماع القطعي على وجوبه ؛ ضرورة أنّه على تقدير ثبوته لا يكون حجّة بعد قوّة احتمال أن يكون مستند الجمعين هو هذا الحكم العقلي

__________________

(١) معتمد الاصول ٢ : ٣١١ ـ ٣١٢.

٢٢

الضروري ، كما أنّ التمسّك بالكتاب والسنّة لذلك نظرا إلى اشتمالها على الأمر بالتفقّه والتعلّم ونظائرهما ممّا لا يخلو من مناقشة ؛ لأنّه من البعيد أن يكون المقصود منهما هو بيان حكم تأسيسي تعبّدي ، بل الظاهر أنّها إرشاد إلى حكم العقل بذلك.

فالدليل في المقام ينحصر في حكم العقل بعدم جواز القعود عن تكاليف المولى ؛ اعتمادا على البراءة قبل الرجوع إلى مظانّ ثبوته ، هذا كلّه بالنسبة إلى أصل وجوب الفحص في جريان البراءة العقليّة في الشبهات الحكميّة.

في مقدار الفحص

وأمّا مقداره فالظاهر أنّه يجب إلى حدّ اليأس عن الظفر بالدليل ، وهو يتحقّق بمراجعة المحالّ التي يذكر فيها أدلّة الحكم غالبا ، ولا يجب التفحّص في جميع الأبواب وإن كان قد يتّفق ذكر دليل مسألة في ضمن مسألة اخرى لمناسبة ، إلّا أنّ ذلك لندرته لا يوجب الفحص في جميع المسائل لأجل الاطّلاع على دليل مسألة منها ، كما لا يخفى.

دليل استحقاق العقوبة على ترك الفحص

ثمّ إنّ المكلّف بعد جريان البراءة بدون التعلّم والفحص يستحقّ العقوبة ، ولكنّ البحث في أنّ استحقاق العقوبة يحتمل أن يكون على مخالفة الواقع ، أو على ترك الفحص والتعلّم أو على ترك الفحص والتعلّم فيما إذا كان الترك مؤدّيا إلى مخالفة الواقع لا مطلقا ، وجوه ، بل أقوال :

أمّا وجه الاحتمال الأوّل فهو أنّ لزوم الفحص والتعلّم عقلا لا يكون لزوما نفسيّا ، بل كان له عنوان الطريقيّة والمقدّميّة للإيصال إلى الأحكام الواقعيّة

٢٣

الإلهيّة ، فيكون استحقاق العقوبة على مخالفة حكم المولى من ارتكاب المحرّم أو ترك الواجب ، كما هو واضح.

وأمّا وجه الاحتمال الثاني فهو عبارة عن عدّة من الروايات التي نتعرّضها في بحث البراءة الشرعيّة إن شاء الله.

وأمّا وجه الاحتمال الثالث فهو أنّ بعد ملاحظة أنّه لا معنى للعقوبة على ترك الطريق والمقدّمة ، ولا معنى للعقوبة على مخالفة الواقع المجهول للمكلّف ، نقول : أنّ استحقاق العقوبة يكون على ترك الفحص المؤدّي إلى مخالفة الواقع لا محالة.

والجواب عنه : أوّلا : أنّه لا يستفاد الإثبات من ضميمة عدم إلى عدم آخر حتّى نقول بترتّب العقوبة على ترك هذا المجموع.

وثانيا : أنّ استحقاق العقوبة يكون على مخالفة الواقع ، فإنّ الجهل بما هو لا يكون مانعا عن تنجّز الواقع واستحقاق العقاب ما لم يستند إلى البراءة العقليّة وقاعدة قبح العقاب بلا بيان ، والمفروض عدم جريانها قبل الفحص.

فما هو المسلّم استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع عند تمسّك المكلّف بالبراءة وارتكاب محتمل الحرمة ، أو ترك محتمل الوجوب بدون الفحص عن بيان المولى على التكليف.

ولكنّ البحث في أنّ استحقاق العقوبة على المخالفة يكون مطلقا أو في بعض الصور المتصوّرة في المقام؟ إذ الصور المتصوّرة ثلاثة :

الاولى : إيصال المكلّف بعد الفحص إلى بيان من المولى وأمارة معتبرة ظاهرة الدلالة على إثبات التكليف المحتمل.

الثانية : عدم إيصاله إليه نفيا أو إثباتا على فرض تتبّعه وتفحّصه في مظانّ

٢٤

وجود الدليل.

الثالثة : إيصاله على فرض الفحص والتتبّع إلى دليل معتبر مخالف للحكم الواقعي.

ربّما يقال : بتحقّق استحقاق العقوبة في جميع الصور الثلاثة ، فإنّ تمام الملاك له هو عدم الفحص ومخالفة الواقع ولا عذر للمكلّف في مخالفة التكليف الواقعي ، ولا حجّة له لاستناد عمله إليها عقلا ، بل العقل يحكم في الشبهات البدويّة قبل الفحص بالاحتياط كحكمه به في الشبهات المقرونة بالعلم الإجمالي ، وحكم العقل بلزوم الاحتياط بيان كأنّه صدر من المولى ، فاستحقاق العقوبة أمر موجّه بلا فرق بين كون نتيجة الفحص على تقدير الفحص بيانا على ثبوت التكليف أو على عدم التكليف أو اليأس عن الظفر بالدليل.

ولكنّ التحقيق أنّ استحقاق العقوبة منحصر بالصورة الاولى ـ أي كون نتيجة الفحص هو الإيصال إلى البيان على التكليف ـ فإنّ عدم العذر والحجّة للمكلّف في مقام مخالفة الواقع يتحقّق في هذه الصورة دون غيرها ؛ ضرورة عدم البيان على تقدير الفحص ، أو وجود الدليل على خلاف الواقع عذر للمكلّف. وإن لم يكن ملتفتا إليه في مقام العمل ، فمع تحقّق العذر الواقعي لا يتحقّق عنوان المعصية ومخالفة المولى حتّى يترتّب عليه استحقاق العقوبة. نعم ، يتحقّق هنا عنوان التجرّي ولكنّه خارج عن البحث ، كما لا يخفى.

وأمّا حكم العقل بلزوم الاحتياط في الشبهات البدويّة قبل الفحص فلا إشكال فيه ، ولكنّه ليس بملاك التحفّظ على الواقع ، فإنّ هذا الملاك يتحقّق بعد الفحص أيضا ، بل يكون بملاك إمكان تحقّق البيان في مظانّ ثبوته.

ومن هنا يستفاد انحصار استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع بصورة

٢٥

مصادفة البيان على التكليف على تقدير الفحص ، بخلاف الصورة الثانية والثالثة. هذا كلّه في الواجبات المطلقة.

وأمّا في الواجبات المشروطة المحتملة فيقال أيضا : هل يجب الفحص قبل تحقّق الشرط أم لا؟

ربّما يقال بعدم وجوب الفحص فيها ، فإنّ وجوب الفحص وجوب مقدّمي ، قد ثبت في باب مقدمة الواجب أنّ وجوب المقدّمة تابع لوجوب ذي المقدّمة ، فإذا لم يكن وجوب ذي المقدّمة فعليّا كيف يمكن كون الوجوب الغيري المترشّح منه فعليّا؟ فلا يجب الفحص في الواجبات المشروطة والمؤقّتة قبل تحقّق الشرط والوقت على القاعدة ، إذ لا يجب ذي المقدّمة بعد حتّى تجب مقدّماته التي منها الفحص.

وهذا المعنى يوجب الإشكال في باب الحجّ ، فإنّ لازم ذلك عدم وجوب تحصيل المقدّمات على المستطيع قبل الموسم ، ولذا التزم الفقهاء بالواجب المعلّق هنا بمعنى كون الزمان قيدا للواجب ، ومن الخصوصيّات المعتبرة في الحجّ وفعليّة الوجوب بمجرّد تحقّق الاستطاعة ، فلا إشكال في تحصيل المقدّمات عليه.

فهل يمكن إرجاع جميع الواجبات المشروطة والموقّتة إلى الواجب المعلّق والقول بفعليّة الوجوب فيها قبل تحقّق الشرط والوقت حتّى يستفاد منه وجوب الفحص في المقام أم لا؟

والظاهر أنّه لا يمكن الالتزام به ، فإنّه خلاف ما هو المشهور عند الفقهاء من تحقّق الواجب المشروط الاصطلاحي في الشريعة ، فلذا نقول ببطلان الوضوء قبل الوقت بداعي الأمر الوجوبي المقدّمي ، كما هو واضح.

٢٦

ولكنّ التحقيق : أنّ وجوب الفحص لا يكون وجوبا مقدّميّا ؛ إذ المقدّمة عبارة عن مقدّمة الوجود ـ كما مرّ في بحث مقدّمة الواجب ـ يعني وجود ذي المقدّمة متقوّم على وجودها ، وبدون تحقّقها لا يتحقّق ذي المقدّمة ، وهذا المعنى لا يتحقق في مسألة الفحص بالنسبة إلى الواجب المحتمل ؛ إذ يمكن الإتيان بالواجب المحتمل بدون الفحص احتياطا ، فلا يرتبط وجوب الفحص بمسألة وجوب المقدّمة ، بل هو من الأحكام اللزوميّة العقليّة ، ولا فرق بنظر العقل بين الواجبات المطلقة والمشروطة من حيث وجوب الفحص ، وقد مرّ في باب مقدّمة الواجب أنّ البحث في وجوب المقدّمة هو الوجوب الشرعي وإن كانت الملازمة بين المقدّمة وذيها عقليّة.

مضافا إلى أنّه لو فرض كون وجوب الفحص وجوبا غيريّا مقدميّا فإنّ تلقّي توقّف وجوب المقدّمة على وجوب ذيها بعنوان الأصل المسلّم باطل عقلا ، كما مرّ في محلّه ، فإنّ المولى إذا قال لعبده : يجب عليك أن تكون على السطح في الليل ، وعلم العبد بأنّه غير مقدور له تحصيل السلّم في الليل ، فلا شكّ في حكم العقل هنا بوجوب تحصيل السلّم قبل الليل ، ولا يعدّه معذورا في مخالفة المولى ؛ لعدم القدرة على تحصيله في الليل ، فكما أنّ العقل يحكم بوجوب تحصيل بعض المقدّمات المحرزة قبل وجوب المقدّمة ، كذلك يحكم بوجوب الفحص على فرض مقدّميّته إذا كان ترك الفحص مؤدّيا إلى ترك الواجب المشروط المحتمل في ظرف وجوبه ، كما لا يخفى.

الواجب التهيّئي

التزم المقدّس الاردبيلي رحمه‌الله وتلميذه صاحب المدارك رحمه‌الله للتّخلّص عن الإشكال بأنّه لا مانع من كون وجوب الفحص وجوبا نفسيّا تهيّئيّا في

٢٧

الواجبات المشروطة ، ومن خصوصيّته ترتّب استحقاق العقوبة على مخالفته ، مع أنّ له محبوبيّة ومطلوبيّة للتّهيّؤ للواجب النفسي الذاتي الآخر لا لنفسه ، كأنّه برزخ بين الوجوب الغيري والنفسي الذاتي ، فيكون استحقاق العقوبة لترك الفحص والتبيّن فيما إذا كان مؤدّيا إلى مخالفة التكليف الوجوبي في ظرفه ، لا لمخالفة التكليف اللزومي المشروط أو الموقّت (١).

والتزم صاحب الكفاية رحمه‌الله بتوسعة هذا المعنى في الواجبات المطلقة أيضا ، وأنّه لا مانع من الالتزام باستحقاق العقوبة على ترك التفحّص والتعلّم الواجب بالوجوب النفسي التهيّئي فيها (٢).

ولا بدّ لنا من البحث أوّلا في إمكان الوجوب النفسي التهيّئي ثبوتا ، وعلى فرض إمكانه هل تتحقّق الملازمة بين تركه واستحقاق العقوبة أم لا؟ وثانيا : هل الدليل العقلي أو النقلي يدلّ على إثباته أم لا؟

ربّما يقال بعدم إمكانه ؛ إذ لا يعقل اتّصاف المقدّمة بالوجوب الغيري قبل اتّصاف ذيها بالوجوب النفسي فضلا عن الوجوب النفسي التهيّئي ، فلا يمكن اتّصاف التفحّص والتعلّم به بعنوان المقدّمة الواجبة كما هو المفروض.

والجواب عنه : أوّلا : نمنع مقدّميّة التفحّص والتعلّم للواجب.

وثانيا : على فرض المقدّميّة نمنع تبعيّة وجوب المقدّمة دائما لفعليّة وجوب ذيها ، كما مرّ. فلا إشكال في إمكانه لجعل المولى وجوبا نفسيّا تهيّئيّا للتّفحص والتعلّم قبل تحقّق شرط الواجب المشروط ، ولا يكون مخالفا لأيّ حكم من الأحكام العقليّة المسلّمة.

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٢٥٨ ، نقلا عنهما.

(٢) المصدر السابق.

٢٨

وأمّا من حيث الملازمة بين تركه واستحقاق العقوبة فلا يحكم العقل بها بعد ما كان الحكم باستحقاق العقوبة من الأحكام العقليّة ، فإنّ للعقل حكمان : أحدهما الحكم باستحقاق العقاب في مورد مخالفة التكاليف النفسيّة الأصليّة ، والآخر الحكم بعدم استحقاق العقاب في مورد ترك مقدّمات التكاليف ومخالفتها ، وأمّا في مورد مخالفة الواجب النفسي التهيّئي فلا حكم له باستحقاق العقاب ، فإنّ تسميته بالواجب النفسي لا يوجب كونه مقصودا بالذات ، بل يكون من مقدّمات وممهّدات الواجبات الأصليّة ، فلا يحكم العقل بترتّب استحقاق العقوبة على تركه ، فنمنع الملازمة بينهما ، كما هو واضح.

عدم الدليل على الوجوب النفسي التهيّئي

واعلم أنّه على فرض تماميّة إمكانه وتحقّق الملازمة لا دليل له في مقام الإثبات عقلا ونقلا ، أمّا العقل فلا طريق له لاستكشاف الحكم الوجوبي الشرعي للتفحّص بعنوان الواجب النفسي التهيّئي ، مع أنّ الفحص لازم وتركه يوجب استحقاق العقوبة عقلا ، ولكن لا طريق للكشف عن الوجوب النفسي التهيّئي له عند الشارع ، كما أنّ البحث في باب المقدّمة الواجب أنّ استكشاف الحكم الشرعي الوجوبي لها بعد وجوب ذيها هل يمكن من طريق العقل أم لا؟ مع أنّ اللابديّة العقليّة لها لا تكون قابلة للإنكار ، وهكذا في ما نحن فيه ، فلا يحكم العقل باستكشاف الوجوب الشرعي النفسي التهيئي للتفحّص ، كما هو واضح.

وهكذا لا يستفاد من الأدلّة النقليّة هذا المعنى ، فإنّ المستفاد من مثل آية النفر هي المطلوبيّة النفسية للتفقّه في الدين وتعلّم معالم الدين ـ إلّا أنّه من الواجبات الكفائيّة باعتبار قوله تعالى : (مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ

٢٩

طائِفَةٌ)(١) ـ لا المطلوبيّة النفسيّة التهيّئيّة ، وهكذا من مثل قوله عليه‌السلام : «الكمال كلّ الكمال التفقّه في الدين ، والصبر على النائبة ، وتقدير المعيشة» (٢) ، وما يدلّ على المؤاخذة لتارك العمل لترك التعلّم ، وأنّ ترك التعلّم ليس بعذر ، وأنّ ترك التعلّم يوجب الهلكة ، ونحو ذلك ، لا دلالة لها على الحكم التعبّدي الزائد على حكم العقل حتّى نستفاد منه الوجوب النفسي التهيئي ، بل مفاد جميعها نوع من الإرشاد إلى حكم العقل بلزوم التّفحّص والتعلّم ، وعدم المعذوريّة عند الله في صورة تركه ، واستحقاق العقوبة.

فمقتضى القاعدة في مورد رجوع الجاهل المقصّر إلى البراءة إذا شكّ في جزئيّة السورة ـ مثلا ـ قبل الفحص هو بطلان العبادة واستحقاق العقوبة على المخالفة ؛ لعدم إتيانه بالمأمور به الواقعي في مقام الامتثال.

ولكن انتقضت هذه القاعدة حسب النصّ الصحيح والفتوى المشهورة بموردين في الفقه : أحدهما : إتيان الصلاة تماما موضع القصر بدون الفحص ، والآخر : إتيان الصلاة جهرا في موضع الإخفات ، وإتيان الصلاة إخفاتا في موضع الجهر بدون الفحص ، والمستفاد من النصّ الصحيح والفتوى المشهورة أوّلا : صحّة العمل وتماميّته ، وثانيا : استحقاق العقوبة على مخالفة الواقع ، وثالثا : عدم كون استحقاق العقوبة قابلا للرفع ، وإن التفت إلى وظيفته في الوقت وأتى بها كما هي.

واستشكل هنا : أوّلا : بأنّه لا وجه للحكم بصحّة العمل ؛ لعدم مطابقة المأتي به مع المأمور به.

__________________

(١) التوبة : ١٢٢.

(٢) الكافي ١ : ٣٢ ، باب صفة العلم وفضله وفضل العلماء.

٣٠

وثانيا : أنّ العمل المأتي به إن كان متّصفا بالصحّة لا يتصوّر وجه للحكم باستحقاق العقوبة.

وثالثا : على فرض قبول استحقاق العقوبة في صورة الالتفات في خارج الوقت لا وجه له في صورة الالتفات في الوقت ، وتمكّنه من إتيان المأمور به كما هو.

وأجاب صاحب الكفاية رحمه‌الله عن الإشكال الأوّل بأنّ صحّة العبادة لا يحتاج إلى الأمر ، بل اشتمالها على المصلحة التامّة اللازمة الاستيفاء يكفي للحكم بالصحّة وإن كانت فاقدة للأمر لجهة ، كما في عدم تعلّق الأمر بالصلاة مكان الإزالة بلحاظ أهمّيّتها وعدم نقصان الصلاة من حيث الاشتمال على المصلحة ، بخلاف ما يقول به القائل بالتّرتّب ، من تعلّق الأمر المطلق بالإزالة والأمر المشروط بالعصيان أو نيّة العصيان بالصلاة ، فالمأتي به يكون صحيحا بلحاظ اشتماله على المصلحة التامّة اللازمة الاستيفاء ، وعدم تعلّق الأمر به بل بالمأمور به يكون بلحاظ اشتماله على المصلحة الزائدة (١).

ويرد عليه : أنّ الإتيان بالمصلحة الزائدة هل يكون راجحا أم لازما؟ فإن كان راجحا فلا بدّ أن يكون المأتي به أيضا مأمورا به بصورة الواجب التخييري ، لا كونه خارجا من دائرة الأمر والمأمور به ، وإن كان لازما لا بدّ للمكلّف من استيفائها إذا التفت إليها في الوقت.

ويمكن الجواب عنه : بأنّها لازمة الاستيفاء إلّا أنّ المكلّف بعد الإتيان بالمأتي به لا يكون قادرا على استيفائها لتحقّق التضادّ بين المأتي به والمأمور به ، غاية الأمر أنّ التضادّ قد يكون محسوسا كالصلاة والإزالة ، وقد يكون

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٢٦١.

٣١

غير محسوس كما في المقام.

إن قلت : إنّ صلاة الإتمام سبب لتفويت المصلحة الزائدة ، وتفويتها حرام ، ودليله استحقاق العقوبة لتركها ، فصلاة الإتمام مقدّمة الحرام وسبب له ، وسببيّته بمعنى العلّة التامّة ، فهي أيضا حرام ، وتعلّق الحرمة بالعبادة يقتضي فسادها ، فكيف يحكم بصحّتها.

قلت : إنّ عدم أحد الضدّين لا يمكن أن تكون مقدّمة لوجود الآخر ، لتحقّق اختلاف الرتبة بين المقدّمة وذيها ، والحال أنّ اللازم اتّحاد الرتبة بين عدم أحد الضدّين ووجود الآخر ، كما مرّ في محلّه ، بل التحقيق : أنّ عدم أحد الضدّين ملازم لوجود الآخر ، ولا يعتبر في المتلازمين الاتّحاد في الحكم ، واتّصاف أحد المتلازمين بالحرمة لا يقتضي اتّصاف الآخر بها ، فيمكن أن يكون أحدهما حراما والآخر مباحا أو مكروها.

نعم ، التلازم يقتضي عدم اختلافهما اختلافا غير قابل للجمع ، كحرمة أحدهما ووجوب الآخر ، فالأمر في ما نحن فيه يكون كذلك ، فإنّ صلاة الإتمام ملازمة لتفويت المصلحة الزائدة ؛ لعدم إمكان استيفائها بعد استيفاء المصلحة الناقصة بالإتيان بصلاة الإتمام ، فعدم استيفاء المصلحة الزائدة حرام يترتّب عليه استحقاق العقوبة ، ولكنّ سراية حرمته إلى صلاة الاتمام حتّى نقول : إنّ تعلّق الحرمة بالعبادة يقتضي فسادها ليس بتامّ.

إن قلت : إنّ لازم ذلك صحّة صلاة الإتمام من العالم العامد في السفر أيضا ؛ لاشتمالها على المصلحة التامّة اللازمة الاستيفاء ، وعدم الاحتياج إلى وجود الأمر في صحّة العبادة كما ذكره ، مع أنّه لا يكون قابلا للالتزام.

قلت : إنّ الروايات تدلّ على صحّتها واشتمالها على المصلحة في الجاهل ولو

٣٢

كان مقصّرا ، لا في جميع الحالات بالنسبة إلى جميع المكلّفين ولو كان المكلّف عالما ، ولا دليل لاشتراك العالم والجاهل في هذا الحكم (١). هذا تمام كلام المحقّق الخراساني رحمه‌الله مع التصرّف والتوضيح منّا.

وأجاب عن الإشكال أيضا الشيخ الكبير كاشف الغطاء رحمه‌الله على ما نسب إليه في كتاب أجود التقريرات : بأنّ اتّصاف صلاة الإتمام في موضع القصر بالصّحة يكون لكونها مأمورا بها بالأمر الترتّبي وإنّ المقام من مصاديق الترتّب ، بأن المأمور به في الرتبة الاولى عبارة عن صلاة القصر بدون أيّ قيد وشرط ، وأمّا في الرتبة الثانية فهي صلاة الإتمام بصورة التعليق كأنّه يقول : إن عصيت الأمر بالقصر ولو للجهل عن تقصير يجب عليك الإتمام ، ولا فرق بين ما نحن فيه ومسألة الصلاة والإزالة (٢).

واستشكل عليه الشيخ الأنصاري رحمه‌الله بأنّ ما ذكره رحمه‌الله مبني على القول بإمكان الترتّب ، ولكنّه عندنا أمر مستحيل غير قابل للالتزام (٣).

وقال المحقّق النائيني رحمه‌الله : إنّه «يتحقّق الفرق بين ما نحن فيه ومسألة الصلاة والإزالة أوّلا : بأنّ تضادّ الصلاة والإزالة محسوس بحيث لا يمكن الاشتغال بالإزالة في حال الصلاة وبالعكس ، ولا نقص في الصلاة من حيث الاشتمال على المصلحة التامّة الملزمة. ولو كانت قابلة للجمع مع الإزالة لأمر بهما في آن واحد ، ولكن التضادّ ومزاحمة الأهمّ والأقوى يقتضي الأمر بها في الرتبة المتأخّرة ، بخلاف صلاة الإتمام والقصر ؛ إذ يمكن للمكلّف الجمع بينهما في

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٢٦٢.

(٢) كشف الغطاء ١ : ١٧١ ، أجود التقريرات ٣ : ٥٧١.

(٣) فرائد الاصول ٢ : ٦٢٧.

٣٣

الوقت ، فإن كان كلّ منهما ذات مصلحة ملزمة لا بدّ للشارع من الأمر بهما في عرض واحد ، ويستفاد من عدم الأمر أنّه لا يتحقّق التضادّ والتزاحم بينهما ، بل يتحقّق النقص في صلاة الإتمام في نفسها ، وإذا كانت الناقصة تخرج من دائرة الترتّب ، فإنّ الترتّب فيما لا يكون نقصا في البين سوى المزاحمة ، وهذا المعنى لا يتحقّق في ما نحن فيه.

وثانيا : أنّ توجّه الخطاب إلى المكلّف في مسألة الصلاة والإزالة يمكن للشارع أن يقول : أزل النجاسة عن المسجد ، وإن عصيت الأمر بالإزالة يجب عليك الصلاة في الرتبة الثانية ، بخلاف ما نحن فيه ، فإنّ توجّه الخطاب إلى الجاهل يوجب ارتفاع جهله وملازم لزوال جهله ، مع أنّ المفروض في البحث هو بقاء الجهل ، فعلى فرض إمكان القول بالترتّب هاهنا لا يمكن الالتزام به هنا (١).

وجوابه أوّلا : أنّ تشخيص تحقّق التضادّ وعدمه في المسائل التعبّديّة ليس بأيدينا ، وعدم إمكان استيفاء مصلحة صلاة القصر بعد إتيانها تماما في أوّل الوقت لمن كان تكليفه القصر هو معنى التضادّ ، فكما أنّه بعد إتيان الصلاة قصرا في أوّل الوقت لا يبقى مجال لصلاة الإتمام كذلك بعد الإتيان بها إتماما في صورة الجهل لا يبقى مجال لاستيفاء مصلحة صلاة القصر ، وهذا معنى التضادّ ، ولا دليل على خلافه وأنّه أمر غير معقول ، بل هو أمر ممكن ، والدليل على وقوعه عبارة عن الروايات الدالّة عليه ، فلا فرق بين ما نحن فيه ومسألة الصلاة والإزالة ، والقائل بالترتّب يقول به في الموضعين.

وثانيا : أنّ الأمر بالمهمّ في باب الترتّب لا يحتاج الخطاب فضلا عن الخطاب

__________________

(١) أجود التقريرات ٣ : ٥٧٢.

٣٤

الشخصي ، بل يمكن أن يكون بصورة الجملة الخبريّة بأن يقول : «يجب على المكلّف في مكان كذا القصر ، وان عصى الأمر بالقصر ولو جهلا عن تقصير يجب عليه الإتمام» ، والجاهل في حال الإتيان بالعمل لا يلتفت إلى الأمر ، أمّا بعد إتيانه في أوّل الوقت بالصلاة إتماما يلتفت إلى وظيفته ، وفي هذا الحال ينطبق عليه عنوان الأمر بالمهمّ ، فما أورده المحقّق النائيني رحمه‌الله من الإشكالين ليس بوارد.

والإشكال الوارد على القول بالترتّب : أولا : أنّ معنى الترتّب هو الالتزام بتعدّد الأمر ، ولازم ذلك الالتزام بتعدّد استحقاق العقوبة في صورة مخالفة كلا الأمرين ، ولا يبعد الالتزام بذلك في مسألة الصلاة والإزالة ـ وإن كان بعيدا بنظر المحقّق الخراساني رحمه‌الله ـ ولكن لا يمكن الالتزام بذلك هنا بأنّ تارك الصلاة رأسا يتعدّد استحقاق عقوبته بلحاظ تعدّد الأمر المتوجّه إليه ـ أي الأمر بالقصر أوّلا ، والأمر بالإتمام في الرتبة المتأخّرة ـ فإنّ لازم ذلك كون الجاهل المقصّر أسوأ حالا من تارك الصلاة عالما عامدا ، كما لا يخفى.

وثانيا : أنّ عصيان الأمر بالإزالة يتحقّق بمجرّد التأخير وعدم الذهاب إلى مقدّمات الإزالة ، ولا يتوقّف على آخر الوقت ؛ لكونها من الواجبات الفوريّة ، وأمّا عصيان الأمر بالقصر فلا يتحقّق إلّا بعد مضي تمام الوقت. ومعنى الترتّب حينئذ أنّه «إن عصيت الأمر بالقصر في تمام الوقت يجب عليك الإتمام» ولا معنى لوجوب الإتمام في خارج الوقت ، فلا يتصوّر الترتّب هنا إلّا بتعليق الأمر بالقصر بنيّة عصيانه ، كما هو غير خفيّ.

وأجاب المحقّق العراقي رحمه‌الله عن أصل الإشكال بأنّه لا مانع من الالتزام بتعدّد المطلوب لتصحيح ما أتى به الجاهل المقصّر بدون الفحص بأنّ المطلوب

٣٥

المطلق للمولى هو نفس الصلاة بدون دخل أيّ خصوصيّة فيها ، وأنّ الجامع الصلاتي بما هو ذو مصلحة لازمة الاستيفاء ، وهذه المصلحة متقوّمة بنفس عنوان الصلاة فقط ، مضافا إلى أنّ له مطلوبا آخر ، وهي الصلاة المخصّصة بخصوصيّة القصريّة والمتقيّدة بقيد القصريّة ، وهي أيضا ذات مصلحة كاملة لازمة الاستيفاء ، ولكن لا يتحقّق بينهما الترتّب والطوليّة ، بل كلاهما في عرض واحد ، واختلافهما اختلاف الإطلاق والتقييد ، واختلاف الجامع والخصوصيّة ، واختلاف النوع والصنف لا التضادّ ، إلّا أنّ بعد الإتيان بالمطلوب الأوّل لا يبقى مجال للمطلوب الثاني ، كما أنّه لا يبقى مجال لشرب الماء البارد بعد شرب غيره ـ مثلا ـ فالمصلحة متقوّمة بطبيعة الصلاة وعنوانها لا بصلاة الإتمام أوّلا ، ولا مانع من تعلّق أمر بطبيعة الصلاة وأمر آخر بصلاة متخصّصة بخصوصيّة القصريّة ثانيا ، ولا يتحقّق التضادّ بينهما ثالثا ، هذا توضيح ما ذكره رحمه‌الله هنا (١).

ويمكن للقائل بامتناع اجتماع الأمر والنهي أن يقول : إنّ التضادّ الواقعي يتحقّق بين الأحكام الخمسة التكليفيّة ، كما أنّ صاحب الكفاية رحمه‌الله ينفي الريب عنه ظاهرا ، فكما أنّ اجتماع الضدّين مثل الوجوب والحرمة في موضوع واحد محال ، كذلك اجتماع المثلين فيه محال ، فلا يمكن تعلّق الوجوبين بالصلاة.

ولكن ذكرنا في مقام إنكار هذا المعنى : أنّ التضادّ لا يتحقّق في الامور الاعتباريّة ؛ لانحصاره بالوجودات الواقعيّة كالسواد والبياض ، ومعنى التضادّ بينهما أنّه لا يمكن أن يكون الجسم معروضا لهما في آن واحد من أيّ طريق كان ولو من ناحية أشخاص متعدّدين ، مع أنّ هذا المعنى لا يتحقّق في الأحكام والامور الاعتباريّة ، إذ الموضوع الواحد مثل صوم الولد يمكن أن يقع

__________________

(١) نهاية الأفكار ٣ : ٤٨٤.

٣٦

من ناحية الوالد متعلّق الأمر ، ومن ناحية الوالدة متعلّق النهي ، ويكون معروضا للإيجاب والتحريم ، ومن هنا نستفيد عدم تحقّق التضادّ الاصطلاحي في الأحكام.

وأمّا عدم اجتماعها في موضوع واحد فيمكن أن يكون مستندا إلى عدم إمكان شيء واحد متعلّقا لحبّ المولى وبغضه معا ، أو كونه ذا مصلحة ملزمة وذا مفسدة ملزمة معا.

وبالجملة ، فلا إشكال في تعلّق وجوب بالطبيعة بما هي ، ووجوب آخر بالطبيعة المتخصّصة بالخصوصيّة القصريّة ، وتعلّق بهما بنحو تعدّد المطلوب ، مثل تعدّد مطلوب العطشان بالعطش الشديد ، أحدهما : مطلوبيّة أصل رفع العطش ، والآخر : مطلوبيّة رفع العطش بالماء البارد. فهذا البيان أيضا بيان جيّد في مقام الجواب عن الإشكال وتصحيح عمل الجاهل المقصّر ، واستحقاقه العقاب بأنّ صحّة العمل مستند إلى الإتيان بطبيعة الصلاة المشتملة للمصلحة الملزمة واستيفاء المطلوب الأوّل ، واستحقاق العقوبة مستند إلى تفويت المطلوب الثاني.

لزوم الفحص في الشبهات الموضوعيّة

وأمّا الشبهات الموضوعيّة فقد يقع البحث فيها بالنسبة إلى البراءة العقليّة ، وقد يقع بالنسبة إلى البراءة الشرعيّة ، أمّا البحث عن البراءة العقليّة فلا بدّ أوّلا من ملاحظة أنّها تجري في الشبهات الموضوعيّة أم لا؟ إن قلنا بعدم جريانها فيها ـ كما التزم به جمع من الأعاظم ـ فلا يبقى مجال للبحث عن لزوم الفحص وعدمه ، وإن قلنا بجريانها فيها ـ كما هو الحقّ ـ فيقع البحث في أنّها تجري بدون الفحص أو أنّ جريانها مشروط بالفحص؟

٣٧

قال استاذنا السيّد الإمام رحمه‌الله : «إنّ الظاهر هو وجوب الفحص ، فإنّ العقل لا يحكم بقبح العقاب إلّا بعد الفحص واليأس عن إحراز الصغرى ـ أي الموضوع ـ والدليل على ذلك مراجعة العقلاء في امورهم. ألا ترى أنّه لو أمر المولى عبده بإكرام ضيفه وتردّد بين كون زيد ضيفه أم غيره ، وكان قادرا على السؤال من المولى والعلم بذلك ، هل يكون معذورا في المخالفة مع عدم الإكرام؟ كلّا ، فاللازم بحكم العقل الفحص والتتبّع في الشبهات الموضوعيّة أيضا» (١).

هذا ما ذكره رحمه‌الله هنا ولم يتعرّض إلى أزيد من ذلك ، والتحقيق : أنّه كلام جيّد وقابل للالتزام ، وأمّا البراءة النقليّة فقد يقع البحث فيها في الشبهات الموضوعيّة التحريميّة ، وقد يقع في الشبهات الموضوعيّة الوجوبيّة ، أمّا الشبهات الموضوعيّة التحريميّة ـ كالشكّ في أنّ مائع كذا خمر أو خلّ ـ فقد ادّعى الشيخ الأنصاري رحمه‌الله الإجماع على عدم وجوب الفحص فيها ، وجريان قاعدة الحلّيّة بدون الفحص ، وادّعاء الإجماع من مثله لا يكون قابلا للردّ ، إلّا أنّه من الأدلّة اللبّيّة لا بدّ من الاقتصار فيها على القدر المتيقّن ، فإنّ الفحص قد يحتاج إلى تعطيل الامور والمشقّة ومراجعة أهل الفنّ حتّى يتّضح الحال ، وقد لا يكون كذلك بل يتّضح الحال بأدنى السؤال مثلا ، والقدر المتيقّن منه هو الأوّل ، دون الثاني. نعم ، المستفاد من الأدلّة ومذاق الشرع هو التسهيل والتسامح في باب الطهارة والنجاسة ، وجريان قاعدة الطهارة في صورة الشكّ بدون أيّ نوع من التفحّص.

وأمّا الشبهات الموضوعيّة الوجوبيّة كالشكّ في تحقّق الاستطاعة في الحجّ والنصاب في الزكاة ونحو ذلك فقد ذكر المحقّق النائيني رحمه‌الله هنا تفصيلا جيّدا ،

__________________

(١) معتمد الاصول ٢ : ٣١٥.

٣٨

وقال : «إنّ موضوع التكليف إذا كان من الموضوعات التي لا يحصل العلم به إلّا بالفحص عنه ـ كالاستطاعة في الحجّ والنصاب في الزكاة ـ فلا يبعد القول بالملازمة العرفيّة بين التكليف ـ أي وجوب الحجّ مشروطا بالاستطاعة ـ ووجوب الفحص ، فإنّ عدم لزوم الفحص هنا مستلزم للقول بعدم وجوب الحجّ على عدد كثير ممّن يكون مستطيعا بحسب الواقع بلحاظ عدم تفحّصهم ، وهذا المعنى لا يناسب مع مشروعيّة الحجّ ، فوجوب الفحص في هذه الصورة يستفاد من أصل مشروعيّة الحكم بمعونة الملازمة العرفيّة ، وإذا لم يكن الموضوع من هذا القبيل فلا يجب الفحص فيه» (١).

وهذا التفصيل في الشبهة الوجوبيّة قابل للقبول لا يخفى أنّ مقتضى إطلاق أدلّة الحلّيّة عدم وجوب الفحص ، فوجوب الفحص يحتاج إلى الدليل ، لا عدمه ، وهكذا إطلاق أدلّة البراءة.

هذا تمام الكلام في اعتبار الفحص في جريان البراءة ، خذ فاغتنم.

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٣٠١.

٣٩
٤٠