دراسات في الأصول - ج ٤

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-95-8
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٤٨٠

الجهة الثانية : أنّ النصّ قرينة للتصرّف في الظاهر ومقدّم عليه أبدا بلا قيد وشرط ، بخلاف الأظهر ؛ فإنّ قرينيّته وتقدّمه على الظاهر مقيّد بالمقبوليّة عند العقلاء (١).

والإنصاف : أنّ قيد المقبوليّة عند العقلاء لا شبهة في دخالته في الجمع العرفي ، سواء كان في الأظهر والظاهر أو النصّ والظاهر ؛ إذ التعارض قد يتحقّق في النصّ والظاهر عند العقلاء ، كما في قوله : «صلّ في الحمام» فإنّه ظاهر في الدلالة على الوجوب ونصّ في الدلالة على المشروعيّة ، وقوله : «لا تصلّ في الحمام» فإنّه ظاهر في عدم المشروعيّة ، ومع ذلك يتحقّق التعارض بينهما عند العقلاء ، فالمعيار في هذه الموارد نظر العرف ومساعدة العقلاء بدون الفرق بين الأظهر والظاهر ، والنصّ والظاهر.

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ٨١ ـ ٨٢.

٣٨١
٣٨٢

فصل

في تشخيص موارد النصّ والظاهر عن الأظهر والظاهر

والتحقيق : أنّه لا يمكن لنا جعل القانون الكلّيّ والضابطة الكلّيّة لتعيين مواردهما ؛ لارتباطهما بمقام الدلالة وتختلف الدلالة بحسب اختلاف المقامات والموارد ، ومع ذلك نرى في كلمات المحقّقين من الاصوليّين ذكر كلّيّات منها بعنوان المصداق لهما ، ولا بدّ من البحث فيها لترتّب الأثر الفقهي عليها ، وملاحظتها من حيث التماميّة وعدمها ، ونتعرّض لما ذكره المحقّق النائينيّ قدس‌سره لأنّه جامع في المقام ، ونضمّ إليه ما عندنا من إشكال.

فنقول : قال المحقّق النائيني قدس‌سره : فمن الموارد التي تندرج في النصوصيّة ما إذا كان أحد الدليلين أخصّ من الآخر وكان نصّا في مدلوله ، قطعيّ الدلالة ؛ فإنّه يوجب التصرّف في العامّ ورودا أو حكومة ، على التفصيل المتقدّم.

ومنها : ما إذا كان لأحد الدليلين قدر متيقّن في مقام التخاطب ؛ فإنّ القدر المتيقّن في مقام التخاطب وإن كان لا ينفع في مقام تقييد الإطلاق ما لم يصل إلى حدّ يوجب انصراف المطلق إلى المقيّد ، إلّا أنّ وجود القدر المتيقّن ينفع في مقام رفع التعارض عن الدليلين ؛ فإنّ الدليل يكون كالنصّ في القدر المتيقّن ، فيصلح لأن يكون قرينة على التصرّف في الدليل الآخر مثلا : لو كان مفاد أحد

٣٨٣

الدليلين وجوب إكرام العلماء ، وكان مفاد الآخر حرمة إكرام الفسّاق ، وعلم من حال الآمر أنّه يبغض العالم الفاسق ويكرهه أشدّ كراهة من الفاسق الغير العالم ، فالعامّ الفاسق متيقّن الاندراج في عموم قوله : «لا تكرم الفساق» ، ويكون بمنزلة التصريح بحرمة إكرام العالم الفاسق ، فلا بدّ من تخصيص قوله : «أكرم العلماء» بما عدا الفسّاق منهم (١).

واستشكل عليه استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره : أولا : بأنّ القدر المتيقّن الذي يوجب أن يكون الدليل نصّا بالنسبة إليه هو ما يوجب الانصراف ، وليس له فردان ، فرد موجب للانصراف ، وفرد غير موجب له ، ومع وجود الانصراف لا تعارض بين الدليلين أصلا ، بل يصيران من قبيل العامّ والخاصّ المطلق الذي عرفت أنّه لا يصدق عليهما عنوان التعارض أصلا.

وثانيا : أنّه على تقدير تسليم كون القدر المتيقّن مطلقا موجبا لصيرورة الدليل نصّا بالنسبة إليه نقول : تخصيص ذلك بخصوص ما إذا كان هنا قدر متيقّن في مقام التخاطب لا وجه له ؛ فإنّ النصوصيّة على تقديرها ثابتة بالنسبة إلى مطلق القدر المتيقّن ، سواء كان في مقام التخاطب أو في غير هذا المقام.

وثالثا ـ وهو العمدة في الجواب ـ : أنّ المراد بالقدر المتيقّن إن كان هو المقدار الذي علم حكمه بحيث لم يكن في الحكم المتعلّق به ريب ولا شبهة ، مثلا : علم في المثال أنّ العالم الفاسق محرّم الإكرام ، فمع وجود هذا العلم يتحقّق الانصراف بالنسبة إلى الدليل الآخر الدالّ بظاهره على وجوب إكرام العلماء عموما ؛ فإنّه مع العلم بعدم وجوب إكرام العالم الفاسق بل حرمته كيف يبقى الشكّ في مقدار دلالة ذلك الدليل وإن كان ظاهره العموم؟

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٧٢٨.

٣٨٤

وإن كان المراد به أنّ ذلك المقدار متيقّن على تقدير ثبوت الحكم بالنسبة إلى غيره ـ مثلا : لو كان الجاهل الفاسق محرّم الإكرام لكان العالم الفاسق كذلك قطعا بحيث كان المعلوم هو الملازمة بين الأمرين ، بل ثبوت الحكم في القدر المتيقّن بطريق أولى ـ فمن المعلوم أنّ ذلك لا يوجب كون الدليل الظاهر في حرمة إكرام مطلق الفسّاق نصّا بالنسبة إلى العالم الفاسق ، بل غايته عدم إمكان التفكيك وإدراج مورد الاجتماع في الدليل الآخر ، وأمّا تقديمه على ذلك الدليل فلا ، فلم لا يعاملان معاملة المتعارضين؟

وبعبارة اخرى : اللازم ممّا ذكر عدم جواز تقديم الدليل الآخر على هذا الدليل ؛ لاستلزام التقديم الانفكاك الذي يكون معلوم الخلاف ، وأمّا لزوم تقديم هذا الدليل والحكم بحرمة إكرام جميع الفسّاق لأجل ما ذكر فلا دليل عليه ، بل يمكن معاملتهما معاملة المتعارضين ؛ لأنّها أيضا لا يوجب الانفكاك ، فتدبّر جيّدا (١).

ومنها : ما إذا كانت أفراد أحد العامّين من وجه بمرتبة من القلّة بحيث لو خصّص بما عدا مورد الاجتماع مع العامّ الآخر يلزم التخصيص المستهجن ، فيجمع بين الدليلين بتخصيص ما لا يلزم منه التخصيص المستهجن وإبقاء ما يلزم منه ذلك على حاله ؛ لأنّ العامّ يكون نصّا في المقدار الذي يلزم من خروجه عنه التخصيص المستهجن ، ولا عبرة بقلّة أحد أفراد العامّين وكثرتها ، بل العبرة باستلزام التخصيص المستهجن (٢). انتهى.

ويرد عليه : أوّلا : أن النصوصيّة من حالات الدلالة ، واستلزام التخصيص

__________________

(١) معتمد الاصول ٢ : ٣٤٤ ـ ٣٤٥.

(٢) فوائد الاصول ٤ : ٧٢٨.

٣٨٥

للاستهجان العقلي لا يغيّر حال الدلالة أصلا ، مع أنّ لازم ذلك أن يكون لمثل «أكرم العلماء» دلالتان : إحداهما الدلالة النصّيّة بالنسبة إلى حدّ التخصيص المستهجن ، والاخرى الدلالة الظهوريّة بالنسبة إلى الأقلّ منه ، وما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين.

وثانيا : أنّ استلزام تقديم العامّ الآخر للتخصيص المستهجن إنّما يمنع من التقديم ، ولا يوجب تقديم ما يلزم من تخصيصه ذلك ، فيمكن معاملتهما معاملة المتعارضين ، فالدليل لا ينطبق على المدّعي ؛ إذ المدّعى هو تقديم ما يلزم من تخصيصه الاستهجان ، والدليل لا يدلّ إلّا على المنع من تقديم العامّ الآخر الذي لا يوجب تخصيصه ذلك.

ومنها : ما إذا كان أحد الدليلين واردا مورد التحديدات والأوزان والمقادير والمسافة ونحو ذلك ؛ فإنّ وروده في هذه الموارد يوجب قوّة الظهور في المدلول بحيث يلحقه بالنصّ ، فيقدّم على غيره عند التعارض (١) انتهى.

ويرد عليه : أوّلا : أنّ الفرق بين الأدلّة الواردة في مقام التحديدات وغيرها ليس بصحيح ؛ إذ المعيار في تشخيص مفاد الروايات هو نظر العرف الدقّيّ ، بلا فرق بين ما ورد في مقام التحديد وغيره ، كما لا يخفى.

وثانيا : أنّ النتيجة في الروايات الواردة في مقام التحديد أيضا تختلف بملاحظات مختلفة ، كما في مسألة الكرّ ـ أي ثلاثة أشبار ونصف في ثلاثة أشبار ونصف في ثلاثة أشبار ونصف ـ فإنّ الشبر المتوسط ـ مثلا ـ يختلف بالنسبة إلى الأشبار المتوسطة ، وهكذا ، فكيف تكون في مفادها نصّا؟ فلذا نرى البحث والإشكالات المهمّة في هذه المسألة بين الفقهاء بلحاظ اختلاف نتيجة التحديد

__________________

(١) المصدر السابق.

٣٨٦

بالوزن مع التحديد بالأشبار مع ورود كليهما في مقام تعريف وتحديد الكرّ ، فلا يقتضي الوقوع في مقام التحديد النصوصيّة.

ومنها : ما إذا كان أحد العامّين من وجه واردا في مورد الاجتماع مع العامّ الآخر ، كما إذا ورد قوله : «كلّ مسكر حرام» جوابا عن سؤال حكم الخمر ، وورد أيضا ابتداء قوله : «لا بأس بالماء المتّخذ من التمر» ، فإنّ النسبة بين الدليلين وإن كانت هي العموم من وجه ، إلّا أنّه لا يمكن تخصيص قوله : «كلّ مسكر حرام» بما عدا الخمر ؛ فإنّه لا يجوز إخراج المورد ؛ لأنّ الدليل يكون نصّا فيه ، فلا بدّ من تخصيص قوله : «لا بأس بالماء المتّخذ من التمر» بما عدا الخمر (١) ، انتهى.

وهذا إنّما يتمّ فيما لو كانت النسبة بين المورد والدليل الآخر العموم والخصوص مطلقا كما في المثال ، حيث إنّ النسبة بين الخمر وبين قوله : «لا بأس بالماء المتّخذ من التمر» هو العموم المطلق ، بناء على إطلاق لفظ الخمر على المسكر من الماء المتّخذ من التمر فقط ، كما هو المفروض ؛ ضرورة أنّه بدونه لا تعارض بين الدليلين.

وأمّا لو كانت النسبة بين المورد والدليل الآخر هو العموم من وجه ـ أي بناء على إطلاق لفظ الخمر على الأعم من الماء المتّخذ من التمر ـ فلا وجه لهذا التقديم ؛ فإنّ نصوصيّة «كلّ مسكر حرام» ثابتة بالنسبة إلى الفرد المتّخذ من التمر ، بلحاظ كونه القدر المتيقّن ومورد السؤال ، وأمّا بالنسبة إلى غيره فتتحقّق المعارضة بين العامّين.

وأمّا الموارد التي ادّعي اندراجها في الأظهر والظاهر فهي :

__________________

(١) المصدر السابق.

٣٨٧
٣٨٨

تعارض العموم والإطلاق

إذا تعارض العامّ الاصولي ـ أي العامّ الاستغراقي ـ والمطلق الشمولي على اصطلاحهم ، ودار الأمر بين تقييد المطلق وتخصيص العامّ ، كقوله : «أكرم كلّ عالم» و«لا تكرم فاسقا» ، فقد ذهب الشيخ قدس‌سره إلى ترجيح التقييد على التخصيص ، وتبعه على ذلك المحقّق النائيني قدس‌سره ، خالف في ذلك المحقّق الخراساني قدس‌سره وتبعه المحقّق الحائري قدس‌سره.

ومحصّل ما أفاده الشيخ والنائيني قدس‌سره يرجع إلى أنّ شمول العامّ لمورد الاجتماع أظهر من شمول المطلق له ؛ لأنّ شمول العامّ لمادّة الاجتماع يكون بالوضع ، وشمول المطلق لها يكون بمقدّمات الحكمة ، ومن جملتها عدم ورود ما يصلح أن يكون بيانا للقيد ، والعامّ الاصولي يصلح لأن يكون بيانا لذلك ، فلا تتمّ مقدّمات الحكمة في المطلق الشمولي ، فلا بدّ من تقديم العامّ عليه (١).

ويرد عليه : أنّ جريان أصالة العموم أيضا يتوقّف على عدم تحقّق البيان على التخصيص ، والمطلق يصلح لأن يكون بيانا عليه ، بعد ما عرفت أنّ شأن التقنين بيان الحكم بنحو العموم ، ثمّ بيان المخصّصات بعنوان التبصرة ، ولذلك لا يجوز التمسّك بعموم العامّ قبل الفحص عن المخصّص واليأس عن الظفر به ،

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ٨٩ ، فوائد الاصول ٤ : ٧٢٩ ـ ٧٣٠.

٣٨٩

فلا فرق بين العموم والإطلاق من هذه الجهة.

ولكن التحقيق : أنّ الأظهر والظاهر من أوصاف الدلالة وهي مربوطة باللفظ ، ولا تكون دلالة المطلق على مفاده بالدلالة اللفظيّة حتى تكون دلالته غير أظهر في مقابل دلالة العامّ على مفاده.

توضيح ذلك : أنّ تقدّم التقييد على التخصيص مسلّم ، ولكن لا يكون من طريق الأظهريّة والظاهريّة ، بل يكون من طريق آخر ، فأنّ دلالة العامّ ـ مثل ـ «أكرم كلّ عالم» ـ على العموم دلالة لفظيّة ؛ ضرورة أنّ «عالما» وضع لنفس الطبيعة المطلقة ، ولفظ الكلّ يدلّ على تكثيرها المتحقّق بالإشارة إلى أفرادها ، لا بجميع خصوصيّاتها ، بل بما أنّها من مصاديقها ، فهذا القول دالّ بالدلالة اللفظيّة على وجوب إكرام الجميع ، والخاصّ يعانده من حيث الدلالة بالنسبة إلى المقدار الذي خصّص العامّ به ، فهما متنافيان من حيث الدلالة اللفظيّة ، غاية الأمر تقدّم الخاصّ على العامّ ، إمّا لمّا ذكرنا سابقا من عدم التعارض في محيط التقنين ، أو لغيره.

وأمّا المطلق فدلالته على الإطلاق ليست دلالة لفظيّة ؛ فإنّ اللفظ المطلق لا يدلّ إلّا على مجرّد نفس الطبيعة ، وانطباقها في الخارج على كلّ واحد من أفرادها خارج عن مدلوله ، بل يرتبط بمقام الانطباق ، ومقام الدلالة غير هذا المقام ، ولا دلالة للفظ المطلق على الكثرات الخارجة عن المدلول ، بل المكلّف يلاحظ كون المولى الحكيم المختار في مقام البيان ، وقوله : «أعتق رقبة» ، فيستفاد منه أنّ تمام الموضوع هو عتق الرقبة ، وهذا ما يعبّر عنه بمقدّمات الحكمة ، والحاكم بتماميّتها وعدمه هو العقل.

ومعلوم أنّ المطلق غير ناظر إلى الموجودات المتّحدة معها في الخارج أصلا

٣٩٠

ـ كما يكون كذلك في مثل لفظ الإنسان بما أنّه لفظ موضوع للماهيّة ـ لكنّ الاحتجاج به يستمرّ إلى أنّ يأتي من المولى ما يدلّ على خلافه ، مثل : قوله : «لا تعتق الرقبة الكافرة».

ويستفاد منها أنّ المولى إذا قال : «لا تكرم الفاسق» ـ بعد فرض تماميّة شرائط الإطلاق ومقدّمات الحكمة ـ ثمّ قال : «أكرم كلّ عالم» ـ بعد نظارته إلى الأفراد بالدلالة اللفظيّة الوضعيّة ـ فيصلح أن يكون هذا العامّ مقيّدا لإطلاق المطلق ومسقطا له عن صلاحيّة الاحتجاج ، فلا يبعد الالتزام بتقدّم العامّ وتقييد المطلق عند دوران الأمر بين التخصيص والتقييد ، كما قال به الشيخ قدس‌سره من هذا الطريق ، لا من طريق أظهريّة الدلالة وظاهريّتها.

وظهر ممّا ذكرنا : أنّه عند تعارض بعض المفاهيم مع بعض آخر ـ على فرض ثبوتها ـ لا ترجيح لواحد منهما على الآخر لو كان ثبوت كلّ منهما بضميمة مقدّمات الحكمة ، كما في مفهوم الشرط ومفهوم الوصف.

نعم ، لو كان أحد المتعارضين ممّا ثبت بالدلالة اللفظيّة ـ كما لا يبعد دعوى ذلك بالنسبة إلى مفهوم الغاية وكذا مفهوم الحصر ـ فالظاهر أنّه حينئذ لا بدّ من ترجيحه على الآخر ؛ لما مرّ من ترجيح العامّ على المطلق الراجع إلى تقديم التقييد على التخصيص.

وظهر أيضا أنّ تقسيم الإطلاق إلى الشمولي والبدلي ليس بصحيح ؛ فإنّ لفظ المطلق ـ مثل الرقبة والإنسان ـ وضع للطبيعة ، بعضّ النظر عن الكثرات والموجودات المتّحدة معها في الخارج ، والإطلاق يستفاد من مقدّمات الحكمة ، فالإطلاق يعني تمام موضوع حكم المولى هي الطبيعة والماهيّة بلا فرق بين قوله : «أعتق الرقبة» وقوله : «أكرم العالم».

٣٩١

وأمّا على القول بكونه على قسمين : الشمولي والبدلي وتحقّق التعارض بينهما ، كما في قوله : «أعتق الرقبة» ، وقوله : «لا خير في كافر» فلا وجه لتقديم الإطلاق الشمولي وترجيحه على البدلي بمناط تقدّم العامّ على الإطلاق ؛ لفقدان المناط ـ أي الدلالة اللفظيّة الوضعيّة ـ هنا ؛ فإنّ طريق تحقّق الإطلاق شموليّا كان أم بدليّا عبارة عن مقدّمات الحكمة ، ومجرّد الشموليّة لا يوجب التقدّم على البدلي.

٣٩٢

دوران الأمر بين النسخ والتخصيص

ومن الموارد التي جعلت من مصاديق الأظهر والظاهر ما إذا دار الأمر بين التخصيص والنسخ ، وحيث إنّ النسخ مشروط بحضور وقت العمل بالمنسوخ ؛ لكونه انتهاء أمد الحكم ، والتخصيص مشروط بوروده قبل حضور وقت العمل بالعامّ ، فإنّ تأخير البيان عن وقت العمل والحاجة قبيح عقلا ، فلذلك وقع الإشكال في التخصيصات الواردة عن الأئمّة عليهم‌السلام بعد حضور وقت العمل بالعامّ ؛ فإنّه ربّ عامّ نبويّ وخاصّ عسكري ، وقد احتمل الشيخ قدس‌سره في ذلك ثلاثة احتمالات :

أحدها : أن تكون ناسخة لحكم العمومات.

ثانيها : أن تكون كاشفة عن اتّصال كلّ عامّ بمخصّصه ، وقد خفيت علينا المخصّصات المتّصلة ووصلت إلينا منفصلة.

ثالثها : أن تكون هي المخصّصات حقيقة ، ولا يضرّ تأخّرها عن وقت العمل بالعامّ؛ لأنّ العمومات المتقدّمة لم يكن مفادها الحكم الواقعي ، بل الحكم الواقعي هو الذي تكفّل المخصّص المنفصل بيانه ، وإنّما تأخّر بيانه لمصلحة كانت هناك في التأخير ، وإنّما تقدّم العموم ليعمل به ظاهرا إلى أن يرد المخصّص ، فيكون مفاد العموم حكما ظاهريّا ، ولا محذور في ذلك ؛ فإنّ المحذور

٣٩٣

إنّما هو تأخّر الخاصّ عن وقت العمل بالعامّ إذا كان مفاد العامّ حكما واقعيّا لا حكما ظاهريّا (١).

وقريب من هذا ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره بأنّ قبح تأخير البيان عن وقت العمل فيما إذا لم يكن هناك مصلحة في إخفاء الخصوصيّات أو مفسدة في إبدائها (٢).

وقد قرّب الشيخ الأنصاري قدس‌سره الاحتمال الثالث واستبعد الاحتمال الأوّل ؛ لاستلزامه كثرة النسخ ، وكذا الاحتمال الثاني ؛ لكثرة الدواعي إلى ضبط القرائن المتّصلة واهتمام الرواة بحفظها.

ولكن قرّب هذا الاحتمال المحقّق النائيني قدس‌سره (٣) ؛ نظرا إلى أنّ كثيرا من المخصّصات المنفصلة المرويّة عن طرقنا عن الأئمّة عليه‌السلام مرويّة عن العامّة بطرقهم عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله فيكشف ذلك عن اختفاء المخصّصات المتّصلة علينا ، بل احتمل استحالة الوجه الثالث بما أفاده في التقريرات.

ولكنّ الظاهر عدم تماميّة شيء من الاحتمالات الثلاثة ، بل التحقيق : أنّ جميع الأحكام الإلهيّة والقوانين الشرعيّة من العموم والخصوص ، والمطلق والمقيّد ، والناسخ والمنسوخ قد صدر تبليغها من الرسول الأكرم وبيّنها للناس في مدّة نبوّته.

والشاهد عليه ما ذكره صلى‌الله‌عليه‌وآله في خطبة حجّة الوداع ممّا يدلّ على أنّه نهى الناس عن كلّ شيء يقرّبهم إلى النار ويبعّدهم عن الجنّة ، وأمرهم بكلّ شيء

__________________

(١) فرائد الاصول ٤ : ٩٤.

(٢) كفاية الاصول ٢ : ٤٠٥.

(چ) فوائد الاصول ٤ : ٧٣٧.

٣٩٤

يقرّبهم إلى الجنّة ويباعدهم عن النار (١).

والإشكال في أنّ الأحكام التي بلّغها الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قد ضبطها وجمعها أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه في صحيفته ، وهو أعلم الناس بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بذلك ، لكنّهم أعرضوا عنه وزعموا استغنائهم بكتاب الله ؛ لأجل استيلاء الشياطين على امورهم وتبعيّتهم لهم.

والشاهد عليه ما أفاده أمير المؤمنين عليه‌السلام في جواب سليم بن قيس من تقسيم الصحابة إلى أربع طوائف ، وتفصيل القضيّة : أنّه حكى أبان عن سليم ، قال : قلت يا أمير المؤمنين ، إنّي سمعت من سلمان والمقداد وأبي ذر شيئا من تفسير القرآن ، ومن الرواية عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ثمّ سمعت منك تصديق ما سمعت منهم ، ورأيت في أيدي الناس أشياء كثيرة من تفسير القرآن ومن الأحاديث عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله تخالف الذي سمعته منكم ، وأنتم تزعمون أنّ ذلك باطل ، أفترى الناس يكذبون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله متعمّدين ويفسّرون القرآن برأيهم؟ قال : فأقبل عليّ عليه‌السلام فقال لي : «يا سليم ، قد سألت فافهم الجواب : إنّ في أيدي الناس حقّا وباطلا ، وصدقا وكذبا ، وناسخا منسوخا ، وخاصّا وعامّا ، ومحكما متشابها ، وحفظا ووهما ، وقد كذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على عهده حتّى قام خطيبا فقال : أيّها الناس ، قد كثرت عليّ الكذّابة ، فمن كذب عليّ معتمّدا فليتبوأ مقعده من النار ، ثمّ كذب عليه من بعده حتّى توفّي رحمة الله على نبيّ الرحمة وصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وإنّما يأتيك بالحديث أربعة نفر ليس لهم خامس :

رجل منافق مظهر للإيمان متصنّع بالإسلام ، لا يتأثّم ولا يتحرّج أن يكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله متعمّدا ، فلو علم المسلمون أنّه منافق كذّاب لم يقبلوا منه ولم

__________________

(١) الوسائل ١٧ : ٤٥ ، الباب ١٢ من أبواب مقدّمات التجارة ، الحديث ٢.

٣٩٥

يصدّقوه ، ولكنّهم قالوا : هذا صاحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، رآه وسمع منه ، وهو لا يكذب ولا يستحلّ الكذب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقد أخبر الله عن المنافقين بما أخبر ووصفهم بما وصفهم ، فقال الله عزوجل (وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ)(١) ، ثمّ بقوا بعده وتقرّبوا إلى أئمّة الضلال والدعاة إلى النار ، بالزور والكذب والنفاق والبهتان ، فولّوهم الأعمال ، وحملوهم على رقاب الناس ، وأكلوا بهم من الدنيا ، وإنّما الناس مع الملوك في الدنيا إلّا من عصم الله ، فهذا أوّل الأربعة.

ورجل سمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فلم يحفظه على وجهه ، ووهم فيه ولم يتعمّد كذبا ، وهو في يده يرويه ويعمل به ويقول : أنا سمعته من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلو علم المسلمون أنّه وهم لم يقبلوا ، ولو علم هو أنّه وهم فيه لرفضه.

ورجل ثالث سمع من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله شيئا أمر به ثمّ نهى عنه وهو لا يعلم ، أو سمعه نهى عن شيء ثمّ أمر به وهو لا يعلم ، حفظ المنسوخ ولم يحفظ الناسخ ، فلو علم أنّه منسوخ لرفضه ، ولو علم المسلمون أنّه منسوخ إذ سمعوه لرفضوه.

ورجل رابع لم يكذب على الله ولا على رسول الله ؛ بغضا للكذب ، وتخوّفا من الله ، وتعظيما لرسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، ولم يوهم ، بل حفظ ما سمع على وجهه ، فجاء به كما سمعه ، ولم يزد فيه ولم ينقص ، وحفظ الناسخ من المنسوخ ، فعمل بالناسخ ورفض المنسوخ ، وأنّ أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونهيه مثل القرآن ناسخ ومنسوخ ، وعامّ وخاصّ ، ومحكم ومتشابه ، وقد كان يكون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله الكلام له وجهان : كلام خاصّ وكلام عامّ ، مثل القرآن يسمعه من لا يعرف ما عنى الله به ، وما عنى به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وليس كلّ أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يسأله فيفهم ، وكان منهم

__________________

(١) المنافقون : ٤.

٣٩٦

من يسأله ولا يستفهم حتّى أن كانوا يحبّون أن يجيء الطارئ [أي الغريب الذي أتاه عن قريب من غير انس به وبكلامه] والأعرابي ، فيسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله حتّى يسمعوا منه ، وكنت أدخل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، كلّ يوم دخلة ، وكلّ ليلة دخلة ، فيخلّيني فيها أدور معه حيث دار ، وقد علم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه لم يكن يصنع ذلك بأحد من الناس غيري ، وربّما كان ذلك في منزلي يأتيني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإذا دخلت عليه في بعض منازله خلا بي وأقام نساءه ، فلم يبق غيري وغيره ، وإذا أتاني للخلوة في بيتي لم تقم من عندنا فاطمة ولا أحد من ابنيّ ، وإذا سألته أجابني ، وإذا سكت أو نفدت مسائلي ابتدأني ، فما نزلت عليه آية من القرآن إلّا أقرأنيها وأملاها عليّ ، فكتبتها بخطّي ، ودعا الله أن يفهّمني إيّاها ويحفّظني ، فما نسيت آية من كتاب الله منذ حفظتها ، وعلّمني تأويلها فحفظته ، وأملاه عليّ فكتبته ، وما ترك شيئا علّمه الله من حلال وحرام ، أو أمر ونهي ، أو طاعة ومعصية ، كان أو يكون إلى يوم القيامة ، إلّا وقد علّمنيه وحفظته ، ولم أنس منه حرفا واحدا ...» (١) ، إلى آخر.

والمستفاد من الرواية ـ بعد كون سليم بن قيس وكتابه موردا للاعتماد ـ بيان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله جميع المسائل المربوطة بالحلال والحرام إلى يوم القيامة وضبطها في صحيفة على حدة غير القرآن بواسطة أمير المؤمنين عليه‌السلام ، والقرآن المكتوب بيده عليه‌السلام واجد لجميع الخصوصيّات المربوطة بكلّ آية من البدو إلى الختم من شأن النزول والتأويل والتفسير ، ولكنّه لا يكون زائدا ولا ناقصا عن القرآن الموجود في أيدينا. نعم ، يمكن أن يكون متفاوتا في ترتيب السور.

والمستفاد من الرواية قريب من الاحتمال الثاني المذكور في كلام الشيخ قدس‌سره إلّا

__________________

(١) كتاب سليم بن قيس الكوفي : ١٨١.

٣٩٧

أنّه يتحقّق الفرق بينهما بأنّ مفاد هذا الاحتمال أن تكون المخصّصات المنفصلة كاشفة عن اتّصال كلّ عام بمخصّصه ، سواء صدر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أو عن سائر الأئمّة عليه‌السلام ، وقد خفيت علينا ووصلت إلينا منفصلة ، وما استفدناه من الرواية هو صدور جميع العمومات والمخصّصات من لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في زمانه ، وما ذكره سائر الأئمّة هو بيان ثان لما صدر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أوّلا.

مضافا إلى تحقّق المخصّصات المنفصلة أيضا بلسان رسول الله مع رعاية شرطها ـ أي قبل وقت العمل بالعامّ ـ ومنشأ الاختلاف وعدم إيصال الأحكام إلينا بتمامها هو سدّ باب العلم وحرمان الناس من معدن الوحي والحكمة.

وعلى هذا لا يلزم من الالتزام بالتخصيص في تلك المخصّصات الكثيرة تأخير البيان عن وقت العمل أصلا.

إذا عرفت ذلك : يقع الكلام في تقديم التخصيص على النسخ أو العكس فيما إذا دار الأمر بينهما ، وقد ذهب إلى كلّ فريق ، ولا بدّ قبل الورود في البحث من بيان أنّ محلّ النزاع يختصّ بمجرّد دوران الأمر بينهما مع قطع النظر عن وجود ما يدلّ بظاهره على ترجيح أحدهما.

فما أفاده المحقّق النائيني قدس‌سره ـ من تقدّم التخصيص على النسخ ؛ نظرا إلى أنّ النسخ يتوقّف على ثبوت حكم العامّ لما تحت الخاصّ من الأفراد ، ومقتضى حكومة أصالة الظهور في طرف الخاصّ على أصالة الظهور في طرف العامّ هو عدم ثبوت حكم العامّ لأفراد الخاصّ ، فيرتفع موضوع النسخ (١) ـ مورد للإشكال :

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٧٣٨.

٣٩٨

أوّلا : بأنّ هذا الأمر مبنائيّ ، وقد ذكرنا في مسألة علّة تقدّم الدليل الخاصّ على الدليل العامّ نظر أعاظم أهل الفنّ وما التزم به المحقّق النائيني قدس‌سره ـ من كونهما من مصاديق القرينة وذي القرينة ، وحكومة أصالة الظهور في طرف القرينة على أصالة الظهور في طرف ذي القرينة بعنوان القاعدة الكلّيّة ـ وقلنا : إنّ علّة تقدّمه عليه عدم التنافي والتعارض بينهما عند العرف والعقلاء في محيط التقنين ، ولا يرتبط بمسألة القرينة وذي القرينة.

وثانيا : أنّ البحث فيما إذا دار الأمر بين النسخ والتخصيص قبل إحراز المخصّصيّة ، بل كون كلّ منهما طرف الاحتمال. نعم ، هذا الكلام صحيح فيما إذا كان عنوان المخصّص محرزا.

وثالثا : سلّمنا صحّة ما ذكره قدس‌سره ونتيجته أنّ هذا ليس من الدوران بين النسخ والتخصيص ، ولكن نسأل أنّ التكليف في صورة الدوران بينهما ما هو؟ وما أفاده قدس‌سره لا يكون مبيّنا له ، ولا يوجب التخلّص من التحيّر.

٣٩٩
٤٠٠