دراسات في الأصول - ج ٤

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-95-8
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٤٨٠

تنبيهات

وينبغي التنبيه على امور :

التنبيه الأوّل : في معنى التخيير في المسألة الاصوليّة :

لا إشكال في أنّ المستفاد من أخبار التخيير هو التخيير في المسألة الاصوليّة ، ومرجعه إلى كون المجتهد المتحيّر مخيّرا في الأخذ بأحد الخبرين في مقام الفتوى ومعاملته معاملة الحجّة ، كما لو كان بلا معارض ، لا التخيير في المسألة الفقهيّة مثل : تخيير المكلّف بين الخصال الثلاث في كفّارة الإفطار في مقام الامتثال.

وإنّما الإشكال في كيفيّة الجمع والتوافق بين مقتضى القاعدة العقلائيّة ـ أي التساقط ـ وحكم الشارع بالتخيير في ضمن الأخبار العلاجيّة.

قد يقال بأنّ حكم الشارع بالتخيير في الخبرين المتعارضين لا يكون مع غضّ النظر عن حكم العقل والعقلاء وتخطئتهما ، بل الشارع مع ملاحظة حكم العقل والعقلاء بتساقط الطريقين وعدم كاشفيّتهما عن الواقع جعل حكما ظاهريّا للمتحيّر ، وهو التخيير والسعة في الأخذ بأيّهما ، فيكون التساقط بلحاظ الطريقيّة ، والتخيير بعنوان الحكم الظاهري كسائر الاصول المعتبرة في موارد الشكّ. ويؤيّده ما في بعض الروايات المتقدّمة كقوله عليه‌السلام : «وما لم تعلم

٤٤١

فموسّع عليك» (١).

ويرد عليه : أنّ الفرق بين الأمارات والاصول العمليّة عبارة عن ترتّب الآثار واللوازم والملازمات العقليّة والعاديّة على الأمارات ، بخلاف الاصول ؛ لعدم حجّيّة مثبتات الاصول ، ولازم هذا القول الاقتصار في مقام الأخذ بأحد الخبرين على مجرّد مدلوله المطابقي دون لازمه ؛ لما ذكرنا من كون التخيير هنا بعنوان الأصل العملي والحكم الظاهري لتساقط الأمارتين ، مع أنّ هذا مخالف لما استفاده المحقّقين في هذا الفن من التخيير المستفاد من الأخبار العلاجيّة من ترتّب جميع المداليل المطابقيّة والالتزاميّة على الخبر الذي أخذه في هذا المقام ، ومعاملته كأنّ لم يكن له معارض ، فلا يمكن الالتزام بهذا القول.

وقد يقال بأنّ مرجع جعل التخيير لتلك الأخبار إلى جعل الطريقيّة من الشارع عند التعارض في مقابل إمضائه طريقيّة ما هو طريقا عند العقلاء في صورة عدم المعارضة ، مثل : إمضاء طريقيّة الخبر.

ويرد عليه : أوّلا : أنّ أصل جعل الطريقيّة والكاشفيّة ولو مع عدم التعارض غير معقول ؛ لكونها من الامور التكوينيّة ومن اللوازم العقليّة للكاشف ، ولا يعقل تعلّق الجعل الشرعي بها.

وبعبارة اخرى : أنّ الكاشفيّة والطريقيّة محفوظة لجميع الطرق الظنّية ، ولا تكون قابلة للسلب عنها ، وما يكون قابلا للجعل من الشارع هو اعتبارها وحجّيّتها ، فلذا يعبّر عن بعضها بالأمارة الغير المعتبرة ، وعن بعض آخر بالأمارة المعتبرة.

وثانيا : أنّه إن كان المراد جعل الطريقيّة لكلا الخبرين فهو مستحيل بعد

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٨٨ ، الباب ٩ ، من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٤.

٤٤٢

فرض التعارض وعدم إمكان الاجتماع ؛ إذ لو لم يكن مستحيلا لما حكم العقل بالتساقط ، كما هو واضح.

وإن كان المراد الطريقيّة لأحد الخبرين بالخصوص ، فمضافا إلى أنّه لا مرجّح في البين ، مناف لمقتضى الأدلّة ، حيث إنّها تدلّ على التخيير لا الأخذ بخصوص واحد منهما ، وإن كان المراد جعلها لأحدهما غير المعيّن فمن الواضح أنّ أحدهما لا على سبيل التعيين ليس شيئا وراء كلا الخبرين ؛ إذ ليس هنا أمر آخر في البين ، وقد عرفت استحالة جعل الطريقيّة لكليهما أو واحد معيّن منهما.

هذا ، وكان لاستاذنا السيّد الإمام رحمه‌الله طريق آخر في المسألة ، وهو قوله : «والتحقيق في المقام أن يقال : إنّ الحكم بالتخيير في المتعارضين ليس حكما ثانويا وراء الحكم بحجّيّة كلّ واحد من الخبرين إمضاء لحكم العقلاء وبنائهم على العمل بخبر الواحد ، غاية الأمر أنّ مرجعه إلى تخطئه العقلاء في حكمهم بالتساقط مع التعارض ، ومرجعه إلى أنّه كما كان الواجب عليكم الأخذ بالخبر والتعبّد بمضمونه وجعله حجّة وطريقا إلى الواقع مع عدم التعارض مع الخبر الآخر ، كذلك يجب عليكم في مقام التعارض أيضا الأخذ ، غاية الأمر أنّه حيث لا يكون ترجيح في البين يتخيّر المكلّف في الأخذ بكلّ واحد منهما ، فهذا الأخذ لا يكون مغايرا للأخذ بالخبر مع عدم المعارضة أصلا ، وحينئذ لا فرق بينهما من جهة حجّيّة اللوازم والملزومات.

ثمّ ذكر تنظيرا بعنوان الدليل وقال : والدليل على ما ذكرنا أنّ الظاهر عدم الفرق فيما يرجع إلى معنى الأخذ بين المتكافئين والمتعارضين مع ثبوت المزيّة لأحدهما ، فكما أنّ الأمر بأخذ ذي المزيّة ليس حكما آخر وراء الحكم بحجّيّة

٤٤٣

الخبر ، فكذلك الأمر بأخذ أحد الخبرين مع التكافؤ ، فإنّه ليس أيضا حكما آخر ناظرا إلى جعل الطريقيّة وجعل حكم ظاهري ، كما هو واضح» (١).

ويرد عليه : أنّ تخطئة حكم العقلاء وإن كان بمكان من الإمكان ، ولكن لا مجال لتخطئة حكم العقل ، وقد عرفت أنّ التساقط مقتضى حكم العقل أيضا ، وعليه فيبقى الإشكال بحاله ، بأنّ العقل إذا حكم بالتساقط في الخبرين المتعارضين فكيف يمكن الحكم بالتخيير في ضمن روايات التخيير مع تصرّفه في الآيات القرآنيّة بعنوان قرينة متّصلة ، وتقدّم الدليل العقلي القطعي على الدليل التعبدي؟ فبعد اعترافه رحمه‌الله هناك بأنّ مقتضى القاعدة بنظر العقل هو التساقط لا يمكن التعبّد بخلافه.

والتحقيق : الالتزام بالقول الأوّل من الأقوال الثلاثة من كون التخيير في الخبرين المتعارضين المتكافئين أصلا عمليّا شرعيّا مثل سائر الاصول العمليّة الشرعيّة في قبال أصالة التخيير العقليّة الجارية في دوران الأمر بين المحذورين.

ولا منافاة بينه وبين حكم العقل بتساقط الخبرين وعدم صلاحيتهما للطريقيّة والأماريّة للتعارض ، ففي صورة فقدان الطريق والتحيّر حكم الشارع بالتخيير بينهما بعنوان الأصل العملي ، وبهذا المعنى ينطبق ما في قوله عليه‌السلام : «ما لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت».

فإن قيل : إنّ لازم ذلك الأخذ بمدلول مطابقي ما اخذ من الخبرين دون اللوازم والملازمات.

وجوابه ؛ أوّلا : أنّه لا مانع من الالتزام بذلك.

__________________

(١) معتمد الاصول ٢ : ٣٩٢.

٤٤٤

وثانيا : سلّمنا عدم حجّيّة لوازم مفاد الأصل العملي بمعنى عدم ترتّب اللوازم العقليّة على أصالة التخيير بعنوان الأصل العملي ، ولكن لا دخل لنا باللوازم وملازماته ، بل نتعبّد بطرفي التخيير ومخيّر فيه ، وهو الأخذ بهذا الخبر بتمام مفاده من المطابقي والالتزامي وغيرهما ، وعدم طريقيّته لا يمنع من التعبّد بالتخيير ، وإلّا يمنع من حجّيته في المدلول المطابقي أيضا ؛ إذ التعارض يقع أوّلا وبالذات في المدلول المطابقي.

فالتخيير هنا أصل عملي ومثبتاته ليست بحجّة ، ولكن لا يسري هذا إلى الخبر الذي اخذ بعنوان طرفي التخيير ، كأنّه قال الشارع : «أنت مخيّر في الأخذ بهذا الخبر في تمام مداليله والأخذ بذاك الخبر في تمام مداليله» ، وليس معناه حجّيّة مثبتات الاصول ، ولا يمكن القول بأنّه لا يمكن للشارع التعدّي من المدلول المطابقي كما لا يخفى ، فهذا الوجه أقرب عندنا.

التنبيه الثاني : في اختصاص التخيير بالمفتي وعدمه

بعد ما عرفت من كون التخيير الذي يدلّ عليه أخباره هو التخيير في المسألة الاصوليّة ، فهل يجوز للمجتهد الفتوى بالتخيير في المسألة الفرعيّة الراجعة إلى كون المقلّد مخيّرا في مقام العمل ، أم التخيير ينحصر بالمجتهد ويجب عليه الأخذ بمضمون أحد الخبرين والفتوى على طبقه ، بعد ما علم أن جريان الاصول في الشبهات الموضوعيّة لا ينحصر بالمجتهد ، بل يجوز للمقلّد أيضا إجراؤها؟

وأمّا في إجرائها في الشبهات الحكميّة فوجهان :

قد يقال : بانحصار الخطابات الواردة في المسائل الاصوليّة بخصوص المجتهد ؛ نظرا إلى أنّه هو الذي يتحقّق عند موضوع تلك الخطابات ؛ لأنّه هو

٤٤٥

الذي يشكّ في الحكم الفلاني بالشبهة الحكميّة ، وهو الذي يجيء عنده الخبران المتعارضان ، وغير ذلك من الموضوعات ، ومع انحصار تحقّق الموضوع به لا تكون تلك الخطابات شاملة لغيره.

هذا ، ولكنّ الظاهر خلافه ؛ لأنّ مجرّد كون المقلّد غير مشخّص لموضوعات تلك الخطابات لا يوجب انحصارها بالمجتهد ، بل يمكن أن يقال : بأن المجتهد يشخّص الموضوع للمقلّد ويفتي بمفاد تلك الخطابات ، وبالنتيجة يكون جريانها في ذلك الموضوع عند المقلّد ، فالمجتهد يعلّم المقلّد بأنّ صلاة الجمعة كانت واجبة في عصر ظهور أئمّة النور عليهم‌السلام ، والآن مشكوك الوجوب ، ويفتي بأنّ كلّ شيء كان كذلك يحرم نقض اليقين فيه بالشكّ على ما هو مدلول خطابات الاستصحاب ، فالمقلّد حينئذ يتمسّك بالاستصحاب ويحكم بوجوبها في هذه الأعصار أيضا.

وإن كانت الشبهة حكميّة فلا يصحّ القول بالتبعيض في خطاب واحد ، مثل : قولهعليه‌السلام : «لا تنقض اليقين بالشكّ» ، وقوله عليه‌السلام : «كلّ شيء لك حلال» ، والحكم المستفاد منه من حيث عموميّته بالنسبة إلى المجتهد والمقلّد في الشبهات الموضوعيّة واختصاصه بالمجتهد في الشبهات الحكميّة ، ومجرّد كون تشخيص الموضوع فيها بيد المجتهد لا يوجب اختصاص الخطاب به ، بل الخطاب والحكم عامّ.

والحاصل : أنّ المجتهد عند تعارض الخبرين يتخيّر بين الأخذ بمفاد أحد الخبرين والفتوى على طبقه ، كالأخذ بالخبر مع عدم المعارض له ، وبين إعلام المقلّد بالحال وأنّ هذا المورد ممّا ورد فيه الخبران المتعارضان وحكمه التخيير في الأخذ ، وبين الفتوى بالتخيير في مقام العمل من دون إعلامه بالحال.

٤٤٦

أمّا الأوّل والثاني فواضحان ، وأمّا الثالث فلأنّ التخيير ـ كما عرفت ـ حكم طريقي ومرجعه إلى جواز أخذ كلّ من الخبرين طريقا وأمارة ، فلا مانع من الفتوى بالتخيير.

والتحقيق : أنّ الفتوى بالتخيير في المقام غير قابلة للالتزام ، فإنّ الظاهر منها التخيير في المسألة الفرعيّة ـ كالتخيير بين الخصال الثلاث في كفّارة الإفطار ـ وأنّ حكم الله في المسألة هو التخيير ، مع أنه ليس كذلك ، وجواز الأخذ بكلّ من الخبرين هو التخيير في المسألة الاصوليّة ـ أي التخيير في مقام الأخذ بالحجّة والعمل على طبقه ، ولا يصحّ الخلط بينهما ، فالطريق الثالث بعد عدم دلالة كلّ من الروايتين على التخيير ليس بتامّ.

التنبيه الثالث : في أنّ التخيير بدوي أو استمراري

هل التخيير بدوي مطلقا ، أو استمراري كذلك ، أو تفصيل فيه بين ما إذا قيل باختصاص الخطابات الواردة في المسائل الاصوليّة بالمجتهد فالتخيير بدوي ، وبين ما إذا قيل بعدم الاختصاص فاستمراري؟

ومن المعلوم أنّ التخيير الاستمراري يحتاج إلى إقامة الدليل عليه بخلاف التخيير البدوي ، فإنّه المستفاد من أخبار التخيير إلى هنا ، والمستند هو الأخبار الواردة في التخيير ، ومع قصورها فالاستصحاب.

وقال الشيخ الأنصاري رحمه‌الله : «إنّ مستند التخيير إن كان هو الأخبار الدالّة عليه فالظاهر أنّها مسوقة لبيان وظيفة المتحيّر في ابتداء الأمر ، فلا إطلاق فيها بالنسبة إلى حال المتحيّر بعد الالتزام بأحدهما» (١).

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٧٦٤.

٤٤٧

وقال استاذنا السيّد الإمام رحمه‌الله في قباله : «أنّه يمكن أن يستفاد من كثير من الأخبار الواردة في التخيير كونه استمراريّا ، والعمدة من ذلك روايتان :

إحداهما : ما رواه الحسن بن جهم عن الرضا عليه‌السلام قلت : يجيئنا الرجلان وكلاهما ثقة بحديثين مختلفين ولا نعلم أيّهما الحقّ؟ قال عليه‌السلام : «فإذا لم تعلم فموسّع عليك بأيّهما أخذت» (١).

فانّ تعليق الحكم بالتوسعة على مجرّد الجهل وعدم العلم ـ خصوصا مع إعادته في الجواب مع كونه مذكورا في السؤال ـ يدلّ على أنّ تمام الموضوع للحكم بالتوسعة هو مجرّد الجهل بالواقع وعدم العلم والتردّد الناشئ من مجيء الحديثين المختلفين ، ومن الواضح بقاء التردّد بعد الأخذ بأحدهما ؛ لأنّ الأخذ به لا يوجب العلم بالواقع ، أو قيام أمارة عليه التي لا بدّ من الأخذ بها.

وقد عرفت أن التخيير وظيفة مجعولة في مقام الشكّ والتحيّر ، وليس مرجعه إلى كون المأخوذ من الخبرين أمارة تعبّديّة في صورة التعارض حتّى يكون قيام الأمارة رافعا لموضوع الحكم بالتوسعة تعبّدا ، بل التحقيق : أنّه مع التخيير والأخذ بأحد الخبرين لا يرتفع التحيّر والتردّد من البين ، والمفروض أنّه الموضوع الفريد للحكم بالتوسعة وجواز الأخذ بما شاء منهما.

ثانيتهما : رواية الحارث بن المغيرة عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال عليه‌السلام : «إذا سمعت من أصحابك الحديث ـ وكلّهم ثقة ـ فموسّع عليك حتّى ترى القائم عليه‌السلام فتردّ عليه» (٢).

وهذه الرواية وإن كان ربّما يناقش في دلالتها على التخيير في المتعارضين ؛

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٨٧ ، كتاب القضاء ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٤٠.

(٢) المصدر السابق ، الحديث ٤١.

٤٤٨

لعدم التعرّض لهما في الموضوع ، بل موضوع الحكم بالتوسعة مطلق الحديث ، إلّا أنّ التمسّك بها لمكان كونها من أدلّة التخيير عند الشيخ رحمه‌الله القائل بهذه المقالة ، وهي قصور أدلّة التخيير عن الدلالة لحال المتحيّر بعد الالتزام بأحدهما.

مضافا إلى أنّه يمكن أن يستفاد من التعبير بالتوسعة المستعملة في سائر روايات التخيير كون الموضوع هو المتعارضان (*) ، وإلى أنّ إطلاقه لهما يكفي لنا ، كما لا يخفى.

وكيف كان ، فدلالتها على استمرار التخيير أوضح من الرواية السابقة ؛ لأنّها جعلت الغاية للحكم بالتوسعة هي رؤية القائم عليه‌السلام والردّ عليه ، فتدلّ على بقائه مع عدم حصول الغاية ، سواء كان في ابتداء الأمر أو بعد الأخذ بأحد الخبرين ، كما لا يخفى. فانقدح أنّه لا مجال لدعوى الإهمال في جميع الروايات الواردة في باب التخيير» ، انتهى كلامه رفع مقامه(١).

والتحقيق : أنّ هذا كلام جيّد قابل للمساعدة وبعد إثبات استمرار التخيير بالروايتين لا تصل النوبة إلى إثباته من طريق الاستصحاب ، ولكن نبحث فيه أيضا لمزيد الاطمئنان ، وعلى فرض عدم إمكان التمسّك بإطلاق الروايات.

وأمّا الاستصحاب فهل يمكن التمسّك به لبقاء استمرار التخيير أم لا ؛ لاشتراط اتّحاد الموضوع في القضيّة المتيقّنة والمشكوكة فيه ، فلا بدّ من ملاحظة ما جعل في الأخبار موضوعا للحكم بالتخيير؟ ويحتمل فيه وجوه أربعة :

أحدها : أن يكون الموضوع هو شخص المكلّف مجتهدا كان أو مقلّدا لم يعلم

__________________

(*) في الأصل : «المتعارضين» والصحيح ما اثبت.

(١) معتمد الاصول ٢ : ٣٩٦ ـ ٣٩٧.

٤٤٩

ما هو الحقّ من الخبرين المتعارضين ، كما يستفاد من رواية الحسن بن جهم عن الرضا عليه‌السلام.

ثانيها : أن يكون الموضوع هو من لم يعلم حقّيّة واحد منهما.

ثالثها : أن يكون الموضوع هو المتحيّر بما هو متحيّر.

رابعها : أن يكون الموضوع خصوص من لم يختر أحد الخبرين ، كما يظهر من الشيخرحمه‌الله (١) ، فعلى الأوّلين لا مانع من الاستصحاب ؛ لبقاء الموضوع المأخوذ في الدليل بعد الأخذ أيضا ؛ إذ المكلّف بعد الأخذ لا يتبدّل عدم علمه بالعلم ، وأمّا على الثالث فالظاهر أنّه بعد الأخذ بأحد الخبرين لا يبقى متحيّرا ، فيتبدّل الموضوع ولا يجري استصحاب بقاء التخيير ، وهكذا على الرابع : لعدم بقاء الموضوع بعد اختيار أحد الخبرين والعمل به.

ولكنّ التحقيق : أنّه لا مانع من جريانه على الثالث والرابع أيضا ؛ لأنّه بعد ما صار الشخص الخارجي موردا للحكم بالتخيير نقول : هذا الشخص كان مخيّرا والآن نشكّ في بقاء تخييره ، فهو بعد باق عليه ، نظير الاستصحاب الجاري في الماء المتغيّر بعد زوال تغيّره من قبل نفسه.

وبعبارة اخرى : أنّ الاختيار وعدم الاختيار من حالات الموضوع لا من مقوّماته ، فلذا لا يكون كلّ منهما موجبا لتغيير الموضوع وتبدّله.

فهذا المجتهد كان مخيّرا وإن كانت العلّة في حدوث التخيير هي عدم الأخذ ، ولكن يحتمل أن يكون دخيلا في الحدوث فقط دون البقاء ، فلذا نشكّ في أنّ المؤثّر في الحدوث مؤثّر في البقاء أم لا؟ كالشكّ في أنّ هذا الماء كان نجسا لأجل كونه متغيّرا والآن مع عدم كونه متغيّرا بالفعل نشكّ في بقاء نجاسته ، فنجري الاستصحاب ، فلا إشكال في جريان الاستصحاب.

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٧٦٤.

٤٥٠

التنبيه الرابع : في شمول أخبار التخيير لجميع صور الخبرين المختلفين

لا إشكال في تحقّق الموضوع المأخوذ في أخبار التخيير ـ وهو مجيء الرجلين بحديثين مختلفين ـ فيما إذا كان سند الروايتين مختلفين جميعا في الأخبار مع الواسطة بأن لم يشتركا أصلا حتّى في واحد ، إنّما الإشكال فيما إذا اشتركا في منتهى السلسلة ، سواء اشتركا في غيره أم لا ، كما إذا روى الكليني بإسناده حديثا عن زرارة دالّا على وجوب شيء ، وروى الشيخ بإسناده حديثا عنه أيضا دالّا على حرمة ذلك الشيء ، أو روى الكليني عنه أيضا ذلك الحديث ، فإنّه ربّما يمكن أن يقال بعدم كون هذا المورد مشمولا لأخبار التخيير أصلا ؛ نظرا إلى أنّ المورد هو مجيء الرجلين بحديثين مختلفين ، وهنا كان الجائي بهما شخصا واحدا ، وهو زرارة فقط ، فلا تشمله أدلّة التخيير.

هذا ، ولكنّ الظاهر عدم دخالة مجيء الرجلين بما هما رجلان ، ولذا لو أتى بحديثين غير رجلين بل امرأتان أو رجل وامرأة ، لا شكّ في دخوله في موردها ، مضافا إلى أنّه يستفاد من أدلّة التخيير أنّ الشارع لم يرض برفع اليد عن المتعارضين مع كون القاعدة تقتضي التساقط ، فخلافه يوجب عدم رفع اليد في المقام أيضا ، فلا دخل للرجوليّة والتعدّد في المسألة.

ولو كان الحديث المنقول في الجوامع المتأخّرة مختلفا من حيث النقل عن الجوامع الأوّليّة ، مثل : ما إذا روى الكليني في الكافي حديثا عن كتاب الحسين بن سعيد الأهوازي ، وروى الشيخ في التهذيب ـ مثلا ـ ما يغايره عن ذلك الكتاب أيضا ، فالظاهر أيضا شمول أخبار التخيير له إذا لم يعلم بكون الاختلاف مستندا إلى اختلاف نسخ ذلك الكتاب ؛ لأنّ الظاهر أنّ مثل الكليني والشيخ لم يعتمدا في نقل الحديث على ما هو المنقول في الكتب ،

٤٥١

بل كان دأبهم على الأخذ من الشيوخ ، إمّا بالقراءة عليهم أو بقراءتهم عليه ، فهذا الاختلاف دليل على اختلاف الشيوخ النقلة لهذا الحديث.

نعم ، لو كان الاختلاف في نسخ الاصول المتأخّرة والجوامع الموجودة بأيدينا ، كما إذا اختلفت نسخ الكافي ـ مثلا ـ في حديث ، فالظاهر عدم كونه مشمولا لأخبار التخيير أصلا ؛ لأنّ هذا الاختلاف يكون مستندا إلى الكتاب لا محالة ، فلا يصدق مجيء الرجلين بحديثين مختلفين.

إلى هنا تمّ البحث عن الخبرين المتعارضين المتكافئين.

٤٥٢

المقصد الثاني

في الخبرين المتعارضين مع عدم التكافؤ

والكلام فيه أيضا يقع في مقامين :

المقام الأوّل : فيما يحكم به العقل في هذا الباب

لا يخفى أنّ التكلّم في حكم العقل إنّما هو بناء على التخيير الثابت بين الخبرين المتعارضين بمقتضى الروايات المذكورة في المقصد السابق ، لا بناء على التساقط الذي هو مقتضى القاعدة ، وهكذا بناء على اعتبار الخبر من باب الطريقيّة ، لا بناء على السببيّة ؛ لكونها غير قابلة للالتزام ، فلا فائدة للبحث عنها.

وعلى هذا إن قلنا بأنّ المجعول عند التعارض هي الطريقيّة والكاشفيّة للتخيير بعنوان الأصل العملي في مورد الشكّ ـ مثل سائر الاصول العمليّة ـ فلا بدّ من الأخذ بذي المزيّة أو بما يحتمل اشتماله عليها ؛ لأنّه يدور الأمر بين أن يكون الطريق المجعول بعد التعارض هو خصوص الخبر الراجح أو أحدهما تخييرا ، فحجّيّة الخبر الراجح متيقّنة لا ريب فيها عقلا ، وأمّا الخبر غير الراجح فيشكّ في طريقيّته وكاشفيّته عند التعارض ؛ لأنّه يحتمل اعتبار الشارع بالمزيّة

٤٥٣

الموجودة في الآخر ، والشكّ في باب الحجّيّة والطريقيّة مساوق للقطع بعدم الحجّيّة ؛ لأنّها ترجع إلى صحّة احتجاج المولى على العبد وكذا العكس ، ولا يصحّ الاحتجاج مع الشكّ.

وإن لم نقل بأنّ المجعول في مورد التعارض هي الطريقيّة والكاشفيّة له ، بل قلنا بأنّ المجعول إنّما هو حكم وجوبي ووظيفة للمكلّف المتحيّر عند تعارض الطريقين عنده ؛ نظرا إلى استحالة كون الطريقيّة مجعولة ، إمّا مطلقا لأنّها من الامور التكوينيّة الغير قابلة لتعلّق الجعل بها ، أو في خصوص المقام ؛ لاستحالة جعل الطريقيّة للمتناقضين ، فالأمر يدور بين التعيين والتخيير ؛ لأنّه يحتمل تعلّق التكليف الوجوبي بالأخذ بخصوص الخبر الراجح ، ويحتمل تعلّقه على سبيل الوجوب التخييري بكلا الخبرين ، والحكم فيه هو الاشتغال أو البراءة على خلاف كما عرفت في بابه.

المقام الثاني : في مقتضى الأخبار الواردة في هذا الباب وأنّه هل هو وجوب الأخذ بذي المزيّة أم لا؟ وما هي المزية المرجّحة؟

قد يقال بعدم وجوب الترجيح بالمرجّحات المنصوصة ولا بغيرها ؛ نظرا إلى أنّ ظاهر الأخبار الواردة فيه وإن كان هو الوجوب ، إلّا أنّ مقتضى الجمع بينها وبين أخبار التخيير مطلقا هو حملها على الاستحباب ؛ لاستلزام إبقائه على ظاهره وتقييد أخبار التخيير بصورة عدم ثبوت شيء من المرجّحات حمل أخبار التخيير على الفرد النادر وإخراج أكثر الأفراد منها ، وهو قبيح ، أو إلى أنّ اختلاف الأخبار الواردة في الترجيح في المرجّحات من حيث اشتمال كلّ منها على بعض ممّا لم يشتمل عليه الآخر أو من حيث الاختلاف في الترتيب بين المرجّحات دليل على عدم وجوب الترجيح ، كاختلاف الأخبار

٤٥٤

الواردة في البئر ومنزوحاته حيث استكشف منه الاستحباب ؛ نظرا إلى أنّ الاختلاف خصوصا مع كثرته لا يجتمع مع الحكم الإيجابي ، بل هو دليل على أصل الرجحان ، والاختلاف محمول على مراتبه من الشدّة والضعف (١).

ونقول : لا بدّ من ملاحظة أخبار الترجيح والتكلّم في مفادها حتّى يظهر أنّ المرجّح لإحدى الروايتين على ما هو المجعول شرعا المدلول عليه الأخبار ليس إلّا واحدا أو اثنين ، وتقييد أخبار التخيير به لا يوجب إخراج أكثر الأفراد ، ولا مانع منه أصلا ، خصوصا بعد ما عرفت من أنّه ليس في الروايات التي ادّعي كونها دليلا على التخيير إلّا رواية واحدة دالّة عليه ، وقد تقدّمت ، وغيرها قاصر من حيث الدلالة جدّا.

والعمدة في هذا الباب هي المقبولة (٢) ، وذكرها المشايخ الثلاثة ، والإشكال فيها من حيث السند ؛ لعدم ورود القدح والمدح في شأن عمر بن حنظلة ، فلا اعتبار لها في نفسها ، ولكن يمكن أن يقال : إنّ استناد المشهور إليها في مقام الفتوى ومقبوليّتها عندهم يوجب جبران ضعفها ، إلّا أنّه يستلزم الدور ، ولا يمكن القول بهذا المعنى في نفس المقبولة ؛ لعدم إمكان تقوية سندها بما يستفاد من متنها ، وهكذا نقل أصحاب الإجماع مثل : صفوان بن يحيى عنه أيضا لا يوجب جبر ضعف السند كما ذكرنا مرارا.

إلّا أنّ عدد الرواة عن عمر بن حنظلة في أبواب مختلفة اثنان وعشرون نفرا وكلّهم مسلّم الوثاقة إلّا رجلين منهم ، وهذا يوجب الاطمئنان بكونه مورد اعتمادهم.

__________________

(١) درر الفوائد : ٦٦٥ ـ ٦٦٧.

(٢) الكافي ١ : ٦٧ ، كتاب فضل العلم باب اختلاف الحديث ، الحديث ١٠.

٤٥٥

مضافا إلى ما ذكره الصدوق رحمه‌الله في مقدّمة كتاب «من لا يحضره الفقيه» ، من كون الروايات المذكورة فيه حجّة بيني وبين الله ومعتبرة عندي ، ونقل رواية عمر بن حنظلة فيه.

ومضافا إلى توثيق النجاشي له على ما هو المحكي عنه ، فوجود هذه القرائن كاف للحكم بوثاقته ، خصوصا أنّ وجود تلامذة له مسلّمي الوثاقة يدلّ على وثاقة شيخهم واستاذهم ، فلا يبعد كون الرواية صحيحة أو موثّقة.

وإليك نصّ المقبولة : محمّد بن يعقوب ، عن محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين ، عن محمّد بن عيسى ، عن صفوان بن يحيى ، عن داود بن الحصين ، عن عمر بن حنظلة ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث ، فتحا كما إلى السلطان أو إلى القضاة ، أيحلّ ذلك؟ ـ ومعلوم أنّ المنازعة والتخاصم في هذه الموارد والمراجعة إليهم تكون في الشبهات الموضوعيّة لا في الشبهات الحكميّة ، فلا وجه لما ذكره المحقّق الرشتي في رسالته في مسألة تقليد الأعلم ، من كون المنازعة في الشبهة الحكمية ـ فقال : «من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل ، فإنّما تحاكم إلى طاغوت ، وما يحكم له فإنّما يأخذ سحتا وإن كان حقّه ثابتا ؛ لأنّه أخذه بحكم الطاغوت ، وقد أمر الله أن يكفر به ، قال الله تعالى : (يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ ...)(١). قلت : فكيف يصنعان؟ قال : «ينظران (إلى) من منكم ممّن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا ، فليرضوا به حكما ، فإني قد جعلته عليكم حاكما ، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه ، فإنّما استخفّ بحكم الله ، وعلينا ردّ ، والرادّ علينا الراد على الله ، وهو على حدّ الشرك بالله».

__________________

(١) النساء : ٦٠.

٤٥٦

قلت : فإن كان كلّ رجل اختار رجلا من أصحابنا فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما ، واختلفا فيما حكما وكلاهما اختلفا في حديثكم؟ الحديث.

وذكر هنا المحقّق الرشتي رحمه‌الله شواهد لاختصاص التنازع في الشبهات الحكميّة والرجوع إلى الحاكم بعنوان المفتي لا بعنوان القاضي بأنّ اختيار الحاكمين من طرف المتنازعين قد يكون المقصود صدور حكم واحد منهما معا ، وقولهما : حكمنا كذا ، وقد يكون المقصود حكم واحد منهما ومعاونة الآخر له في مقدّمات الحكم تحرّزا عن الاشتباه في الحكم ، وقوله : حكمت كذا ، وقد يكون المقصود صدور أصل الحكم من أحدهما وإنفاذه من الآخر ، والأخيران خلاف ظاهر الرواية ، والأوّل خلاف صريحها ، فلا بدّ من حمل الحكم فيها بالمعنى اللغوي ـ أي الفتوى ـ وكان الفتوى في زمان صدور المقبولة بمعنى نقل الرواية ، فالاختلاف بين الرجلين كان في الشبهة الحكميّة واختار كلّ منهما رجلا (١).

ولكن بعد ملاحظة صدر الرواية لا يبقى مجال لهذه التأويلات ؛ إذ لا يعقل منازعة رجلين من أصحابنا في حكم من الأحكام الإلهيّة ومراجعتهما لحلّ النزاع في الشبهة الحكميّة إلى السلطان أو القاضي المنصوب من قبل السلطان ، ولعلّه لم يلاحظ صدر الرواية بلحاظ تقطيعها في كتاب الوسائل كما ترى.

مضافا إلى أنّه لا وجه للتنازع في الشبهات الحكميّة ؛ إذ لو فرض كونهما مجتهدين لا معنى لرجوعهما إلى مجتهد آخر ، فإنّ المجتهد يخطّئ من يقول بخلافه وإن كان المخالف أعلم منه ، وإن فرض كونهما مقلّدين ـ والمقلد تابع لنظر مرجعه ومقلّده ـ فلا مجال لتنازعهما ، فالتحاكم إلى السلطان يكون في الشبهات

__________________

(١) الفروع الكافي ٧ : ٤١٢.

٤٥٧

الموضوعيّة ، والمراجعة إليه في الشبهات الحكميّة مضحك للثكلى.

وهذا المعنى يؤيّد بظاهر رواية داود بن الحصين عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجلين اتّفقا على عدلين ، وجعلاهما بينهما في حكم وقع بينهما فيه خلاف ، فرضيا بالعدلين ، فاختلف العدلان بينهما ، عن قول أيّهما يمضي الحكم؟ قال : «ينظر إلى أفقههما وأعلمهما بأحاديثنا وأورعهما ، فينفذ حكمه ، ولا يلتفت إلى الآخر» (١).

وهكذا يؤيّد بما يظهر من رواية موسى بن أكيل ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سئل عن رجل يكون بينه وبين أخ منازعة في حقّ ، فيتّفقان على رجلين يكونان بينهما ، فحكما فاختلفا فيما حكما ، قال : «وكيف يختلفان؟» قلت : حكم كلّ واحد منهما للذي اختاره الخصمان ، فقال : «ينظر إلى أعدلهما وأفقههما في دين الله فيمضي حكمه» (٢).

فكلاهما ظاهران في مسألة القضاء ، وهكذا في المقبولة ، فإنّ الإمام عليه‌السلام بعد ما ذكرنا ، قال : «الحكم ما حكم به أعدلهما وأفقههما وأصدقهما في الحديث ، وأورعهما ولا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر» ، الحديث.

والحاصل : أنّ الأوصاف المذكورة في كلام بعنوان المرجّح لا ترتبط بالخبرين المتعارضين ، فإنّ الأعدليّة والأورعيّة ونحو ذلك تكون من مرجّحات الحاكم ، لا من مرجّحات الخبر ولا ملازمة بينهما ، مضافا إلى أنّ التخيير في الخبرين المتعارضين أمر شائع ، مع أنّه لا يعقل التخيير في باب القضاء وفصل الخصومة وتعارض الحكمين ، فلا ترتبط هذه المرجّحات بباب

__________________

(١) الوسائل ١٨ : ٨٠ ، الباب ٩ من أبواب صفات القاضي ، الحديث ٢٠.

(٢) المصدر السابق ، الحديث ٤٥.

٤٥٨

اختلاف الروايتين وترجيح إحداهما على الاخرى.

ثمّ ذكر في المقبولة ـ بعد تساوي الحاكمين في الأوصاف المذكورة ـ ملاحظة مستند حكمهما ، فإنّه قال : فقلت : فإنّهما عدلان مرضيّان عند أصحابنا ، لا يفضل واحد منهما على صاحبه؟ قال ، فقال : «ينظر إلى ما كان من رواياتهما عنّا في ذلك الذي حكما به ، المجمع عليه عند أصحابك ، فيؤخذ به من حكمنا ، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك ، فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه» ، الحديث.

والمحقّق الرشتي رحمه‌الله جعل هذا السؤال والجواب شاهدا لمدّعاه بأنّه لا صلاحية للمتخاصمين في الرجوع إلى مستند حكم الحاكم ، وعلى فرض الصلاحية لا يستحقّ السؤال عن مستند الحكم حتّى تصل النوبة إلى الملاحظة وتشخيص المشهور منهما عن غير المشهور ، هذا أوّلا.

وثانيا : أنّ القاعدة في باب القضاء أنّ الحاكمين إذا حكما بحكمين مختلفين في آن واحد فيتساقطان ، وإذا كان التقدّم والتأخّر في البين فالحكم النافذ هو الحكم المتقدّم.

والتحقيق : أنّ هذا الإشكال مشترك الورود ، فإنّه على حمل الرواية بمقام الفتوى لا صلاحية للمقلّدين في الرجوع إلى مستند مرجعهما وسؤالهما عن مستندهما ثمّ ملاحظتهما وتشخيص المجمع عليه عند الأصحاب عن الشاذّ النادر ، فلا يمكن رفع اليد عن ظاهر صدرها بهذا الإشكال المشترك.

ثمّ جعل الإمام عليه‌السلام الامور الثلاثة وقال : «وإنّما الامور ثلاثة : أمر بيّن رشده فيتّبع ، وأمر بيّن غيّه فيجتنب ، وأمر مشكل يردّ علمه إلى الله ورسوله ، قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله : حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك ، فمن ترك الشبهات نجا من

٤٥٩

المحرّمات ، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرّمات وهلك من حيث لا يعلم».

قلت : فإن كان الخبران عنكما مشهورين قد رواهما الثقات عنكم.

قال : «ينظر فما وافق حكمه حكم الكتاب والسنّة وخالف العامّة فيؤخذ به ، ويترك ما خالف حكمه حكم الكتاب والسنّة ووافق العامّة».

قلت : جعلت فداك ، أرأيت إن كان الفقيهان عرفا حكمه من الكتاب والسنة ووجدنا أحد الخبرين موافقا للعامة والآخر مخالفا لهم ، بأيّ الخبرين يؤخذ؟

قال : «ما خالف العامّة ففيه الرشاد».

فقلت : جعلت فداك فإن وافقهما الخبران جميعا.

قال : «ينظر إلى ما هم إليه أميل حكّامهم وقضاتهم فيترك ويؤخذ بالآخر».

قلت : فإن وافق حكّامهم الخبرين جميعا؟

قال : «إذا كان ذلك فأرجه حتّى تلقى إمامك ، فإنّ الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات» (١).

ولا بدّ من ملاحظة خصوصيّات الرواية بأنّ المراد من المجمع عليه أو المشهور فيها هي الشهرة من حيث الفتوى أو الشهرة من حيث الرواية؟ وعلى كلا التقديرين هل الشهرة مرجّحة لإحدى الحجّتين على الاخرى ، أو الموافق للشهرة حجّة ومخالفها فاقد للحجّيّة رأسا؟ بعد ملاحظة تعبير الإمام عليه‌السلام في الابتداء ب «المجمع عليه عند أصحابك» ثمّ قولهعليه‌السلام في مقام التعليل : «فإنّ المجمع عليه لا ريب فيه ، ويترك الشاذّ الذي ليس بمشهور».

وتعبير السائل أيضا بقوله : (فإن كان الخبران عنكم مشهورين) ، هل المراد من الشهرة في كلام السائل ما هو المراد في كلام الإمام عليه‌السلام أم لا؟ وما معنى

__________________

(١) الكافي ١ : ٦٧ ، كتاب فضل العلم ، باب اختلاف الحديث ، الحديث ١٠.

٤٦٠