دراسات في الأصول - ج ٤

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-95-8
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٤٨٠

تقدّم زمان اليقين على الشكّ ، وهذا يتحقّق في قاعدة اليقين دون الاستصحاب ، ولكنّه مذيّل بقوله : «فليمض على يقينه» ، ومعلّل بقوله : «فإنّ الشكّ لا ينقض اليقين» ، والحكم يدور مدار التعليل ، والظاهر منه فعليّة اليقين والشكّ في آن واحد ، فكأنّه قال : «لا ينقض بالشكّ الفعلي اليقين الفعلي» ، وهذا الكلام ظاهر في الاستصحاب لا الشكّ الساري ، وظهور التعليل مقدّم على ظهور صدر الرواية ، فلا مانع من دلالتها على الاستصحاب.

ولكنّ الرواية ضعيفة غير قابلة للاستدلال بها ؛ لكون قاسم بن يحيى في سندها ، ولم يوثّقه الرجاليّون ، بل ضعّفه العلّامة.

ومنها : مكاتبة عليّ بن محمّد القاساني ، قال : كتبت إليه وأنا بالمدينة عن اليوم الذي يشكّ فيه من رمضان ، هل يصام أم لا؟ فكتب : «اليقين لا يدخله الشكّ ، صم للرؤية وأفطر للرؤية» (١).

ويرد عليها : أوّلا : كونها مضمرة مع أنّ المكاتبة بلحاظ بقائها بعنوان السند أقرب إلى التقيّة وشبهها بخلاف القول ؛ فإنّه يوجد وينعدم.

وثانيا : أنّ الراوي عليّ بن محمّد القاساني من أصحاب الإمام الهادي عليه‌السلام بلحاظ رواية محمّد بن حسن الصفّار عنه ، وضعّفه أعاظم الرجاليّين ، لا عليّ بن محمّد بن شيرة القاساني الموثّق.

قال الشيخ الأنصاري قدس‌سره : «والإنصاف أنّ هذه الرواية أظهر ما في هذا الباب من أخبار الاستصحاب ، إلّا أن سندها غير سليم» (٢).

وأنكر المحقّق الخراساني قدس‌سره دلالتها عليه ، فضلا عن أظهريّتها (٣).

__________________

(١) الوسائل ٧ : ١٨٤ ، الباب ٣ من أبواب أحكام شهر رمضان ، الحديث ١٣.

(٢) فرائد الاصول ٣ : ٧١.

(٣) كفاية الاصول ٢ : ٢٩٦.

١٤١

ويحتمل أن يكون مقصود السائل من يوم الشكّ مطلق يوم الشكّ ، سواء كان من آخر شعبان أو آخر رمضان ، ويحتمل أن يكون المراد يوم الشكّ بين شعبان ورمضان ، أو بين رمضان وشوّال ، ولكنّ الظاهر من قول السائل : «هل يصام أم لا؟» هو يوم الشكّ بين شعبان ورمضان ، ولو كان المراد يوم الشكّ بين رمضان وشوّال فلا بدّ من السؤال بأنّه : هل الصيام فيه واجب أم حرام؟

واستدلّ الشيخ قدس‌سره بأنّ تفريع تحديد كلّ من الصوم والإفطار ـ برؤية هلالي رمضان وشوّال ـ على قوله : «اليقين لا يدخله الشكّ» لا يستقيم ، إلّا بإرادة عدم جعل اليقين السابق مدخولا بالشكّ ، أي مزاحما به ، فدلالتها على الاستصحاب أظهر من روايات الباب.

وقال المحقّق الخراساني قدس‌سره : إنّ مراجعة الأخبار الواردة في يوم الشكّ يشرف القطع بأنّ المراد باليقين هو اليقين بدخول شهر رمضان ، وأنّه لا بدّ في وجوب الصوم ووجوب الإفطار من اليقين بدخول شهر رمضان وخروجه ، وأين هذا من الاستصحاب؟

فراجع ما عقد في الوسائل (١) لذلك من الباب تجده شاهدا عليه.

وقال المحقّق النائيني رحمه‌الله تأييدا لصاحب الكفاية قدس‌سره : أنّه يمكن أن يكون المراد من اليقين هو اليقين بدخول رمضان ، فيكون المعنى : إنّ اليقين بدخول رمضان الذي يعتبر في صحّة الصوم لا يدخله الشكّ في دخوله ، ومعناه : أنّه لا يجوز صوم يوم الشكّ من رمضان ، وقد تواترت الأخبار على اعتبار اليقين بدخول رمضان في صحّة الصوم ، وعلى هذا تكون الرواية أجنبيّة عن باب الاستصحاب.

والتحقيق : أن مراجعة الأخبار الواردة في الباب يوجب القطع بموضوعيّة

__________________

(١) الوسائل ٧ : ١٨٢ ، الباب ٣ من أبواب أحكام شهر رمضان.

١٤٢

اليقين بالنسبة إلى دخول شهر رمضان ، لا بالنسبة إلى خروجه ، ويستكشف من ذلك أنّ تفريع قوله : «صم للرؤية وأفطر للرؤية» في سياق واحد على قوله : «اليقين لا يدخله الشكّ» لا ينطبق إلّا على الاستصحاب ، وأنّه لا ترتبط هذه الرواية بسائر الروايات.

ولا منافاة بين موضوعيّة اليقين بدخول شهر رمضان في سائر الروايات واستفادة استصحاب عدم دخول شهر رمضان بعنوان القاعدة الكلّيّة من هذه الرواية ، وهكذا بالنسبة إلى عدم خروجه.

ولا فرق بين قوله : «اليقين لا ينقض بالشكّ» وقوله : «اليقين لا يدخله الشكّ» ، كما قلنا في الصحيحة الثالثة أنّ قوله : «لا ينقض اليقين بالشكّ» وقوله : «لا يدخل الشكّ في اليقين» ، وقوله «لا يخلط أحدهما بالآخر» عبارات شتّى بمعنى واحد.

فهذه الرواية مع ضعف سندها ظاهرة في الاستصحاب ، لكنّ بعض الروايات المتقدّمة مثل صحيحة زرارة الاولى أظهر منها.

تذييل

حول الاستدلال بأدلّة قاعدتي الحلّيّة والطهارة على الاستصحاب وجوابه : ربما يستدلّ على اعتبار الاستصحاب بقوله : «كلّ شيء نظيف حتّى تعلم أنّه قذر ، فإذا علمت فقد قذر ، وما لم تعلم فليس عليك» (١) ، وقوله : «الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر» (٢) ، وقوله : «كلّ شيء هو لك حلال حتّى تعلم أنّه حرام بعينه

__________________

(١) الوسائل ٢ : ١٠٥٤ ، الباب ٣٧ من أبواب النجاسات ، الحديث ٤.

(٢) الوسائل ١ : ١٠٠ ، الباب ١ من أبواب الماء المطلق ، الحديث ٥.

١٤٣

فتدعه من قبل نفسك» (١).

وفي معنى الروايات احتمالات :

الأوّل : ما يستفاد من كلام المشهور ، وهو أنّ الغاية فيها ـ أي «حتّى تعلم» ـ قيد للموضوع ـ أي قوله : «كلّ شيء» وقوله : «الماء» ـ والحكم فيها يترتّب على الموضوع المقيّد ، فالموضوع في الحقيقة ليس الأشياء بعناوينها الواقعيّة ، بل بوصف كونها غير معلومة الطهارة والحرمة ، فالمستفاد منها : أنّ كلّ شيء قبل أن يكون معلوم الحرمة فهو حلال ، وكلّ شيء قبل أن يكون معلوم النجاسة فهو طاهر ، والغاية تهدينا إلى هذا المعنى ، فلا ربط للروايات بالاستصحاب ولا تكون مبيّنة للأحكام الواقعيّة ، فإنّها في مقام جعل قاعدتي الطهارة والحلّيّة في مورد الشكّ فيهما.

الاحتمال الثاني : ما يستفاد من كلام المحقّق الخراساني قدس‌سره فقد ذهب في الكفاية إلى دلالة صدر الروايات على الحكم الواقعي ، ودلالة غايتها على الاستصحاب ، وفي «تعليقته» إلى دلالة الصدر على الحكم الواقعي وقاعدة الطهارة والحلّيّة ، والغاية على الاستصحاب.

فقال في بيان الأوّل ما حاصله : أنّ الصدر ظاهر في بيان حكم الأشياء بعناوينها الأوّليّة ، لا بما هي مشكوكة الحكم ، والغاية تدلّ على استمرار ما حكم على الموضوع واقعا من الطهارة والحلّيّة ظاهرا ، ما لم يعلم بطروّ ضدّه أو نقيضه. ومعناهما أنّ كلّ شيء محكوم بالطهارة والحلّيّة الواقعيّتين ، وهما مستمرّان بالاستمرار الظاهري إلى زمان العلم بحصول النجاسة والحرمة ، فالغاية قيد لقوله : «طاهر» وقوله : «حلال» ، ويستفاد منها حكمان : الطهارة

__________________

(١) الوسائل ١٢ : ٦٠ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث ٤.

١٤٤

والحلّيّة الواقعيّتان واستمرار الطهارة والحلّيّة الظاهريّتين ، وهذا المعنى ينطبق على الاستصحاب(١).

وفي الثاني : أنّ الصدر بعمومه يدلّ على الحكم الواقعي وبإطلاقه على المشكوك ، بل يمكن أن يقال : بعمومه يدلّ على الحكم الواقعي وعلى المشكوك فيه ؛ فإنّ بعض الشكوك اللازمة للموضوع داخلة في العموم ، ونحكم في البقية بعدم القول بالفصل ، والغاية تدلّ على الاستصحاب كما ذكر (٢).

الاحتمال الثالث : ما يستفاد من كلام صاحب الفصول (٣) من عدم تعرّض الروايات للأحكام الواقعيّة ، ودلالتها على الأحكام الظاهريّة من قاعدتي الطهارة والحلّيّة والاستصحاب.

الاحتمال الرابع : أن يقال بدلالتها على الاستصحاب فقط في مقابل المشهور. هذا خلاصة الأقوال والاحتمالات في الروايات ، والمهمّ منها ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره.

وأشكل عليه الأعاظم منهم استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره وقال (٤) : «وفيما أفاده نظر : أمّا أوّلا فلأنّ الطهارة والحلّيّة الواقعيّتين ليستا من الأحكام المجعولة الشرعيّة ؛ للزوم إمكان كون شيء بحسب الواقع لا طاهرا ولا نجسا ، ولا حلالا ولا حراما ؛ لأنّ النجاسة والحرمة مجعولتان بلا إشكال وكلام ، فلو فرض جعل النجاسة والحرمة لأشياء خاصّة ، وجعل الطهارة والحلّيّة لأشياء اخرى خاصّة يلزم أن تكون الأشياء غير المتعلّقة للجعلين لا طاهرة

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٢٩٨.

(٢) انظر : حاشية الآخوند على الرسائل : ١٨٥ ، السطر ٢٥.

(٣) الفصول الغروية : ٣٧٤.

(٤) الاستصحاب : ٦١.

١٤٥

ولا نجسة ، ولا حلالا ولا حراما ، وهذا واضح البطلان في ارتكاز المتشرّعة.

مضافا إلى أنّ الأعيان الخارجيّة على قسمين :

الأوّل : ما يستقذره العرف. والثاني : ما لا يستقذره ، وإنّما يستقذر الثاني بملاقاته للأوّل وتلوّثه به ، والتطهير عرفا عبارة عن إزالة التلوّث بالغسل ، وإرجاع الشيء إلى حالته الأصليّة غير المستقذرة ، لإيجاد شيء زائد على ذاته ، بل يكون طاهرا ، والظاهر أنّ نظر الشرع كالعرف في ذلك ، إلّا في إلحاق بعض الامور غير المستقذرة عرفا بالنجاسات ، وإخراج بعض المستقذرات عنها.

وكذا الحلّيّة لم تكن مجعولة ، فإنّ الشيء إذا لم يشتمل على المفسدة الأكيدة يكون حلالا ، وإن لم يشتمل على مصلحة فلا تكون الطهارة والحلّيّة من المجعولات الواقعيّة. نعم ، الطهارة والحلّيّة الظاهريّتان مجعولتان.

فحينئذ نقول : إنّ قوله : «كلّ شيء حلال» أو «طاهر» لو حمل على الواقعيّتين منهما يكون إخبارا عن ذات الأشياء ، لا إنشاء الطهارة والحلّيّة ، فالجمع بين القاعدة والحكم الواقعي يلزم منه الجمع بين الإخبار والإنشاء في جملة واحدة ، وهو غير ممكن ، هذا أوّلا».

والتحقيق : أنّ ما ذكره ـ من عدم قابليّة الطهارة الواقعيّة والحلّيّة الواقعيّة للجعل الشرعي ؛ للزوم أن تكون بعض الأشياء لا طاهرة ولا نجسة ، لا حلالا ولا حراما ، وهذا واضح البطلان في ارتكاز المتشرّعة ـ ليس بتامّ ؛ إذ المفروض جعل الشارع القاعدة الكلّيّة بلفظ «كلّ» المضاف إلى لفظ «شيء» بقوله : «كلّ شيء حلال» ، وبقوله : «كلّ شيء طاهر» ، فإن قام الدليل الشرعي على نجاسة شيء أو حرمته فهو خارج عن عموم القاعدة بعنوان التخصيص ، وإن لم يقم دليل عليهما فهو باق تحت عموم قوله : «كلّ شيء طاهر وكلّ شيء حلال» ، وفي

١٤٦

الموارد المشكوكة نرجع إلى عموم القاعدة نظير ما ذكره صاحب الكفاية قدس‌سره في مقام الجمع بين العامّ والخاصّ بالفرق بين الإرادة الجدّيّة والإرادة الاستعماليّة ، فما ذكره قدس‌سره ليس بوارد على كلام صاحب الكفاية قدس‌سره.

والإشكال الثاني من استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره ـ على ما ذكره في الحاشية من دلالة الصدر على الحكم الواقعي والظاهري ، والغاية على الاستصحاب ـ قوله : «وأمّا ثانيا فلأنّ معنى جعل الطهارة والحلّيّة الظاهريّتين هو الحكم بالبناء العملي عليهما ، حتّى يعلم خلافهما ، ومعنى جعل الواقعيّتين منهما هو إنشاء ذاتهما ، لا البناء عليهما ، والجمع بين هذين الجعلين ممّا لا يمكن».

والحقّ أنّ هذا الإشكال وارد وغير قابل للردّ.

والإشكال الثالث ما ذكره استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره والمحقّق النائيني رحمه‌الله (١) معا ، وهو : أنّ الحكم الظاهري متأخّر عن الحكم الواقعي بمرتبتين ؛ لتأخّره عن موضوعه ـ أي المشكوك الطهارة والنجاسة والمشكوك الحرمة والحلّيّة ـ وتأخّر موضوعه عن الحكم الواقعي ، ولا يمكن جمعهما في اللحاظ والاستعمال الواحد.

والإشكال الرابع ما ذكره استاذنا السيّد بقوله :

«وأمّا رابعا فلأنّ الحكم في قاعدة الطهارة والحلّيّة يكون للمشكوك فيه ، فلا محالة تكون غايتهما العلم بالقذارة والحرمة ، فجعل الغاية للحكم المغيّا بالغاية ذاتا لا يمكن.

اللهمّ إلّا أن يقال : إنّ الغاية إنّما تكون للطهارة والحلّيّة الواقعيّتين ، لأجل القرينة العقليّة ، وهي عدم إمكان جعل الغاية للحكم الظاهري ، فيكون المعنى :

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٣٦٨.

١٤٧

أنّ الطهارة والحلّيّة الواقعيّتين مستمرّتان إلى أن يعلم خلافهما ، لكن جعل الغاية للطهارة والحلّيّة الواقعيّتين لازمه استمرار الواقعيّتين منهما في زمن الشكّ ، لا الظاهريّتين ويرجع حينئذ إلى تخصيص أدلّة النجاسات والمحرّمات الواقعيّة ، فتكون النجاسات والمحرّمات في صورة الشكّ فيهما طاهرة وحلالا واقعا ، وهو كما ترى باطل لو لم يكن ممتنعا».

ثمّ قال : «فتحصّل ممّا ذكرنا : أنّ الجمع بين الحكم الواقعي والقاعدة والاستصحاب ممّا لا يمكن ، فلا بدّ من إرادة واحد منها ، ومعلوم أنّ الروايات ظاهرة في قاعدة الحلّ والطهارة ، بل مع فرض إمكان الجمع بينها أو بين الاثنين منها يكون ظهورها في القاعدتين محكّما ، وليس كلّ ما يمكن يراد» (١).

والإنصاف أنّ بين صدر كلامه وذيله نوع من التهافت ، فإنّ ظاهر كلامه في الصدر عدم دلالة الروايات على قاعدة الطهارة والحلّيّة ؛ لعدم إمكان جعل الغاية للحكم المغيّا بها ذاتا ، وصريح قوله في الذيل بأنّ الروايات ظاهرة في قاعدة الحلّ والطهارة ، بل مع فرض إمكان الجمع بينها أو بين الاثنين منها يكون الظهور في القاعدتين محكما.

مع أنّ الغاية تهدينا إلى أنّ المراد من الطهارة هنا هي الطهارة الظاهريّة ، والمراد من الحلّيّة هي الحلّيّة الظاهريّة ؛ لعدم إمكان أخذ العلم غاية في الأحكام الواقعيّة كما التزم به المشهور.

والإشكال الخامس : ما يستفاد من كلام المحقّق النائيني رحمه‌الله (٢) وهو : أنّه لا طريق لدلالة قوله : «كلّ شيء طاهر» على الحكم الواقعي وأخذ قوله : «حتّى

__________________

(١) الاستصحاب : ٦٣.

(٢) أجود التقريرات ٤ : ٥٩ ـ ٦٢.

١٤٨

تعلم» غاية له إلّا بملاحظة العلم فيها بعنوان الطريقيّة لا الموضوعيّة ، لعدم دخل العلم والجهل في الحكم الواقعي.

وأمّا دلالته على الحكم الظاهري وأخذ قوله : «حتّى تعلم» غاية له فلا بدّ من ملاحظة العلم فيها قيدا للموضوع أو للحكم ، ولا يمكن ملاحظة العلم في الجملة الواحدة وفي الاستعمال الواحد بعنوان الطريقيّة والموضوعيّة معا.

والإشكال السادس : أيضا ما يستفاد من كلامه قدس‌سره وهو : أنّ إثبات حكم لموضوع على نحو العموم مثل : «أكرم كلّ إنسان» يشمل جميع الخصوصيّات الصنفيّة والفرديّة المتحقّقة للموضوع بما أنّه صنف منه وفرد منه ، فيجب إكرام زيد وعمرو ، والعالم والجاهل ، والأسود والأبيض بما أنّهم إنسان ، لا بما أنّه زيد أو عالم ، فالملاك للحكم هو انطباق عنوان العامّ فقط بلا دخل لأيّ عنوان آخر.

ونتيجة هذه المقدّمة فيما نحن فيه أنّ المولى إذا قال : «كلّ شيء طاهر» ورتّب الطهارة على عنوان شيء بما أنّه شيء ، بدون وصف زائد ، وأراد منها الطهارة الواقعيّة ، فلا إشكال في شموله لشيء شكّ في نجاسته وطهارته بعنوان أنّه صنف من الشيء ، ولا محالة تترتّب عليه الطهارة الظاهريّة ، إلّا أنّ المشكوكيّة دخيلة في موضوع الطهارة الظاهريّة بعنوان القيديّة ، فلا يمكن شمول قوله : «كلّ شيء طاهر» للطهارة الظاهريّة ، فإنّ عمومه لا يشمل ما هو زائد على عنوان «شيء».

والإشكال السابع : ما يستفاد أيضا من كلامه قدس‌سره وهو : أنّ عموم قوله : «كلّ شيء طاهر» مخصّص بالمخصّصات المنفصلة ، مثل : «البول نجس ، والغائط نجس ، والكلب نجس ، والكافر نجس» ، واستفادة الطهارة الظاهريّة فيما هو

١٤٩

مشكوك النجاسة والطهارة من عمومه تمسّك بالعامّ في شبهة مصداقيّة المخصّص ، وعدم جوازه ممّا لا شبهة فيه (١).

هذا تمام كلام المحقّق النائيني رحمه‌الله وإن كان بحسب الظاهر بيانا جيّدا ، ولكن يرد عليه إشكالان :

الأوّل : أنّه سلّمنا عدم صحّة استفادة الطهارة الظاهريّة من عموم قوله : «كلّ شيء طاهر» ولكن ذكرنا فيما استفدناه من كلام المحقّق الخراساني قدس‌سره في «الحاشية» أن قوله : «كلّ شيء طاهر» بعمومه يشمل كلّ الأشياء بعنوان أنّها شيء ، وبإطلاقه يشمل جميع حالات الشيء ، ومنها حالة الشكّ في كون الشيء طاهرا أو نجسا ، واستفادة الطهارة الظاهريّة منه بهذا الطريق لا إشكال فيها.

الثاني : أنّ من البديهي عدم اختصاص قاعدتي الطهارة والحلّيّة في الشبهات الموضوعيّة حتّى نقول بعدم جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص ، بل جريانهما في الشبهات الحكميّة ممّا لا شبهة فيه ، وجريان أصالة العموم في موارد الشكّ في التخصيص لا يوجب الإشكال كالشكّ في حلّيّة شرب التتن وحرمته وأمثال ذلك.

هذا كلّه بالنسبة إلى ما ذكره المحقّق الخراساني قدس‌سره في «الحاشية».

وأمّا ما ذكره في الكفاية من دلالة قوله : «كلّ شيء طاهر» على الطهارة الواقعيّة ، وقوله : «حتّى تعلم أنّه قذر» على الطهارة الظاهريّة والاستصحاب فهو خلاف الظاهر ، فإنّ التفكيك بين صدر الجملة الواحدة وذيلها واستفادة الحكمين منها : أحدهما أصل الطهارة ، والآخر استمرار الطهارة ، ونظر الأوّل إلى الحكم الواقعي والثاني إلى الحكم الظاهري الذي يعبّر عنه بالاستصحاب ،

__________________

(١) أجود التقريرات ٤ : ٦٢.

١٥٠

لا دليل عليه.

فلا دلالة للروايات إلّا على قاعدتي الطهارة والحلّيّة كما استفاده المشهور منها ، ولا دخل لها بالاستصحاب ، بل هي أجنبيّة عنه.

والحاصل : أنّه لا شبهة في حجّيّة الاستصحاب كما استفدناه من الروايات الكثيرة الواردة في الباب ، وأمّا التفصيل بين الأحكام الشرعيّة المستفادة من طريق حكم العقل والأحكام الشرعيّة المستفادة من طريق الكتاب والسنة والإجماع فهو غير صحيح ؛ لعدم الفرق في طريق استكشاف الحكم الشرعي ، كما ذكرناه ضمن المباحث الماضيّة.

وهكذا التفصيل بين الشكّ في المقتضي والشكّ في الرافع كما ذكرناه في ذيل البحث عن صحيحة زرارة الاولى.

١٥١
١٥٢

التفصيل بين الأحكام التكليفيّة والوضعيّة وتحقيق ماهيّتها

الحكم الشرعي إمّا تكليفي وإمّا وضعي ، والحكم التكليفي : ما هو مجعول من قبل الشارع بعنوان وظيفة المكلّف ، وهو منحصر بالأحكام الخمسة التكليفيّة وإن لم يتحقّق في بعضها كلفة ومشقّة كالإباحة بالمعنى الأخصّ ، ولكن يعبّر عن جميعها بالأحكام التكليفيّة من باب التغليب ، ومعلوم أنّ الوجوب ـ مثلا ـ لا يكون بمعنى علم المولى بالمصلحة المتحقّقة في الواجب ، بل الوجوب أمر مجعول من الشارع بهيئة «افعل» أو الجملة الخبريّة ، وهكذا سائر الأحكام التكليفيّة.

وأمّا الحكم الوضعي : فهو كلّ ما كان مجعولا ومقرّرا من ناحية الشارع ولم يكن من الأحكام الخمسة التكليفيّة ، ولا دليل على انحصاره في الثلاثة ـ أي السببيّة والمانعيّة والشرطيّة ـ أو الخمسة ـ أي الثلاثة المذكورة مع العلّيّة والعلاميّة ـ أو التسعة ـ أي الخمسة المذكورة مع الصحّة والفساد ، والعزيمة والرخصة ـ بل يشمل مصاديق كثيرة كالزوجيّة والملكيّة والحرّيّة والرقّيّة وأشباه ذلك.

وأمّا المجعولات المخترعة الشرعيّة ـ كالصلاة والصوم والحجّ وهكذا الرسالة والإمامة والقضاوة ـ فقد اختلف سيّدنا الإمام قدس‌سره والمحقّق النائيني رحمه‌الله في أنّها

١٥٣

سنخ من الأحكام التكليفيّة أو الوضعيّة أو قسم ثالث غيرهما.

وقال المحقّق النائيني رحمه‌الله : وقد شنّع على القائل بذلك بأنّ الصوم والصلاة والحجّ ليست من مقولة الحكم ، فكيف تكون من الأحكام الوضعيّة؟ ولكن يمكن توجيهه بأنّ عدّ الماهيّات المخترعة الشرعيّة من الأحكام الوضعيّة إنّما هو باعتبار كونها مركّبة من الأجزاء والشرائط والموانع ، وحيث كانت الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة من الأحكام الوضعيّة فيصحّ عدّ جملة المركّب من الأحكام الوضعيّة ، وليس مراد القائل بأنّ الماهيّات المخترعة من الأحكام الوضعيّة كون الصلاة ـ مثلا ـ بما هي هي حكما وضعيّا ، فإنّ ذلك واضح الفساد لا يرضى المنصف أن ينسبه إلى من كان من أهل العلم (١).

وأجاب عنه استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره : بأنّ الماهيّة المخترعة كالصلاة قبل تعلّق الأمر بها وإن لم تكن من الأحكام الوضعيّة ، لكنّها لم تكن قبله من الماهيّات المخترعة أيضا ؛ لعدم كونها حينئذ من المقرّرات الشرعيّة ، وإنّما تصير مخترعات شرعيّة بعد ما قرّرها الشارع في شريعته بجعلها متعلّقة للأوامر ، وحينئذ تصير كالجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة للمأمور به من الأحكام الوضعيّة.

ولا فرق بين الجزئيّة والكلّيّة في كونهما أمرين منتزعين عن تعلّق الأمر بالطبيعة ، فيكون نحو تقرّرهما في الشريعة بكونهما منتزعين من الأوامر المتعلّقة بالطبائع المركّبة ، فمن جعل الجزئيّة للمأمور به من الأحكام الوضعيّة مع اعترافه بكونها انتزاعيّة ، فليجعل الكلّيّة أيضا كذلك.

وعلى هذا فلا مانع من جعل الماهيّات الاختراعيّة من الأحكام الوضعيّة ، أي من المقرّرات الشرعيّة والوضعيّات الإلهيّة ، ولكن إطلاق الحكم عليها

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٣٨٥.

١٥٤

كإطلاقه على كثير من الوضعيّات يحتاج إلى تأويل (١).

وقال المحقّق النائيني رحمه‌الله أيضا : «نعم ، عدّ الولاية والقضاوة من الأحكام الوضعيّة لا يخلو عن تعسّف خصوصا الولاية والقضاوة الخاصّة التي كان يتفضّل بهما الإمام عليه‌السلام لبعض الصحابة ، كولاية مالك الأشتر ، فإنّ الولاية والقضاوة الخاصّة حكمها حكم النيابة والوكالة لا ينبغي عدّها من الأحكام الوضعيّة ، وإلّا فبناء على هذا التعميم كان ينبغي عدّ الإمامة والنبوّة أيضا من الأحكام الوضعيّة ، وهو كما ترى (٢).

وقال الإمام قدس‌سره في مقام الجواب عنه : «فمثل الرسالة والخلافة والإمامة والحكومة والإمارة والقضاء من الأحكام الوضعيّة ، قال تعالى : (وَكُلًّا جَعَلْنا نَبِيًّا)(٣) ، وقال تعالى : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)(٤) ، وقال تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)(٥) ، فقد نصب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أمير المؤمنين عليه‌السلام إماما وأميرا على الناس يوم الغدير وجعل القضاة من ناحية السلطان ـ كجعل الأمير والحاكم ـ معروف ومعلوم.

وبالجملة ، لا إشكال في كون النبوّة والإمامة والخلافة من المناصب الإلهيّة التي جعلها الله وقرّرها ، فهي من الأحكام الوضعيّة أو من الوضعيّات وإن لم يصدق عليها الأحكام.

فاستيحاش بعض أعاظم العصر رحمه‌الله من كون أمثال ذلك من الأحكام

__________________

(١) الاستصحاب : ٦٧.

(٢) فوائد الاصول ٤ : ٣٨٥.

(٣) مريم : ٤٩.

(٤) البقرة : ٣٠.

(٥) البقرة : ١٢٤.

١٥٥

الوضعيّة في غير محلّه» (١).

والتحقيق : أنّ كلام المحقّق النائيني رحمه‌الله بالنسبة إلى الولاية التي ترجع إلى النيابة والوكالة قريب إلى الذهن ، وأمّا بالنسبة إلى القضاوة وسائر الموارد فالحقّ مع استاذنا السيّد الإمام قدس‌سره.

كيفيّة جعل الأحكام الوضعيّة واحتمالاتها

واختلف العلماء في أنّ جعلها استقلالي كالأحكام التكليفيّة ، أو أنّها مجعولة لا بجعل استقلالي ، بل بتبع التكليف وتنتزع منه ، كما يستفاد من كلام الشيخ الأنصاري قدس‌سره ، ويستفاد من كلام صاحب الكفاية قدس‌سره التفصيل فيها ، وقال : «والتحقيق : أنّ ما عدّ من الوضع على أنحاء :

منها : ما لا يكاد يتطرّق إليه الجعل تشريعا أصلا ، لا استقلالا ولا تبعا ، وإن كان مجعولا تكوينا عرضا بعين جعل موضوعه كذلك.

ومنها : ما لا يكاد يتطرّق إليه الجعل التشريعي إلّا تبعا للتكليف.

ومنها : ما يمكن فيه الجعل استقلالا بإنشائه ، وتبعا للتكليف بكونه منشأ لانتزاعه وإن كان الصحيح انتزاعه من إنشائه وجعله ، وكون التكليف من آثاره وأحكامه ، على ما تأتي الإشارة إليه.

أمّا النحو الأوّل فهو كالسببيّة والشرطيّة والمانعيّة والرافعيّة لما هو سبب التكليف وشرطه ومانعة ورافعه ، حيث إنّه لا يكاد يعقل انتزاع هذه العناوين لها من التكليف المتأخّر عنها ذاتا ، حدوثا أو ارتفاعا ، كما أنّ اتّصافها بها ليس إلّا لأجعل ما عليها من الخصوصيّة المستدعية لذلك تكوينا ؛ للزوم أن يكون

__________________

(١) الاستصحاب : ٦٦.

١٥٦

في العلّة بأجزائها من ربط خاصّ ، به كانت مؤثّرة في معلولها ، لا في غيره ، ولا غيرها فيه ، وإلّا لزم أن يكون كلّ شيء مؤثرا في كلّ شيء ، وتلك الخصوصيّة لا يكاد يوجد فيها بمجرّد إنشاء مفاهيم العناوين ، ومثل قول : دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة إنشاء لا إخبارا ؛ ضرورة بقاء الدلوك على ما هو عليه قبل إنشاء السّببيّة له ، من كونه واجدا لخصوصيّة مقتضية لوجوبها أو فاقدا لها ، وأنّ الصلاة لا تكاد تكون واجبة عند الدلوك ما لم يكن هناك ما يدعو إلى وجوبها ، ومعه تكون واجبة لا محالة وإن لم ينشأ السببيّة للدلوك أصلا.

ومنه انقدح أيضا عدم صحّة انتزاع السببيّة له حقيقة من إيجاب الصلاة عنده ؛ لعدم اتّصافه بها بذلك ضرورة.

نعم ، لا بأس باتّصافه بها عناية ، وإطلاق السبب عليه مجازا ، كما لا بأس بأن يعبّر عن إنشاء وجوب الصلاة عند الدلوك ـ مثلا ـ بأنّه سبب لوجوبها ، فكنّى به عن الوجوب عنده.

فظهر بذلك أنّه لا منشأ لانتزاع السببيّة وسائر ما لأجزاء العلّة للتكليف ، إلّا ما هي عليها من الخصوصيّة الموجبة لدخل كلّ فيه على نحو غير دخل الآخر ، فتدبّر جيّدا.

وأمّا النحو الثاني : فهو كالجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة والقاطعيّة ، لما هو جزء المكلّف به وشرطه ومانعة وقاطعه ، حيث إنّ اتّصاف شيء بجزئيّة المأمور به أو شرطيّته أو غيرهما لا يكاد يكون إلّا بالأمر بجملة امور مقيّدة بأمر وجودي أو عدمي ، ولا يكاد يتّصف شيء بذلك ـ أي كونه جزء أو شرطا للمأمور به ـ إلّا بتبع ملاحظة الأمر بما يشتمل عليه مقيّدا بأمر آخر ، وما لم يتعلّق به الأمر كذلك لما كاد اتّصف بالجزئيّة أو الشرطيّة ، وإن أنشأ الشارع

١٥٧

له الجزئيّة أو الشرطيّة ، وجعل الماهيّة واختراعها ليس إلّا تصوير ما فيه المصلحة المهمّة الموجبة للأمر بها ، فتصوّرها بأجزائها وقيودها لا يوجب اتّصاف شيء منها بجزئيّة المأمور به أو شرطه قبل الأمر بها ، فالجزئيّة للمأمور به أو الشرطيّة له إنّما ينتزع لجزئه أو شرطه بملاحظة الأمر به ، بلا حاجة إلى جعلها له ، وبدون الأمر به لا اتّصاف بها أصلا وإن اتّصف بالجزئيّة أو الشرطيّة للمتصوّر أو لذي المصلحة ، كما لا يخفى.

وأمّا النحو الثالث : فهو كالحجّيّة والقضاوة والولاية والنيابة والحرّيّة والرّقيّة والزّوجيّة والملكيّة إلى غير ذلك ، حيث إنّها وإن كان من الممكن انتزاعها من الأحكام التكليفيّة التي تكون في مواردها ـ كما قيل ـ ومن جعلها بإنشاء أنفسها ، إلّا أنّه لا يكاد يشكّ في صحّة انتزاعها من مجرّد جعله تعالى ، أو من بيده الأمر من قبله ـ جلّ وعلا ـ لها بإنشائها ، بحيث يترتّب عليها آثارها ، كما يشهد به ضرورة صحّة انتزاع الملكيّة والزوجيّة والطلاق والعتاق بمجرّد العقد أو الإيقاع ممّن بيده الاختيار بلا ملاحظة التكاليف والآثار ، ولو كانت منتزعة عنها لما كاد يصحّ اعتبارها إلّا بملاحظتها ، وللزوم أن لا يقع ما قصد ، ووقع ما لم يقصد.

كما لا ينبغي أن يشكّ في عدم صحّة انتزاعها عن مجرّد التكليف في موردها ، فلا ينتزع الملكيّة عن إباحة التصرّفات ، ولا الزّوجيّة من جواز الوطء ، وهكذا سائر الاعتبارات في أبواب العقود والإيقاعات.

فانقدح بذلك أنّ مثل هذه الاعتبارات إنّما تكون مجعولة بنفسها ، يصحّ انتزاعها بمجرّد إنشائها كالتكليف ، لا مجعولة بتبعه ومنتزعة عنه» (١).

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٣٠٣.

١٥٨

والحاصل : أنّ القسم الأوّل من الأحكام الوضعيّة خارج عن دائرة الجعل التشريعي استقلالا وتبعا ، والقسم الثاني منها قابل للجعل التبعي ، والقسم الثالث قابل للجعل الاستقلالي والتبعي ، والأظهر تعلّق الجعل الاستقلالي به.

ويرد عليه : أوّلا : أنّ لازم عدم تعلّق الجعل الشرعي لا أصالة ولا تبعا بالقسم الأوّل ـ أي السببيّة والشرطيّة والمانعيّة والرافعيّة للتكليف ـ خروج هذا القسم من أقسام الأحكام الوضعيّة ، فكيف يمكن أن ينطبق في مورد عنوان الحكم الوضعي ، ولا تكاد تناله يد الجعل تشريعا لا أصالة ولا تبعا ، وما يكون خارجا عن المقسم كيف يمكن أن يكون داخلا في أحد الأقسام؟

وثانيا : أنّه وقع الخلط في كلامه في المراد بالتكليف وتخيّل أنّه هنا بمعنى إيجاب المولى وجعله ، لا بمعنى كون الشيء واجبا.

توضيح ذلك : أنّه قد يقول : شيء كذا سبب لوجوب الصلاة ـ مثلا ـ وقد يقول : شيء كذا كان سببا لإيجاب المولى وجعله الصلاة واجبة ـ مثلا ـ نقول : إنّ تحقّق المصلحة الملزمة في الصلاة صار سببا لإيجابها ، وتحقّق المفسدة الملزمة في شرب الخمر صار سببا لتحريمه ، وهكذا سائر الامور الدخيلة في جعل المولى ، وهذا خارج عن بحث السببيّة للتكليف هنا ؛ إذ لا يقول أحد أنّ المصلحة الملزمة شرط التكليف.

والمراد من السببيّة والشرطيّة للتكليفيّة هنا كما يستفاد من قوله تعالى : (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)(١) هو شرط كون الشيء واجبا أو كونه فريضة ، إلهيّة ، ومعلوم أنّ شرطيّة الاستطاعة وسائر الشرائط لا ترتبط بالجعل التكويني ، بل تستفاد هذه الشرطيّة من القرآن الكريم ،

__________________

(١) آل عمران : ٩٧.

١٥٩

ويستفاد من كلام الشارع في حديث الرفع أنّ الاضطرار رافع التكليف ، ويستفاد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «دعي الصلاة أيّام أقرائك» (١) أنّ الحيض مانع عن وجوب الصلاة ، وكلّ ذلك يرتبط بالجعل الشرعي وهذا ممّا يستفاد من كلام صاحب الكفاية في الواجب المشروط أيضا.

نكتة

أنّه لا نجد في الفقه موردا يعبّر عنه في الأحكام التكليفيّة بالسبب ، بل يعبّر عنه بالشرط ، وأمّا في الأحكام الوضعيّة فيرى كثيرا ما التعبير بالسبب ، مثل : النكاح سبب للزوجيّة ، البيع سبب للملكيّة.

وأمّا سببيّة ـ دلوك الشمس ـ لوجوب الصلاة فالظاهر أنّه لا يتحقّق هذا التعبير في الروايات ، بل الرواية هكذا «إذا زالت الشمس فقد وجبت الصلاتان» ، ومعناها شرطيّة زوال الشمس للوجوب ، أو شرطيّته للواجب كالطهارة والاستقبال.

ويمكن أن يقال : إنّ الشرطيّة كما يصحّ انتزاعها من قوله : «إن استطعتم يجب عليكم الحجّ» وجعلها بالتبع ، كذلك يصحّ جعلها استقلالا ، كما إذا قال الشارع بعد الأمر بالحجّ مطلقا : «جعلت الاستطاعة شرطا لوجوب الحجّ» ، ونتيجة الدليلين شرطيّة الاستطاعة للحجّ ، وكون الشرطيّة مجعولة بجعل مستقلّ. هذا كلّه بالنسبة إلى القسم الأوّل.

أمّا بالنسبة إلى القسم الثاني ـ أي الجزئيّة والشرطيّة والمانعيّة والقاطعيّة ـ فالظاهر من كلام صاحب الكفاية قدس‌سره انحصار الجعل الشرعي فيه بالجعل

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢ : ٢٨٧ ، الباب ٧ من أبواب الحيض ، الحديث ٢.

١٦٠