دراسات في الأصول - ج ٤

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-95-8
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٤٨٠

قاعدة لا ضرر

لا بدّ من بحث قاعدة لا ضرر في ذيل مباحث البراءة والاشتغال استطرادا ، مع أنّ عدم استلزام الضرر ليس من شرائط جريان الاصول ؛ لحكومة القاعدة على جميع الأدلّة الأوّليّة ، فلا تصادم بين أدلّة البراءة والقاعدة ، بل هي ليست من القواعد الفقهيّة أصلا ولا من القواعد الاصوليّة ، كما سيأتي ؛ لارتباطها بمقام الحكومة والولاية ، ومن الأحكام الصادرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله.

ومستند هذه القاعدة عبارة عن الجملة المنقولة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعنوان «لا ضرر ولا ضرار» ، ويمكن ادّعاء التواتر اللفظي أو المعنوي لها ، فلا بدّ من ذكر متن الرواية على ما ذكرها صاحب الوسائل في الأبواب المختلفة :

منها : ما نقله بسند موثّق عن المشايخ الثلاثة بأسنادهم في كتاب إحياء الموات ، الباب ١٢ ، الحديث الثالث ، عن عدّة من أصحابنا ، عن أحمد بن محمّد بن خالد ، عن أبيه ، عن عبد الله بن بكير ـ «وتوثيق الرواية بلحاظ كونه فطحي المذهب» ـ عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إنّ سمرة بن جندب كان له عذق في حائط لرجل من الأنصار ، وكان منزل الأنصاري بباب البستان ، فكان يمرّ به إلى نخلته ولا يستأذن ، فكلّمه الأنصاري أن يستأذن إذا جاء ، فأبى سمرة ، فلمّا تأبّى جاء الأنصاري إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فشكى إليه وخبّره الخبر ، فأرسل إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وخبّره بقول الأنصاري وما شكا ، وقال : إذا «إن» أردت

٤١

الدخول فاستأذن ، فأبى ، فلمّا أبى ساومه حتّى بلغ به من الثمن ما شاء الله ، فأبى أن يبيع ، فقال : لك بها عذق يعدّ لك في الجنّة ، فأبى أن يقبل ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله للأنصارى : اذهب فاقلعها وارم بها إليه ، فإنّه لا ضرر ولا ضرار» (١).

ونقله مرسلا عن زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام في الكافي مع اختلاف يسير ، وذكر في ذيله : «فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّك رجل مضارّ ، ولا ضرر ولا ضرار على مؤمن ، ثمّ أمر بها رسول الله فقلعت ، ثمّ رمى بها إليه ، وقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله :انطلق فاغرسها حيث شئت» (٢).

ونقله أيضا صاحب الوسائل (٣) عن الصدوق ، في الباب المتقدّم ، الحديث الأوّل : محمّد بن عليّ بن الحسين بإسناده عن الحسين بن زياد الصيقل ـ هو كثير الرواية قابل للاعتماد ـ عن أبي عبيدة الحذّاء ، قال : قال أبو جعفر عليه‌السلام : «كان لسمرة بن جندب نخلة في حائط ابن فلان ، فكان إذا جاء إلى نخلته ينظر إلى شيء من أهل الرجل ، يكره الرجل ، قال : فذهب الرجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فشكى ، فقال : يا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، إنّ سمرة يدخل عليّ بغير إذني ، فلو أرسلت إليه فأمرته أن يستأذن حتّى تأخذ أهلي خدرها منه ، فأرسل إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله فدعاه ، فقال : يا سمرة ، ما شأن فلان يشكوك ، ويقول : يدخل علىّ بغير إذني ، فترى من أهله ما يكره ذلك ، فاستأذن إذا أنت دخلت ، ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : يسرّك أن يكون عذق في الجنّة بنخلتك؟ قال : لا ، قال : ثلاثة ، قال : لا ، قال : ما أراك يا سمرة إلّا مضارا ، ثمّ قال : اذهب يا فلان ، فاقلعها واضرب بها وجهه».

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤٢٨ ، الباب ١٢ ، من أبواب إحياء الموات ، الحديث ٣.

(٢) الكافي ٥ : ٢٩٤ ، كتاب المعيشة ، باب الضرر ، الحديث ٨.

(٣) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤٢٧ ، كتاب إحياء الاموات ، الباب ١٢ ، الحديث ١.

٤٢

ونقله أيضا صاحب الوسائل (١) عن الكليني ، عن محمّد بن يحيى عن محمّد ابن الحسين ، عن محمّد بن عبد الله بن هلال ـ وهو مجهول الحال ـ عن عقبة بن خالد ـ وهو إماميّ قابل للاعتماد ـ عن أبي عبد الله عليه‌السلام : «قال : قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بين أهل المدينة في مشارب النخل أنّه لا يمنع نفع شيء (نقع بئر) ، وقضى بين أهل البادية أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلاء ، وقال (فقال) : لا ضرر ولا ضرار».

والمستفاد من الرواية أنّه مراده صلى‌الله‌عليه‌وآله جواز استفادة أهل المدينة من ماء البئر زائدا على مقدار احتياج البساتين ، ولا يلزم الاستفادة منه بمقدار احتياجها ، وهكذا جواز استفادة أهل البادية من فضل ماء المزارع لإنبات كلاء وأكل الحيوانات منه.

ويكون مستندها أيضا ما ذكره صاحب الوسائل (٢) عن المشايخ الثلاثة بإسنادهم عن عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن ، وقال : لا ضرر ولا ضرار ، وقال : إذا أرّفت الارف وحدّدت الحدود ، فلا شفعة».

وفي نقل الصدوق قال بعد ذلك «ولا شفعة إلّا لشريك غير مقاسم».

ونقل أيضا صاحب مستدرك الوسائل رواية عن دعائم الإسلام (٣) قال :روينا عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه سئل عن جدار الرجل ، وهو سترة بينه وبين جاره سقط ، فامتنع من بنيانه ، قال : «ليس يجبر على ذلك إلّا أن يكون وجب ذلك لصاحب الدار الاخرى بحقّ أو بشرط في أصل الملك ، ولكن يقال

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤٢٠ ، في كتاب إحياء الاموات ، الباب ٧ ، الحديث ٣.

(٢) وسائل الشيعة ٢٥ : ٣٩٩ ، في كتاب الشفعة ، الباب ٥ ، الحديث ١.

(٣) مستدرك الوسائل ، كتاب إحياء الأموات ، الباب ٩ ، الحديث ١.

٤٣

لصاحب المنزل : استر على نفسك في حقّك إن شئت» ، قيل له : فإن كان الجدار لم يسقط ولكنّه هدم أو أراد هدمه إضرارا بجاره لغير حاجة منه إلى هدمه؟ قال : «لا يترك ، وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : لا ضرر ولا ضرار». وفي نسخة زاد كلمة «ولا ضرار» أيضا.

ونقل أيضا صاحب المستدرك عن الكتاب المذكور أنّه قال : روينا عن أبي عبد اللهعليه‌السلام عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «لا ضرر ولا ضرار».

وقال صاحب الوسائل في كتاب الإرث (١) ، قال الصدوق : «قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله الإسلام يزيد ولا ينقص ، قال : وقال لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» ، وأمّا جملة «لا يزيده شرّا» في ذيل الرواية ، فلا نعلم كونها من النبيّ أو من الصدوق.

ومعنى الرواية أنّ كفر الوارث من موانع الإرث ، وأمّا إذا كان الوارث مسلما والمورّث كافرا ، فلا منع في البين ؛ إذا الإسلام يوجب الزيادة ولا النقيصة ، لا ضرر ولا ضرار في الإسلام.

وهذه المرسلة معتبرة بلحاظ أنّ الصدوق مع شدّة احتياطه نسبها إلى النبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله ، وكونها واجدة لشرائط الحجّيّة بنظره قطعا ، وهذا لا يكون أقلّ من توثيق مثل النجاشي بلا ريب.

ونقل أيضا في الكافي (٢) بسنده عن هارون بن حمزة الغنوي عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل شهد بعيرا مريضا وهو يباع ، فاشتراه رجل بعشرة دراهم ، وأشرك فيه رجلا بدرهمين بالرأس والجلد ، فقضى أنّ البعير برئ ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٦ : ١٤ ، الباب ١ ، من أبواب موانع الإرث ، الحديث ٩ و ١٠.

(٢) الكافي ٥ : ٢٩٣ ، كتاب المعيشة ، باب الضرار ، الحديث ٤.

٤٤

فبلغ ثمنه دنانير ، قال : فقال «لصاحب الدرهمين خمس ما بلغ ، فإن قال : أراد الرأس والجلد فليس له ذلك هذا الضرار ، وقد أعطى حقّه إذا أعطى الخمس».

وقال الشيخ رحمه‌الله في كتاب الخلاف في باب خيار الغبن : «دليلنا : ما روي عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله أنّه قال : «لا ضرر ولا ضرار» (١).

وقال ابن زهرة في باب خيار العيب : «ويحتجّ على المخالف بقوله : «لا ضرر ولا ضرار»» (٢). وقال العلّامة في التذكرة مرسلا : «قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»» (٣).

وهكذا ذكرت هذه الجملة في الكتب اللغوية ، مثل : مجمع البحرين ونهاية ابن الأثير ، والمستفاد من نقل ابن الأثير ـ مع التزامه بنقل ما روي من طرق أهل السنة ـ أنّ نقلها لا ينحصر بالإماميّة ، كما أنّ أحمد بن حنبل ذكرها في ضمن الرواية المفصّلة عن عبادة بن صامت بالنسبة إلى الأحكام الصادرة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقال : «وقضى أن لا ضرر ولا ضرار» (٤) ، فلا مناقشة فيها من حيث الاعتبار بعد نقلها إجمالا من طريق الفريقين.

ولا إشكال في ورودها في ذيل قضية سمرة بن جندب ، ولا إشكال في ارتباطها في هذه القضيّة ، كما يستفاد من كثير من الروايات ، مثل : الموثّقة المنقولة عن المشايخ الثلاثة ، فإنّه قال رسول الله فيها : «اذهب فاقلعها وارم بها إليه ، فإنّه لا ضرر ولا ضرار». ودليل الارتباط هو بيان التعليل مصدّرا بكلمة «فاء» ، وهكذا قال في مرسلة زرارة : «إنّك رجل مضارّ ولا ضرر ولا ضرار على

__________________

(١) الخلاف ٣ : ٤٢.

(٢) غنية النزوع إلى علمي الاصول والفروع : ٢٢٤.

(٣) تذكرة الفقهاء ١١ : ٦٨.

(٤) مجمع البحرين ٣ : ٣٧٣.

٤٥

مؤمن» ، فإنّ تشكيل الصغرى والكبرى دليل على الارتباط بهذه القضيّة ، وهكذا قوله في رواية اخرى : «ما أراك يا سمرة إلّا مضارّا».

وأمّا الروايات الدالّة على ورودها في ذيل قضيّة اخرى مثل قوله : «قضى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله بالشفعة بين الشركاء في الأرضين والمساكن ، وقال : لا ضرر ولا ضرار ، وقال : إذا عرّفت العرف وحدّدت الحدود فلا شفعة» ، فلا ظهور لها بالارتباط ؛ إذ يحتمل أن تكون هذه جملة مستقلّة في قبال ما هو قبلها وبعدها.

وهكذا ما ذكرناه من قوله : «قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بين أهل المدينة في مشارب النخل أنّه لا يمنع نفع شيء (نقع بئر) وقضى بين أهل البادية أنّه لا يمنع فضل ماء ليمنع به فضل كلاء ، وقال (فقال) : لا ضرر ولا ضرار» ؛ إذ النسخة في الواقع إن كانت «فقال» يدلّ على الارتباط وإن كانت «وقال» لا يدلّ عليه ، فلا دليل لإثبات ارتباطها بالقضيّتين.

والظاهر بحسب بادي النظر أنّ مشروعيّة حقّ الشفعة تكون بلحاظ دفع الضرر ، وأنّ قوله : «لا ضرر ولا ضرار» بمنزلة التعليل له ، ولازم ذلك دورانه مدار تحقّق الضرر وعدمه ، فإذا كان المشتري مؤمنا صالحا وأفضل معاشرة من الشريك لا يتحقّق حقّ الشفعة ، مع أنّه لا يمكن الالتزام به ، مضافا إلى أنّه ثابت للشريكين فقط ، فإن كان الشركاء أزيد منهما لا يتحقّق وإن كان في البين ضرر للشريك ، وهكذا إذا كان انتقال الملك بالهبة والصلح ونحو ذلك ؛ لاختصاصه بالبيع فقط ، مع أنّه لا فرق من حيث الضرر بين البيع وسائر الانتقالات. ومضافا إلى أنّ مدار الحكم لو كان تحقّق الضرر لا بدّ من تحقّقه فيما إذا كان بيع دار الجار وأرضه موجبا لضرر جاره بدون أيّ نوع من الشركة ، مع أنّه لم يلتزم أحد بذلك.

٤٦

وهكذا إذا كان بيع الدار الشخصيّة موجبا لمشقّة شديدة أو كسالة زوجته لشدّة علاقتها بالدار ، أو في مثل هبة الأب ثلث ماله لأحد أولاده في حال حياته وسلامته ، لكونه ضررا لسائر أولاده ، مع أنّه لا يتحقّق حقّ الشفعة في هذين الموردين ، ولا إشكال فيهما ، فلا يرتبط قوله : «لا ضرر ولا ضرار» بالشفعة ، وإلّا يلزم التوالي الفاسدة المذكورة.

وأضف إلى ذلك : أنّ لحقّ الشفعة مرحلتين : الاولى : كون بيع الشريك ملكه بيعا جائز الفسخ ، قابل الرجوع برجوع الثمن إلى ملك المشتري والمثمن إلى ملك البائع ، كأنّه لم يقع هناك بيع ولم تتحقّق معاملة أصلا.

الثانية : قيام الشريك مقام المشتري وانتقال ما للبائع إلى ملكه وضميمة نصف الآخر إلى نصفه بإعطاء الثمن للمشتري ، فإن كان لقوله : «لا ضرر ولا ضرار» دخلا بعنوان التعليل في حقّ الشفعة ، يكون مقتضاه إثبات المرحلة الاولى فقط ؛ لارتفاع الضرر بها قطعا ، ولا يقتضي إثبات المرحلة الثانية بقيام الشريك مقام المشتري في هذه المعاملة أصلا.

واختار شيخ الشريعة الأصفهاني رحمه‌الله طريقا آخر لعدم ارتباط قوله : «لا ضرر ولا ضرار» بمسألة الشفعة ، وقال : إنّه تتحقّق الروايتان بالنسبة إلى قضايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أحدهما معروف عند أهل السنة ، والآخر معروف عند الإماميّة.

الاولى : رواية عبادة بن صامت وعنوانها : «قضى رسول الله بين أهل المدينة كذا ، قضى رسول الله بين أهل البادية كذا ، قضى رسول الله لا ضرر ولا ضرار ، قضى رسول الله كذا وكذا» ، وجمع فيها جميع ما قضى به رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ونقل فيها قوله : «لا ضرر ولا ضرار» بعنوان قضيّة مستقلّة ، ونقل قوله «قضى رسول الله بالشفعة بين الشركاء في الأراضي والمساكن» بدون التذيل به ،

٤٧

وهكذا قوله «قضى رسول الله أنّه لا يمنع فضل ليمنع به فضل كلاء».

الثانية : رواية عقبة بن خالد ، وفيها نقل قضايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله في الأبواب المختلفة، وإن كان بعض آخر مثل السكوني أيضا ناقلا لها ، ولكنّ العمدة نقله لها ، ويحتمل أن يكون نقله جميع القضايا في رواية واحدة ، وتجزئتها وتقطيعها ونقل كلّ جزء منها في الباب المناسب من قبل تلامذته ورواة الحديث عنه بلا واسطة أو مع الواسطة ، وإذا لاحظنا الروايتين فلا فرق بينهما من حيث العبارات والألفاظ إلّا في جعل قوله «لا ضرر ولا ضرار» ذيلا لقضيّة الشفعة وفضل الماء في رواية عقبة بن خالد ، بخلاف رواية عبادة بن صامت.

ومن هنا نستفيد أنّ قوله : «لا ضرر ولا ضرار» قضيّة مستقلّة لا ترتبط بقضيّة الشفعة وفضل الماء.

وذكر المحقّق النائيني رحمه‌الله مؤيّدا لذلك ، وقال : «لا يبعد أن تكون رواية عقبة بن خالد رواية واحدة مشتملة على قضايا متعدّدة ، والشاهد على ذلك وحدة السند في جميعها كما ذكرنا عن الكليني رحمه‌الله عن محمّد بن يحيى ، عن محمّد بن الحسين ، عن محمّد بن عبد الله بن هلال ، عن عقبة بن خالد عن أبي عبد الله عليه‌السلام : قال : «قضى رسول الله بين أهل المدينة ...» ، وهكذا سائر رواياته ، ولكن مثل الكليني رحمه‌الله لمّا رتّب كتابه على ترتيب أبواب الفقه نقل كلّ قضيّة منها في باب».

والإشكال المؤيّد على هذا الطريق : أنّ الروايات التي نقلها عقبة بن خالد لا تكون أزيد من عشرة قضايا ، مع أنّ قضايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كثيرة ، ونقل عدّة منها السكوني ، وعدّة اخرى بعض آخر ، فلا امتياز لعقبة بن خالد في ذلك ، بخلاف رواية عبادة بن صامت ؛ لاشتمالها للجميع أو أكثر قضايا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مضافا إلى أنّ تكرار قوله : «لا ضرر ولا ضرار» في ذيل قضيّة الشفعة وقضيّة

٤٨

فضل الماء والكلاء دليل على كونه ذيلا لهما وأنّهما معلّلان به ، وإلّا لا وجه لتكراره ، فلا يصحّ الالتزام بهذا الطريق.

والدليل على عدم الارتباط هو ما ذكرناه من استلزام التوالي الفاسدة ، مع ضعف سند الروايتين المذكورتين فيهما القضيّتان ؛ لعدم إثبات توثيق محمّد بن عبد الله بن هلال في الرجال ، فلا يمكن الالتزام بارتباطه بالقضيّتين بعد عدم الإشكال في صدوره عن رسول الله في ذيل قضيّة سمرة بن جندب ، وأمّا صدوره مستقلّا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله فلا دليل عليه ، كما لا يخفى.

وأمّا تحقّق كلمة «على مؤمن» في ذيله فلا دليل عليه ؛ لعدم وجودها إلّا في المرسلة الغير المعتبرة ، مع تقدّم أصالة عدم الزيادة على أصالة عدم النقيصة.

وأمّا كلمة «في الإسلام» فهي مذكورة في ذيله في المرسلة المعتبرة للصدوق ، ولكن يحتمل أن تكون هي في الواقع : «فالإسلام» بلحاظ الجمل الواقعة بعدها ، فحقيقة الرواية أنّه قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله : لا ضرر ولا ضرار ، فالإسلام يزيد خيرا ولا يوجب فيه شرّا» ، وهذا الاحتمال عقلائي. وإن قيل : إنّه خلاف الظاهر بلحاظ ذكرها في الكتب اللغوية أيضا في ذيله ، فلا بدّ له من العمل بالظاهر. هذا تمام الكلام في هذه الجهة.

ولا بدّ من البحث في مفردات الحديث بعد إثبات أصل صدوره عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأنّ «لا ضرار» المذكور بعد «لا ضرر» تأكيد لما قبله أو أنّه مغاير له ، وعلى فرض المغايرة هل المغايرة مغايرة باب المفاعلة والثلاثي المجرّد ـ أي الصدور من الاثنين أو الواحد ـ أو أزيد من ذلك؟ فلا بدّ من الرجوع إلى أهل اللغة وملاحظة موارد استعماله في الكتاب والسنّة ، ثمّ أخذ النتيجة في المسألة.

وأمّا من حيث اللغة ففي صحاح الجوهري أنّ : «الضرّ : خلاف النفع ، وقد

٤٩

ضرّه وضارّه بمعنى واحد».

يحتمل أن يكون المراد عدم الفرق بينهما في استعمال كلّ واحد منها مكان الآخر ، وليس لكلمة «ضارّة» معنى المفاعلة ، ويحتمل أن يكون المراد عدم الفرق بينهما بالنسبة إلى عدم النفع ، وهذا لا ينافي أن يكون لأحدهما العنوان الثلاثي المجرّد وللآخر عنوان المفاعلة والأقوى والأقرب هو الاحتمال الأوّل.

ثمّ قال : «والاسم الضرر» ما يتحقّق من المصدر ـ أي الضرّ مصدر ، والضرر اسم المصدر ـ ثمّ قال ـ : «والضرار : المضارّة» ، والمعنى : أنّ الضرار عبارة عن المضارّة التي قلنا ، وقد ضرّه وضارّه بمعنى واحد ، فلا يستفاد من هذه العبارة تحقّق المغايرة بينهما حتّى المغايرة بعنوان باب المفاعلة ، كما هو واضح.

وقال صاحب القاموس : «الضرر : ضدّ النفع ، ضارّه يضارّه ضرارا ، والضرر : سوء الحال ، الضرار : الضيق» (١).

والمستفاد منه إجمالا أنّ المغايرة بينهما لا تكون مغايرة باب المفاعلة ، بل هو النوع الآخر من المغايرة ، فإنّ سوء الحال يستعمل نوعا ما في موارد الخسران والضرر المالي والجسمي ، والضيق يستعمل في موارد الخسران العرضي والروحي والمعنوي.

وقال في المصباح المنير : «ضرّه يضرّه إذا فعل به مكروها وأضرّ به ، يتعدّى بنفسه ثلاثيّا ، والباء رباعيّا» ـ أي إذا كان ثلاثيّا يتعدّى بنفسه ، ويقول : ضرّه ويضرّه مثل قتله يقتله ، وإذا كان رباعيّا يقول : أضرّ بالرجل ، لا أضرّ الرجل ، فيتعدّى بالباء ـ ثمّ قال : «والاسم الضرر ، وقد يطلق على نقص في الأعيان ، وضارّه

__________________

(١) القاموس المحيط ٢ : ٧٥.

٥٠

يضارّه مضارّة وضرارا ، يعنى ضرّ». والمستفاد منه أنّه لا فرق بينهما أصلا (١).

وقال ابن الأثير في النهاية : «في الحديث : «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام» الضرر : ضدّ النفع ، ضرّه يضرّه ضرّا وضرارا ، وأضرّ به يضرّه إضرارا ، فمعنى قوله «لا ضرر» : لا يضرّ الرجل أخا ، فينقصه شيئا من حقّه ، والضرار فعال من الضرّ ، أي لا يجازيه على إضراره بإدخال الضرر عليه ، والضرر فعل الواحد ، والضرار فعل الاثنين ، والضرر ابتداء الفعل ، والضرار الجزاء عليه ، وقيل : الضرر ما تضرّ به صاحبك وتنفع أنت به ، والضرار أن تضرّه بغير أن تنفع ، وقيل : هما بمعنى واحد والتكرار للتأكيد» (٢). هذا ما لاحظناه في كتب اللغة ومن الاختلاف فيها.

ولكنّ المستفاد من موارد استعمال كلمة «الضرار» في القرآن هو ما ذكره في القاموس من استعمال الضرر في الخسران الجسمي والمالي ، والضرار في الخسران الاعتقادي والروحي ، كما في مثل قوله تعالى : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً ...)(٣) ، فإنّ الغرض من تأسيس المسجد المذكور إيجاد الضعف في عقائد المسلمين والتشكيك في إيمانهم والتفرقة بينهم ، ولا يتصوّر هنا الإضرار بين الاثنين والمفاعلة.

وكما في مثل قوله تعالى : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً)(٤) ، والظاهر أنّه في قبال قوله تعالى : (الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ ...)(٥).

__________________

(١) مصباح المنير ٥ : ٣٢٨.

(٢) النهاية في غريب الأثر ٣ : ١٧٢.

(٣) التوبة : ١٠٧.

(٤) البقرة : ٢٣١.

(٥) البقرة : ٢٢٩.

٥١

ومن الروايات الواردة في تفسير الآية ما عن الصادق عليه‌السلام : أنّه قال : «لا ينبغي للرجل أن يطلّق امرأته ثمّ يراجعها وليس له فيها حاجة ثمّ يطلّقها ، فهذا الضرار الذي نهى الله عنه إلّا أن يطلّق ثمّ يراجع وهو ينوي الإمساك» (١).

والمستفاد منها أنّ الإمساك بقصد التحقير وإيجاد النقص الروحي ، ومقدّمة للطلاق الثالث أو التاسع بدون الاحتياج إلى الاستمتاع منها يكون إضرارا بها.

وهكذا في قوله تعالى : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ)(٢) ، وفي تفسيرها اختلاف ، ويقول بعض : إنّه لا يصحّ إيقاع الوالدة موردا للضرر بالنسبة إلى ولدها ، وهكذا الوالد بالنسبة إلى مولود له ، وكأنّه كان عنوانان مستقلّان : أحدهما : لا تضارّ والدة بولدها ، والآخر : لا يضارّ مولود له بولده.

هذا ، ولكن يستفاد من الروايات الواردة في تفسيرها معنى آخر ، منها : ما عن أبي الصباح الكناني ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن قول الله : (لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ). فقال : «كانت المراضع ممّا تدفع إحداهنّ الرجل إذا أراد الجماع تقول : لا أدعك إنّي أخاف أن أحبل فأقتل ولدي هذا الذي أرضع ، وكان الرجل تدعوه المرأة ، فيقول : أخاف أن أجامعك فأقتل ولدي فيدعها ولم يجامعها ، فنهى الله عزوجل عن ذلك أن يضارّ الرجل المرأة ، والمرأة الرجل» (٣).

والمراد امتناع الزوج أو الزوجة المرضعة من الجماع للخوف من الحمل الذي يوجب قلّة اللبن الموجب لهلاك الرضيع ، ومعلوم أنّ الضرر الموجود هنا

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٢ : ١٧١ ، الباب ٣٤ من أقسام الطلاق وأحكامه ، الحديث ١.

(٢) البقرة : ٢٣٣.

(٣) وسائل الشيعة ٢٠ : ١٨٩ ، الباب ١٠٢ من أبواب مقدّمات النكاح وآدابه ، الحديث ١.

٥٢

هو الحرمان من لذّة الجماع.

وهكذا في قضية سمرة بن جندب ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : «ما أراك يا سمرة إلّا مضارّا ولا ضرر ولا ضرار» ، ومعلوم أنّ انطباق عنوان المضارّ عليه من ناحية رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله لا يكون لتحقّق الضرر بين الاثنين ، بل لإيجاده ضررا عرضيّا وروحيّا على الأنصاري.

فيستفاد من ملاحظة الآيات والرويات وكلمات جمع من اللغويّين : أوّلا : أنّه لا إشكال في اختلاف معنى «لا ضرر» مع «لا ضرار» ، ولا يكون الثاني تأكيدا للأوّل.

وثانيا : أنّ الاختلاف بينهما لا يكون اختلاف الثلاثي المجرّد وباب المفاعلة المتحقّق بين الاثنين ، بل هو اختلاف حقيقي ، وأنّ الضرر عبارة عن النقص المالي والضرر الجسمي ، والضرار عبارة عن غيره من الضرر الاعتقادي والعرضي والعاطفي والغريزة الجنسيّة وأمثال ذلك.

والمستفاد من كلام ابن الأثير في النهاية كون «لا» ناهية ، فإنّه قال : «لا ضرر : يعني لا يجوز أن يضرّ الرجل أخاه فينقصه شيئا. لا ضرار : يعني لا يجوز أن يجاز الرجل على ضرر» ، ولكنّه ليس بصحيح ، فإنّ «لا» الناهية من مختصّات الفعل لا تدخل على الاسم والمصدر ، كما هو ثابت في محلّه ، والمصدر قد يكون بمعنى اسم الفاعل ، وقد يكون بمعنى اسم المفعول ، وكونه بمعنى الفعل مخالف لما عليه أهل النحو ، فلا يجوز الالتزام به.

والمتّفق عليه تقريبا عند الأعاظم هو كون «لا» نافية بنفي الجنس ، إلّا أنّ نفي الضرر عن الإسلام بالنفي الحقيقي خلاف للواقع كما قال به الشيخ الأنصاري رحمه‌الله فلا بدّ من ارتكاب المجاز هنا والالتزام به ، بأنّ معناه أنّه : «لم

٥٣

يشرّع الشارع حكما ضرريا ، سواء كان حكما تكليفيّا أو وضعيّا ، فلم يشرّع الشارع الوضوء الضرري ، والصوم الضرري ، ولم يحكم باللزوم في المعاملة الغبنيّة مثلا ، ولكنّ البحث في أنّ المجاز هنا من قبيل استعمال اللفظ الموضوع للمسبّب في السبب ـ أي لم يجعل الشارع ما هو سببا للضرر ـ أو أنّه من المجاز في الحذف والتقدير ، أو إرجاعه إلى حقيقة ادّعائيّة ، كما ذكره السكّاكي في الاستعارة وبعض في جميع المجازات ، والتحقيق في محلّه.

والتزم عدّة من الأعاظم بأنّ استعمال قوله : «لا ضرر ولا ضرار» استعمال حقيقي بدون ارتكاب أيّ نوع من المجاز والعناية كالمحقّق الحائري والنائيني رحمه‌الله والعراقي رحمه‌الله ، وذكر كلّ منهم وجها للمدّعى ، إلّا أنّ الوجوه متقاربة ، والمفصّل منها ما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله فإنّه ذكر للمدّعى مقدّمات ثمّ استفاد منها الاستعمال الحقيقي ، ولكن لا بدّ لنا من نقل بعضها على نحو الاختصار :

منها : أنّه قال : لا فرق بين حديث «لا ضرر ولا ضرار» وحديث الرفع ، فإنّ ما تعلّق به الرفع من الواقعيّات الخارجيّة المتحقّقة ففي بادي النظر لا يمكن نسبة الرفع إليها حقيقة ، فلا بدّ من القول بارتكاب المجاز ، وأنّ المؤاخذة في التقدير كأنّه قال : «رفع المؤاخذة على ما لا يعلمون ، ورفع المؤاخذة على ما استكرهوا عليه» وأمثال ذلك.

ولكنّ الرفع في عنوان الحديث بحسب الدقّة والتأمّل رفع انشائي في عالم التشريع ، لا في مقام الإخبار والحكاية عن الواقعيّات الخارجيّة وتختلف العناوين المتعلّق بها الرفع التشريعي ، فإنّ رفع بعضها يكون بنفسه ، مثل : «ما لا يعلمون» إذا كان الموصول بمعنى الحكم المجهول ، فالمرفوع في عالم التشريع حقيقة هو الحكم المجهول بحسب الحكم الظاهري لا بعنوان الحكم الواقعي ،

٥٤

ورفع بعضها يكون برفع أثره ، مثل : «رفع النسيان» إذا كان النسيان بمعنى المنسي ، وفي عالم التشريع إذا كان أثر موضوع مرفوعا معناه رفع نفس الموضوع ، فلا فرق في الاستعمال الحقيقي هنا بين أن يكون المرفوع نفس الشيء أو آثاره ، فالرفع حقيقي بدون أيّ نوع من المجاز والعناية والتقدير.

ثمّ قال : إنّه يجري هذا المعنى بعينه في حديث «لا ضرر» ؛ إذ لا فرق في نفي الضرر الإنشائي تشريعا في تعلّق النفي بنفس الضرر أو آثاره من حيث الاستعمال الحقيقي.

ومنها : أنّه قال إنّ الجمل قد تكون متمحّضة في الإنشائيّة ، ولا تكون فيها شائبة من الإخبار ، مثل : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ) ، و«لا يشرب الخمر» ، وأمثال ذلك ، وقد تكون متمحّضة في الخبريّة ، وهي عبارة عن الجمل التي كان الموضوع فيها من الجوامد لا من المشتقّات ، ولم يكن مصدّرا بكلمة «ليس» و«لا» وأمثال ذلك ، والمحمول فيها لم يكن من الإيقاعات كالعتق والطلاق وأمثال ذلك ، مثل : «زيد قائم» ؛ إذ المحمول إذا كان من الإيقاعات يكون لها عنوان الانشائيّة ، مثل جملة : «الوطي في العدّة الرجعيّة رجوع عن الطلاق» ، والمحمول هنا من الإيقاعات ، فإنّ الرجوع من الطلاق إيقاع باختيار الزوج ، وإن كانت هذه الجملة بحسب الظاهر خبريّة ، ولكن باطنها جملة إنشائيّة ؛ إذ الشارع ينشأ بها : أنّ ممّا يوجب الرجوع عن الطلاق هو الوطي ، وقد تكون مشتركة بين الإنشائيّة والخبريّة مثل جملة : «يعيد الصلاة» فإنّها جملة خبريّة ، ولكن إذا صدرت في مقام الجواب عن السؤال تصير إنشائيّة ، وهكذا مثل كلمة «بعت» قد يستعمل في مقام الإنشاء ، وقد يستعمل في مقام الإخبار إذا صدرت بعد الاستخبار عن وضع ملك كذا مثلا.

٥٥

ولا يخفى أنّ اختلاف الاستعمال لا يرتبط بالوضع ، بل يرتبط بالمداليل السياقيّة ، وأنّ سياق الكلام قد يقتضي الإخباريّة إذا وقع في الجواب عن السؤال ، وقد يقتضي الإنشائيّة إذا وقع في مقام النقل والانتقال ، ويمكن اجتماع الإنشائيّة والإخباريّة في جملة واحدة بلحاظ خصوصيّات المورد ، فلا مانع من الالتزام بذلك في قوله : «لا ضرر» ، وأنّ المدلول السياقي فيه يختلف بحسب اختلاف الموارد ، وكون «لا» نافية في كثير من الموارد وناهية في بعض الموارد ، وهذا لا يوجب أن لا يكون الاستعمال حقيقيّا.

ثمّ قال بعد ذكر المقدّمات : إنّ أصوب الوجوه في معنى «لا ضرر» أنّه ينفي الحكم الضرري على نحو الحقيقة بدون أيّ نوع من المسامحة والتجوّز.

ثمّ قال : لا يتوهّم أنّ للضرر في الواقعيّات الخارجيّة عنوانين : أحدهما العنوان الأوّلى الأصلي ، والآخر العنوان الثانوي المتولّد والمسبّب من الأوّل ، إذا تحقّق الضرب ـ مثلا ـ في الخارج ، فالضرب عنوان من العناوين الأوّليّة ، والعنوان المسبّبي المتولّد منه عبارة عن الضرر إن كان معنى «لا ضرر» النفي على نحو البسيط في قبال النفي المركّب ـ أي كان مثل «ليس زيد» لا مثل «ليس زيد بعالم» ـ فيرتبط النفي بالامور التكوينيّة بمعنى توجّهه إلى الأفعال التي لها عنوانان ، والعنوان الثانوي المتولّد من العنوان الأوّلي عبارة عن الضرر ، فينطبق في الشرعيّات بعنوان المجازي لا بعنوان الحقيقي.

فإنّا نقول : هذا توهّم فاسد ؛ لانطباق ما ذكر بعينه في الشرعيّات بأنّ لزوم عقد البيع ولو في المعاملة الغبنيّة عنوان أوّلي ، والعنوان الثانوي المتولّد منه هو الضرر ، وهكذا في إيجاب الوضوء ـ مثلا ـ إن كان ضرريّا ، ولا فرق بينهما إلّا أنّ نفس الحكم واللزوم في المعاملة الغبنيّة مستلزم للضرر بدون أيّ واسطة في

٥٦

البين ، وأمّا الموجب للضرر في مسألة إيجاب الوضوء ليس نفس الإيجاب ، بل هو عبارة عن الوضوء الخارجي ، ولكن بلحاظ مقهوريّة إرادة المكلّف لحكم الشارع يصحّ استناد الضرر إلى الحكم ، والإيجاب استناد المعلول إلى العلة ، فنقول : إيجاب الوضوء يكون ضرريّا ومستلزما للضرر.

نعم ، إذا كان لكلّ السبب والمسبّب وجود مستقلّ ـ كحركة اليد وحركة المفتاح ـ لا يصحّ إطلاق أحدهما على الآخر على نحو الحقيقة ، وأمّا إذا لم يكن كذلك فلا مانع ؛ لإطلاق أحدهما على الآخر كالضرب والتألّم بدون أيّ نوع من المجازيّة ، ففي ما نحن فيه يصحّ القول بأنّ الحكم الذي يتولّد منه الضرر ، والضرر لباسه لا يتحقّق في محيط التشريع ، فلزوم البيع في المعاملة الغبنيّة لا يتحقّق ، وإيجاب الوضوء الضرري لا يتحقّق ، فلا إشكال في نفي الحكم الضرري بقوله : «لا ضرر» على نحو الحقيقة (١). هذا تمام كلامه مع التوضيح والتصرّف منا.

ولكن التحقيق : أنّ ما ذكره في المقدّمة الاولى ـ من عدم مجازيّة إسناد الرفع إلى الشيء بلحاظ آثاره وإسناد النفي إليه بلحاظ آثاره ، بل هي حقيقيّة في عالم التشريع ـ ليس بتامّ.

توضيح ذلك : أنّ المجاز قد يكون في الكلمة ، مثل : «رأيت أسدا يرمي» ، وقد يكون في الإسناد ، مثل : «أنبت الربيع البقل» ، فإنّ إسناد الإنبات إلى الربيع دون الباري تعالى مجازي ، والمجاز في حديث الرفع عند القائل به مجاز في الإسناد إن كان معناه أنّ شرب الخمر عن إكراه في جوّ الشرع لا حرمة فيه ولا حدّ عليه ، فلا إشكال فيه ، وأمّا اسناد الرفع إلى ما استكرهوا عليه ـ أي

__________________

(١) قاعدة لا ضرر دروس الفقيه العظيم والاصولي محمّد حسن الغروي النائيني : ١١٠.

٥٧

إلى شرب الخمر في الواقع ـ بمعنى أنّ هذا ليس بشرب الخمر فكيف يكون إسنادا حقيقيّا ولو في محيط التشريع؟ مع أنّه لا فرق بين الشارع وغيره في الاستعمالات ، ولا دخل للشارع بما أنّه شارع في كيفيّة الاستعمال ، لتبعيّة استعمالاته الاستعمالات العرفيّة من حيث الحقيقة والمجاز ، ففي الاستعمالات العرفيّة يمكن نفي الرجوليّة بلحاظ نفي الآثار مجازا أو بعنوان الحقيقة الادّعائيّة لا الحقيقة الواقعيّة ، وهكذا في الاستعمالات الشرعيّة بلا فرق بينهما أصلا.

وأمّا ما ذكره في المقدّمة الثانية ـ من ارتباط الإخبار والإنشاء في مثل كلمة «بعت» بمداليل السياق لا بالوضع والموضوع له وأنّ السياق قد يقتضي دلالتها على الخبر ، وقد يقتضي دلالتها على الإنشاء ـ فلا بدّ من ملاحظته حتّى يتّضح ما هو الواقع ، فنقول : إنّ مادّة كلمة «بعت» ـ أي البيع ـ وضعت للمعنى المشترك بين جميع الهيئات المشتقّة ، وأمّا هيئتها فلا إشكال في عدم كونها من الألفاظ المهملة ، بل لها أيضا وضع كسائر الألفاظ المشتقّة ، وحينئذ فيحتمل أن يكون بصورة تعدّد الوضع بأنّها وضعت تارة للمعني الإنشائي إذا استعملت في مقام إنشاء التمليك والنقل والانتقال ، واخرى للمعنى الإخباري إذا استعملت في مقام الحكاية عمّا مضى ، كما هو الحقّ ، ويحتمل أن يكون بالوضع الواحد بصورة المشترك المعنوي للقدر المشترك بين الإنشاء والإخبار ، فنحتاج إلى القرينة المعيّنة في مقام الاستعمال ، وهي قد تكون عبارة عن السياق ، وقد تكون غيره من القرائن الاخرى ، ولا مانع منه بحسب بادئ النظر.

ولكن قلنا : إنّ الوضع في باب الحروف عامّ والموضوع له خاصّ ، بمعنى لحاظ الواضع كلّي الابتداء ـ مثلا ـ ثمّ وضع لفظ «من» لمصاديقه ، بخلاف

٥٨

ما ذكره صاحب الكفاية رحمه‌الله ، وللهيئة أيضا عنوان حرفي مثل كلمة «من» والهيئات من ملحقات الحروف في باب الوضع ، والمعنى الحرفي مساوق الجزئيّة والفرديّة والتشخّص والمصداقيّة الواقعيّة الخارجيّة لا الذهنيّة ، فلا يمكن وضع هيئة «بعت» للقدر المشترك والجامع بين الإنشاء والإخبار ؛ إذ الجامع معنى اسمي ، وليس لمصاديق الابتداء جامع بل لا يصوّر سوى مفهوم الابتداء ، وهو معنى اسمي ، فالقدر المشترك من العناوين الكلّيّة الاسميّة ، وما نشاهد في باب الحرف بعنوان الموضوع له عبارة عن المصاديق والأفراد ، فكيف يمكن أن يكون المصداق قدر الجامع؟ فلا بدّ من الالتزام بتعدّد الوضع ، بأنّ الواضع بعد ملاحظة كلّي البيع الإنشائي في المقام وضع كلمة «بعت» لمصاديقه ، ثمّ لاحظ كلّي البيع الإخباري ووضعها لمصاديقه ، فما ذكره من ارتباط الإنشاء والإخبار بالمداليل السياقيّة لا بالوضع والموضوع له ليس بتامّ.

وهكذا ما ذكره في ذيل كلامه ـ من ارتباط العلّيّة والمعلوليّة بين إيجاب الوضوء ، والوضوء الخارجي الضرري ، وأنّ إرادة العبد مقهورة لحكم المولى في عالم التشريع ـ ليس بصحيح ، فإنّ المشاهد في الخارج أنّ إطاعة الأمر بالوضوء ضرري ، ولا تحقّق نسبة العليّة التامّة والمعلوليّة بين الأمر وإطاعته ، وإلّا لم يتحقّق العصيان والمخالفة أصلا ، ولا العلّيّة الناقصة ، فإنّ معناها إيصال المطيع العلّيّة الناقصة بمرحلة الكمال وانسداد العاصي من تأثيرها ، وهو كما ترى.

والتحقيق في مسألة الإطاعة والعصيان : أنّ المكلّف بعد ملاحظة الأمر وترتّب الثواب على إطاعته والعقاب على مخالفته يختار طرف الإتيان به ، وقد

٥٩

يختار طرف العصيان ؛ لعدم مبالاته في الدين أو اتّكالا على العفو والشفاعة والتوبة ، فلا يرتبط العصيان والإطاعة بالأمر ، بل يتحقّق بسبب الأمر موضوع للموافقة والمخالفة فقط ، ولا علّيّة له ، فكيف يمكن استناد الضرر المربوط بالإطاعة إلى الأمر وإيجاب الوضوء؟

وأمّا المثال المذكور في مسألة الإيلام والضرب ، أو القتل والضرب وأنّ ترتّب الإيلام على الضرب ترتّب علي ، مع عدم استقلالهما في الوجود ، وإطلاق أحدهما على الآخر شائع.

فيرد عليه : أوّلا : أنّ الاتّحاد في الوجود لا يرتبط بعالم الألفاظ والاستعمال ، سواء كان الاتّحاد فيه على الدوام أو أحيانا ، ولا يسري الاتّحاد الوجودي إلى عالم المفاهيم ، وإلّا يجوز استعمال لفظ الإنسان مكان لفظ الضاحك أو بالعكس ، لاتّحادهما من حيث الوجود دائما ، ويجوز استعمال لفظ الغصب مكان الصلاة أو بالعكس ، لاتّحادهما من حيث الوجود أحيانا.

وثانيا : لو سلّمنا أنّ إطلاق أحدهما على الآخر شائع ، لكنّ الشياع هل يكون بنحو الحقيقة أو بنحو المجاز؟ والأوّل لا طريق لإثباته ، والثاني خلاف المدّعى ، فما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله من دلالة «لا ضرر» على نفي الحكم الضرري بالدلالة الحقيقيّة لا بالمسامحة ولا بالحقيقة الادّعائيّة ليس بتامّ ، كما لا يخفى.

وقال صاحب الكفاية رحمه‌الله : «إنّ الأصل الأوّلي في مثل قوله : «لا ضرر ولا ضرار» هو نفي الماهيّة والحقيقة ، إلّا أنّه قد يكون بنحو الحقيقة كما في مثل «لا رجل في الدار» ، وقد يكون بنحو الادّعاء والكناية بلحاظ عدم تحقّق الحكم أو الصفة المترقبة عن مدخول «لا» ، مثل قوله : «يا أشباه الرجال ولا رجال» ،

٦٠