دراسات في الأصول - ج ٤

السيد صمد علي الموسوي

دراسات في الأصول - ج ٤

المؤلف:

السيد صمد علي الموسوي


الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مركز فقه الأئمة الأطهار عليهم السلام
المطبعة: ياران
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-7709-95-8
ISBN الدورة:
978-964-7709-96-5

الصفحات: ٤٨٠

الاستصحاب في الشكّ المسبّبي ، إنّما الكلام في ملاك التقدّم وعلّته ، وكان للشيخ الأنصاري رحمه‌الله في المقام كلام مفصّل ، حاصله : أنّ الشكّ في أحدهما إن كان مسبّبا عن الشكّ في الآخر ، فاللازم تقديم الشكّ السببي وإجراء الاستصحاب فيه ورفع اليد عن الحالة السابقة للمستصحب الآخر.

مثاله : استصحاب طهارة الماء المغسول به ثوب نجس ، فإنّ الشكّ في بقاء نجاسة الثوب وارتفاعها مسبّب عن الشكّ في بقاء طهارة الماء وارتفاعها ، فتستصحب طهارته ويحكم بارتفاع نجاسة الثوب.

واستشكل على نفسه بأنّ اليقين بطهارة الماء واليقين بنجاسة الثوب المغسول به كلّ منهما يقين سابق شكّ في بقائه وارتفاعه ، وحكم الشارع بعدم النقض نسبته إليهما على حدّ سواء ؛ لأنّ نسبة حكم العامّ إلى أفراده على حدّ سواء ، فكيف يلاحظ ثبوت هذا الحكم لليقين بالطهارة أوّلا حتّى يجب نقض اليقين بالنجاسة ؛ لأنّه مدلوله ومقتضاه؟

والحاصل : أنّ جعل شمول حكم العامّ لبعض الأفراد سببا لخروج بعض الأفراد عن الحكم أو الموضوع كما في ما نحن فيه فاسد بعد فرض تساوي الفردين في الفرديّة مع قطع النظر عن ثبوت الحكم.

وأجاب في مقام دفع تساوي نسبة دليل الاستصحاب بالإضافة إليهما بوجوه ، والمهمّ منها وجهان :

الوجه الأوّل : أن تقدّم السبب على المسبّب من حيث الرتبة لا يكون قابلا للإنكار ، وهذا يوجب عدم كون نسبة الدليل إليهما على حدّ سواء ، وجريان الاستصحاب في السبب مقدّما على المسبّب.

الوجه الثاني : أنّ استصحاب طهارة الماء يوجب زوال نجاسة الثوب

٣٤١

بالدليل الشرعي ، وهو ما دلّ على أنّ الثوب المغسول بالماء الطاهر يطهر ، فعدم نقض طهارة الماء لا معنى له إلّا رفع اليد عن النجاسة السابقة المعلومة في الثوب ؛ إذ الحكم بنجاسته نقض لليقين بالطهارة المذكورة ، وأمّا استصحاب بقاء النجاسة في الثوب فلا يوجب زوال الطهارة عن الماء ، ولازم شمول «لا تنقض» للشكّ المسبّبي نقض اليقين في مورد الشكّ السببي لا لدليل شرعي يدلّ على ارتفاع الحالة السابقة فيه ، فيلزم من إهمال الاستصحاب في الشكّ السببي طرح عموم «لا تنقض» من غير مخصّص ، وهو باطل ، واللازم من إهماله في الشكّ المسبّبي عدم قابليّة العموم لشمول المورد ، وهو غير منكر.

فجريان الاستصحاب في السبب مع وصف جريانه في المسبّب تعارض ، وجريانه في المسبّب وحده تخصيص ، والتخصيص مستلزم للدور المحال ؛ فإنّ تخصيص «لا تنقض» في مورد الشكّ السببي متوقّف على شموله للشكّ المسبّبي ، وشموله له متوقّف على تخصيصه في مورد الشكّ السببي ، فالتخصيص متوقّف على التخصيص ، وهو محال (١). هذا تمام كلامه مع توضيح وتلخيص.

وأمّا دليله الأوّل فلا شبهة في تقدّم السبب على المسبّب من حيث الرتبة ، ولا إشكال أيضا في تحقّق المقارنة المعيّة بينهما من حيث الزمان والوجود ، ولمّا كان خطاب «لا تنقض» متوجّها إلى العرف لا يمكن المشي في الخطابات العرفيّة بملاك التقدّم والتأخّر العقلي ، فالتقدّم والتأخّر من حيث الرتبة مسألة عقليّة ، ولا يكون قابلا للدرك والفهم لدى العرف ، بل العرف ، يحكم بتحقّق المصداقين ؛ لقوله «لا تنقض» ، وإضافة العامّ بالنسبة إلى المصاديق على حدّ سواء.

__________________

(١) فوائد الاصول ٢ : ٨٦٣ ـ ٨٦١.

٣٤٢

وأمّا ما ذكره في دليله الثاني ـ من استلزام جريان الاستصحاب في المسبّب التخصيص في ناحية المسبّب ، واستلزام التخصيص للدور المحال ـ فليس بصحيح ، فإنّ فرديّة كلّ من المصداقين للعموم لا يتوقّف على شيء ؛ إذ فرديّة نقض اليقين بالشكّ في ناحية المسبّب أمر وجداني ، نقول : «هذا الثوب كان نجسا ، الآن مشكوك النجاسة» ، فيجرى الاستصحاب فيه ، وهكذا في ناحية السبب ، فالقول بارتباط فرديّة أحدهما بالآخر أمر يكذّبه الوجدان ، فلا يلزم الدور. فهذا الطريق ليس بتامّ.

والتحقيق في المقام يحتاج إلى بيان مقدّمة ، وهي : أنّ مفاد قوله : «لا تنقض اليقين بالشكّ» هو التعبّد ببقاء المستصحب ، بلا فرق بين استصحاب الأحكام واستصحاب الموضوعات ، فإن كان الشكّ في الأحكام مثل وجوب صلاة الجمعة ـ مثلا ـ فمعنى استصحابها الحكم ببقاء صلاة الجمعة تعبّدا ، وإن كان الشكّ في الموضوعات ـ كالشكّ في خمريّة مائع ـ فمعنى استصحابها الحكم ببقاء الخمرية ، تعبّدا ، ولا يستفاد منه حرمته ، وإن كان محكوما بالحرمة لا بدّ من دليل آخر ، فإثبات الخمريّة بدليل الاستصحاب وإثبات الحرمة بقوله : «كلّ خمر حرام» ـ مثلا ـ وقد عرفت ممّا ذكرناه أنّ نسبة قوله «لا تنقض اليقين بالشكّ» وقوله «كلّ خمر حرام» نسبة الحاكم والمحكوم ، فإنّ مفاد الحكم بأنّ مستصحب الخمريّة خمر ، وهذا تعرّض وتنقيح لموضوع «كل خمر حرام» ، فيكون حاكما عليه.

والحاصل : أنّ جريان الاستصحاب في الموضوع لا يكون معناه ترتيب الأثر والحكم ، بل معناه التعبّد ببقاء الموضوع ، كما أنّ استصحاب الحكم ـ كالوجوب ـ معناه التعبّد ببقاء الوجوب في زمان الشكّ ، وأنّ الحكم ببقاء

٣٤٣

تعبّديّ الموضوع حاكم على الدليل المتكفّل لبيان حكم هذا الموضوع.

وبعد ملاحظة هذه المقدّمة يتّضح علّة تقدّم الاستصحاب الجاري في السبب الشرعي على الاستصحاب الجاري في المسبّب ، فإنّ معنى جريان استصحاب الطهارة في الماء هو الحكم ببقاء طهارته تعبّدا ، وهذا حاكم على قوله : «الماء الطاهر يطهّر» ـ مثلا ـ فهذا الماء يكون مطهّرا ومؤثّرا في زوال النجاسة عن سائر الأشياء ، فلا معنى للشكّ في بقاء النجاسة في الثوب المغسول بهذا الماء ؛ إذ يكون نقض الحجّة على نجاسة الثوب بحجّة اخرى ، فلنا حجّة ودليل على طهارة هذا الثوب ، فلا يبقى مجال لجريان الاستصحاب في المسبّب بعد جريانه في السبب ، فيكون الاستصحاب السببي واردا على الاستصحاب المسبّبي.

وأمّا إذا كانت السببيّة عاديّة فهو كالشكّ في نبات لحية زيد الناشئ من الشكّ في بقاء حياته ، ولا يخفى أنّ استصحاب بقاء حياته معارض مع استصحاب عدم نبات لحيته ؛ للعلم الإجمالي بانتقاض الحالة السابقة بالنسبة إلى أحد المستصحبين ، ولا يمكن أن يكون تقدّم الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسبّبي بالدليل المذكور في السببيّة الشرعيّة ، فإنّ الآثار الشرعيّة المترتّبة على الاستصحاب السببي ـ أي حياة زيد ـ عبارة عن عدم جواز تقسيم أمواله ، وعدم جواز تزويج امرأته ، وعدم جواز التصرّف في أمواله بدون إذنه ، وهكذا سائر الأحكام ، وأما نبات اللحية من اللوازم العاديّة ، فلا يترتّب على استصحاب الحياة كما ذكر في بحث الأصل المثبت.

وهكذا لا يترتّب عليه الأثر الشرعي المترتّب على اللازم العادي كالوفاء بالنذر ، فلا يكون الاستصحاب السببي متقدّما على الاستصحاب المسبّبي ،

٣٤٤

بل لا ارتباط بينهما ؛ إذ المستصحب في الأوّل عبارة عن حياة زيد ، وفي الثاني عبارة عن عدم نبات لحيته ، ولكلّ منهما آثاره الشرعيّة بخصوصه.

وممّا ذكرنا يظهر الجواب عن الإشكال على صحيحة زرارة الاولى (١) : من أنّ الظاهر منها إجراء استصحاب الوضوء عند الشكّ في تحقّقه مع أنّ الشكّ في بقاء الوضوء مسبّب عن الشكّ في تحقّق النوم ، فكان ينبغي عليه إجراء استصحاب عدم النوم.

وجوابه : أنّ استصحاب عدم النوم لا يثبت بقاء الوضوء إلّا على القول بالأصل المثبت ؛ لما عرفت من أنّ الميزان في تقدّم الأصل السببي على المسبّبي هو إدراج الأصل السببي المستصحب تحت الكبرى الكلّيّة الشرعيّة حتّى يترتّب عليه الحكم المترتّب على ذاك العنوان ، كاستصحاب العدالة لإدراج الموضوع تحت كبرى جواز الطلاق والشهادة والاقتداء ونحوها ، ومعلوم أنّه لم ترد كبرى شرعيّة ب «أنّ الوضوء باق مع عدم النوم» وإنّما هو حكم عقلي مستفاد من أدلّة ناقضيّة النوم ، فيحكم العقل بأنّ الوضوء إذا تحقّق وكانت نواقضه محصورة في امور غير متحقّقة وجدانا ـ إلّا النوم المنفي بالأصل ـ فهو باق ، فالشكّ في بقاء الوضوء وإن كان مسبّبا عن الشكّ في تحقّق النوم لكنّ أصالة عدم النوم لا ترفع ذلك الشكّ إلّا بالأصل المثبت ، فلذا نرى في كلام الإمام عليه‌السلام جريان الاستصحاب في الوضوء دون النوم ، وهكذا في السببيّة العقليّة.

وأمّا القسم الآخر من تعارض الاستصحابين وهو ما إذا كان الشكّ في كليهما مسبّبا عن أمر ثالث فمورده ما إذا علم ارتفاع أحد الحادثين (كالطهارة)

__________________

(١) الوسائل ١ : ١٧٤ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الحديث ١.

٣٤٥

لا بعينه وشكّ في تعيينه ، كما لو علم إجمالا بنجاسة أحد الإنائين الطاهرين ، فإنّ استصحاب طهارة كلّ منهما يعارض الآخر. والبحث في أنّ مقتضى القاعدة هل هو التساقط أو التخيير أو ترجيح ذا المزيّة على فرض وجودها؟ وقبل الورود في البحث لا بدّ من بيان أنّ الاصول العمليّة ـ ومنها الاستصحاب ـ هل تكون جارية في أطراف العلم الإجمالي أم لا؟ واختلف القوم على ثلاثة أقوال :

الأوّل : ما التزم به الشيخ الأنصاري رحمه‌الله من عدم جريانها في أطراف العلم الإجمالي ؛ لقصور أدلّتها عن شمولها ؛ للزوم التناقض في مدلول الأدلّة ، فإنّ صدر دليل الاستصحاب ـ أي «لا تنقض اليقين بالشكّ» ـ يدلّ على جريان الاستصحاب في جميع الأطراف ولكن ذيله ـ أي «بل انقضه بيقين آخر» ـ يدلّ على عدم الجريان ، فالاستصحاب لا يكون حجّة هنا وإن لم يستلزم من جريان كلا الاستصحابين مخالفة عمليّة ، كما إذا كانت الحالة السابقة في كلا الإنائين النجاسة ، وعلمنا بطهارة أحدهما لا بعينه ، فلا تلزم مخالفة عمليّة مع التكليف المعلوم بالإجمال من جريان استصحاب النجاسة في كليهما (١).

الثاني : ما ذكره المحقّق الخراساني رحمه‌الله من التفصيل بين ما إذا كان مستلزما للمخالفة العمليّة مع التكليف المعلوم بالإجمال ، وبين ما إذا لم يكن مستلزما لذلك ، ففي جريان استصحاب الطهارة في كلا الإنائين بلحاظ استلزامه للمخالفة مع قوله «اجتنب عن النجس» قائل بالمنع ، بخلاف استصحاب النجاسة في كليهما ؛ لعدم استلزامه للمخالفة العمليّة القطعيّة (٢).

__________________

(١) فرائد الاصول ٢ : ٨٧٢.

(٢) كفاية الاصول ٢ : ٣٥٦.

٣٤٦

الثالث : ما ذكره المحقّق النائيني رحمه‌الله وهو أنّ مع قطع النظر عن لزوم التناقض في مقام الإثبات لا يمكن تعبّد الشارع المكلّف العالم بنجاسة أحد الإنائين ببقاء الطهارة في كلّ واحد منهما ، فإنّ كاشفيّة العلم وحجّيّته ذاتيّة كعدم إمكان التعبّد به في صورة العلم التفصيلي بالنجاسة وإن كان مرجع هذا القول إلى مقالة الشيخ رحمه‌الله ولكنّ محذور عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي عنده ثبوتي (١).

والأولى تمحيض البحث في تعارض الاستصحابين بعد الفراغ عن جريانهما وأنّ مقتضى القاعدة بعد البناء على الجريان هل هو سقوطهما أو العمل بأحدهما مخيّرا مطلقا أو بعد فقدان المرجّح وإلّا فيؤخذ بالأرجح؟

وأمّا بعد البناء على عدم جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي ، إمّا للمحذور منه ثبوتا أو لقصور أدلّته إثباتا ، فلا يبقى مجال لهذه البحث.

والحاصل : أنّ البحث هاهنا إنّما هو في تعارض الاستصحابين لا في جريانهما وعدمه في أطراف العلم ، فنقول : بناء على جريان الاستصحاب في أطراف العلم ذاتا وكون المحذور هو المخالفة العمليّة أو قيام الدليل على عدم الجمع بين المستصحبين ، هل القاعدة تقتضي ترجيح أحد الأصلين أو سقوطهما أو التخيير بينهما؟

يمكن أن يتحقّق موضوع آخر لتعارض الاستصحابين غير أطراف العلم الإجمالي بدون أن يكون بينهما السببيّة والمسببيّة ، كما إذا قام الدليل من الخارج ـ كالإجماع ـ على عدم إمكان الجمع بين المستصحبين ، كما في الماء المتمّم كرّا ، فإذا لم نستفد من الأدلّة طهارته ولا نجاسته ووصلت النوبة إلى الأصل يكون

__________________

(١) فوائد الاصول ٤ : ٦٨٧.

٣٤٧

مقتضى الاستصحاب في المتمّم هو النجاسة ، وفي المتمّم هو الطهارة ، مع العلم بمخالفة أحد الاستصحابين للواقع ، ولا يمكن الأخذ بكلا الاستصحابين لا للعلم الإجمالي ، بل للإجماع على عدم جواز التفكيك بين أجزاء ماء واحد في الحكم بنجاسة بعض وطهارة بعض.

وقال استاذنا السيّد الإمام رحمه‌الله : «أمّا الترجيح فلا مجال له ، وذلك يتّضح بعد التنبيه على أمر ، وهو أنّ ترجيح أحد الدليلين أو الأصلين على الآخر إنّما هو بعد الفراغ عن تحقّقهما أوّلا وذلك واضح ، وبعد الفراغ عن تحقّق المرجّح مع ذي المزيّة ومقابله ثانيا ، فمع عدم تحقّق المزيّة مع ذيها ومقابله لا يمكن الترجيح بها ، وبعد الفراغ عن كون مضمونهما واحدا ثالثا ؛ ضرورة عدم تقوية شيء بما يخالفه أو لا يوافقه.

فحينئذ إمّا أن يراد ترجيح أحد الاستصحابين على الآخر بدليل اجتهادي معتبر أو بدليل ظني غير معتبر أو بأصل من الاصول الشرعيّة أو العقلائيّة المعتبرة أو غير المعتبرة.

لا سبيل إلى الترجيح بالدليل الاجتهادي المعتبر ؛ لحكومته على الاستصحاب فلا يبقى ذو المزية معه ، وكذا بالاصول العقلائية المعتبرة ؛ لعين ما ذكر ، ولا بالاصول الشرعيّة كأصالة الإباحة والطهارة والبراءة ، ولا العقليّة كأصالة البراءة والاشتغال ؛ لأنّ الاستصحاب مقدّم على كلّ منها ، فلا تتحقّق المزيّة مع ذيها ، فلا مجال للترجيح بالشيء المفقود مع ما يراد الترجيح به.

ومن ذلك يعلم أنّه لا مجال لترجيح الأصل الحاكم بالمحكوم وبالعكس ، فاستصحاب الطهارة لا يرجّح بأصلها وبالعكس.

وأمّا الترجيح بدليل ظنّي غير معتبر ـ كترجيح الاستصحاب بالعدل

٣٤٨

الواحد بناء على عدم اعتباره ـ فلا يمكن أيضا ؛ لتخالف موضوعيهما ومضمونيهما ، فمفاد استصحاب الطهارة ترتيب آثار اليقين بالطهارة في زمان الشكّ أو ترتيب آثار الطهارة الواقعيّة في زمان الشكّ ، ومفاد الدليل الظنّي ـ كخبر الواحد ـ هو الطهارة الواقعيّة ، فلا يتوافق مضمونهما ولا رتبتهما» (١).

وهذا كلام جيّد لا إشكال فيه ، فإذا لم يكن للترجيح مجال في تعارض الاستصحابين يدور الأمر بين الاحتمالين : التساقط والتخيير ، ولا بدّ من ملاحظة أدلّتهما.

وأمّا وجه التساقط ـ بعد عدم المانع من جريان الاستصحاب في أطراف العلم الإجمالي إلّا المخالفة العمليّة القطعيّة أو الدليل الخارجي الدالّ على عدم جواز التفكيك كما مثّلن ـ أنّ نسبة : «لا تنقض» إلى جميع الأفراد والمصاديق على السواء ، وشموله لها شمولا واحدا تعيينا ، أي يكون شاملا لجميع الأفراد على سبيل التعيين لا الأعمّ من التخيير حتّى يكون شموله لكلّ فرد مرّة معيّنا ومرّة مخيّرا بين اثنين اثنين ، ومرة بين ثلاثة ثلاثة ، وهكذا ، أو في حال معيّنا وفي حال مخيّرا ومعيّنا ، فلا يمكن الأخذ بكلّ واحد من الأطراف للزوم المخالفة العمليّة ، ولا ببعض الأطراف معيّنا ؛ لعدم الترجيح ، ولا مخيّرا ؛ لعدم شموله للأفراد مخيّرا رأسا ؛ فيسقط الاستصحابان.

وأمّا وجه التخيير فما يمكن أن يكون وجها له أمران :

أحدهما : أنّه بعد سقوط الدليل بما ذكر يستكشف العقل خطابا تخييريا ؛ لوجود الملاك التامّ في الأطراف ، كما في باب التزاحم ، فقوله : «أنقذ الغريق» بعد التزاحم يستكشف العقل خطابا تخييريا ؛ لوجود الملاك في كلّ منهما ، فما هو

__________________

(١) الاستصحاب : ٢٥٤.

٣٤٩

الملاك لتعلّق الخطاب التعييني لكلّ غريق يكون ملاكا للخطاب التخييري في ما نحن فيه ، فمحذور المخالفة العلميّة القطعيّة أوجب استكشاف العقل حكما شرعيّا تخييريّا.

واستشكل عليه استاذنا السيّد الإمام رحمه‌الله بأنّ استكشاف الخطاب التخييري لا يمكن في ما نحن فيه ، فإنّ كشف الخطاب في مثل : «أنقذ الغريق» ممّا لا مانع منه ؛ لوجود الملاك في كلّ من الطرفين ، وهو حفظ النفس المحترمة دون مثل : «لا تنقض» ؛ لعدم الملاك في الطرفين ولا في واحد منهما ؛ لأنّه ليس تكليفا نفسيّا مشتملا على الملاك ، بل هو تكليف لأجل التحفّظ على الواقع لا بمعنى كونه طريقا إليه ، بل بمعنى كون ترتيب آثار الواقع بملاك درك الواقع ، مثل ما إذا أوجب الشارع الاحتياط في الشبهة البدويّة ، فاستصحاب الوجوب والحرمة لا يوجب حدوث ملاك في المستصحب ، بل يكون حجّة على الواقع لو أصاب الواقع ، وإلّا يكون التخلّف تجرّيا لا غير ، وأوضح منه الاستصحاب الموضوعي فإذا علم انتقاض الحالة السابقة في بعض الأطراف وسقط الأصلان لا يمكن كشف الحكم التخييري ؛ لعدم الملاك ـ أي التحفّظ على الواقع ـ في الطرفين (١).

ثانيهما : أنّ إطلاق أدلّة الاستصحاب يقتضي عدم نقض اليقين بالشكّ في حال نقض الآخر وعدمه ، كما أنّ إطلاق أدلّة الترخيص يقتضيه في حال الإتيان بالآخر وعدمه ، وإطلاق مثل : «أنقذ الغريق» يقتضى إنقاذ كلّ غريق ، أنقذ الآخر أوّلا ، ولا يجوز رفع اليد عنه إلّا بما يحكم العقل ، وهو ما تلزم منه المخالفة العمليّة والترخيص في المعصية والتكليف بما لا يطاق ، ونتيجة ما ذكر :

__________________

(١) الاستصحاب : ٢٥٨.

٣٥٠

هو الأخذ بمقتضى لا تنقض تخييرا وبالأدلّة المرخّصة كذلك ، وبمثل : «أنقذ الغريق» ، فالمحذور فيها إنّما هو من إطلاق تلك الأدلّة ، فلا بدّ من رفع اليد منه لا من أصلها (١).

ويرد عليه : أوّلا : أنّ الإطلاق الشامل لأطراف العلم الإجمالي المستلزم للمخالفة العمليّة القطعيّة في دليل الاستصحاب يمكن أن لا يتحقّق.

وثانيا : أنّ التخيير العقلي في المتزاحمين ليس كالتخيير الشرعي في الواجبات الشرعيّة ؛ فإنّ ترك الواجب التخييري ـ كترك الخصال الثلاث من كفّارة الإفطار ـ لا يوجب تعدّد استحقاق العقوبة ، بل العقوبة فيه واحدة كترك الواجب التعييني ، بخلاف المتزاحمين ؛ إذ العقل يحكم بأنّ العبد إذا اشتغل بإنقاذ كلّ غريق يكون معذورا في ترك الآخر ؛ لكونه في حال صرف قدرته لإنقاذه عاجزا عن إنقاذ الآخر ، وأمّا إذا تركهما معا فلا يكون معذورا في واحد منهما ؛ لكونه مكلّفا بكل واحد ومعاقب بهما ؛ لكونه قادرا على كلّ واحد ، فلا يتحقّق هنا واجبان مشروطان وأنّ وجوب إنقاذ كلّ منهما مشروط بعدم وجوب إنقاذ الآخر حتّى يكون لازم ذلك استحقاق عقوبة واحدة كالواجب التخييري الشرعي.

والحاصل : أنّ ما ذكره ـ من أنّ المحذور في قوله : «أنقذ الغريق» وسائر الأدلّة ناشئ من إطلاقها ، ومع صرف النظر عن الإطلاق وتبديله بالتقييد يرفع المانع ـ ليس بصحيح ، وأنّ المحذور في عدم تطبيق «أنقذ الغريق» في ما نحن فيه فبعد بطلان أدلّة التخيير يبقى التساقط بلا معارض ، فمقتضى القاعدة في تعارض الاستصحابين هو التساقط.

__________________

(١) درر الفوائد : ٤٥٩.

٣٥١

نسبة الاستصحاب مع سائر القواعد

وأمّا نسبته مع سائر القواعد المجعولة في الشبهات الموضوعيّة ـ كقاعدة اليد وقاعدتي الفراغ والتجاوز والقرعة وأصالة الصّحة ـ فلا بدّ من بيان الحال فيها ، فأمّا قاعدة اليد فهي ما جعله الشارع والعقلاء دليلا للملكيّة وعبّر في بعض الروايات عنها بأنّه : «لو لا ذلك لما قام للمسلمين سوق» ؛ إذ لا طريق لإثبات الملكيّة للبائع أو المشتري سوى هذه القاعدة ، ويتحقّق استصحاب عدم الملكيّة في أكثر موارد تحقّق الملكيّة بعنوان ذي اليد ، ويتحقّق التعارض بينهما.

نعم ، قد تكون القاعدة بلا معارض ، كما إذا علمنا بملكية ذي اليد للمال في زمان قطعا وعدم ملكيّته له في زمان آخر قطعا ، وشككنا في تقدّم زمان الملكيّة وتأخّره ، وبعد جريان استصحاب الملكيّة واستصحاب عدم الملكيّة وتساقطهما تبقى القاعدة بلا معارض ، أو كما إذا كانت ملكيّة ذي اليد للشيء من أوّل حدوثه مشكوكة ، فلا يجري استصحاب عدم الملكيّة ؛ لعدم تحقّق الحالة السابقة العدميّة إلّا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع ، والاستصحاب فيها لا يجري عندنا كما ذكرناه في محلّه ، فتكون قاعدة اليد بلا معارض.

وإنّما الكلام في تقدّم القاعدة على الاستصحاب عند التعارض وعدمه ، فنقول : يحتمل أن تكون قاعدة اليد أمارة شرعيّة وعقلائيّة ، ويحتمل أن تكون أصلا عقلائيّا أمضاه الشارع ، وعلى الأوّل ـ كما هو الظاهر ـ لا إشكال في تقدّمها على الاستصحاب ، كما ذكرنا أنّ تقدّم الأمارات والطرق المعتبرة عليه يكون على نحو الورود.

وعلى الثاني أيضا تتقدّم القاعدة عليه بعد الالتفات إلى أمرين :

الأوّل : تحقّق الإجماع على اعتبار قاعدة اليد في جميع الموارد مطلقا بلا فرق

٣٥٢

بين تحقّق الاستصحاب على خلافها وعدمه.

الثاني : أنّ بعد تحقّق التعارض بينهما في أكثر موارد القاعدة يهدينا قوله : «ولو لا ذلك لما قام للمسلمين سوق» إلى عدم اختصاص القاعدة بالموارد النادرة ، وإلّا يلزم أن تكون القاعدة قليلة الفائدة ، بخلاف الاستصحاب ؛ إذ يبقى تحته جميع الشبهات الحكميّة والشبهات الموضوعيّة قليلة غير الملكيّة ، فلا شكّ في تقدّم القاعدة على الاستصحاب ، سواء قلنا بأنّها أمارة شرعيّة أو قلنا بأنّه أصل معتبر شرعا تبعا للعقلاء.

وأمّا قاعدة التجاوز ـ كما إذا شككنا في حال السجود بإتيان الركوع قبله وعدمه ـ فهي تحكم بعدم الاعتناء بالشكّ ، والإتيان به ، ومقتضى الاستصحاب عدم الإتيان به ، وهكذا في قاعدة الفراغ ـ كما إذا شككنا بعد الفراغ من الصلاة بإتيان الركوع في الركعة الثالثة ـ مثلا ـ وهي تحكم بعدم الاعتناء بالشكّ والإتيان به ، ومقتضى الاستصحاب عدم الإتيان به ، وهكذا في أصالة الصحّة الجارية في غير العبادات بالنسبة إلى عمل الغير أو عمل النفس بعد وقوع العمل والشكّ في وقوعه صحيحا أم لا؟ ففي جميع هذه الموارد يكون مقتضى الاستصحاب فساد العمل ، فما هو الحكم في مقام التعارض؟

فإن قلنا بأماريّة هذه القواعد جميعا أو بعضها فلا يبقى مجال للاستصحاب مع تحقّقها في مقام التعارض ؛ لما ذكرنا من تقدّم الأمارة عليه من باب الورود ، وإن قلنا بعدم أماريّتها وأن سنخ حجّيّتها سنخ حجّيّة الاستصحاب يكون تقدّمها عليه من باب التخصيص لعموميّة دليل الاستصحاب ، واختصاص أدلّتها بموارد خاصّة ، ولزوم لغويّة جعلها بناء على تقدّم الاستصحاب عليها ، ولا يكون سياق دليل الاستصحاب آبيا عن التخصيص ، فلا بدّ من كون تقدّم

٣٥٣

القواعد الثلاث عليه بنحو التخصيص.

وأمّا تعارض الاستصحاب مع قاعدة القرعة فلا بدّ من الإشارة الإجمالية إلى مفاد هذه القاعدة بأنّه قد يعبّر عنها بأنّ «القرعة لكلّ أمر مشكل» ، وقد يعبّر عنها بأنّ «القرعة لكلّ أمر مشتبه» ، وقد يعبّر عنها بأنّ «القرعة لكلّ أمر مجهول» الظاهر منها المعنى العامّ الشامل لجميع الشبهات الحكميّة والموضوعيّة وجميع موارد جريان الأمارات والاصول ، كما يستفاد من كثير من الكلمات ، ولازم ذلك المعنى الابتلاء بتخصيص الأكثر المستهجن بحيث لو استفدنا ممّا بقي تحت العموم في مورد لا بدّ من إحراز عمل الأصحاب على طبقها فيه ، وهذا كاشف من عدم كونها بهذا الحدّ من العموم والتوسعة من الابتداء.

فيمكن أن يكون معنى المشكل في قوله : «القرعة لكلّ أمر مشكل» ، المشكل بقول مطلق بمعنى عدم العلم وعدم إحراز الحكم الواقعي والظاهري ، فلا مصداق لها في الشبهات الحكميّة أصلا لتكفّل الاصول والأمارات لإحرازها ، فلا يبقى مجال لجريانها فيها ، وهكذا في كثير من الشبهات الموضوعيّة لإحراز حكمها بالاصول العمليّة.

نعم ، إذا لم يمكن جريان الاصول طرّا وقاعدة اليد وسائر القواعد يكون مورد قاعدة القرعة ، كما إذا ادّعى مدّعيان ملكيّة شيء في يد شخص ثالث بدون البيّنة لهما ، مع اعتراف ذو اليد بعدم ملكيّته له ، فلا طريق لاستكشاف مالكه سوى القرعة ، وهذا المعنى يستفاد من كلام صاحب الكفاية رحمه‌الله (١).

ويمكن أن يكون معناه ما يستفاد من كلام استاذنا السيّد الإمام رحمه‌الله وحاصل كلامه : أنّ التّتبع في الروايات الكثيرة الواردة في باب القرعة يرشدنا إلى أنّها

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٣٦١.

٣٥٤

مسألة إمضائيّة لدى الشارع لما هو المعمول به عند العقلاء ، وقوله : «القرعة لكلّ أمر مشكل» ناظر إلى الموارد التي تمسّك العقلاء بها بقرينة الروايات ، منها : ما إذا كانت الحقوق متزاحمة بدون أي طريق لتشخيص الحقّ وفصل الخصومة سوى القرعة ، كما إذا ادّعى شخصان لملكيّة شيء في يد ثالث ـ مثلا ـ فيستفاد من القرعة لرفع الجهل عن الواقع المعيّن.

ومنها : ما يستفاد منها في مقام تقسيم الأموال بين الورثة ورفع النزاع المحتمل ، ومن هنا نستكشف أنّ القرعة ليست بأمارة ؛ إذ لا واقعيّة مجهولة في البين حتّى تكون هى أمارة لها وكاشفة عنها ، بل يستعملها العقلاء لمحض رفع النزاع والخصام ، فليس في جميع الموارد المنصوصة إلّا ما هو الأمر العقلائي.

نعم ، يبقى مورد واحد هو قضيّة اشتباه الشاة الموطوءة ممّا لا يمكن الالتزام بها في أشباهها ، فلا بدّ من الالتزام فيه بالتعبّد في المورد الخاصّ لا يتجاوز منه إلى غيره.

ويمكن أن يقال : إنّ التعبّد في هذا المورد أيضا إنّما يكون لأجل تزاحم حقوق الشياه لنجاة البقية كما أشار إليه في النصّ بقوله : «فإن لم يعرفها قسمها نصفين أبدا حتّى يقع السهم بها ، فتذبح وتحرق وقد نجت سائرها» (١).

وربما يحتمل أن يكون مورده من قبيل تزاحم حقوق أرباب الغنم فإنّ قطيع الأغنام يكون من أرباب متفرّقين غالبا فتتزاحم حقوقهم.

وبالجملة ، من تتبّع موارد النصوص والفتاوى يظهر له أنّ مصبّ القرعة ليس إلّا ما أشرنا إليه (٢).

__________________

(١) الوسائل ١٦ : ٣٥٨ ، الباب ٣٠ من أبواب الأطعمة المحرمة ، الحديث ١.

(٢) الاستصحاب : ٣٨٤ ـ ٣٩٤.

٣٥٥

إذا عرفت معنى قاعدة القرعة إجمالا فنقول : إنّها إن كانت بالمعنى العامّ الشامل لكلّ المشتبهات يكون تقدّم الاستصحاب عليها في مورد التعارض من باب المخصّص ، فنستفيد من دليليهما أنّ القرعة لكلّ أمر مشكل إلّا المشكل الذي كانت له حالة سابقة متيقّنة ، وإن كانت بالمعنى الذي ذكره صاحب الكفاية ـ أي المشكل الذي لا يعلم حكمه الواقعي ولا حكمه الظاهري ـ يكون تقدّم الاستصحاب عليها وسائر الاصول عليها بنحو الورود ، وإن كانت بالمعنى الذي ذكره استاذنا السيّد الإمام رحمه‌الله ـ أي انحصارها بموارد تزاحم الحقوق وطريق رفع النزاع وحصول الأولويّة ـ يكون أيضا تقدّمه عليها من باب الورود ؛ إذ لا يبقى مجال لتزاحم الحقوق بعد جريان الاستصحاب.

ولكن يستفاد من كلام صاحب الكفاية رحمه‌الله في الابتداء أنّ دليل الاستصحاب أخصّ من دليل القرعة ، وصرّح بخروج الشبهات الحكميّة عن القاعدة بالإجماع ، ثمّ يقول في جواب الإشكال الوارد عليه : «إنّ المشكل في دليل القرعة مشكل بعنوانه الواقعي والظاهري وبقول مطلق ، ونتيجته تقدّم الاستصحاب على القرعة بنحو الورود».

وفي ذيل كلامه يقوله : «فلا بأس برفع اليد عن دليل القاعدة عند دوران الأمر بينه وبين رفع اليد عن دليل الاستصحاب ؛ لوهن عموم القاعدة وقوّة عموم دليل الاستصحاب»(١).

ونتيجته تحقّق التعارض بين عموم الدليلين وإنكار نسبة العموم والخصوص المطلق والوارد والمورود بينهما ، ومن تفريع هذه المسألة بفاء

__________________

(١) كفاية الاصول ٢ : ٣٦٠ ـ ٣٦١.

٣٥٦

التفريع على المبنى الثاني يستفاد كونها نتيجته ومتفرّعة عليه ، مع أنّها مسألة مستقلّة لا ربط لها بالمسألة الثانية ، بل للقرعة ثلاثة معاني ومباني ، ونتيجة كلّ منها غير نتيجة الآخر كما ذكرنا تفصيله.

هذا تمام الكلام في باب الاستصحاب.

٣٥٧
٣٥٨

المقصد الثامن

في تعارض

الأدلّة والأمارات

٣٥٩
٣٦٠