نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٥

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-357-284-6
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٥٠٨

الأمّة غير مأمور به ، فلا يكون الكلّ مصيبين بمعنى الإتيان بالمأمور به.

اعترض بمنع كون أحد الاعتقادين خطأ.

قوله : لأنّه اعتقد أحدهما فيما ليس براجح أنّه راجح.

قلنا : اعتقد فيما ليس براجح أنّه راجح في نفس الأمر ، أو في ظنه. الأوّل ممنوع ، والثاني مسلّم. فإنّ المجتهد لا يعتقد رجحان أمارته على أمارة صاحبه في نفس الأمر ، بل في ظنّه ، وهو حاصل ، فيكون اعتقاده مطابقا ، وعدم الرجحان الخارجي لا يوجب عدم الرجحان الذهني ، فأمكن تصويب الاعتقادين معا.

سلّمنا اعتقاد الرجحان في نفس الأمر ، لكنّه لم يجزم بذلك الرجحان ، بل جوّز خلافه. ونمنع النهي عن الاعتقاد الخطأ المقارن لهذا التجويز بخلاف الجهل ، لأنّ مخالفة المعتقد فيه مقارنة للجزم.

والجواب : الرجحان في الذهن إمّا أن يكون نفس اعتقاد رجحانه في الخارج ، أو ما يستلزمه ؛ لأنّا نعلم ضرورة أنّا لو اعتقدنا مساواة وجود الشيء لعدمه ، امتنع حينئذ كون اعتقاد وجوده راجحا على اعتقاد عدمه ، فيجب عند حصول الظن اعتقاد كونه راجحا في نفسه ، إمّا لأنّ الظنّ نفس هذا الاعتقاد ، أو لا ينفك عنه. ومعهما يحصل المقصود.

قوله : إنّه غير جازم.

قلنا : بل هو جازم ، لأنّ اعتقاد أولوية وجود الشيء غير اعتقاد وجوده ،

٢٠١

واعتقاد أولوية الموجود حاصل مع الجزم ، لأنّ المجتهد يقطع بأولوية اعتبار أمارته نظرا إلى هذه الجهة. نعم أنّه غير جازم بالحكم ، لكنّ الجزم بالأولوية لا يقتضي الجزم بالوقوع ، كما يقطع بأولوية وقوع المطر من الغيم الرطب مع أنّه قد لا يوجد المطر ، وعدم المطر لا يقدح في الأولوية ، بل هي مقطوع بها ، كذا هنا. فثبت حصول اعتقاد جازم غير مطابق لأحد المجتهدين فيكون خطأ وجهلا ومنهيا عنه.

الثاني : المجتهد إن كلّف بالحكم لا عن طريق ، لزم خرق الإجماع على امتناع الحكم بمجرد التشهّي.

وإن كان عن طريق ، فإن لم يكن له معارض تعيّن العمل به إجماعا ، فيكون تاركه مخطئا.

وإن كان له معارض فإن كان أحدهما راجحا تعيّن العمل به إجماعا ، لامتناع وقوع العمل بالمرجوح ، فيكون تاركه مخطئا. وإن لم يكن أحدهما راجحا فحكم تعادل الأمارتين إمّا التخيير أو تساقطهما والرجوع إلى غيرهما.

وعلى كلّ تقدير فالحكم واحد ومخالفه مخطئ.

والاعتراض : لم لا يجوز أن يكلّف بالحكم لا عن طريق ، والحكم في الدين بمجرّد التشهّي حرام إذا وجد الدليل لا عند عدمه ، إذ العمل بالدليل مشروط بوجود الدليل وإلّا كان تكليفا بما لا يطاق وفي المسائل الاجتهادية لا دليل ، لأنّه لو وجد لكان تارك العمل به تاركا للمأمور به فيكون عاصيا ،

٢٠٢

فيستحق النار ، لأنّ الأمر للوجوب ، ولمّا أجمعوا على عدم استحقاق النار علم انتفاء الدليل ، وإذا لم يوجد دليل جاز العمل بالحدس والتوهّم ، كالمشتبه عليه أمارات القبلة يعمل بالوهم والحدس.

سلّمنا ، الأمر بالحكم بطريق لكن يجوز حصول طريق آخر مقابل ، ويكون أحدهما راجحا.

وإنّما يجب العمل بالراجح على من علم بالرجحان لا على من لا يعلم به ، لأنّ الأمارة الراجحة إنّما يجب العمل بها على من اطّلع عليها ، أمّا من لا يطّلع عليها فإنّه يجوز أن يكون مكلّفا بالأضعف ، إذ لا يستبعد عقلا أن تكون مصلحة أحد المجتهدين العمل بأقوى الأمارات ومصلحة الآخر العمل بأضعفها.

فحينئذ يخلق الله تعالى في قلب من مصلحته العمل بالأقوى الخاطر بوجوه الترجيح ، ويشغل الآخر عنها فيظن أنّها أقوى الأمارات ؛ لأنّ مصلحته العمل على أضعف الأمارات ، والظنّ بأنّها أقوى مع كونها في نفسها أضعف غير قبيح ، كما لا يقبح ظن كون زيد في الدار وليس فيها.

والجواب : الدليل موجود ، وهو الإجماع على وجود الترجيح بأمور حقيقية لا خيالية ، ووجود الترجيح يستدعي وجود أصل الدليل ، أعني : القدر المشترك بين الدليل اليقيني والظاهري.

قوله : يجوز العمل بالأضعف إذا لم يعرف الأقوى.

٢٠٣

قلنا : مقدار رجحان القوي على الضعيف إن لم يمكن الاطّلاع عليه لم يكن معتبرا في حقّ المكلّف ، وإلّا لزم تكليف ما لا يطاق ، فيكون القدر المعتبر بين الأمارتين في حقّ المكلّف متساويا لا راجحا.

وإن أمكن الاطّلاع فإن وجب تحصيل العلم بتلك الأمارة إلى أقصى الإمكان كان من لم يصل إلى معرفتها إلى الأقصى تاركا للواجب فيكون مخطئا.

وإن لم يجب ، فهو محال ؛ لأنّه إن كان هناك حدّ ما متى لم يصل إليه لم يكن معذورا. وإذا وصل إليه لم يكلّف بالزيادة عليه وجب تخطئة من لم يصل إليه ومن وصل إليه كان مصيبا ، وهو خلاف الإجماع ، إذ لم يدّع أحد حدّا معيّنا في الاجتهاد بحيث يخطّئ القاصر عنه ، ولا يعذر ، ويصيب الواصل إليه.

وإن لم يكن هناك حدّ لم يكن بعض المراتب أولى بالتخطئة عندها من بعض ، فإمّا أن لا يخطئ أصلا فيكون العامل بالظن كيف كان ولو مع ألف تقصير مصيبا ، وهو باطل إجماعا ؛ أو يكون مخطئا إلّا إذا وصل النهاية الممكنة ، وهو المطلوب.

الثالث : المجتهد مستدل بأمر على آخر ، والاستدلال : استحضار العلم بأمور يستلزم وجودها وجود المطلوب. واستحضار العلم بالشيء يتوقّف على وجود ذلك الشيء ، فالاستدلال متوقّف على وجود الدليل ، ووجود ما يدل على الشيء يتوقّف على وجود المدلول ، لأنّ دلالته عليه نسبة بينه وبين

٢٠٤

المدلول ، فيتوقّف ثبوتها على ثبوت كلا المنتسبين ، فوجود المطلوب متقدّم على الاستدلال بمراتب ، والظن متأخّر عن الاستدلال ، لأنّه نتيجته ، فلو كان الحكم إنّما يحصل بعد الظن كان المتقدّم على الشيء بمراتب نفس المتأخّر عنه بمراتب ، وهو محال.

الرابع : المجتهد طالب ، فله مطلوب متقدّم في الوجود على وجود الطلب ، فيثبت الحكم قبل الطلب فيكون مخالفه مخطئا.

لا يقال : لا نسلّم طلب المجتهد حكم الله تعالى ، بل عليه الظن كمن يقال له : إن ظننت السلامة أبيح لك ركوب البحر ، وإن ظننت العطب حرم ؛ وقيل الظن لا حكم فيه عليك ، بل يترتّب حكمه على ظنّك بعد حصوله ، فهو طلب للظن دون الإباحة والتحريم.

لأنّا نقول : المجتهد لا يطلب الظن كيف كان ، إجماعا ، بل الظن الصادر عن النظر في أمارة تقتضيه ، والنظر في الأمارة يتوقّف على وجودها ، ووجودها يتوقّف على وجود المدلول ، فطلب الظن موقوف على وجود المدلول بمراتب ، فلو توقّف وجود المدلول على حصول الظن دار.

الخامس : قوله تعالى : (وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ* فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ)(١) خصّ سليمان بفهم الحق في الواقعة ، وهو يدلّ على عدم فهم داود ،

__________________

(١) الأنبياء : ٧٨ ـ ٧٩.

٢٠٥

وإلّا لما كان التخصيص مفيدا ، وهو دليل اتّحاد حكم الله تعالى في الواقعة وانّ المصيب واحد.

اعترض بأنّ المفهوم ليس بحجّة.

سلّمنا لكنّه روي أنّهما حكما في تلك القضية بالنص حكما واحدا ، ثمّ نسخ الله تعالى الحكم في مثل تلك القضية في المستقبل ، وعلم سليمان بالنص الناسخ دون داود ، فكان هذا هو الفهم الّذي أضيف إليه.

ويدلّ عليه قوله تعالى : (وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً) ولو كان أحدهما مخطئا لما كان قد أوتي في تلك الواقعة حكما وعلما.

سلّمنا اختلاف حكمهما ، لكن يحتمل أنّهما حكما بالاجتهاد مع الإذن فيه وكانا محقّين في الحكم إلّا أنّه نزل الوحي على وفق ما حكم به سليمان ، فصار ما حكم به حقا متعيّنا بنزول الوحي ، وبسبب ذلك نسب التفهيم إلى سليمان.

السادس : قوله تعالى : (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)(١) ، وقوله تعالى : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ)(٢). ولو لا ثبوت حكم معيّن في محل الاستنباط ، لما كان كذلك.

اعترض بوجوب حملها على الأمور القطعية دون الاجتهادية ، لقوله :

__________________

(١) النساء : ٨٣.

(٢) آل عمران : ٧.

٢٠٦

(لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ) وقوله : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ) والقضايا الاجتهادية لا علم فيها.

سلّمنا إرادة القضايا الاجتهادية ، لكن قوله : (لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ) وقوله : (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ) يدلّ على تصويب المستنبطين والراسخين في العلم ، وليس فيه ما يدل على تصويب البعض منهم دون البعض ، بل غايته الدلالة بمفهومه على عدم ذلك في حقّ العوام ومن ليس من أهل الاستنباط والرسوخ في العلم.

السابع : قوله تعالى : (وَلا تَفَرَّقُوا)(١) ، (وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا)(٢) ، (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا)(٣) ، وهو يدلّ على اتّحاد الحق في كلّ واقعة.

واعترض بأنّ المراد النهي عن التفرّق في أصل الدين والتوحيد وما يطلب فيه القطع دون الظن ، لأنّ القائلين بجواز الاجتهاد أجمعوا على أنّ كلّ واحد من المجتهدين مأمور باتّباع ما أوجبه ظنّه ومنهي عن مخالفته ، وهو أمر بالاختلاف ونهي عن الاتفاق في الأمور الاجتهادية.

الثامن : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجر واحد» (٤) وهو صريح في انقسام الاجتهاد إلى خطأ وصواب.

__________________

(١) آل عمران : ١٠٣.

(٢) الأنفال : ٤٦.

(٣) آل عمران : ١٠٥.

(٤) شرح صحيح مسلم للنووي : ١١ / ٩١ ؛ عمدة القاري : ٢ / ١٧١ ؛ تفسير ابن كثير : ٣ / ١٩٦.

٢٠٧

اعترض بالقول بموجب الخبر وأنّ الحاكم إذا أخطأ في اجتهاده فله أجر واحد ، غير أنّ الخطأ عندنا في ذلك إنّما يتصوّر فيما إذا كان في المسألة نص أو إجماع أو قياس جلي ، وخفي عليه بعد البحث التام عنه ، وهو غير متحقّق في محلّ النزاع ، أو فيما إذا أخطأ في مطلوبه من ردّ المال إلى مستحقّه بسبب ظنّه صدق الشهود وهم كاذبون ، أو مغالطة الخصم لكونه ألحن بحجته لا فيما وجب عليه من حكم الله تعالى. ولهذا قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّما أحكم بالظاهر ، وانّكم لتختصمون إليّ ، ولعلّ أحدكم ألحن بحجته من صاحبه ، فمن حكمت له بشيء من مال أخيه فلا يأخذه فإنّما أقطع له قطعة من النار» (١).

التاسع : الإجماع على إطلاق الخطأ في الاجتهاد.

قال أبو بكر : أقول في الكلالة برأيي ، فإن يكن صوابا فمن الله ، وإن يكن خطأ فمنّي ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان من ذلك. (٢)

وحكم عمر بقضية فقال رجل حضره : هذا والله الحق ، فقال عمر : إنّ عمر لا يدري أنّه أصاب الحق ، لكنّه لم يأل جهدا. (٣)

وقال لكاتبه اكتب : هذا ما رأى عمر فإن يكن خطأ فمنه وإن كان صوابا فمن الله.

__________________

(١) مرّ مصدره. راجع ص ١٨٧ ـ ١٨٨ من هذا الجزء.

(٢) الإحكام : ٤ / ١٩٣ ؛ المستصفى : ٢ / ٤٢٨ ؛ بحار الأنوار : ٣٤ / ٣٧٧ ؛ إحقاق الحق : ٣٣٥.

(٣) الإحكام : ٤ / ١٩٣.

٢٠٨

وقال لمّا ردّت عليه امرأة في المبالغة في المهر : أصابت امرأة وأخطأ عمر. (١)

وقال علي عليه‌السلام في المرأة الّتي استحضرها عمر فاجهضت ما في بطنها ، وقد قال له عثمان وعبد الرحمن بن عوف : إنّما أنت مؤدّب لا نرى عليك بأسا : «إن كانا قد اجتهدا فقد أخطئا ، وإن لم يجتهدا فقد غشاك ، أرى عليك الدية». (٢)

وقال ابن مسعود في المفوّضة : أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن الله ورسوله ، وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان. (٣)

وأنكر ابن مسعود وزيد على ابن عباس في ترك العول ، وأنكر عليهما القول به وقال : من شاء أن يباهلني باهلته ، إنّ الّذي أحصى رمل عالج عددا لم يجعل في مال واحد نصفا ونصفا وثلثا ، هذان نصفان ذهبا بالمال فأين موضع الثلث؟! (٤)

وقال ابن عباس : ألا يتّقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أب الأب أبا. (٥) وغير ذلك من الوقائع الكثيرة الدالّة على حكمهم بالتخطئة من غير إنكار فكان إجماعا.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ٥ / ٩٩ ؛ الإحكام : ٤ / ١٩٣ ؛ المستصفى : ٢ / ٤٢٨ ؛ الغدير : ٦ / ٩٨.

(٢) المجموع : ١٩ / ١٣ و ١٤٤ ؛ الإحكام : ٤ / ١٩٣ ؛ الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : ٢٥.

(٣) الإحكام : ٤ / ١٩٣ ـ ١٩٤.

(٤) الإحكام : ٤ / ١٩٤.

(٥) شرح نهج البلاغة : ٢٠ / ٢٧ ؛ تفسير الرازي : ٤ / ٨٥ ؛ الإحكام : ٤ / ١٩٤.

٢٠٩

اعترض بتسليم وقوع الخطأ في الاجتهاد لكن فيما إذا لم يكن المجتهد أهلا للاجتهاد فيه ، أو كان أهلا وقصّر أو لم يقصّر لكنّه خالف نصا أو إجماعا أو قياسا جليّا.

أمّا ما تمّ فيه الاجتهاد من أهله ولم يوجد له معارض مبطل ، فليس فيما ذكروه من قضايا الصحابة ما يدلّ على وقوع الخطأ فيه.

العاشر : القول بتصويب المجتهدين يفضي إلى الجمع بين النقيضين ، والتالي محال بالضرورة فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية ؛ أنّ أحد المجتهدين قد يقول بالنفي والآخر بالإثبات أو أحدهما بالحلّ والآخر بالحرمة ، فلو كانا حقّا لزم الجمع بين المتناقضين.

الحادي عشر : الإجماع على تجويز البحث والمناظرة ، ولو كان كلّ واحد مصيبا لم يكن للمناظرة معنى ولا فائدة ، لاعتقاد كلّ واحد حقّية ما ذهب إليه مخالفه وإصابته فيه وفائدة المناظرة إمّا معرفة صواب مذهب خصمه ، أو ردّه عنه.

وفي الأوّل تحصيل الحاصل ، وفي الثاني ارتكاب الحرام ، إذ ردّ المصيب عمّا أصاب فيه حرام.

الثاني عشر : لو صح تصويب المجتهدين لوجب عند الاختلاف في الآنية بالطهارة والنجاسة أن يقضى بصحّة اقتداء كلّ واحد من المجتهدين بالآخر ، لاعتقاد المأموم صحّة صلاة إمامه.

٢١٠

الثالث عشر : القول بتصويب المجتهدين يستلزم التنازع. فإنّ الشافعي لو قال لزوجته الحنفية : «أنت بائن» وكانا مجتهدين فإنّه بالنظر إلى ما يعتقده الزوج من جواز الرجعة بجواز المراجعة ، وبالنظر إلى ما تعتقده المرأة من تحريم الرجعة يحرم عليها تسليم نفسها إليه ، وذلك مفض إلى التنازع الّذي يمتنع رفعه شرعا ، وهو محال.

وكذا لو نكح امرأة بغير ولي ، ونكحها آخر بعده بولي ، فإنّه يلزم من صحّة المذهبين حلّها للزوجين ، وهو محال.

وإذا استفتى العامي مجتهدين واختلفا ، استحال العمل بقولهما وتركهما وترك أحدهما ، لعدم الأولوية.

الرابع عشر : الأصل عدم التصويب ودوام كلّ متحقّق ، إلّا ما خرج عنه لدليل ، والأصل عدم الدليل المخالف فيما نحن فيه ، فيبقى فيه على حكم الأصل ، خالفناه في تصويب واحد غير معين للإجماع ، ولا إجماع فيما نحن فيه ، فوجب الحكم بنفيه.

احتجّ القائلون بأنّه لا حكم لله تعالى في الواقعة بأمور (١) :

الأوّل : لو كان في الواقعة حكم فإن لم يكن عليه دليل قطعي ولا ظنّي لزم تكليف ما لا يطاق ؛ وإن كان عليه ما يفيد أحدهما وجب قدرة المكلّف على تحصيله فيكون متمكّنا من تحصيل العلم به أو الظن ، والحاكم بغيره حاكم بغير ما أنزل الله تعالى ، فيكون كافرا ، أو فاسقا ، لقوله تعالى : (وَمَنْ لَمْ

__________________

(١) ذكرها الرازي في المحصول : ٢ / ٥١١ ـ ٥١٩.

٢١١

يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ)(١) ، (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ)(٢) ، ويكون من أهل النار قطعا ، لأنّه تارك لأمر الله تعالى فيكون عاصيا ، والعاصي من أهل النار ، لقوله تعالى : (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها)(٣) ، والإجماع على فساد هذه اللوازم ، فيعلم انتفاء دليل الحكم.

لا يقال : هذه العمومات مخصوصة ، لأنّ أدلّة هذه الأحكام غامضة ، فالتكليف باتّباعها حرج ، فيكون منفيا لقوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ)(٤).

لأنّا نقول : غموض أدلّة الأحكام دون أدلّة المسائل العقلية مع كثرة مقدّماتها والشبه فيها وكان الخطأ فيها كفرا وضلالا فكذا هنا ، وإذا بطل وجود الدليل وعدمه على تقدير ثبوت الحكم ، وجب القول بنفيه.

الثاني : لو كان هناك حكم لوجب أن يكون عليه دليل قاطع ، والتالي باطل فالمقدّم مثله.

بيان الشرطية : أنّ على تقدير وجود الحكم إن لم يوجد عليه دليل البتّة ، كان التكليف به تكليفا بما لا يطاق ؛ وإن وجد عليه دليل فإن لم يستلزم المدلول قطعا ولا ظاهرا استحال التوصّل به إلى المدلول ؛ وإن استلزمه

__________________

(١) المائدة : ٤٧.

(٢) المائدة : ٤٤.

(٣) النساء : ١٤.

(٤) الحج : ٧٨.

٢١٢

ظاهرا ، فإن لم يمكن وجوده بدون المدلول كان استلزامه قطعا لا ظاهرا ؛ وإن أمكن وجوده بدون المدلول في بعض الصور واستلزمه في صورة أخرى ، فإن لم يتوقّف كونه مستلزما له على انضمام قيد آخر إليه لزم الترجيح من غير مرجّح ، لأنّ ذلك الشيء تارة ينفك عن المدلول ، وتارة لا ينفك عنه مع تساوي نسبة الوقتين. وإن توقّف كان المستلزم للمدلول هو المجموع لا ما فرض دليلا ، ثمّ ذلك المجموع إن أمكن انفكاكه عن المدلول استحال استلزامه إلّا بقيد آخر ويتسلسل ، وإن لم يمكن كان دليلا قطعيا لا ظاهرا.

لا يقال : الدليل الظاهر هو الّذي يستلزم كون المدلول أولى بالوجود أولوية غير منتهية إلى الوجوب ، وهذا المعنى ملازم له أبدا.

لأنّا نقول : لا نعقل الأولوية من دون الوجوب ، لأنّ العدم مع الأولوية إن امتنع كان وجوبا ، وإلّا أمكن حصوله معها تارة ، والوجود أخرى ؛ فرجحان أحدهما على الآخر إن توقّف على أمر زائد لم يكن الأوّل كافيا في الرجحان ، وإن لم يتوقّف لزم ترجيح الممكن من غير مرجح ، فثبت أنّ الّذي لا يستلزم الشيء قطعا لا يستلزمه بوجه من الوجوه ، فثبت أنّه لو وجد في الواقعة حكم لكان عليه دليل قاطع ؛ ولما انعقد الإجماع على أنّه ليس كذلك ، علمنا انتفاء الحكم.

الثالث : الإجماع على أنّ المجتهد مأمور بالعمل على وفق ظنّه ، ولا يعني بحكم الله تعالى إلّا ما أمر به ، فإذا كان مأمورا بالعمل بمقتضى ظنّه

٢١٣

وعمل به كان مصيبا للقطع (على أنّه) (١) عمل بما أمره الله تعالى به فكلّ مجتهد مصيب.

الرابع : لو حصل في الواقعة حكم معيّن لكان غيره باطلا ، ويستلزم التالي أمورا أربعة:

أحدها : أن لا يجوز من الصحابة تولية بعضهم بعضا مع المخالفة في المذاهب ، لأنّ التمكين منه تمكين من ترويج الباطل ، وهو غير جائز ، لكنّه قد وقع ؛ فإنّ أبا بكر ولّى زيدا مع مخالفته إيّاه في الحدّ ، وولّى عمر شريحا مع مخالفته إيّاه في كثير من الأحكام.

ثانيها : يلزم أن لا يمكّنه من الفتوى ، وقد كانوا يفعلون ذلك.

ثالثها : كان يجب نقض أحكام مخالفيهم ، بل الواحد ينقض حكم نفسه الّذي رجع عنه ، لأنّ كثيرا منهم قضى بقضايا مختلفة ولم ينقل النقض.

رابعها : اختلفوا في الدماء والفروج والخطأ في ذلك كثير ، فإنّه لا فرق بين أن يمكّن غيره بفتواه بالباطل من القتل وأخذ المال ، وبين أن يباشرهما في كونه كبيرا ووجوب تفسيق فاعله والبراءة منه. ولمّا لم يوجد شيء من ذلك ، علمنا انتفاء الحكم.

لا يقال : يجوز أن يكون ذلك الخطأ صغيرة فلم يجب الامتناع من التولية ، ولا المنع من الفتوى ولا البراءة ولا التفسيق.

__________________

(١) في المحصول : ٢ / ٥١٢ : لأنّه.

٢١٤

سلّمنا أنّه كبيرة فجاز أن يقال : إنّما يلزم هذه الأمور لو حصل في المسائل طريق مقطوع به. أمّا إذا كثرت وجوه الشبه وتزاحمت جهات التأويلات والترجيحات ، صار ذلك سببا للعذر وسقوط الذم.

سلّمنا صحّة دليلكم ، لكنّه معارض بما روي عن الصحابة من التصريح بالتخطئة.

ولأنّ الصحابة اختلفوا قبل العقد لأبي بكر فقالت الأنصار : «منّا أمير ومنكم أمير» (١) وكانوا مخطئين لمخالفتهم قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الأئمة من قريش» (٢) ولم يلزم من ذلك الخطأ البراءة والفسق ، فكذا هنا.

ولأنّهم اختلفوا في مانع الزكاة هل يقاتل؟ وقضى عمر في الحامل المعترفة بالزنا بالرجم ، وكان ذلك على خلاف النص.

ويمنع كون الاختلاف في الدماء والفروج كبيرا ، فإنّه لمّا لم يمتنع كون الأقوال المختلفة صوابا على مذهبك ، جاز أن يكون الخطأ فيها صغيرا.

ويمنع تساوي مباشرة القتل والغصب والتمكن منهما بالفتوى الباطلة ، ولم لا يجوز أن يكون تمسّكه في ذلك بما يشبه الدليل سببا لسقوط العقاب والتفسيق؟

__________________

(١) راجع السيرة النبوية لابن هشام : ٤ / ١٠٧٤.

(٢) مسند أحمد : ٣ / ١٢٩ وج ٤ / ٤٢١ ؛ مستدرك الحاكم : ٤ / ٧٦ ؛ سنن البيهقي : ٣ / ١٢١ وج ٨ / ١٤١ ؛ مجمع الزوائد : ٥ / ١٩٢ ؛ نهج البلاغة : ٢ / ٢٧ ؛ بصائر الدرجات : ٥٣ ؛ الكافي : ٨ / ٣٤٣ ؛ بحار الأنوار : ١٨ / ١٣٣ وج ٢٤ / ١٥٧ ح ١٧ وج ٢٥ / ١٠٤ ، باب الأئمة من قريش وج ٢٨ / ١٧١ و ٢٦١ و ٣٨٠. وقد وردت العبارة ضمن أحاديث مختلفة الألفاظ.

٢١٥

لأنّا نجيب عن الأوّل. بأنّ الدليل على كونه كبيرة لو كان خطأ أنّ تارك العمل به تارك للمأمور به ، فيكون عاصيا فيستحق النار.

وعن الثاني. أنّ غموض الأدلّة وكثرة الشبه أقل ممّا في العقليات مع أنّ المخطئ فيها كافر ، أو فاسق.

وعن الثالث. أنّ ترك البراءة والتفسيق مع التمكين من الفتوى والعمل منقول عمّن نقلتم عنهم التصريح بالتخطئة فلا بد من التوفيق ، وقد تعذّر صرفه إلى كون الخطأ صغيرا لما بيّنّا فساده ، فطريق التوفيق ليس إلّا صرف ما نقلناه إلى قسم وما نقلتموه إلى آخر ؛ فإنّا لا ندّعي التصويب في كلّ الاختلافات في المسائل الشرعية حتى يضرّنا ما ذكرتم ، وأنتم تدّعون الخطأ في كلّ الاختلافات فيضرّكم ما ذكرناه ؛ فنحمل التخطئة على ما إذا وجد في المسألة نصّ قاطع ، أو على ما إذا لم يستقص المجتهد في وجوه الاستدلال.

وأمّا الأنصار فإنّهم لمّا سمعوا ذلك الحديث لا جرم لم يستحقّوا التفسيق والبراءة ، بخلاف هذه المسائل فإنّ كلّ واحد من المجتهدين عرف حجّة صاحبه واطّلع عليها ، فلو كان مخطئا لكان مصرّا على الخطأ بعد اطّلاعه عليها ، فأين أحد البابين من الآخر؟

وهذا هو الجواب أيضا عن اختلافهم في مانعي الزكاة وقصة (١) المجهضة.

__________________

(١) في «ب» و «د» : قضية.

٢١٦

قوله : لمّا جاز أن تكون المذاهب المختلفة في الدماء والفروج خفيّة فلم لا يجوز أن يكون الخطأ فيها صغيرا.

قلنا : قد بيّنّا الدليل على كونه كبيرا فإنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «في من سعى في دم مسلم ولو بشطر كلمة ، جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه : آيس من رحمة الله» (١). وهذا وأمثاله ممّا لا يحصى كثرة يدلّ على أنّ الخطأ كبيرة.

الخامس : لو كان المجتهد مخطئا لما حصل القطع بكون الخطأ منه مغفورا ، وقد حصل فهو غير مخطئ.

بيان الشرطية. أنّه لو حصل القطع بكونه مغفورا لكان في ذلك الوقت إمّا أن يجوز المخطئ كونه مخلّا بنظر يلزمه فعله ، أو لا يجوز ذلك.

فإن لم يجز كان كالساهي عن النظر الزائد فلم يكن مكلّفا بفعله ، فلا يستحقّ العقاب بتركه ، فلا يكون مخطئا وقد فرض مخطئا. هذا خلف.

وإن جوّز كونه مخلّا بنظر زائد فإمّا أن يعلم في تلك الحالة أنّه مغفور له إخلاله بذلك النظر الزائد ، أو لا يعلم. فإن علم لم يصحّ ، لأنّ المجتهد لا يعلم المرتبة الّتي إذا انتهى إليها غفر له ما بعدها ، لأنّه إن اقتصر على أوّل المراتب لم يغفر له ما بعده ، وما من مرتبة ينتهي إليها إلّا ويجوز أن لا يغفر له

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ٢ / ٨٧٤ ؛ سنن البيهقي : ٨ / ٢٢ ؛ مجمع الزوائد : ٧ / ٢٩٨ ؛ المعجم الكبير : ١١ / ٦٦ ؛ كنز العمال : ١٥ / ٢٢ برقم ٣٩٨٩٥ ؛ من لا يحضره الفقيه : ٤ / ٩٤ ؛ عوالي اللآلي : ١ / ٢٨٣ برقم ١٢٣ و ٣٦٥ برقم ٥٧ ؛ بحار الأنوار : ٧٢ / ١٤٨ ح ٣ وص ١٤٩ ح ١٠ وج ١٠١ / ٣٨٣ ح ١. وقد ورد الحديث باختلاف في الألفاظ.

٢١٧

ما بعدها. ولا يتميّز له بعض تلك المراتب من بعض. ولأنّه لو عرف تلك المرتبة القريبة لكان مغرى بالمعصية ، لعلمه بانتفاء المضرة عليه في ترك النظر الزائد مع كونه مشقة.

فإذن لا يعرف تلك المرتبة ، وإذا لم يعرفها جوّز أن لا يغفر له إخلاله بما بعدها من النظر ، وجوز أيضا في كلّ مخطئ من المجتهدين أنّهم لم ينتهوا إلى المرتبة الّتي يغفر لهم ما بعدها ، وهو يتضمّن تجويز كونهم غير مغفور لهم.

فظهر أنّه لو كان مخطئا لما حصل القطع بكونه مغفورا له ، لكنّه حصل القطع بذلك ، لأنّهم اتّفقوا من زمن عصر الصحابة إلى يومنا هذا على أنّ ذلك مغفور ، فعلمنا أنّ المجتهد ليس بمخطئ.

السادس : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أصحابي كالنجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» خيّر في تقليد أصحابه ، وقد كانوا يختلفون في المسائل ، فلو كان بعضهم مخطئا في الحكم أو الاجتهاد لكان قد حثّهم على الخطأ والمصير إليه ، وهو باطل.

السابع : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا رتب معاذ الاجتهاد على السنّة والسنّة على الكتاب : «أصبت». حكم بتصويبه مطلقا ، ولم يفصّل بين حالة وأخرى ، فالمجتهد مصيب مطلقا.

الثامن : تعيين الحق يستلزم نصب دليل قاطع دفعا لإزاحة الإشكال وقطعا لحجّة المحتج ، كما هو المألوف من عادة الشارع في كلّ ما دعا إليه.

٢١٨

لقوله تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)(١).

وقوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)(٢).

وقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً)(٣). ولو كان عليه دليل قاطع لوجب الحكم بفسق مخالفه. (٤)

التاسع : لا خلاف في ترجيح الأدلّة المتقابلة في المسائل الاجتهادية بما لا يستقل بإثبات أصل الحكم ولا نفيه ، فدلّ على أنّ الدليل من الجانبين ما هو خارج عن الترجيح ، فالدليل على كلّ واحد من الحكمين قائم ، فكان حقّا. (٥)

والجواب عن الأوّل. أنّ على الحكم دليلا ظاهرا لا قطعا ولا يلزم الكفر ولا الفسق.

قيل (٦) : لأنّ المجتهد قبل الخوض في الاجتهاد كان تكليفه طلب ذلك الحكم الّذي عيّنه الله تعالى ونصب عليه ذلك الدليل الظاهر ، فإذا اجتهد

__________________

(١) النساء : ١٦٥.

(٢) إبراهيم : ٤.

(٣) طه : ١٣٤.

(٤) راجع الإحكام : ٤ / ١٩٩.

(٥) راجع الإحكام : ٤ / ٢٠٠.

(٦) القائل هو الرازي في المحصول : ٢ / ٥١٩.

٢١٩

وأخطأ ولم يصل إلى ذلك الحكم وظن شيئا آخر ، تغيّر التكليف في حقّه وصار مأمورا بالعمل بمقتضى ظنّه. وحينئذ يكون حاكما بما أنزل الله لا بغيره فسقط ما ذكروه من الاستدلال.

وهو الجواب عن الثاني. لأنّا نسلم أنّ المجتهد بعد أن اجتهد وظن أنّ الحكم كذا فإنّه مكلّف بالعمل بمقتضى ظنّه ، وحكمه تعالى في حقّه ليس إلّا ذلك ، لكن يجوز أن يقال : إنّه قبل خوضه في الاجتهاد كان مأمورا بذلك الحكم الّذي عيّنه الله تعالى ونصب عليه الدليل ، لكنّه بعد الاجتهاد ووقوع الخطأ تغيّر التكليف ، وما ذكروه لا ينفي هذا الاحتمال.

ولأنّ هذه الدلالة تنتقض بما لو وجد نصّ في المسألة ولم يجده المجتهد بعد الطلب ، ثمّ ظنّ بمقتضى القياس خلاف ذلك الحكم ، فإنّ تكليفه حينئذ العمل بمقتضى ذلك القياس مع الإجماع على كونه مخطئا في هذه الصورة ، فجوابهم جوابنا.

ومن المصوّبة من منع من التخطئة في هذه الصورة ، فالأصل في الجواب ما تقدم.

وهو الجواب عن الثالث ، لأنّه إنّما يجب البراءة والتفسيق لو عمل بغير حكم الله تعالى ، لكنّه بعد الخطأ مكلّف بالعمل بمقتضى ظنّه ، فيكون عاملا بحكم الله تعالى فلا يلزم شيء ممّا ذكروه.

وفيه نظر ، فإنّ الحكم تابع للمصالح لا للظنون ، ولا نسلّم تغيّر حكم الله تعالى باعتبار حصول ظنّ غير الحكم المعيّن ، بل الحق في الجواب أنّ

٢٢٠