نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٥

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-357-284-6
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٥٠٨

١
٢

٣
٤

بسم الله الرّحمن الرّحيم

(وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)

(١٢٢)

٥
٦

مقدّمة بقلم : آية الله العظمى جعفر السبحاني

بسم الله الرّحمن الرّحيم

القول السديد في الاجتهاد والتقليد

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه ورسله محمد وآله الطاهرين.

أمّا بعد :

إنّ البحث في الاجتهاد والتقليد ليس من المسائل الأصولية ، لأنّها عبارة عما يقع في طريق الاستنباط. والبحث في واقع الاجتهاد والتقليد وما يرجع إليهما من بحوث لا يقع في طريق الاستنباط ، ولذلك عاد أصحابنا الأصوليون يبحثون عنهما في الكتب الأصولية كخاتمة للكتاب ، والمعروف أنّ الخاتمة كالمقدمة ليست داخلة في صميم العلم.

إلّا أنّ العلّامة الحلي ـ مؤلف الكتاب ـ لم يتابع سيرة الأصحاب وجرى على مسلك الآخرين حيث إنّهم يبحثون عنهما بصورة مسألة أصولية ، وقد أفاض الكلام فيهما في المقصد الثالث عشر من الكتاب ، وقد شغلت هذه

٧

المباحث نصف هذا الجزء الّذي بين يدي القارئ ، وبقي النصف الآخر خاصّا بالتعادل والترجيح.

والعجب أنّه قدّم البحث في الاجتهاد والتقليد على التعادل والترجيح مع أنّ الأنسب هو العكس ، لأنّ الثاني من المسائل الأصولية حيث يقع ما هو المختار (الرجوع إلى المرجحات والتخيير عند عدمها ، أو الترجيح بالمرجحات والتخيير عند عدمها) عند تعارض الأدلّة في طريق الاستنباط.

فكان عليه أن يخص المقصد الثاني عشر بالتعادل والترجيح والخاتمة بمباحث الاجتهاد والتقليد.

ونحن في غنى عن التعليق على ما أتى به المصنّف في هذه الأبواب من دلائل مشرقة على مختاراته. لكن قسما منها ربما يحتاج إلى بسط في الكلام ولذلك اخترنا مواضع خاصة للتعليق ، وهي كما يلي :

١. النبي والاجتهاد.

٢. وجود الاجتهاد عند الصحابة.

٣. في تجزؤ الاجتهاد.

٤. التخطئة والتصويب في الأصول والفروع.

٥. دور الزمان والمكان في الاستنباط.

٦. دور الحكم في رفع التزاحم بين الاحكام الأولية.

٨

١

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والاجتهاد

ذكر المصنّف قدس‌سره اختلاف الناس في أنّ النبي هل كان متعبدا بالاجتهاد كسائر الفقهاء ، أو لم يكن كذلك؟ فالإمامية ـ عن بكرة أبيهم ـ على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن متعبدا بالاجتهاد في شيء في بيان الأحكام الشرعية الكلية ، وأمّا القضاء في المرافعات فهو أمر آخر لا صلة له بالموضوع ، وسيوافيك بيانه.

وقد ذكر المصنّف أدلة شافية في ترفيع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حاجته إلى الاجتهاد بعد ما كان (فضل الله عليه كبيرا) ، واللوح المكتوبة فيه الأحكام مكشوفا له يراه بأمّ عينيه أو بأمّ قلبه.

ومع ذلك كله فسوف نستطرد هذا الموضوع ببيان آخر ربّما يكون بين البحثين تداخل في بيان الأدلة وإشكالاتها.

والفضل في ذلك يرجع إلى المصنّف وإلى بقية علمائنا المتقدمين.

فنقول : الاجتهاد : هو استنباط الحكم من الأدلّة الشرعية ، كالكتاب والسنّة ببذل الجهد والتفكير ، والمجتهد يخطئ ويصيب شأن كلّ إنسان غير

٩

معصوم ، وإن كان المخطئ مأجورا كالمصيب ، إنّما الكلام في أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هل كان مجتهدا في بيان الحكم الشرعي كالآخرين يخطئ ويصيب ، أو أنّ علمه بعقائد الدين وأحكامه بلغ إلى مستوى أغناه عن الاجتهاد؟

والإمعان فيما سنتلوه عليك من النصوص يدعم النظر الثاني :

أ. قال سبحانه : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً). (١)

وقد ذكر المفسّرون أسباب نزول متعدّدة لهذه الآية تجمعها أنّه رفعت إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واقعة كان الحق فيها غير واضح ، فأراه الله سبحانه حقيقة الواقع الذي تخاصم فيها المتحاكمان وعلّله بقوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ).

ففضل الله ورحمته صدّاه عن الحكم بالباطل ، وهل كان فضله سبحانه ورحمته مختصين بهذه الواقعة ، أو أنّهما خيّما عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طيلة عمره الشريف؟ مقتضى قوله سبحانه في ذيل الآية : (وَكانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيماً) هو انّه حظي بهما طيلة عمره الشريف. فهو في كلّ الحوادث والوقائع يحكم بمرّ الحق ونفس الواقع مؤيدا من قبل الله ، ومن اختصّ بهذه المنزلة الكبيرة فقد استغنى عن الاجتهاد المصيب تارة والمخطئ أخرى.

__________________

(١) النساء : ١١٣.

١٠

ب. انّه سبحانه يخاطب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : (ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ).(١)

والشريعة هي طريق ورود الماء ، والأمر أمر الدين ومعنى الآية انّه تبارك وتعالى أورد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طريقا موصلة للشريعة قطعا ، ومن حظي بتلك المنزلة ، فما يصدر عنه إنّما يصدر عن واقع الدين لا عن الدين المظنون الذي يخطئ ويصيب ، وليست تلك الخصيصة من خصائصه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقط بل قد حظي بها معظم الأنبياء ، قال سبحانه : (لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً). (٢)

ج. إنّ طبيعة الاجتهاد خاضعة للنقاش والنقد ، فلو اجتهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في بعض الأحكام فنظره كغيره قابل للنقد والنقاش ، ومعه كيف يكون حلال محمد حلالا إلى يوم القيامة وحرامه حراما إلى يوم القيامة ، وكيف تكون شريعته خاتمة الشرائع؟!

كلّ ذلك يعرب عن أنّ نسبة الاجتهاد إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعيدة عن الصواب ، وإنّما يتفوّه بها من ليس له أدنى إلمام بمقامات الأنبياء ، لا سيما خاتم النبيين أفضل الخليقة.

قال الشوكاني : اختلفوا في جواز الاجتهاد للأنبياء في الأحكام الشرعية على مذاهب:

__________________

(١) الجاثية : ١٨.

(٢) المائدة : ٤٨.

١١

المذهب الأوّل : ليس لهم ذلك لقدرتهم على النص بنزول الوحي ، وقد قال سبحانه : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى). (١) والضمير يرجع إلى النطق المذكور قبله بقوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) وقد حكى هذا المذهب الأستاذ أبو منصور عن أصحاب الرأي ، وقال القاضي في «التقريب» : كلّ من نفى القياس أحال تعبّد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالاجتهاد. قال الزركشي : وهو ظاهر اختيار ابن حزم.

واحتجّوا أيضا بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا سئل ينتظر الوحي ويقول : «ما أنزل عليّ في هذا شيء» كما قال لمّا سئل عن زكاة الحمير فقال : لم ينزل عليّ إلّا هذه الآية الجامعة : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.)(٢) وكذا انتظر الوحي في كثير ممّا سئل عنه ، ومن الذاهبين إلى هذا المذهب أبو علي وأبو هاشم. (٣)

أقول : لقد لخّص الشوكاني ما ذكره ابن حزم في ذلك المجال وقال : إنّ من ظنّ بأنّ الاجتهاد يجوز لهم في شرع شريعة لم يوح إليهم فيها فهو كفر عظيم ، ويكفي في إبطال ذلك أمره ـ تعالى ـ نبيه أن يقول : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ)(٤) وقوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى). (٥) وقوله : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ. لَأَخَذْنا

__________________

(١) النجم : ٤.

(٢) الزلزلة : ٧ و ٨.

(٣) إرشاد الفحول : ٢٢٥.

(٤) الأنعام : ٥٠.

(٥) النجم : ٣ و ٤.

١٢

مِنْهُ بِالْيَمِينِ. ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ)(١).

وانّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يسأل عن الشيء ، فينتظر الوحي ، ويقول : «وما نزل عليّ في هذا شيء» ذلك في حديث زكاة الحمير وميراث البنتين مع العم والزوجة ، وفي أحاديث جمّة. (٢) وقبل أن أذكر المذهب الثاني الوارد في كلام الشوكاني ، أشير إلى كلمة للعلّامة الحلّي ، تعرب عن موقف الإمامية في المسألة.

قال رحمه‌الله بعد تعريف الاجتهاد : ولا يصح (الاجتهاد) في حقّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبه قال الجبائيان. لقوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) ولأنّ الاجتهاد إنّما يفيد الظن ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قادر على تلقّيه من الوحي ، وانّه كان يتوقّف في كثير من الأحكام حتى يرد الوحي ، فلو ساغ له الاجتهاد ، لصار إليه ، لأنّه أكثر ثوابا ، ولأنّه لو جاز له (الاجتهاد) لجاز لجبرئيل عليه‌السلام ، وذلك يسدّ باب الجزم بأنّ الشرع الذي جاء به محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الله تعالى.

ولأنّ الاجتهاد قد يخطئ وقد يصيب ، ولا يجوز تعبّده صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم به ، لأنّه يرفع الثقة بقوله.

وكذلك لا يجوز لأحد من الأئمّة الاجتهاد عندنا ، لأنّهم معصومون ، وإنّما أخذوا الأحكام بتعليم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو بإلهام من الله تعالى. (٣)

__________________

(١) الحاقة : ٤٤ ـ ٤٦.

(٢) الإحكام في أصول الأحكام : ٥ / ١٢٣.

(٣) مبادئ الأصول : ٥١.

١٣

المذهب الثاني : انّه يجوز لنبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولغيره من الأنبياء الاجتهاد وإليه ذهب الجمهور واحتجوا بالوجوه التالية :

الأوّل : انّ الله سبحانه خاطب نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما خاطب عباده ، وضرب له الأمثال وأمره بالتدبّر والاعتبار ، وهو من أجلّ المتفكّرين في آيات الله وأعظم المعتبرين.

أقول : إنّ ما ضرب به من الأمثال جلّها من باب «إيّاك أعني واسمعي يا جارة» وهل يصحّ أن يقال انّه سبحانه أراده بقوله : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ)(١) مع أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّن هداه الله (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ). (٢)

على أنّه سبحانه أمر بالتفكّر والتدبّر فيما يرجع إلى العوالم الغيبية والأسرار المكنونة في الطبيعة وأنّى ذلك من التفكّر في الأحكام الشرعية.

الثاني : انّ المراد من قوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) هو القرآن ، لأنّهم قالوا إنّما يعلّمه بشر ، ولو سلم لم يدل على نفي اجتهاده ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا كان متعبّدا بالاجتهاد بالوحي لم يكن نطقا عن الهوى ، بل عن الوحي.

أقول : إنّ قوله سبحانه : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) وإن كان واردا في مورد القرآن ، ولكنّه آب عن التخصيص بدلالة انّ ورود التخصيص عليه يستلزم

__________________

(١) الزمر : ٦٥.

(٢) الزمر : ٣٧.

١٤

الاستهجان ، فلو قيل النبي لا ينطق عن الهوى إلّا في غير مورد القرآن لرأيت التخصيص مستهجنا ، على أنّ الدليل ليس منحصرا بهذه الآية ، وقد استعرضنا الدلائل السابقة.

نعم لو ثبت انّ الوحي أمره بالاجتهاد ، لكان ما يفتي به إفتاء منتهيا إلى الوحي الإجمالي ، ولكن الكلام في صدور الترخيص له.

الثالث : إذا جاز لغيره من الأمّة أن يجتهد بالإجماع مع كونه معرضا للخطإ ، فلأن يجوز لمن هو معصوم عن الخطأ بالأولى.

أقول : إنّ هذا الاستدلال من الوهن بمكان ، لأنّ غير النبي يجتهد لانحصار باب المعرفة به ، وهذا بخلاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فإنّ أمامه طرقا كثيرة إلى الحقّ أوضحها الوحي.

الرابع : الاستدلال ببعض الأمثلة التي تدلّ بظاهرها على أنّ النبي اجتهد في الحكم الشرعي ، وسيوافيك توضيح بعضها. (١)

ثمّ إنّ هناك مذهبا ثالثا يدعى مذهب الوقف عن القطع بشيء في ذلك ، وزعم الصيرفي في شرح الرسالة ، انّه مذهب الشافعي ، لأنّه حكى الأقوال ولم يختر شيئا منها ، واختار هذا القاضي أبو بكر الباقلاني ، والغزالي. (٢)

__________________

(١) إرشاد الفحول : ٢٢٥.

(٢) المصدر السابق : ٢٢٦.

١٥

اجتهاد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتسرّب الخطأ إليه

قد سبق انّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في غنى عن الاجتهاد في الأحكام وانّه سبحانه أورده منهل الشريعة ، وأمره باتّباعها ، ولو افترضنا جواز الاجتهاد عليه ، فهل يمكن أن يتسرّب إليه الخطأ أو لا؟

ذهبت الإمامية إلى صيانة اجتهاده (على فرض جواز الاجتهاد له) عن الخطأ ، واستدل عليه المحقّق بوجوه :

الأوّل : انّه معصوم من الخطأ عمدا ونسيانا بما ثبت في الكلام ، ومع ذلك يستحيل عليه الغلط.

الثاني : إنّنا مأمورون باتّباعه ، فلو وقع منه الخطأ في الأحكام لزم الأمر بالعمل بالخطإ وهو باطل.

الثالث : لو جاز ذلك الخطأ لم يبق وثوق بأوامره ونواهيه ، فيؤدي ذلك إلى التنفير عن قبول قوله. (١)

ثمّ إنّ المخالف استدل بوجوه ، منها :

الأوّل : قوله تعالى : (إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ). (٢)

أقول : إنّ وجه المماثلة ليس تطرّق الخطأ بل عدم استطاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى

__________________

(١) معارج الأصول : ١١٨ ـ ١١٩.

(٢) الكهف : ١١٠.

١٦

تحقيق كلّ ما يقترحون عليه من المعاجز والآيات حيث أرادوا منه أن يأتي لهم بكلّ ما يقترحون عليه من عجائب الأمور ، فوافته الآية بأنّه بشر مثلكم ، والفرق انّه يوحى إليه دونهم ، فكيف يتمكّن من القيام بما يقترحون عليه من المعاجز والآيات بلا إذن منه سبحانه؟!

الثاني : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «فمن قضيت له بشيء من حقّ أخيه ، فلا يأخذنّ إنّما أقطع له به قطعة من النار» (١) وهذا يدلّ على أنّه يجوز منه الغلط في الحكم.

أقول : إنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان مأمورا بالقضاء بما أدّت إليه البيّنة واليمين ، فما يقضي به هو نفس الحكم الشرعي في باب القضاء سواء أكان مطابقا للواقع أم لم يكن ، فإنّه كان مأمورا في فصل الخصومات بالظواهر لا بالبواطن.

وبذلك يعلم انّه لو سوّغنا الاجتهاد للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يخطئ في مجال الإفتاء ، بل ينتهي إلى نفس الواقع.

وأمّا باب القضاء ، فاتّفق الجميع على أنّه كان مأمورا بالظواهر دون البواطن ، سواء أكانت الظواهر مطابقة للواقع أم لا ، فقد كانت المصالح تقتضي ذلك. مع العلم بحقيقة الحال.

__________________

(١) الوسائل : ١٨ ، الباب ٢ من أبواب كيفية الحكم ، الحديث ٣.

١٧

العلم بالملاك غير الاجتهاد

قد تحدثنا آنفا عن الاجتهاد ، وعرفت أنّه عبارة عن استخراج الحكم من الكتاب والسنّة وهو قد يخطئ وقد يصيب ، وليس الحكم المستخرج مصيبا للواقع على الإطلاق.

نعم هناك أمر آخر يعدّ كرامة اختصّ الله تعالى بها نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو انّه أدّب رسوله فأحسن تأديبه ، وعلّمه مصالح الأحكام ومفاسدها ، وأوقفه على ملاكاتها ومناطاتها ، ولمّا كانت الأحكام تابعة لمصالح ومفاسد كامنة في متعلّقاتها وقد أطلع الله نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليها مع اختلاف درجاتها ومراتبها ، لا يكون الاهتداء إلى أحكامه سبحانه عن طريق الوقوف على عللها ، بأقصر من الطرق التي وقف بها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حلاله وحرامه. وإلى هذا يشير الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام بقوله :

«وعقلوا الدين عقل وعاية ورعاية لا عقل سماع ورواية ، فإنّ رواة العلم كثير ورعاته قليل». (١)

فما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من التشريع ، فإنّما هو تشريع بالعلم بالملاك ، وبإذن خاص منه سبحانه ، وقد ورد في السنّة الشريفة :

١. إنّ الله فرض الصلاة ركعتين ركعتين ، ليكون المجموع عشر ركعات ، فأضاف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الركعتين ركعتين ، وإلى المغرب ركعة.

__________________

(١) نهج البلاغة : الخطبة رقم ٢٣٤.

١٨

٢. إنّ الله فرض في السنة صوم شهر رمضان ، وسنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صوم شعبان ، وثلاثة أيام من كلّ شهر.

٣. إنّ الله حرم الخمر بعينها ، وحرّم رسول الله المسكر من كلّ شراب.

٤. إنّ الله فرض الفرائض في الإرث ، ولم يقسم للجد شيئا ، ولكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أطعمه السدس. (١)

وليس هذا اللون من التشريع اجتهادا منه ولا منافيا لاختصاص التشريع بالله سبحانه ، لما عرفت من أنّ التسنين في هذه المقامات إنّما هو بتعليم منه سبحانه بملاكات الأحكام وإذنه.

أسئلة وأجوبة

الأوّل : ربما يتراءى من بعض تفسير الآيات والروايات انّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اجتهد في بعض الأحكام ثمّ وافاه النص على الخلاف.

قال سبحانه : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ). (٢)

(لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ). (٣)

(فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ). (٤)

__________________

(١) أصول الكافي : ١ / ٢٠٩ ـ ٢١٠.

(٢) الأنفال : ٦٧.

(٣) الأنفال : ٦٨.

(٤) الأنفال : ٦٩.

١٩

نزلت الآيات في غزوة بدر حيث استشار الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صحابته في أمر الأسرى ، فقال أبو بكر : عشيرتك فأرسلهم ، وقال عمر : اقتلهم ، ففاداهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأنزل الله معاتبا له ولصحابته بقوله : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى ...).

رواه أهل السير ، وأخرج مسلم وأحمد حديثا في ذلك. (١)

التحليل يتوقف على توضيح مفاد الآيات ، وهو انّ السنّة الجارية في الأنبياء الماضين عليهم‌السلام هي انّهم إذا حاربوا أعداءهم ، وظفروا بهم ينكلون بهم قتلا ليعتبر بهم من وراءهم ، فيكفّوا عن معاداة الله ورسوله ، وكانوا لا يأسرون أحدا حتى يثخنوا في الأرض ، ويستقر دينهم بين الناس ، فإذا بلغوا تلك الغاية كان لهم الحقّ في أخذ الأسرى ، ثمّ المن أو الفداء ، كما قال تعالى في سورة أخرى مخاطبا المسلمين عند ما علا أمر الإسلام وتمّت له القوة والغلبة في الحجاز واليمن : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً). (٢)

فعلم من ذلك انّ مقتضى الجمع بين الآيتين هو ممنوعية أخذ الأسرى قبل الإثخان في الأرض وجوازه بعده ، ثمّ المن ، أو الفداء بعد الإثخان.

إذا عرفت ذلك فهلمّ معي نبحث في مفاد الآيات الثلاث ، فنقول :

أوّلا : انّ اللوم انصبّ على أخذ الأسرى لا على الفداء.

__________________

(١) تاريخ التشريع الإسلامي : ٩٩.

(٢) محمد : ٤.

٢٠