نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٥

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-357-284-6
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٥٠٨

وليس الهدف من تسويغ الحكم له إلّا الحفاظ على الأحكام الواقعيّة برفع التزاحم ، ولذلك سمّيناه حكما إجرائيّا ولائيّا حكوميّا لا شرعيّا ـ مثل : وجوب الوضوء ـ لما عرفت من أنّ حكمه علاجيّ يعالج به تزاحم الأحكام الواقعية في ظلّ العناوين الثانوية ، وما يعالج به حكم لا من سنخ المعالج ، ولو جعلناه في عرض الحكمين لزم انخرام توحيد التقنين والتشريع.

الثانية : إنّ حكم الحاكم لمّا كان نابعا من المصالح العامّة وصيانة القوانين الإسلامية لا يخرج حكمه عن إطار الأحكام الأوّليّة والثّانويّة ، ولأجل ذلك قلنا إنّه يعالج التزاحم فيها ، في ظلّ العناوين الثانويّة ، نعم ربّما يقال بأنّ ولاية الفقيه أوسع من إطار الأحكام الأوّلية والثانوية.

والقول بولاية الفقيه على هذا الحد يرفع جميع المشاكل الماثلة في حياتنا ، فإنّ العناوين الثانوية التي تلوناها عليك أدوات بيد الفقيه يسد بها كل فراغ حاصل في المجتمع ، وهي في الوقت نفسه تغيّر الصغريات ولا تمس بكرامة الكبريات.

ولأجل توضيح المقام ، نأتي بأمثلة تتبيّن فيها مدخليّة المصالح الزمانية والمكانية في حكم الحاكم وراء دخالتهما في فتوى المفتي.

الأوّل : لا شكّ أنّ تقوية الإسلام والمسلمين من الوظائف الهامّة ، وتضعيف وكسر شوكتهم من المحرّمات الموبقة ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر فإنّ بيع وشراء التنباك أمر محلّل في الشرع ، والحكمان من الأحكام الأوّلية ولم يكن أيّ تزاحم بينهما إلّا في فترة خاصة عند ما أعطى

١٦١

الحاكم العرفيّ امتيازا للشّركة الأجنبية ، فصار بيعه وشراؤه بيدها ، ولمّا أحسّ الحاكم الشرعيّ آنذاك ـ السيد الميرزا الشّيرازي قدس‌سره ـ انّ استعماله يفتح الباب لسيطرة الكفّار على المجتمع الإسلامي ، حكم قدس‌سره بأنّ استعماله بجميع أنواع الاستعمال في هذه الفترة كالمحاربة مع وليّ العصر عليه‌السلام. (١) فلم يكن حكمه نابعا إلّا من تقديم الأهمّ على المهمّ أو من نظائره ، ولم يكن الهدف من الحكم إلّا بيان أنّ المورد من صغريات حفظ مصالح الإسلام واستقلال البلاد ، ولا يحصل إلّا بترك استعمال التّنباك بيعا وشراء وتدخينا وغيرها ، فاضطرّت الشّركة حينئذ إلى فسخها.

الثاني : إنّ حفظ النفوس من الأمور الواجبة ، وتسلّط النّاس على أموالهم وحرمة التصرّف في أموالهم أمر مسلّم في الإسلام أيضا ، إلّا أنّ حفظ النفوس ربّما يتوقّف على فتح الشوارع في البلاد داخلها وخارجها ولا يحصل إلّا بالتصرّف في الأراضي والأملاك ، فلو استعدّ مالكها بطيب نفس منه فهو وإلّا فللحاكم في المقام دور وهو ملاحظة الأهمّ بتقديمه على المهمّ فيقدّم الحكم الأوّل وهو حفظ النفوس على الثاني ، ويحكم بجواز التصرّف بلا إذن ، غاية الأمر يضمن لصاحب الأراضي قيمتها السوقية.

الثالث : إنّ إشاعة القسط والعدل ممّا ندب إليه الإسلام وجعله غاية لبعث الرّسل ، قال سبحانه : (لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ

__________________

(١) أصدر الميرزا الشيرازي الحكم عام ١٨٩١ م ونصّه كالتالي : بسم الله الرّحمن الرحيم : «اليوم استعمال التنباك والتتن ، بأي نحو كان ، بمثابة محاربة إمام الزمان (عجّ)».

١٦٢

الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)(١).

ومن جانب إنّ النّاس مسلّطون على أموالهم يتقلّبون فيها كيفما شاءوا ، فإذا كان هناك تزاحم بين الحكمين الواقعيين ، كما في احتكار المحتكر أيّام الغلاء أو إجحاف أصحاب الحرف والصّنعة وغيرهم ، فللحاكم الإسلامي ـ حسب الولاية الإلهيّة ـ الإمعان والدقة والاستشارة والمشورة في حلّ الأزمة الاجتماعية حتّى يتبيّن له أنّ المقام من صغريات أيّ حكم من الحكمين فلو لم تحلّ العقد بالوعظ والنصيحة ، فآخر الدواء الكيّ ، أي : بفتح المخازن وبيع ما احتكر بقيمة عادلة وتسعير الأجناس وغير ذلك.

الرابع : لا شكّ أنّ الناس أحرار في تجاراتهم مع الشركات الداخلية والخارجية ، إلّا أنّ إجراء ذلك ، إن كان موجبا لخلل في النظام الاقتصاديّ أو ضعف في البنية الماليّة للمسلمين ، فللحاكم تقديم أهمّ الحكمين على الآخر حسب ما يرى من المصالح.

الخامس : لو رأى الحاكم أنّ بيع العنب إلى جماعة لا يستعملونه إلّا لصنع الخمر وتوزيعه بالخفاء أورث فسادا عند بعض أفراد المجتمع وانحلالا في شخصيّتهم ، فله أن يمنع من بيع العنب إلى هؤلاء.

إلى غير ذلك من المواضيع الكثيرة التي لا يمكن للفقيه المفتي أو الحاكم غضّ النّظر عن الظروف المحيطة به ، حتى يتضح له أنّ المجال مناسب لتقديم أي الحكمين على الآخر وتشخيص الصغرى كما لا يخفى.

__________________

(١) الحديد : ٢٥.

١٦٣

تمّ الكلام في ما يهمنا من التقديم لهذا الجزء من «نهاية الوصول إلى علم الأصول» والغرض إكمال ما لم يتوسع فيه المصنّف من الكلام مع أنّها من المباحث المهمة في حياتنا المعاصرة وبهذا الجزء تتم هذه الموسوعة الأصولية لنابغة عصره ونادرة دهره العلّامة الحلي قدس‌سره.

والحمد لله الّذي بنعمته تتم الصالحات

جعفر السبحاني

قم المشرفة ـ مؤسسة الإمام الصادق عليه‌السلام

٨ شوال المكرم ١٤٢٨ ه

١٦٤

المقصد الثالث عشر :

في الاجتهاد والتقليد

والتعادل والترجيح

وفيه فصول :

١٦٥
١٦٦

الفصل الأوّل :

في الاجتهاد

وفيه مطالب :

الأوّل : في ماهيته

الاجتهاد لغة عبارة عن استفراغ الوسع في تحقيق أمر من الأمور مستلزم للكلفة والمشقة ، يقال اجتهد في حمل الثقيل أي استفرغ وسعه فيه ، ولا يقال : اجتهد في حمل النواة.

وأمّا في عرف الفقهاء فهو : استفراغ الوسع في طلب الظن بشيء من الأحكام الشرعية بحيث ينتفي اللوم عنه بسبب التقصير. فاستفراغ الوسع كالجنس للمعنى اللغوي والاصطلاحي وما بعده مميّز للمعنى الأصولي عن اللغوي.

وإنّما قلنا : «في طلب الظن» ليخرج الأحكام القطعية.

وقولنا : «بشيء من الأحكام الشرعية» ليخرج الاجتهاد في الأمور العقلية.

وقولنا : «بحيث ينتفي اللوم بسبب التقصير» ليخرج اجتهاد المقصّر مع

١٦٧

إمكان المزيد عليه ، فإنّه لا يعد في الاصطلاح اجتهادا معتبرا.

وهذه سبيل مسائل الفروع ولذلك تسمّى هذه المسائل مسائل الاجتهاد ، والناظر فيها مجتهد ، وليس هذه حال الأصول.

وإذا ثبت هذا فالاجتهاد نسبة وإضافة بين أمرين : أحدهما أن يقال له المجتهد ، وهو الناظر المتصف بصفة الاجتهاد ؛ والثاني المجتهد فيه ، وهي المسائل الفرعية.

المطلب الثاني : في المجتهد

وفيه مباحث :

الأوّل : في شرائطه

وينظمها شيء واحد كون المكلّف بحيث يتمكّن من الاستدلال بالدلائل الشرعية على الأحكام. وهذه المكنة مشروطة بأمور (١) :

الأوّل : أن يكون عارفا بمقتضى اللفظ ومعناه ، وإلّا لم يستفد منه شيئا ، فيكون عارفا باللغة والوضع العرفي والشرعي لجواز النقل عنها.

الثاني : أن يعرف من حال المخاطب أنّه يعني باللفظ ما يقتضيه ظاهره ، إن تجرّد ، أو ما يقتضيه مع القرينة إن وجدت ، لأنّه لو لا ذلك لما حصل الوثوق بخطابه ، لجواز أن يعني به غير ظاهره مع أنّه لم يبيّنه. وذلك إنّما

__________________

(١) ذكرها الرازي في المحصول : ٢ / ٤٩٦.

١٦٨

يحصل بحكمة المتكلّم ، وعصمته ، والحكم بكونه تعالى حكيما مبني على العلم بأنّه تعالى عالم بقبح القبيح ، وبأنّه غني عنه. وإنّما يتمشّى ذلك على قواعد المعتزلة.

واعتذر الأشاعرة بأنّ جائز الوقوع عقلا قد يعلم عدم وقوعه ، كانقلاب ماء البحر دما ، كذا هنا يجوز من الله تعالى كلّ شيء لكنّه خلق فينا علما بديهيّا بأنّه لا يعني بهذه الألفاظ إلّا ظواهرها.

وليس بجيد ، لتعذّر العلم مع حصول التجويز للنقيض.

الثالث : أن يعرف تجرّد اللفظ أو اقترانه بقرينة إن كانت معه ، وإلّا لجاز فيما حكم بتجرّده أن يكون معه قرينة تصرفه عن ظاهره.

والقرينة إمّا عقلية يظهر بها ما يجوز إرادته من اللفظ ممّا لا يجوز. وإمّا سمعية وهي الأدلة المقتضية للتخصيص. وإمّا في الأعيان أو الأزمان كالنسخ ، أو المقتضية لتعميم الخاص كالقياس عند القائلين به ، وحينئذ يجب أن يعرف شرائطه.

ولمّا كانت الأدلّة السّمعية نقلية ، وجب أن يكون عارفا بالنقل المتواتر والآحاد ، وأن يعرف شرائطهما. ولمّا كانت الأدلّة قد تتعارض ولا يمكن العمل بجميعها ولا إهمالها ولا بالبعض محاباة (١) ، بل لا بدّ من العمل بالراجح منها ، وجب أن يكون عارفا بجهات الترجيح وطرقه.

والضابط ما قاله الغزالي هنا وهو : أنّ مدارك الأحكام أربعة : الكتاب

__________________

(١) في «أ» و «ب» : مجانا ، وفي «ج» : مجابا. والمحاباة أي التساهل والتطوّع بلا مرجّح.

١٦٩

والسنّة والإجماع والعقل ، فيجب معرفة هذه الأربعة ، ولا بدّ معها من أربعة أخرى : اثنان مقدّمان :

أ. معرفة شرائط الحدّ والبرهان على الإطلاق.

ب. معرفة النحو واللغة والتصريف ، لأنّ الأدلّة عربية وإنّما يمكن معرفة دلالتها بعد معرفة كلام العرب ، وما يتوقّف معرفة الواجب المطلق عليه فهو واجب.

وأمّا العلمان المؤخّران (١) فأحدهما يتعلّق بالكتاب ، وهو معرفة الناسخ والمنسوخ. والآخر بالسنّة وهو معرفة الرجال وجرحهم وتعديلهم ، والواجب الاقتصار هنا على تعديل الفقهاء والمشايخ السابقين ، لتعذّر معرفة أحوال الرجال مع طول المدة وكثرة الوسائط.

فهذه الأمور الثمانية لا بدّ من معرفتها.

ولا يشترط معرفة الكتاب العزيز بجملته ، بل ما يتعلّق بالأحكام ، وهو خمسمائة آية.

ولا يشترط حفظها أيضا ، بل أن يعرف مواقعها حتى يطلب الآية المحتاج إليها عند الحاجة.

وكذا السنّة يجب أن يعرف الأحاديث الدالّة على الأحكام ، وهي مع كثرتها مضبوطة في الكتب.

__________________

(١) في «أ» و «ب» : المتمّمان.

١٧٠

ولا يلزم حفظها أيضا ، بل أن يكون عنده أصل مصحّح شامل للأحاديث المتعلّقة بالأحكام الشرعية دون المواعظ والآداب وأحكام الآخرة.

وأمّا الإجماع فيجب أن يعرف مواقعه ، لئلّا يفتي بخلافه. وطريق ذلك أن يفتي بما يوافق قوله قول بعض الفقهاء المتقدّمين ، أو يظن تولد هذه الواقعة في عصره ولم يبحث أهل الإجماع عنها.

وأمّا العقل فيعرف البراءة الأصليّة ، وإنّا مكلّفون بالتمسك بها إلّا مع قيام دليل صارف عنه ، وهو : نص أو إجماع أو غيرهما.

هذا فيما يتعلّق بمعرفة الطرق الشرعية ؛ وأمّا ما يتعلّق بالأصولية فيجب أن يكون عارفا بالله تعالى وصفاته وما يجب له ويمتنع عليه ، لأنّه شرط في الإيمان ؛ وأن يعرف الرسول ، ويحكم بنبوته ، وما جاء به من الشرع المنقول بما ظهر من المعجزات.

ولا يشترط معرفته بدقائق علم الكلام والتبحّر فيه ، بل معرفته بما يتوقّف عليه الإيمان ، ولا يجب عليه قدرته على تفصيل الأدلّة بحيث يتمكّن من الجواب عن الشبهات والتخلّص عن الإيرادات.

وهذه شرائط المجتهد المطلق المتصدي للحكم والإفتاء في جميع مسائل الفقه. أمّا الاجتهاد في حكم بعض المسائل فيكفي فيه معرفته بما يتعلّق بتلك المسألة ، وما لا بدّ منه فيها. (١)

__________________

(١) هذا هو التجزؤ في الاجتهاد ، وقد تقدّم بيانه في مقدمة العلّامة السبحاني في هذا الجزء ص ٥٨.

١٧١

ولا يشترط معرفة المجتهد بجميع الأحكام والاطّلاع على مدارك جميع المسائل ، لأنّه غير مقدور للبشر.

البحث الثاني : في أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن متعبّدا بالاجتهاد

اختلف الناس في ذلك فالذي عليه الإمامية (١) والجبّائيان أنّه لم يكن متعبّدا بالاجتهاد في شيء من الأحكام. وقال الشافعي وأبو يوسف بالجواز. وقال آخرون : إنّه متعبّد بالاجتهاد في الحروب ، فأمّا في أحكام الدين فلا. وتوقّف الباقون. (٢)

لنا وجوه :

الأوّل : قوله تعالى : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)(٣) ، وقوله تعالى : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ)(٤) وهو ينفي أن يكون الحكم الصادر عنه بالاجتهاد.

الثاني : قال له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعض الصحابة في منزل نزله : «إن كان هذا بوحي من الله فالسمع والطاعة ، وإلّا فليس هو بمنزل مكيدة». فدلّ على جواز

__________________

(١) مر بيان ما هو الحق في هذه المسألة في مقدمة هذا الجزء لآية الله السبحاني : ٩ وما بعدها ، فراجع.

(٢) راجع المحصول : ٢ / ٤٨٩ ؛ الإحكام : ٤ / ١٧٢.

(٣) النجم : ٣ ـ ٤.

(٤) يونس : ١٥.

١٧٢

مراجعته في اجتهاده ، ولا تجوز مراجعته في أحكام الشرع فيلزم أن لا يكون فيها ما هو اجتهاده.

الثالث : الاجتهاد يفيد الظن خاصة ، والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قادر على معرفة الحكم من جهة القطع بالوحي من الله تعالى ، والقادر على العلم لا يجوز له الاكتفاء بالظن ، كمن يقدر على علم القبلة فإنّه لا يجوز له التقليد والرجوع إلى الظنّ.

الرابع : مخالفه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحكم كافر ، لقوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ)(١) ، والمخالف في الاجتهاد لا يكفّر ، لأنّ الرجل إذا اجتهد وأخطأ فله أجر واحد بحكم النص ، والمستوجب للأجر لا يحكم بكفره.

الخامس : لو جاز له العمل بالاجتهاد لما توقّف على نزول الوحي في شيء من الأحكام ؛ لأنّ حكم العقل في الكلّ كان معلوما له ، وطرق الاجتهاد كانت معلومة له ، فإذا حدث واقعة ليس فيها وحي كان مأمورا بالاجتهاد ، فلا يتوقّف عنه إلى نزول الوحي ، لكنّه توقّف كما في مسألة الظهار واللعان.

السادس : لو جاز له الاجتهاد لجاز لجبرئيل عليه‌السلام ، فلا يعلم أنّ الحكم الّذي نزل به من الله تعالى أو من اجتهاد جبرئيل عليه‌السلام.

السابع : الاجتهاد عرضة للخطإ والرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منزّه عنه معصوم عن

__________________

(١) النساء : ٦٥.

١٧٣

الزلل ، فلا يجوز استناد حكمه إلى ما يجوز أن يكون خطأ.

الثامن : الاجتهاد مشروط بعدم النص ، وهذا غير ثابت في حقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ الوحي متوقّع في حقّه في كلّ حالة ، وإذا انتفى الشرط انتفى المشروط.

التاسع : لو كان في الأحكام الصادرة عنه ما يكون عن اجتهاد لجاز أن لا يجعل أصلا لغيره.

العاشر : لو كان متعبّدا بالاجتهاد لأظهره ، لما فيه من فائدة الاقتداء والتأسّي به.

الحادي عشر : الأحكام الشرعية مبنية على المصالح الّتي لا علم للخلق بها ، فلو قيل له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : احكم بما ترى ، كان ذلك تفويضا إلى من لا علم له بالأصلح. وهو يقتضي اختلال المصالح الدينية والأحكام الشرعية.

الثاني عشر : لنا صواب في الرأي وصدق في الخبر ، وقد أجمعنا على أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليس له أن يخبر بما لا يعلم كونه صدقا ، فكذا لا يجوز له أن يحكم بما لا يعلم أنّه صواب.

الثالث عشر : لو جاز أن يتعبّده الله تعالى بالاجتهاد لجاز أن يرسل إليه رسولا ، ويجعل له أن يشرّع شريعة برأيه ، وأن ينسخ شرائع الله المنزلة على الأنبياء ، وأن ينسخ أحكاما أنزلها الله تعالى عليه برأيه ، وكلّ ذلك باطل.

الرابع عشر : لو جاز صدور الأحكام الشرعية عن رأيه واجتهاده لأورث

١٧٤

ذلك تهمة في حقّه ، وانّه هو الواضع للشريعة من تلقاء نفسه ، وهو مخلّ بمقصود البعثة ، وهو ممتنع.

اعترض على الأوّل بأنّ الآية تنصرف إلى ما ينطق به دون ما يظهر منه فعلا فمن أين ان كلّ ما فعله كان وحيا ؛ قاله قاضي القضاة. (١)

وقال أبو الحسين : إنّ قوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) لا يمنع من كونه مجتهدا ، لأنّ الحكم بالاجتهاد ليس هو عن هوى. (٢)

وقيل أيضا إنّه تعالى إذا قال له : مهما ظننت كذا فاعلم أنّ حكمي كذا ، فهنا العمل بالظن عمل بالوحي لا بالهوى. (٣)

وفيه نظر ، لأنّ القصد ليس النطق اللساني ، بل الحكم الشامل للذهن والنطق.

سلّمنا ، لكنّه إذا اجتهد فلا بد وأن ينطق بحكم اجتهاده والإخبار عمّا ظنّه من الحكم فتكون الآية متناولة له. ومن المعلوم أنّ ما ينطق به إذا كان مستنده الاجتهاد لم يكن عن وحي ولم يقتصر على قوله : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) حتى عقبه بقوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى) فيخرج عنه كون الاجتهاد ليس عن هوى.

وعلى قوله تعالى : (قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي) أنّه

__________________

(١) نقله عنه أبو الحسين البصري في المعتمد : ٢ / ٢٤٢.

(٢) المعتمد : ٢ / ٢٤٢.

(٣) القائل هو الرازي في المحصول : ٢ / ٤٩٢.

١٧٥

يدلّ على أنّ تبديله للقرآن ليس من تلقاء نفسه بل بالوحي ، والنزاع إنّما وقع في الاجتهاد.

وفيه نظر ، لأنّه عقبه بقوله : (إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) ، وهو يدلّ على عدم تخصيص التبديل.

وعلى الثاني. بأنّ ذلك إنّما يدلّ على جواز مراجعته في الآراء الّتي ليست من الأحكام ، كالآراء في الحروب ، والأحكام الشرعية خارجة عن ذلك ؛ قاله أبو الحسين. (١)

وفيه نظر ، لدلالة الحديث على أنّ ما يكون بالوحي لا يجوز مراجعته فيه ، وما يكون بالرأي يجوز مراجعته ، سواء كان في الحرب أو غيره ، لجواز اشتمال النزول على حكم شرعي ، فالسائل لم يتعرّض لكونه شرعيا أو لا ، بل لكونه اجتهاديا أو لا.

وعلى الثالث (٢). بأنّ الاجتهاد إنّما يجوز فيما لم يوجد فيه نصّ ، وإذا كان كذلك لم يكن متمكّنا من معرفة الحكم بالنصّ.

وفيه نظر ، إذ كلّ قضية لا بدّ فيها من حكم معيّن وانّ الله تعالى عليه دليلا ، فإذا سأل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجب في حكمته تعالى إعلامه به.

وعلى الرابع (٣). أنّ الحكم مظنون أوّلا ، إلّا أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما أفتى به ، وجب

__________________

(١) المعتمد في أصول الفقه : ٢ / ٢٤٢.

(٢) المعترض هو الرازي في المحصول : ٢ / ٤٩٣.

(٣) المعترض هو الرازي في المحصول : ٢ / ٤٩٣.

١٧٦

القطع به ، كما في الإجماع الصادر عن الاجتهاد.

وفيه نظر ، لأنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على تقدير الاجتهاد لا يعلم الحكم قطعا ، فكيف يحصل لغيره العلم به مع نصّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتجويز خلافه؟

وعلى الخامس (١). أنّ العمل بالاجتهاد مشروط بالعجز عن وجدان النصّ ، فلعلّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يصبر مقدار ما يعرف به أنّ الله لم ينزل فيه وحيا.

وفيه نظر ، لأنّ الشرط إمّا عدم الوحي في الماضي ، أو في المستقبل. والثاني باطل ، إذ كلّ وقت يمكن حصول الوحي ، فلا يصلح أن يكون شرطا.

والأوّل باطل أيضا ، لأنّه عارف بما أوحي إليه.

وعلى السادس (٢). أنّه مدفوع بالإجماع.

وفيه نظر ، لأنّه إبطال للّازم ، وهو إحدى مقدّمات دليلنا.

وعلى السابع (٣). نمنع كون كلّ اجتهاد عرضة للخطإ ، لإجماع الصحابة على الاجتهاد.

وفيه نظر ، للفرق فإنّ الإجماع عندنا يشترط فيه قول المعصوم فلا يكون خطأ.

وعلى الثامن (٤). بأنّ المانع من الاجتهاد هو وجود النص لا إمكانه ، ثم

__________________

(١) المعترض هو الرازي في المحصول : ٢ / ٤٩٣.

(٢) المعترض هو الرازي في المحصول : ٢ / ٤٩٣.

(٣) المعترض هو الآمدي في الإحكام : ٤ / ١٨١.

(٤) المعترض هو الآمدي في الإحكام : ٤ / ١٨١.

١٧٧

ينتقض باجتهاد الصحابة في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وفيه نظر ، لأنّ المانع بالذات ليس إلّا التمكّن من حصول العلم إذ النص إنّما منع من هذه الحيثية والإمكان هنا متحقّق ، واجتهاد الصحابة ممنوع لما سبق في القياس.

وعلى التاسع. قال أبو الحسين : إنّ ذلك ليس من حقّ الاجتهاد على الإطلاق ، فإنّ الأمّة لو أجمعت عن اجتهاد ، وجب أن يجعل أصلا. (١)

وفيه نظر ، إذ الاجتهاد متساوي النسبة إلى كلّ مجتهد ، فليس البعض بالأصالة أولى من الآخر ، والإجماع عن اجتهاد ممنوع على ما تقدّم.

وعلى العاشر (٢). بأنّه لا مانع أن يكون متعبّدا بالاجتهاد وإن لم يظهره صريحا ، لمعرفة ذلك.

وفيه نظر ، فإنّ إخفاء مثل هذا الأصل العظيم غير جائز على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما لا يجوز إخفاء الكتاب والسنّة ، ولا نسلّم معرفة ذلك ، فإنّ أبا علي الجبائي ادّعى الإجماع على أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن متعبّدا بالاجتهاد ، فكيف يكون نقيض ذلك معلوما؟!

وعلى الحادي عشر (٣). بأنّه مبني على وجوب رعاية المصالح ، وهو ممنوع. وقد تقدّم جوابه.

__________________

(١) المعتمد في أصول الفقه : ٢ / ٢٤٢.

(٢) المعترض هو الآمدي في الإحكام : ٤ / ١٨٠.

(٣) المعترض هو الآمدي في الإحكام : ٤ / ١٨٠.

١٧٨

وعلى الثاني عشر (١). بالفرق ، فإنّ الإخبار بما لا يعلم كونه صدقا قد لا يأمن فيه الكذب وهو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه ، وذلك ممّا لا يجوز لأحد الإقدام عليه. والاجتهاد بخلافه ، إذ كلّ مجتهد مصيب.

وفيه نظر ، فإنّ المجتهد مخبر عن الله تعالى ، فاستلزم ما يستلزمه الخبر من المحذور ، ويمنع إصابة كلّ مجتهد على ما يأتي.

وعلى الثالث عشر (٢). بجواز ذلك فإنّه تعالى يفعل ما يشاء ، ولا قبح في أفعاله. وقد تقدّم جوابه.

وعلى الرابع عشر (٣). بانتفاء التهمة ، لصدقه فيما يدّعيه من تبليغ الأحكام بجهة الرسالة.

وفيه نظر ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينص على كلّ حكم حكمه بأنّه منزل من الله تعالى بوحي إليه ، وإلّا لكان الحكم الّذي اجتهده معلوما وهو ما عداه ، وليس كذلك.

واعلم أنّ السيد المرتضى رحمه‌الله جوّز ذلك عقلا لكن منع من وقوعه.

وهو مذهب جماعة. (٤)

واحتجّ المثبتون بوجوه (٥) :

__________________

(١) المعترض هو الآمدي في الإحكام : ٤ / ١٨٠.

(٢) المعترض هو الآمدي في الإحكام : ٤ / ١٨١.

(٣) المعترض هو الآمدي في الإحكام : ٤ / ١٨١.

(٤) راجع الذريعة إلى أصول الشريعة : ٢ / ٧٩٤.

(٥) ذكرها الرازي في المحصول : ٢ / ٤٩٠ ـ ٤٩١ ؛ والآمدي في الإحكام : ٤ / ١٧٢ ـ ١٧٥.

١٧٩

الأوّل قوله تعالى : (فَاعْتَبِرُوا)(١) وهو عام ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان أعلى الناس بصيرة ، وأكثرهم اطّلاعا على شرائط القياس ، وما يجب ويجوز معرفة المناط والفوارق ، وذلك مندرج تحت الآية ، فكان مأمورا به فكان فاعلا له ، وإلّا قدح في عصمته.

وفيه نظر ، بمنع دلالته على القياس كما تقدّم.

سلّمنا لكن يفارق الأمّة بتمكّنه من استعلام الحكم قطعا ، فلا يجوز له المصير إلى الظن ، والأصل فيه مع تسليم الدلالة على القياس أنّه واجب عند نزول الحادثة والظن بانتفاء النص في الماضي عليها. ولا خلاف في عدم ذلك في حقه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّه كان ينتظر الوحي فلا يكون مندرجا تحت العموم.

الثاني : إذا غلب على ظنّ تعليل الحكم بوصف ثمّ علم أو ظن وجوده في غيره ظن المساواة في الحكم ، وترجيح الراجح على المرجوح من مقتضيات العقول ، وهو يقتضي وجوب العمل بالقياس عليه.

ويرد عليه ما تقدّم من تمكّنه من العلم ، فلا يجوز الرجوع إلى الظن.

الثالث : العمل بالاجتهاد أشقّ من العمل بالنصّ فيكون أكثر ثوابا ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أفضل الأعمال أحمزها» (٢) أي أشقّها ، فلو لم يعمل

__________________

(١) الحشر : ٢.

(٢) تفسير الرازي : ٢ / ٢١٧ و ٢٣٣ وج ٤ / ١٥٢ وج ٥ / ١٥٦ ؛ تفسير البيضاوي : ١ / ٥٣٦ ؛ ـ

١٨٠