نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٥

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]

نهاية الوصول إلى علم الأصول - ج ٥

المؤلف:

الحسن بن يوسف بن علي المطّهر [ العلامة الحلّي ]


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-357-284-6
ISBN الدورة:
978-964-357-238-0

الصفحات: ٥٠٨

الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالاجتهاد مع أنّ الأمّة عملت به كانت الأمّة أفضل منه. وهو باطل إجماعا.

لا يقال : إنّه يقتضي أن لا يعمل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا باجتهاد ، لأنّه أفضل. وأيضا فإنّما يجب هذا المنصب لو لم يجد أعلى منه لكنّه وجده ، لأنّه كان يتمكّن من معرفة الأحكام بالوحي ، وهو أعلى من الاجتهاد.

لأنّا نجيب عن الأوّل. بأنّه غير ممكن ، فإنّ العمل بالاجتهاد مشروط بالنصّ على أحكام الأصول ، فلا يمكن العمل بالقياس في الجميع.

وعن الثاني. أنّ الوحي وإن كان أعلى درجة إلّا أنّه خال عن تحمّل المشقّة في استدراك الحكم ، ولا يظهر فيه أثر دقّة الخاطر ، وجودة القريحة ، وإذا كان فيه نوع فضيلة لم يجز خلوه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منه.

وفيه نظر ، فإنّ المشقّة إنّما تؤثر زيادة الثواب لو كان العمل الّذي اشتملت عليه مطلوبا للشارع ، أمّا إذا لم يكن مطلوبا فلا. ونحن نمنع من جواز الاجتهاد في حقّه على أنّا نمنع من اشتمال الاجتهاد على زيادة المشقّة ، بل جاز أن يكون في الوحي مشقّة زائدة على الاجتهاد بما يحصل له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الخوف والخشية من الله تعالى حال نزول الوحي عليه ؛ وجودة القريحة إنّما يحتاج إليها من قصرت فطنته عن بلوغ نهاية الكمال الإنسي ، وهو منتف في حقّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

ـ تفسير الآلوسي : ٢ / ٤٦ ؛ شرح نهج البلاغة : ١٩ / ٨٣ ؛ بحار الأنوار : ٦٧ / ١٩١ و ٢٣٧ وج ٧٩ / ٢٢٨.

١٨١

الرابع : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «العلماء ورثة الأنبياء» (١) فثبت له رتبة الاجتهاد ليرثوه عنهم. (٢)

لا يقال : المراد به في إثبات أركان الشرع.

لأنّا نقول : إنّه تقييد من غير دليل.

وفيه نظر ، إذ لا يجب أن يكون كلّ تكليف العلماء ممّا كلّف به الأنبياء عليهم‌السلام فإنّ المصير إلى الإجماع ثابت في حقّ العلماء دون الأنبياء عليهم‌السلام. وأيضا الإرث إنّما هو فيما يثبت للأنبياء ، ونحن نمنع من ثبوته لهم ، فالمراد الإرث في تبليغ الأحكام إلى العامّة.

الخامس : أنّ بعض السنن مضافة إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا يكون بالوحي ، وإلّا انتفت فائدة الإضافة ؛ كما لا يقال لمن أثبت حكما بالنص الظاهر الجلي عن الحاجة إلى الاجتهاد أنّه مذهب فلان ، فلا يقال : مذهب الشافعي وجوب الصلاة ، بخلاف ما إذا أثبته بضرب من الاجتهاد فإنّه يضاف إليه ، فكذا هنا.

وفيه نظر ، لمنافاة قوله تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى)، ويجوز

__________________

(١) سنن ابن ماجة : ١ / ٨١ ؛ سنن أبي داود : ٢ / ١٧٥ برقم ٣٦٤١ ؛ سنن الترمذي : ٤ / ١٥٣ برقم ٢٨٢٣ ؛ مجمع الزوائد : ١ / ١٢٦ ؛ الكافي : ١ / ٣٢ ح ٢ ، باب صفة العلم وفضله ، وص ٣٤ ح ١ باب ثواب العالم ؛ أمالي الصدوق : ١١٦ ح ٩٩ ؛ ثواب الأعمال : ١٣١ ؛ عوالي اللآلي : ١ / ٣٥٨ برقم ٢٩ وج ٢ / ٢٤١ برقم ٩ ؛ بحار الأنوار : ١ / ١٦٤ وج ٢ / ٩٢ و ١٥١ ح ٣١.

(٢) العبارة في المحصول كما يلي : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «العلماء ورثة الأنبياء» وهذا يوجب أن تثبت له درجة الاجتهاد ليرثوه عنه ، إذ لو ثبت لهم ذلك ابتداء لم يكونوا وارثين عنه.

أمّا قول العلّامة : «ليرثوه عنهم» يعني به : ليرث العلماء الاجتهاد عن الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

١٨٢

إضافة السنّة إليه فيما لم يتل الحكم فيه.

السادس : قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ)(١) وهو عام في المنصوص والمستنبط ، لأنّ كلا منهما يصدق عليه انّه ممّا أراه الله تعالى له. وقرره أبو علي الفارسي فقال : لا يجوز إراءة العين لاستحالتها في الأحكام ولا الاعلام وإلّا لوجب ذكر المفعول الثالث لوجود المفعول الثاني ، وهو الضمير الراجع إلى ما ، فإذن المعنى لتحكم بين الناس بما جعله الله لك رأيا.

وفيه نظر ، فإنّ مفهوم سياق الكلام تعليل الإنزال بالحكم بما اشتمل عليه المنزل ، وهو ينافي الاجتهاد. وما مصدرية ، فلا يرجع إليها ضمير ، فانتفى دليل فساد إرادة الإعلام.

السابع : قوله تعالى : (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)(٢) والمشاورة إنّما تكون فيما يحكم فيه بطريق الاجتهاد لا فيما يحكم فيه بطريق الوحي.

وفيه نظر ، لأنّه ليس في الأحكام الشرعية ، بل في المصالح العملية في الدنيا ومصالح الحرب ، وإلّا لكان مستفيدا للأحكام من اجتهاد غيره. وهو باطل قطعا ، وإلّا لكان ذلك الغير أكمل منه. ولا يستلزم المشاورة المصير إلى ما يذهب إليه القوم ، لجواز إرادة استعلام معرفة كلّ منهم بالحروب بحيث يفوض إلى كلّ من يستصلحه لشيء ذلك الشيء.

__________________

(١) النساء : ١٠٥.

(٢) آل عمران : ١٥٩.

١٨٣

الثامن : قوله تعالى بطريق العتاب في أسارى بدر وقد أطلقهم : (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ)(١) فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لو نزل من السماء إلى الأرض عذاب لما نجا منه إلّا عمر (٢) ، لأنّه كان قد أشار بقتلهم.

وفيه نظر ، لاستلزامه التخطئة له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو محال على ما بيّناه ، فلا يكون ذلك بطريق العتاب له ؛ ويلزم أن يكون عمر أفضل منه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيث حكم بالخلاص له دونه ، وهو باطل بالإجماع. فإذن الوجه أنّه كان مخيرا (٣) بالوحي بين قتل الكلّ وإطلاق الكلّ أو فداء الكلّ ، فأشار بعض الأصحاب بإطلاق (٤) البعض دون البعض ، فنزل العتاب لذلك البعض لا له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبهذا جاء بصيغة الجمع في قوله : (تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا)(٥) ومعلوم أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن كذلك.

التاسع : قوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)(٦) عاتبه على ذلك ونسبه إلى الخطأ. وهو لا يكون فيما حكم فيه بالوحي فلم يبق سوى الاجتهاد.

__________________

(١) الأنفال : ٦٧.

(٢) الإحكام : ٤ / ١٧٣. ولم نعثر عليه في المصادر الحديثية. راجع تعليق التنكابني على الرواية في كتابه سفينة النجاة : ٢٨٤.

(٣) في «أ» و «ج» : مخبرا.

(٤) في «د» : بفداء.

(٥) الأنفال : ٦٧.

(٦) التوبة : ٤٣.

١٨٤

وفيه نظر ، لأنّا بيّنّا امتناع الخطأ عليه ، فإن كان عتابا له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دون أصحابه ، فإنّما هو على ترك الأولى ، وهو راجع إلى مصالح الدنيا لا الأحكام الشرعية.

العاشر : قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في مكة : «لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها» فقال العباس : إلّا الإذخر قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إلّا الإذخر». (١) ومعلوم أنّ الوحي لم ينزل عليه في تلك الحال ، فكان الاستثناء بالاجتهاد.

وفيه نظر ، لأنّ الوحي إذا كان عامّا لم يجز الاستثناء إلّا لدليل ، ولو لم يكن بوحي لكان عن اجتهاد ويتعذّر ، بل يمتنع حصوله لو كان متعبّدا به في تلك الحال ، فإنّ سرعة الوحي أشدّ من سرعة الاجتهاد ، فالحكم بالتعذّر في الوحي يستلزم أولوية الحكم به في الاجتهاد.

لا يقال : إنّه مستند إلى اجتهاد سابق.

لأنّا نقول : فجاز استناده إلى وحي سابق ، ولأنّه ممتنع وإلّا لوجب عليه إظهاره إزالة للتلبيس باعتقاد العموم ، بل الحق انّه كان يريد الاستثناء فسبقه العباس.

الحادي عشر : روي الشعبي أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يقضي القضية

__________________

(١) صحيح البخاري : ٢ / ٩٥ ، باب في الجنائز ؛ وص ٢١٣ ، باب لا يعضد شجر الحرم ؛ صحيح مسلم : ٤ / ١٠٩ ، باب تحريم مكة وصيدها ؛ سنن ابن ماجة : ٢ / ١٠٣٨ ؛ سنن أبي داود : ١ / ٤٤٨ برقم ٢٠١٧ ؛ سنن النسائي : ٥ / ٢٠٣ ؛ مسند أحمد : ١ / ٢٥٣ و ٢٥٩ و ٣١٦ و ٣٤٨ ؛ الكافي : ٤ / ٢٢٦ ح ٣ ؛ من لا يحضره الفقيه : ٢ / ٢٤٦ برقم ٢٣١٦ ؛ وسائل الشيعة : ١٢ / ٥٥٧ ، ح ١ و ٤ ، باب تحريم صيد الحرم. وقد ورد الحديث باختلاف في الألفاظ.

١٨٥

وينزل القرآن بعد ذلك بغير ما كان قضى به ، فيترك ما كان قضى به على حاله ، ويستقبل ما نزل به القرآن ، والحكم بغير القرآن لا يكون إلّا بالاجتهاد.

وفيه نظر ، لاستلزامه التخطئة في الأحكام ، وهو محال عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أنّ الخبر مرسل فلا حجّة فيه. ونمنع أنّ الحكم بغير القرآن لا يكون إلّا بالاجتهاد ، بل يكون بالوحي ثمّ ينسخ بالقرآن ، وعلى هذا تحمل الرواية إن صحّت.

الثاني عشر : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي» (١) ولا يستقيم ذلك في ما كان بالوحي.

وفيه نظر ، لأنّ أفعال الحج لا بد وأن تكون بالوحي لعدم دلالة العقل على تفاصيلها. نعم لمّا بيّن له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحج قارنا ، فبادر ثم أوحي إليه فضيلة التمتع وأنّه ليس للقارن ذلك ، تأسف على المبادرة إلى القران وفوات العمرة.

البحث الثالث : في عدم جواز الخطاء عليه

اختلف القائلون بجواز الاجتهاد له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جواز الخطأ عليه في اجتهاده فالأكثر على المنع وجوزه الباقون بشرط أن لا يقرّ عليه وهذا البحث ساقط عنا من وجهين :

الأوّل : امتناع الخطأ عليه مطلقا ووجوب عصمته.

__________________

(١) سنن أبي داود : ١ / ٤٠١ برقم ١٧٨٤ ؛ سنن البيهقي : ٥ / ٦ ؛ عوالي اللآلي : ١ / ٤٥ برقم ٥٩ و ٢١٣ برقم ٦٧ وج ٢ / ٢٣٥ برقم ٣ ؛ بحار الأنوار : ٣٠ / ٦٣٢.

١٨٦

الثاني : امتناع تسويغ الاجتهاد له.

احتجّ المانعون (١) بأنّا مأمورون باتّباعه في الحكم لقوله تعالى : (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ)(٢) ولقوله : (فَاتَّبِعُوهُ)(٣) ، [ولقوله :](أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ)(٤) وغير ذلك من الآيات ، فلو جاز عليه الخطأ لكنّا مأمورين بالخطإ ، فلا يكون خطأ.

احتجّ الآخرون (٥) بقوله تعالى : (عَفَا اللهُ عَنْكَ)(٦) ، وهو يدلّ على أنّه أخطأ فيما أذن لهم.

وقال تعالى في أسارى بدر : (لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ)(٧) ، وهو يدلّ على الخطأ في أخذ الفداء.

وقال تعالى : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ)(٨) ويجوز الخطأ علينا فكذا عليه.

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّكم لتختصمون لديّ ولعلّ بعضكم ألحن بحجته من

__________________

(١) وهو مختار الرازي في المحصول : ٢ / ٤٩٣.

(٢) النساء : ٦٥.

(٣) الأنعام : ١٥٣ و ١٥٥.

(٤) النساء : ٥٩ ؛ النور : ٥٤.

(٥) راجع المحصول : ٢ / ٤٩٣ ـ ٤٩٤.

(٦) التوبة : ٤٣.

(٧) الأنفال : ٦٨.

(٨) الكهف : ١١٠.

١٨٧

غيره ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه فإنّما أقطع له قطعة من النار». (١)

ولأنّه يجوز أن يغلط في أفعاله فكذا في أقواله كغيره من المجتهدين.

والجواب عن الآيتين السابقتين ما تقدّم. وعن الثالثة أنّ المراد المماثلة في عدم العلم بالغيب ولهذا عقب بقوله : (يُوحى إِلَيَّ.) والقضاء حقّ ، والخطاء في طريقه من شهادة الزور أو الإقرار بالكذب ، ويمنع غلط أفعاله.

البحث الرابع : في الاجتهاد في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

اتّفق القائلون بالاجتهاد على جوازه بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. واختلفوا في جوازه في زمانه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فالأكثر جوّزوه عقلا ومنع منه الأقل.

واختلف القائلون بالجواز في أمور ثلاثة :

الأوّل : جوازه للقضاة والولاة في غيبته دون حضوره ، ومنهم من أطلق الجواز.

الثاني : منهم من قال : يجوز ذلك مطلقا إذا لم يوجد منع.

__________________

(١) صحيح البخاري : ٣ / ١٦٢ ، كتاب الشهادات وج ٨ / ٦٢ ، كتاب الحيل ؛ صحيح مسلم : ٥ / ١٢٩ ، باب الحكم بالظاهر ؛ سنن ابن ماجة : ٢ / ٧٧٧ ؛ سنن أبي داود : ٢ / ١٦٠ ؛ سنن الترمذي : ٢ / ٣٩٨ برقم ١٣٥٤ ؛ سنن النسائي : ٨ / ٢٣٣ و ٢٤٧ ؛ مسند أحمد : ٢ / ٣٣٢ وج ٦ / ٢٠٣ و ٢٣٠ ؛ الكافي : ٧ / ٤١٤ ح ١ ، باب أن القضاء بالبينات ؛ بحار الأنوار : ٧٣ / ٣٤٣. وقد وردت الرواية باختلاف في اللفظ.

١٨٨

ومنهم من قال : لا يكفي عدم المنع بل لا بدّ من الإذن فيه.

ومنهم من قال : السكوت عنه مع العلم بوقوعه كاف.

الثالث : اختلفوا في وقوع التعبّد به سمعا : منهم من قال : إنّه كان متعبّدا به ، ومنهم من توقّف كالجبائي ، ومنهم من توقّف في حق الحاضرين دون من غاب كالقاضي عبد الجبار. (١)

واعلم أنّ الوجه الجواز العقلي للحاضر فإنّه لا يمتنع عقلا أن يقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قد أوحي إليّ أنّكم مأمورون بالاجتهاد والعمل بما يقتضيه ظنكم.

وأمّا الغائب فلا شك في جوازه خصوصا عند تعذّر الرجوع إليه وضيق الوقت.

وأمّا وقوع التعبّد به للحاضرين فقال قوم لم يقع لوجهين (٢) :

الأوّل : لو اجتهد الصحابة في عصره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لنقل كما نقل اجتهادهم بعده.

اعترض بجواز قلّته فلم ينقل على أنّه قد نقل اجتهاد سعد بن معاذ.

الثاني : الصحابة كانت تفزع إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحوادث ، ولو جاز لهم الاجتهاد لفعلوه ولم يرجعوا إليه.

__________________

(١) راجع الإحكام : ٤ / ١٨١ ـ ١٨٢.

(٢) المحصول : ٢ / ٤٩٥.

١٨٩

اعترض بأنّهم فزعوا فيما لم يظهر وجه الاجتهاد أو تركوه لصعوبته وسهولة وجدان النص.

واحتجّ المثبتون بوجهين (١) :

الأوّل : انّه حكّم سعد بن معاذ في بني قريظة ، فحكم بقتل مقاتليهم وسبي ذراريهم ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة». (٢)

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمرو بن العاص وعقبة بن عامر الجهني (٣) لمّا أمرهما أن يحكما بين خصمين : «إن أصبتما فلكما عشر حسنات ، وإن أخطأتما فلكما حسنة واحدة». (٤)

اعترض بأنّه خبر واحد ، فلا يجوز التمسّك به في العلميات.

الثاني : أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر بالمشاورة ولا فائدة إلّا جواز الحكم على حسب الاجتهاد.

__________________

(١) المصدر نفسه.

(٢) إرشاد المفيد : ١ / ١١٠ ؛ سعد السعود : ١٣٩ ؛ بحار الأنوار : ٢٠ / ٢١٢ و ٢٣٦ و ٢٦٢ ؛ مستدرك الوسائل : ١١ / ١٢٨ ح ١٩ ؛ فتح الباري : ٧ / ٣١٧ ؛ الكشاف : ٣ / ٢٥٧.

(٣) هو عقبة بن عامر بن عبس بن عمرو بن عدي بن عمرو بن رفاعة الجهني ، أبو حماد ويقال أبو عامر ، صحب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وروى عنه. وشهد صفين مع معاوية ، وحضر فتح مصر مع عمرو بن العاص ، وولي مصر سنة ٤٤ ه‍ وعزل عنها سنة ٤٧ ه‍. ومات بمصر سنة ٥٨ ه‍. الأعلام : ٤ / ٢٤٠ ؛ تهذيب الكمال : ٢ / ٢٠٥ برقم ٣٩٧٨.

(٤) المحصول : ٢ / ٤٩٥. ولم نعثر عليه في المصادر الحديثية.

١٩٠

اعترض بأنّه في الحروب ومصالح الدنيا لا أحكام الشرع.

وأمّا في حقّ الغائب فالأكثر على جواز الاجتهاد كخبر معاذ.

البحث الخامس : في تجزّؤ الاجتهاد

اختلف الناس في أنّه هل يتجزأ الاجتهاد أو لا؟ فذهب جماعة إلى الجواز فينال العالم منصب الاجتهاد في حكم دون آخر ؛ فمن نظر في مسألة القياس ، فله الإفتاء في مسألة قياسية وإن لم يكن ماهرا في الحديث ؛ ومن عرف الفرائض جاز له الإفتاء فيها وإن جهل مسائل البيع وغيره.

واحتجّوا بوجهين :

الأوّل : أنّ مالكا كان فقيها إجماعا مع أنّه سئل عن أربعين مسألة فقال في ست وثلاثين : لا أدري ، فلو شرط في الفقه العلم بجميع الفتاوى لما جاز لمالك أن يفتي. وأجيب بجواز تعارض الأدلّة عنده أو أنّه عجز في تلك الحال عن المبالغة في النظر ، وإن كان في وقت آخر ناظرا.

الثاني : إذا اطّلع على دليل مسألة على الاستقصاء ، استوى هو والعالم بكلّ المسائل في العلم بتلك المسألة ، فكما جاز للثاني الإفتاء فكذا للأوّل.

اعترض بجواز أن يكون في بعض المسائل الّتي لا يعلمها تعلّق بهذه المسألة.

وفيه نظر ، لمنافاته الغرض ؛ ولأنّا لا نشترط الاستقصاء في جميع

١٩١

المسائل بل الأكثر ، فجاز أن يكون للأقل مدخل في مسائل الأكثر ، فلمّا لم يعتد بهذا التجويز فكذا هنا ؛ ولأنّ ذلك نادر فلا يعتدّ به في التكليف.

احتجّ الآخرون بأنّ ما يقدر جهله يجوز تعلّقه بالحكم المفروض.

واعترض بأنّ التقدير حصول جميع الأمارات في ظنّه إمّا عنه ، أو بعد تحرير الفضلاء السابقين الأمارات.

المطلب الثالث : ما فيه الاجتهاد

وهو كلّ حكم شرعي ليس فيه دليل قطعي ، فبالشرعي خرج العقلي ومسائل الكلام.

وقولنا : ليس فيه دليل قطعي ، خرج ما وجد فيه دليل قاطع ، كوجوب الصلوات الخمس والزكوات ، وما اتّفقت عليه الأمّة من المسائل الظاهرة.

وقال أبو الحسين : المسألة الاجتهادية هي الّتي اختلف فيها المجتهدون من الأحكام الشرعية. (١)

واعترض (٢) بأنّ جواز اختلاف المجتهدين فيها مشروط بكون المسألة اجتهادية ، فلو عرفنا كونها اجتهادية باختلافهم فيها ، لزم الدور.

وفيه نظر ، إذ لا دور في اشتراط جواز الاختلاف الشرعي بكون المسألة اجتهادية وتعريف الاجتهادية بما وقع فيها الخلاف بين العلماء.

__________________

(١) المعتمد في أصول الفقه : ٢ / ٣٩٧.

(٢) المعترض هو الرازي في المحصول : ٢ / ٥٠٠.

١٩٢

المطلب الرابع : في حكم الاجتهاد

وفيه مباحث :

الأوّل : في حكم المجتهدين في الأصول

خالف الجاحظ وأبو عبيد الله بن الحسن العنبري (١) سائر المسلمين في ذلك فذهبا إلى أنّ كلّ مجتهد في الأصول مصيب ، سواء أخطا أو لا ، ولم يريدا بذلك مطابقة الاعتقاد للمعتقد للعلم الضروري بفساده ، بل نفي الإثم والخروج عن عهدة التكليف. وباقي العلماء على فساده وانّه إثم لوجوه (٢) :

الأوّل : الله تعالى نصب الأدلّة القاطعة على هذه المطالب ومكّن العقلاء من معرفتها ، فوجب أن لا يخرجوا عن العهدة إلّا بالعلم.

الثاني : يعلم بالضرورة أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر اليهود والنصارى بالإيمان ، وذمهم على إصرارهم على عقائدهم ، وقاتل بعضهم ، وكان يكشف عمّن بلغ منهم

__________________

(١) هو عبيد الله بن الحسن بن حصين بن أبي الحر مالك بن الخشخاش بن جناب بن الحارث بن مخفر العنبري البصري القاضي ، روى عن : خالد الحذاء وداود بن أبي هند وسعيد الجريري. وروى عنه : إسماعيل بن سويد وخالد بن الحارث ، ورافع بن دحية المسلي. ولد سنة مائة ، وولي القضاء سنة سبع وخمسين ومائة ، وتوفّي في ذي القعدة سنة ثمان وستين ومائة. تهذيب الكمال : ١٩ / ٢٣ برقم ٣٦٢٧.

(٢) ذكرها الرازي في المحصول : ٢ / ٥٠٠ ـ ٥٠١.

١٩٣

ويقتله ، ومعلوم أنّ المعاند العارف ممّا يقلّ ، وإنّما الأكثر مقلّدة عرفوا دين آبائهم تقليدا ولم يعرفوا المعجزة.

الثالث : قوله تعالى : (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ)(١) ، وقوله تعالى : (وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ)(٢) وذمّ المكذّبين للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا لا ينحصر في الكتاب والسنّة.

الرابع : إجماع المسلمين على أنّهم من أهل النار ، ولو كانوا غير آثمين لما ساغ ذلك.

اعترض (٣) على الأوّل. بمنع نصب الأدلّة القاطعة وتمكين العقلاء من معرفتها ، خصوصا ونحن نرى الخلق مختلفين في الأديان والعقائد من زمن وفاة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويبعد أن يكون أحد منهم مكابرا.

سلّمنا ، لكن لا نسلّم اقتضاء ذلك أمرهم بالعلم ، فجاز أنّهم كانوا مأمورين بالظن الغالب ، سواء كان مطابقا أو لا. وحينئذ يعذر الآتي به.

ويدلّ على أنّ التكليف إنّما وقع بالظن : أنّ اليقين التام المتولّد من البديهيتين المرتبتين ترتيبا صحيحا متعسر ، ولا يصل إليه إلّا الآحاد فلا يقع التكليف به لجميع الخلق ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بعثت بالحنيفية السهلة السمحة» (٤) ،

__________________

(١) ص : ٢٧.

(٢) فصّلت : ٢٣.

(٣) راجع المحصول : ٢ / ٥٠١ ـ ٥٠٢.

(٤) مسند أحمد : ٥ / ٢٦٦ ؛ مجمع الزوائد : ٢ / ٢٦٠ وج ٤ / ٣٠٢ ؛ كنز العمال : ١ / ١٧٨ برقم ٩٠٠ ـ

١٩٤

ولا حرج أعظم من تكليف الإنسان في لحظة واحدة معرفة ما عجز الخلق عن معرفته في خمسمائة سنة.

ولأنّا نعلم أنّ الصحابة لم يكونوا عارفين بهذه الأدلّة والدقائق والجواب عن شبهات الفلاسفة ، كما لم يكونوا عارفين بدقائق الهندسة وعلم الهيئة والحساب مع أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حكم بإيمانهم.

سلّمنا أنّهم كلّفوا بالعلم لكن نمنع عقاب المخطئ والإجماع في محلّ الخلاف ممنوع.

وعلى الثاني. بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبلهم (١) لجهلهم بالحق مع إصرارهم على ترك التعلّم لا للجهل مطلقا ، فلعلّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالغ في إرشادهم ولم يلتفتوا إلى بيانه واشتغلوا باللهو والطرب ، وأمّا من بالغ في الطلب والبحث فيمنع أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قتله. سلّمنا قتله ، لكن نمنع عقابه.

وعلى الثالث بأنّه ذمّ الكافر ، والكفر لغة الستر ، وهو لا يتحقّق إلّا في المعاند الّذي عرف الدليل ثمّ أنكره ، أو المقلّد الّذي يعرف أنّه لا يعرف الدليل على صحّة الشيء ثمّ يقول به. أمّا العاجز المتوقّف الّذي بالغ في الطلب ولم يصل فلا يكون ساترا لما ظهر عنده ، فلا يكون كافرا.

__________________

ـ وج ٣ / ٣٤ برقم ٥٣٤١ و ٦٦٩ برقم ٨٤١٢ وج ٤ / ٣١٨ برقم ١٠٦٨٩ ؛ أمالي الطوسي : ٥٢٨ ، المجلس ١٩ ؛ عوالي اللآلي : ١ / ٣٨١ برقم ٣ ؛ بحار الأنوار : ٦٤ / ١٣٦ وج ٦٥ / ٣١٨ و ٣٤٦.

وقد ورد الحديث في هذه المصادر باختلاف في اللفظ.

(١) في «أ» و «ب» : قتلهم.

١٩٥

ثمّ احتجّا بأنّه تعالى ملك رحيم كريم ، واستقراء أحكام الشرع يدلّ على أنّ الغالب على الشرع التخفيف والمسامحة ، حتى لو احتاج إلى تعب في طلب الماء أسقط عنه فرض الوضوء ، فكيف يليق بكرمه ورحمته معاقبة من أفنى طول عمره في البحث والفكر؟!

وفي الأوّل نظر ، لأنّ المطلوب من المسائل الأصولية العلم ، فلو لم ينصب دليلا عليه ويمكّن منه ، لزم نسبته تعالى إلى القبيح ، وهو تكليف ما لا يطاق وهو محال ، ومنع تعسّر الوصول إلى العلم ؛ ونحن لا نوجب في اللحظة الواحدة معرفة ما عجز عنه الخلق في المدد المتطاولة ، بل نوجب الفكر في الأدلة وهي ظاهرة واضحة ، ولا يشترط معرفة الأدلّة على كلّ مسألة من فروع الأصول ، ولا الجواب عن الشبهات ، والإجماع على العقاب ثابت ، ولا عبرة بنزاعهما في خرقه.

وفي الثاني نظر ، لأنّ قتله على بقاء الكفر فيستدعي العقاب ، ونمنع المبالغة في الطلب والبحث مع عدم الوصول إلى الحق.

وفي الثالث نظر ، للإجماع على أنّ اسم الكافر لمن خالف الملّة الإسلامية ، سواء كان عن عناد أو لا ، والتغطية هنا ثابتة من حيث إنّه اعتقاد نقيض الحق. واحتجاجهما باطل بما تقدّم من منع عدم الوصول إلى الحقّ مع المبالغة في البحث والنظر ، بل الواجب مع استيفاء النظر والبحث الوصول إلى الحق ؛ وقد تأوّل بعض المعتزلة قول الجاحظ والعنبري بالحمل على المسائل الكلامية المختلف فيها بين المسلمين ، ولا يكفر مخالفها ، كمسألة

١٩٦

الرؤية وخلق الأعمال وقدم الكلام وغير ذلك ، لأنّ الأدلّة فيها ظنّية متعارضة ، والمشهور غير ذلك.

البحث الثاني : في حكم الاجتهاد في المسائل الشرعية

اختلف الناس في المجتهد المخطئ في الأحكام الشرعية هل هو مأثوم أم لا؟ والأكثر على عدم تأثيمه ، وقال بعض الإمامية (١) والظاهرية وبشر المريسي وابن علية وأبو بكر الأصم (٢) إلى أنّ الحق متعيّن في كلّ مسألة وعليه دليل ، فمن أخطأه فهو آثم لكنّه ليس بكافر ولا فاسق. (٣)

احتجّ الأوّلون (٤) بالنقل المتواتر أنّ الصحابة اختلفوا فيما بينهم في المسائل الفقهية واستمروا على الاختلاف إلى أن انقرضوا ، ولم ينكر أحد منهم على غيره ، ولا حكم بتأثيمه ، لا على سبيل الإبهام ولا التعيين ، مع العلم بأنّه لو خالف أحد في وجوب العبادات الخمس وتحريم الخمر والزنا لبادروا إلى تخطئته وتأثيمه ، فلو كانت [المسائل] الاجتهادية كذلك في كونها قطعية ومأثوما على المخالفة فيها ، لبالغوا في الإنكار والتأثيم كما بالغوا في الإنكار على المخالف في وجوب الصلوات الخمس.

__________________

(١) لاحظ ما كتبه العلّامة السبحاني حول التخطئة والتصويب في مقدمة هذا الجزء ص ٦٧.

(٢) هو أبو بكر عبد الرحمن بن كيسان الأصم ، فقيه معتزلي مفسّر ، له مناظرات مع ابن الهذيل ، قال ابن المرتضى : كان يخطئ عليا عليه‌السلام في كثير من أفعاله ويصوّب معاوية في بعض أفعاله ، توفّي نحو ٢٢٥ ه‍. الأعلام : ٣ / ٣٢٣.

(٣) راجع الإحكام : ٤ / ١٨٨ ـ ١٨٩.

(٤) وهو مختار الآمدي في الإحكام : ٤ / ١٨٩.

١٩٧

واحتجّ الآخرون بأنّ الإنكار قد وقع من بعضهم على بعض في العمل بالرأي والاجتهاد في المسائل الفقهية ، كما تقدّم في القياس.

ولأنّ الحكم واحد معين على ما يأتي ، فلا بدّ له من دليل يتمكّن كلّ مكلّف بالحكم من الوصول إليه ، وإلّا لزم تكليف ما لا يطاق ؛ وكلّ مكلّف بالحكم مكلّف بإقامة الدليل المنصوب عليه ، وإلّا كان الحكم تشهيا ، وهو محال. فالمخطئ إمّا أن يكون لتقصيره في الاجتهاد فيكون مأثوما بترك ما كلف به ، أو لعدم تمكّنه من الوصول إلى الحكم ، وهو محال لاستلزامه التكليف بما لا يطاق.

البحث الثالث : في أنّ المجتهد في الفروع مطلقا هل هو مصيب أم لا؟

اختلف الناس في أنّ كلّ مجتهد في الأحكام الشرعية هل هو مصيب أم لا؟

وتقريره أن يقال : المسألة الاجتهادية إمّا أن يكون لله تعالى فيها قبل الاجتهاد حكم معين ، أو لا.

والثاني : قول من حكم بإصابة كلّ مجتهد. وهو قول أبي الحسن الأشعري والقاضي أبي بكر من الأشاعرة ، ومن المعتزلة قول أبي الهذيل العلّاف وأبي علي وأبي هاشم وأتباعهم. (١)

__________________

(١) راجع المحصول : ٢ / ٥٠٣.

١٩٨

واختلف هؤلاء فمنهم من قال بالأشبه ، وهو أنّه وإن لم يوجد في الواقعة حكم ، إلّا أنّه وجد ما لو حكم الله تعالى بحكم لما حكم إلّا به. وهو منسوب إلى كثير من المصوّبين.

وامّا أن لا يقال بذلك أيضا ، وهو قول باقي المصوّبين.

وأمّا الأوّل : وهو أنّ في الواقعة حكما معينا ، فذلك الحكم إمّا أن لا يكون عليه أمارة ولا دلالة ، أو يكون عليه أمارة لا دلالة ، أو يكون عليه دلالة.

أمّا الأوّل ، وهو حصول الحكم من غير دلالة ولا أمارة ، وهو قول جماعة من الفقهاء والمتكلّمين ، قالوا : وهذا الحكم مثل دفين يعثر عليه الطالب اتفاقا ، فلمن عثر عليه أجران ، ولمن اجتهد ولم يصبه فله أجر واحد على ما تحمله من الكد في الطلب لا على حرمان الإصابة.

وأمّا الثاني ، وهو أنّ عليه أمارة ، فهو قول جماعة ، واختلفوا :

فقال بعضهم : إنّ المجتهد لم يكلف بإصابة ذلك الدليل الظني لخفائه وغموضه ، فلهذا عذر المخطئ وأجر عليه. وهو قول الفقهاء كافة ونسب إلى الشافعي وأبي حنيفة.

وقال آخرون : بأنّه مأمور بطلبه أوّلا فإن أخطأ وغلب على ظنّه شيء آخر تغيّر التكليف وصار مأمورا بالعمل بمقتضى ظنه ، وسقط عنه الإثم تحقيقا. (١)

__________________

(١) راجع المحصول : ٢ / ٥٠٤.

١٩٩

وأمّا الثالث ، وهو أنّ عليه دليلا قطعيا فهؤلاء اتّفقوا على أنّ المجتهد مأمور بطلبه لكن اختلفوا في موضعين (١) :

أحدهما : المخطئ هل يستحق الإثم أو لا؟ فذهب بشر المريسي إلى أنّه يستحقّ الإثم ، ونفاه الباقون.

ثانيهما : هل ينقض قضاء القاضي فيه؟ قال الأصمّ : ينقض. وخالف فيه الباقون ، والأقوى في هذه المطالب انّ لله تعالى في كلّ واقعة حكما معينا ، وأنّ عليه دليلا ظاهرا لا قاطعا ، وأنّ المخطئ فيه معذور ، وأنّ قضاء القاضي لا ينقض به.

بيان تعيين الحكم وجوه (٢) :

الأوّل : إذا اعتقد أحد المجتهدين رجحان أمارة الثبوت والآخر رجحان أمارة العدم ، فأحد الاعتقادين خطأ ؛ لأنّ إحدى الأمارتين إن كانت راجحة ، كان اعتقاد رجحانه صوابا واعتقاد رجحان الآخر غير مطابق للمعتقد فيكون خطأ ؛ وإن لم تكن إحداهما راجحة ، كان كلّ من الاعتقادين غير مطابق للمعتقد فلا يكون الاعتقادان مطابقين معا ، بل أحدهما بخلاف المعتقد قطعا ، فيكون أحدهما خطأ ، فلا يكون كلّ مجتهد مصيبا بمعنى كون اعتقاده مطابقا للمعتقد.

ولأنّ الاعتقاد الّذي لا يكون مطابقا للمعتقد جهل ، والجهل بإجماع

__________________

(١) ذكرهما الرازي في المحصول : ٢ / ٥٠٤.

(٢) راجع المحصول : ٢ / ٥٠٤ ـ ٥١١ ؛ الإحكام : ٤ / ١٩١ ـ ١٩٦.

٢٠٠