المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

اعلم : أن مذهبنا ذلك. وأما المعتزلة فإنهم ينكرون أشد الإنكار.

ويدل على صحة قولنا : المعقول والمنقول.

أما المعقول فوجوه :

البرهان الأول : وهو أن الكافر المقدم على الكفر إن لم يكن متمكنا من الإيمان فقد حصل المطلوب ، وإن كان متمكنا منه كانت قدرته بالنسبة إلى الضدين على السوية. فإقدامه على الكفر دون الإيمان ـ مع أن ضده كان ممكنا ـ إما أن يستغني عن المرجح أو يفتقر إليه. فإن كان الأول لزم استغناء الممكن عن المرجح. وهو محال. وإن كان الثاني فذلك المرجح ، إن كان من العبد عاد التقسيم فيه ، وإن كان من الله تعالى ، فهو المطلوب. لأنه ظهر أن الكافر ما أقدم على الكفر إلا لأجل أن الله تعالى قوى تلك الداعية في قلبه ، وقد دللنا على أنه متى حصلت الداعية المرجحة ، فإنه لا بد من [الوجوب (١)] وهذا برهان قاطع لا محيص عنه (٢).

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) برهان ليس قاطعا. لأنه افترض المرجح بين الله والإنسان. ومن الممكن افتراض المرجح من الإنسان نفسه. أي أن الإنسان إذا ظهر له خير وظهر له شر. فإن الإنسان يمكنه بنفسه ترجيح جانب الخير ، أو ترجيح جانب الشر ، ومن الممكن افتراض المرجح في ذات الشيء نفسه. على ـ

٣٨١

البرهان الثاني : إن العبد قصد الحق والإيمان. فلما حصل الباطل والكفر. علمنا : أن ذلك ليس منه بل من الله.

البرهان الثالث : العبد ما لم يعرف أن هذا الاعتقاد علم لا جهل ، يمكنه أن يقصد إلى إيجاد العلم بدلا عن الجهل ، وإنما يعلم كون هذا الاعتقاد علما ، إذا علم أنه مطابق للمعلوم. وإنما يعلم ذلك إذا علم حال المعلوم. وإلا فيلزم أن تكون قدرته على تحصيل العلم بالشيء مشروط بحصول العلم بذلك الشيء. وإنه محال. وهذه الدلائل قد بيناها في الباب الأول من هذا الكتاب. فلا فائدة في الإعادة.

أما الدلائل السمعية : فاعلم : أنه تعالى ذكر أنواعا من الموانع في كتابه. ونحن [نكتفي بإيراد نوع من هذه الموانع. وهو أنه تعالى قد يضل بعض المكلفين (١)].

بيان أنه تعالى قد يضل بعض المكلفين

ويدل عليه آيات :

الحجة الأولى : قوله تعالى (يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) واعلم : أن هذه الآية وردت في القرآن الكريم في خمس مواضع. أحدها : في سورة إبراهيم قال تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ ، لِيُبَيِّنَ لَهُمْ. فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ ، وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٢) وثانيها : في سورة الرعد (وَيَقُولُ

__________________

ـ طريقة الحسن والقبح الذاتيين فترجيح الإيمان على الكفر ، لأنه في ذاته به مميزات لا توجد في الكفر ، بسببها ، اختاره الإنسان. وإذا ما افترض أنه كيف يقع في ملك الله ما لا يريده الله؟ فإن الافتراض مدفوع بأن الله أراد في الأزل أن يترك الإنسان حرا ، وقد خلقه ومنحه الحرية ، والقدرة على أن يفعل أو لا يفعل. ولمزيد من البيان راجع مسألة إرادة الكائنات في كتاب الإرشاد للجويني.

(١) عبارة الأصل : «ونحن نفرد لكل واحد منها فصلا. الفصل الأول في بيان أنه تعالى قد يضل بعض المكلفين» وليس في الأصل إلا هذا الفصل.

(٢) سورة إبراهيم ، آية : ٤ وفي تفسير الكشاف في هذه الآية : إنها مثل قوله تعالى : (فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ) لأن الله لا يضل إلا من يعلم أنه لن يؤمن ، ولا يهدي إلا من يعلم أنه يؤمن.

٣٨٢

الَّذِينَ كَفَرُوا : لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ. قُلْ إِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ ، وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ) (١) وثالثها : في سورة النحل (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً. وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٢) ورابعها : في سورة الملائكة (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ ، فَرَآهُ حَسَناً؟ فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٣) وخامسها : في سورة المدثر ، وذلك أنه تعالى قدم بيان امتحان الفريقين بعدة ملائكة النار ، ثم قال : (كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (٤) فإن قيل : دلت الدلائل على أنه لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآيات خلق الكفر والضلال ، وإذا كان كذلك ، وجب المصير إلى التأويل.

أما بيان المقام الأول : فمن وجوه :

الأول : إنا سنذكر الدلائل العقلية والنقلية على أنه لا يجوز من الله تعالى أن يخلق الكفر والجهل في المكلف.

الثاني : إن تفسير الإضلال بخلق الجهل غير جائز بحسب اللغة. أما أولا : فلأن من منع غيره من سلوك طريق كرها وجبرا ، فإنه لا يقال في اللغة الصحيحة : إنه أضله عن الطريق ، بل يقال : إنه منعه وصرف عنه ، وإنما يقال : أضله عن الطريق إذا لم يرد عليه وارد من الشبه ، ما لأجله التلبس عليه الصواب. وأما ثانيها : فلأنه تعالى وصف إبليس وفرعون بكون [كل واحد منهما (٥)] مضلا. قال تعالى حكاية عن إبليس : (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ) (٦) وقال تعالى : (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ) (٧) ثم إنا توافقنا على أنهما ما كانا خالقين للضلال في

__________________

والمراد بالإضلال : التخلية ومنع الألطاف. وبالهداية : التوفيق واللطف. فكان ذلك كناية عن الكفر والإيمان».

(١) سورة الرعد ، آية : ٢٧.

(٢) سورة النحل ، آية : ٩٣.

(٣) سورة فاطر ، آية : ٨.

(٤) سورة المدثر ، آية : ٣١.

(٥) زيادة.

(٦) سورة النساء ، آية : ١١٩.

(٧) سورة طه ، آية : ٧٩.

٣٨٣

قلوب من أتبعهما. أما عند الجبرية فلأن العبد لا يقدر على الإيجاد ، وأما عند القدرية فلأن العبد لا يقدر على هذا النوع من الإيجاد. ولما حصل اسم الضلال في هذه السورة ، مع أنه لم يحصل فيها خلق الجهل والضلال ، علمنا : أن الإضلال غير موضوع في اللغة لخلق الضلال. وأما ثالثها : فلأن الإضلال في مقابلة الهداية ، فكما صح أن يقال : هديته فما اهتدى ، وجب صحة أن يقال : أضللته فما ضل. وإذا كان كذلك ، امتنع حمل لفظ الإضلال على خلق الإضلال.

الوجه الثالث في بيان أن لفظ الإضلال في هذه الآيات لا يمكن حمله على خلق الضلال هو أن هذا التفسير لا يليق بهذه الآيات الخمس. وذلك لأن قوله تعالى (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللهُ مَنْ يَشاءُ) (١) وكيف يجوز أن يقال : إني لم أرسل رسولا إلا بلسان قومه ليبين لهم الغرض من التكاليف ، ثم يقول بعده : إني أضللتهم عن الدين؟ فإنه لا تعلق لهذا الكلام بما قبله ، ويصير الكلام ركيكا.

فثبت بهذه الوجوه : أنه لا يمكن أن يكون المراد من قوله «يضل من يشاء» خلق الكفر والجهل فيهم. وإذا ظهر هذا ، علمنا أن المراد منه شيء آخر. وحينئذ لا نحتاج إلى تعيين ذلك المراد في مقام الجدل.

ثم إنا نبين وجوها كثيرة تحتملها هذه الآية :

فالتأويل الأول : إن الرجل إذا ضل باختياره عند حضور شيء من غير أن يكون لذلك أثر في ضلاله. فيقال لذلك الشيء : إنه أضله. قال تعالى في حق الأصنام : (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ) (٢) أي ضلوا عند رؤيتها. وقال تعالى : (وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً. وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً) (٣) أي ضل كثير من الناس عند رؤيتهم. وقال : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ

__________________

(١) سورة إبراهيم ، آية : ٤.

(٢) سورة إبراهيم ، آية : ٣٦.

(٣) سورة نوح ، آية : ٢٣ ـ ٢٤.

٣٨٤

مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً) (١) وقال أيضا : (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) (٢) أي لم يزدادوا بدعائي لهم إلا فرارا. وقال أيضا : (فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا ، حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي) (٣) ومعلوم : أنهم لم ينسوهم في الحقيقة ، بل كانوا يذكرونهم الله ويدعونهم إليه. لكن لما كان استغناؤهم بالسخرية منهم سببا في نسيانهم ، أضيف النسيان إليهم. وقال أيضا في سورة التوبة : (وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً ، وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ، فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ) (٤) فأخبر سبحانه : أن نزول السورة المشتملة على الشرائع تفرق أحوالهم. فمنهم من يصلح عند نزولها ، فيزدادوا إيمانا ، ومنهم من يفسد حينئذ ، فيزدادوا كفرا. فلا جرم أضيفت الزيادة في الإيمان ، والزيادة في الكفر ، إلى السورة لأجل أن تلك الزيادة إنما حصلت عند نزول تلك السورة.

إذا عرفت هذا فنقول : إنما أضيف الهدى والإضلال إلى الله تعالى على هذا الوجه ، وذلك لأنهما لو كانا يحدثان من العبد عند فعل مخصوص يفعله الله تعالى ، لا جرم أضيفا إلى الله تعالى ، وإن كانا في الحقيقة إنما يحصلان بإيجاد العبد وتكوينه.

والتأويل الثاني : إن الأصل هو التسمية بالضلال. يقال : أضله. أي سماه ضالا وحكم عليه به. وحكم (٥) فلان على فلان بالكفر ، إذا سماه كافرا.

وأنشدوا بيت «الكميت»

وطائفة قد أكفروني بحبكم

وطائفة قالوا : مسيء ومذنب

__________________

(١) سورة المائدة ، آية : ٦٨.

(٢) سورة نوح ، آية : ٦.

(٣) سورة المؤمنون ، آية : ١١٠.

(٤) سورة التوبة ، آية : ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٥) في الأصل : تصحيف.

٣٨٥

وقال «طرفة» :

وما زال شربي الراح حتى أضلني

صديقي ، وحتى ساءني بعض ذلك

أراد سماني ضالا. وهذا الوجه مما ذهب إليه جمع عظيم من المعتزلة.

والتأويل الثالث : الإضلال مفسر بالتخلية وترك المنع بالقهر والجبر. يقال : أضله أي خلاه مع ضلاله. قالوا : ومجازه من قولهم : أفسد فلان ابنه وأهلكه وذم عليه. إذا لم يؤدبه.

وقال بعضهم :

أضاعوني. وأي فتى أضاعوا

ليوم كريهة وسداد ثغر

ويقال لمن ترك سيفه في الأرض الندية ، حتى فسد وصدأ : أفسدت سيفك.

والتأويل الرابع : الضلال هو العذاب والإضلال هو التعذيب. والدليل عليه : قوله تعالى : (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ. يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ، ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ) (١) فوصفهم الله تعالى بأنهم يوم القيامة في ضلال. وذلك الضلال ليس إلا العذاب. وقال تعالى : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ ، وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ : أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ؟ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا ، بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً. كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) (٢) وهذه الآية تدل على أن الضلال المذكور في هذه الآية هو العذاب.

والتأويل الخامس : أن يحمل الإضلال على الهلاك قال تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) (٣) قيل : أبطلها وأهلكها. ومجازه : من قولهم : ضل الماء في اللبن ، إذا صار مستهلكا فيه. ويقال : أضللته أنا : إذا أهلكته وصيرته كالمعدوم. ومنه يقال : أضل القوم رئيسهم. إذا واروه في قبره فأخفوه حتى صار لا يرى.

__________________

(١) سورة القمر ، آية : ٤٧ ـ ٤٨.

(٢) سورة غافر ، آية : ٧١ ـ ٧٤.

(٣) أول سورة محمد ،

٣٨٦

قال «النابغة»

وآب مضلّوه بعين خلية

وغودر بالجولان خرم ونائل

وقال تعالى : (أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) (١)؟ أي صرنا مدفونين في الأرض وخفيت أشخاصنا.

والتأويل السادس : حمل الإضلال على الإضلال عن طريق الجنة. قالت المعتزلة : وهذه في الحقيقة ليست تأويلا ، بل حملا للفظ على ظاهره. فإن الآية تدل على أنه تعالى يضلهم ، وليس فيها دلالة على أنه عما ذا يضلهم؟ فنحن نحملها على أنه تعالى يضلهم عن طريق الجنة. ثم حملوا كل ما في القرآن من هذا الجنس على هذا المحمل (٢) وهو اختيار الجبائين. قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْهِ : أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ. فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ ، وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ) (٣) أي يضله عن طريق الجنة.

والتأويل السابع : أن [لا (٤)] تحمل الهمزة في لفظ الإضلال على التعدية ، بل على الوجدان. قال عمرو بن معدي كرب ، لبني سليم : «قاتلناكم فما أجبناكم ، وهاجيناكم فما أفحمناكم ، وسألناكم فما أبخلناكم» : أي ما وجدناكم جبناء ولا بخلاء ولا مفحمين. ويقال : أتيت أرض قوم فأعمرتها ، أي وجدتها عامرة.

__________________

(١) سورة السجدة ، آية : ١٠.

(٢) في مجمع البيان : (كُتِبَ عَلَيْهِ : أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ. فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ) معناه : أنه يتبع كل شيطان. كتب الله على ذلك الشيطان في اللوح المحفوظ : أنه يضل من تولاه. فكيف يتبع مثله ويعدل بقوله عمن دعاه إلى الرحمة. وقيل : معناه : كتب على الشيطان : أنه من تولاه أضله الله تعالى. وقيل : معناه : كتب على المجادل بالباطل : أن من أتبعه ووالاه يضله عن الدين». وفي تفسير الكشاف : «ويتبع» في ذلك خطوات «كل شيطان» عات. علم من حاله وظهر وتبين أنه من جعله وليا له ، لم تثمر له ولايته إلا الإضلال عن طريق الجنة والهداية إلى النار. وما أرى رؤساء أهل الأهواء والبدع والحشوية ، المتلقبين بالإمامة في دين الله ، إلا داخلين تحت كل هذا دخولا أوليا. بل هم أشد الشياطين إضلالا وأقطعهم لطريق الحق ، حيث دونوا الضلال تدوينا ، ولقنوا أشياعهم تلقينا ... الخ».

(٣) سورة الحج ، آية : ٤.

(٤) زيادة.

٣٨٧

والجواب :

أما قوله : «الدلائل العقلية دلت على أنه لا يجوز أن يخلق الله الكفر في العبد» قلنا : الدلائل العقلية التي يذكرونها لا تزيد على فعل المدح والذّم. وذلك مبني على الحسن والقبح العقليين. وسنبين أن هذه القاعدة في غاية الضعف. أما دليلنا (١) العقلي : فإن ميل القلب إلى جانب الضلال ، بدلا عن جانب الهدى ، لا يمكن إلا لمرجح. وذلك المرجح ليس إلا الله. فوجب أن يكون ترجيح جانب الضلال. وهذا برهان قاطع لا يحتمل التأويل. فثبت : أن البرهان ليس إلا من جانبنا.

قوله : «تفسير الإضلال لا يرى في اللغة» قلنا : الإضلال عبارة عن أن يعمل به عملا ، فلا يدعوه ذلك العمل إلى فعل الضلال. وإذا زين الله في قلبه ذلك الفعل ، وقبح عنده ضده ، دعاه ذلك التزيين إلى فعل ذلك الشيء. فكان ذلك التزيين إضلالا. ولا شك ان هذا المعنى يسمى بالإضلال ، بحسب اللغة.

قوله : «إنه تعالى حكم على فرعون وإبليس والسامري بكون كل واحد منهم مضلا ، مع أن أحدا منهم لا يقدر على خلق الضلال» قلنا : إن الإضلال هو فعل ما يدعو إلى الضلال. سواء كان ذلك [بسبب (٢)] الأمر به ، والترغيب فيه. كإضلال فرعون وإبليس ، أو بسبب خلق الداعية الموجبة لذلك. كما في حق الله تعالى.

قوله : «إنه تعالى أضله فما أضل» قلنا : المفهوم من الإضلال فعل ما يقتضي ترجيح جانب الضلال. ثم إن المقتضى قد يصير معارضا بشيء آخر ، فيخرج عن كونه مقتضيا. وقد لا يصير كذلك.

قوله : «حمل لفظ الضلال في هذه الآيات على خلق الكفر والضلال يوجب الركاكة» قلنا : لا نسلم.

قوله : «كيف يليق أن يقول : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ

__________________

(١) دليل فالعقلي (م).

(٢) من (ط).

٣٨٨

قَوْمِهِ) (١) لأجل أن يكون البيان كافيا تاما. ثم يقول عقيبه : إني أخلق الجهل في البعض ، والعلم في البعض»؟ قلنا : إنه تعالى بين أنه بعث الرسول إليهم بلسانهم ، حتى يكمل البيان ، ويظهر الدليل ، ولكنه يضل البعض ويهدي البعض ، ومع ذلك لا يظهر أنه لا يكفي في حصول الهداية تكميل البيان ، وإيضاح الحجة والبرهان. بل الدلائل وإن ظهرت ، والبراهين وإن بهرت ، إلا أنه ما لم يخلق الله الهداية ، لم يحصل المقصود. وهذا الكلام من هذا الوجه في غاية الانتظام. ونظيره قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ ، وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى ، وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ، ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (٢).

فثبت : أن الدلائل التي ذكروها في بيان أنه لا يمكن حمل لفظ الإضلال على خلق الإضلال ، كلها واهية ساقطة. وإذا كانت حقيقة لفظ الإضلال هو خلق الضلال ، وثبت : أن الأصل في الكلام هو الحقيقة ، وجب حمل اللفظ عليه ، والإعراض عما ذكروه من التأويلات ، وحمل اللفظ على المجازات (٣).

والله أعلم

__________________

(١) سورة إبراهيم ، آية : ٤.

(٢) سورة الأنعام ، آية : ١١١. وفي مجمع البيان في تفسير القرآن للشيخ أبي علي الفضل بن الحسن الطبرسي : (ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا) عند هذه الآيات : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) أن يجبرهم على الإيمان. عن الحسن ـ وهو المروي عن أهل البيت (ع) والمعنى : أنهم قط لا يؤمنون مختارين ، إلا أن يكرهوا (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ) أن الله قادرا على ذلك. وقيل : معناه يجهلون أنهم لو أتوا بكل آية ما آمنوا طوعا. وقيل : معناه يجهلون مواضع المصلحة فيطلبون ما لا فائدة فيه. وفي الآية : دلالة على أن الله سبحانه لو علم أنه إذا فعل ما اقترحوه من الآيات آمنوا لفعل ذلك. ولكان ذلك من الواجب في حكمته ، لأنه لو لم يجب ذلك ، لم يكن لتعليله بأنه لم يظهر هذه الآيات لعلمه بأنه لو فعلها لم يؤمنوا : معنى. وفيها أيضا : دلالة على أن إرادته محدثة. لأن الاستثناء يدل على ذلك. إذ لو كانت قديمة ، لم يجز هذا الاستثناء ولم يصح ، كما كان لا يصح لو قال : ما كانوا ليؤمنوا ، لأنه سبحانه يعلم أنه لم يشأ. فالقول فيه : إنه لو كان كذلك ، لكان وقوع الإيمان منهم موقوفا على المشيئة ، سواء كانت الآيات أم لم تكن ، وفي هذا إبطال للآيات».

(٣) في (س) بعد ذلك : «ولنبين الآن أن كل واحد من التأويلات التي ذكروها في غاية الضعف. أما تأويلهم الأول وهو قولهم» وفي (س) بعد ذلك : فاعلم : أن مصنف الكتاب رضي الله عنه. أراد أن يضيف إليه أشياء أخر كثيرة ، إلا أنه اقتصر على هذا القدر. وأخر إتمامه. وإني نقلت هذا القدر من خطه في نوتته. نور الله مضجعه وقدس روحه ، وإنه توفي يوم الاثنين ، ـ

٣٨٩

وقع الفراغ من نسخه في العشر الأخير من محرم ،

[سنة ست وستمائة (١)].

وبتمامه تم كتاب «المطالب العالية من العلم الإلهي»

للإمام فخر الدين الرازي ؛ محمد بن عمر بن الحسين ،

المتوفى سنة ٦٠٦ ه‍ رحمه‌الله تعالى برحمته الواسعة.

آمين].

١٤٠٤ ه‍ ـ ١٩٨٤ م

__________________

ـ وقت العصر من عيد الفطر ، من شهور سنة ست وستمائة» وفي (س) أيضا : «وقع الفراغ من نسخه في العشر الأخير من محرم سنة ست وستمائة. على يد الفقير الكسير المحتاج ، إلى فضل الله : عبد الجبار بن محسن».

(١) من (س).

٣٩٠

فهرس الجزء التاسع من كتاب

المطالب العالية من العلم الالهي

مقدمة المؤلف للجزء التاسع..................................................... ٥

مسألة خلق الافعال............................................................. ٧

المقدمة في بيان تفاصيل مذاهب الناس

في مسألة خلق الأفعال.......................................................... ٩

* * *

الباب الأول : في تقرير الدلائل العقلية على أن أفعال العباد كلها بتقدير الله وأن العبد غير مستقل بالفعل والترك ١٩

الفصل الأول : في الدلائل الدالة على أن العبد غير مستقل بنفسه

بالفعل والترك................................................................ ٢١

البرهان الأول................................................................ ٢١

البرهان الثاني................................................................ ٣٣

البرهان الثالث............................................................... ٣٥

البرهان الرابع................................................................ ٤٦

البرهان الخامس.............................................................. ٥٧

البرهان السادس............................................................. ٥٩

البرهان السابع............................................................... ٦٣

البرهان الثامن............................................................... ٦٥

٣٩١

البرهان التاسع............................................................... ٦٦

البرهان العاشر............................................................... ٧٣

الفصل الثاني : في تقرير الدلائل الدالة على أن قدرة العبد غير مؤثرة في خروج شيء من العدم الى الوجود      ٧٥

البرهان الأول................................................................ ٧٥

البرهان الثاني................................................................ ٧٧

البرهان الثالث............................................................... ٨٣

البرهان الرابع................................................................ ٨٤

البرهان الخامس.............................................................. ٨٩

البرهان السادس............................................................. ٩١

البرهان السابع............................................................... ٩٣

البرهان الثامن............................................................... ٩٦

البرهان التاسع............................................................... ٩٦

البرهان العاشر............................................................... ٩٧

الفصل الثالث : في الدلائل الدالة على أن حصول الإيمان والكفر ، في قلول العباد ، لا يمكن أن يكون إلا بتخليق الله تعالى............................................................................ ١٠١

البرهان الأول.............................................................. ١٠١

البرهان الثاني.............................................................. ١٠٢

البرهان الثالث على أن العبد لا يقدر على خلق العلوم.......................... ١٠٧

البرهان الرابع.............................................................. ١٠٩

البرهان الخامس............................................................ ١٠٩

* * *

الباب الثاني : في تقرير الدلائل القرآنیة على أن خالق أعمال العباد ، هو الله تعالى ١١١

الفصل الأول : في أن التمسك بالدلائل السمعية ، هل يجوز في هذه المسألة ، أم لا؟ ١١٣

٣٩٢

البحث الأول.............................................................. ١١٣

البحث الثاني.............................................................. ١١٩

الفصل الثاني : في التمسك بالآیات المشتملة على لفظ الخلق................. ١٣٥

الفصل الثالث :في التمسك بالآیات المشتملة على لفظ الجعل ، وما يجري مجراه ١٦١

الفصل الرابع : في سائر الدلائل المأخوذة من سائر الآیات..................... ١٧٥

* * *

الباب الثالث : فی الدلائل الاخبارية في مسألة خلق الأفعال.................... ١٩٩

الفصل الأول : في التمسك بأخبار الآحاد في هذه المسألة. هل يجوز أم لا؟.... ٢٠١

الفصل الثاني : في تقرير الدلائل الاخبارية على صحة القول بالقضاء والقدر..... ٢١٥

* * *

الباب الرابع : في الآثار الواردة من علماء السلف في القضاء والقدر............ ٢٤٥

* * *

الباب الخامس : في حكاية الشبه العقلية التي عليها تعويل المعتزلة في قولهم الإنسان يخلق أفعال نفسه         ٢٥٣

الفصل الأول : في حكاية قول من يقول : العلم الضروري حاصل بكون العبد موجوداً ٢٥٥

الفصل الثاني : في حكاية الدلائل التي تمسكو بها في إثبات أن العبد موجد..... ٢٥٩

* * *

الباب السادس : في حكاية الدلائل القرآنیة التي يتمسك بها المتعزلة في قولهم الإنسان يخلق أفعال نفسه      ٢٧٣

النوع الأول : الاستدلال الاجمالي............................................ ٢٧٥

النوع الثاني................................................................. ٢٧٩

٣٩٣

الفصل الأول : في المباحث المستنبطة من قولنا أعوذ بالله من الشيطان الرجيم....... ٢٧٩

الفصل الثاني : في المباحث الواقعة في قولنا بسم الله............................. ٢٨٤

الفصل الثالث : في المباحث الواقعة في قولنا الرحمن الرحيم....................... ٢٨٦

الفصل الرابع : في قولنا الحمدلله.............................................. ٢٨٩

الفصل الخامس : في قولنا رب العالمين......................................... ٢٩١

الفصل السادس : في قولنا مالك يوم الدين.................................... ٢٩٢

الفصل السابع : في قولنا إياك نعبد........................................... ٢٩٣

الفصل الثامن : في قولنا وإياك نستعين........................................ ٢٩٤

الفصل التاسع : في قولنا اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم....... ٢٩٥

الفصل العاشر : في قولنا غير المغضوب عليهم ولا الضالين...................... ٢٩٧

النوع الثالث : من وجوه استدلالالت المعتزلة بالقرآن.......................... ٢٩٩

النوع الرابع : من وجوه استدلالات المعتزلة بالقرآن............................ ٣١٣

النوع الخامس : من وجوه استدلالات المعتزلة بالقرآن......................... ٣١٥

النوع السادس............................................................... ٣١٧

النوع السابع................................................................ ٣١٩

النوع الثامن................................................................. ٣٢٣

النوع التاسع................................................................ ٣٢٥

النوع العاشر................................................................ ٣٢٧

النوع الحادي عشر.......................................................... ٣٢٩

النوع الثاني عشر............................................................ ٣٣٣

النوع الثالث عشر........................................................... ٣٣٥

النوع الرابع عشر............................................................ ٣٣٥

النوع الخامس عشر......................................................... ٣٣٩

النوع السادس عشر......................................................... ٣٤١

النوع السابع عشر........................................................... ٣٤٣

٣٩٤

النوع الثامن عشر............................................................ ٣٤٥

النوع التاسع عشر........................................................... ٣٤٩

النوع العشرون.............................................................. ٣٥١

* * *

الباب السابع : في تمسكات المعتزلة بالأخبار................................. ٣٥٥

الباب الثامن : في شرح الآثار المروية عن الصحابة والتابعين التي تمسك بها المعتزلة في إثبات قولهم  ٣٦٩

الباب التاسع : في بيان أن الله تعالى قد يمنع المكلف عن الايمان بالقهر والقسر ٣٧٩

فهرس مواضيع الجزء التاسع.................................................. ٣٩١

تم فهرس الجزء التاسع من كتاب المطالب العالية

من العلم الإلهي للإمام فخرالدين الرازي

٣٩٥