المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

قد قبلنا. وأتيناك لنتفقه في الدين ، ونسألك عن بدو هذا الأمر. فقال : «كان الله ولم يكن شيء غيره ، وكان عرشه على الماء (١)» وكتب في الذكر كل شيء ، وخلق السموات والأرض».

واعلم : أن هذا الخبر فيه فوائد :

أحدها : أن الحيز والجهة : أمر موجود. بدليل : أنه مشار إليه بحسب الحس ، ومقصد المتحرك. ويوصف بالقرب والبعد ، ويقبل التقدير والمساحة. وكل ما كان كذلك ، فهو شيء موجود لا محالة. فقوله عليه‌السلام : «كان الله ولم يكن شيء غيره» يدل على أن الأحياز والجهات ما كانت موجودة في الأزل ، وإذا كان كذلك ، علمنا : أنه تعالى ما كان في الأزل ، حاصلا في حيز وجهة أصلا.

وثانيها : إن قوله : «ولم يكن شيء غيره» يدل على حدوث الأجسام والأعراض والعقول والنفوس. ويدل أيضا : على فساد قول المعتزلة في أن المعدوم شيء.

وثالثها : قوله : «وكتب كل شيء في الذكر» فهذا يدل على قولنا في مسألة القضاء والقدر. لأن العبد لو أتى بخلاف ذلك المكتوب ، لصار حكم الله باطلا ، وخبره كذبا. وذلك محال. والمفضي إلى المحال محال. فثبت : أن كل ما كتب في اللوح المحفوظ ، فهو واقع ، وإن العبد لا قدرة له على خلافه.

الحجة الرابعة والعشرون : عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن الله خلق الجنة ، وخلق لها أهلا. وهم في أصلاب آبائهم. وخلق النار ، وخلق لها أهلا. وهم في أصلاب آبائهم» والاستدلال به ظاهر.

الحجة الخامسة والعشرون : الدعاء المشهور المأثور عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وهو قوله : «اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطى لما منعت» ولو كان جعل العبد ليس من خلق الله تعالى ، لكان العبد قد يمنع كثيرا مما (٢) أعطى الله ،

__________________

(١) سورة هود ، آية : ٧.

(٢) إنما (م).

٢٤١

وقد يعطي كثيرا مما منع الله منه. وهو خلاف الحديث.

الحجة السادسة والعشرون : عن معاذ بن جبل أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، قال : «ألا أعلمك كلمات تقولهن؟ اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» وجه الاستدلال : أن هذه الإعانة. إن كان المراد منها الإقدار والتمكين وإزاحة الأعذار ، فالكل قد جعله الله ، فلا فائدة في طلبه بالدعاء. وإن كان المراد شيئا آخر. فهو المطلوب.

الحجة السابعة والعشرون : عن معاذ بن جبل أنه قال للنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : أخبرني بعمل يدخلني الجنة. فقال : «إنه ليسير على من يسره الله عليه» وجه الاستدلال : أن النص دل على أن التيسير الصادر من الله تعالى ، يلزمه (١) اليسر في العمل ، وحيث لا يحصل اليسر في العمل ، علمنا : أنه لم يحصل التيسير من الله. استدلالا بعدم اللازم لعدم الملزوم. ثم إن التيسير بمعنى الإقدار وخلق العقل وإزاحة الأعذار : حاصل للكل ، فوجب أن يكون المراد بهذا التيسير (٢) المذكور هاهنا : شيء آخر. وذلك بخلق الدواعي إلى الطاعات ، وخلق الصوارف عن أضدادها. وهو المطلوب.

الحجة الثامنة والعشرون : الخبر المشهور عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. أنه قال : «ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن. إن شاء أن يقيمه أقامه ، وإن شاء أن يزيغه أزاغه» وكان يقول : «يا مقلب القلوب. ثبت قلبي على دينك» ـ «والميزان بيد الرحمن يرفع ويخفض» وعن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم كثيرا ما (٣) يقول : «يا مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك ، فقيل له يا رسول الله : أتخاف علينا ، وقد آمنا بك ، وبما جئت به؟ فقال : «إن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها هكذا» وأشار إلى السبابة والوسطى ، يحركهما.

__________________

(١) فإنه يلزمه (م).

(٢) التفسير (م).

(٣) لكثير أن (م).

٢٤٢

واعلم : أن هذا الذي بينه صاحب الشريعة صلوات الله عليه في هذا الخبر معلوم الصحة بالبراهين اليقينية العقلية. وذلك لأن أفعال الجوارح لا تصدر إلا عند الدواعي والصوارف في القلوب. فرجحان الفعل موقوف على حصول داعية الفعل ، ورجحان الترك موقوف على عدم حصول تلك الداعية ، لأن علة العدم : عدم العلة. فالقلب كالشيء الموصوف بين حصول تلك الداعية واللاحصول لها. فإن حصلت داعية الفعل ، حصل الفعل. وإن لم تحصل تلك الداعية ، لم يحصل ذلك الفعل. فصاحب الشريعة ، عبر (١) عن حصول هذه الداعية وعدم حصولها بالإصبعين ، لما ثبت أن حصول تلك الداعية ليس إلا بالله تعالى. وإلا لزم التسلسل.

وكما ثبت هذا المعنى بهذا البرهان العقلي ، وبهذا الخبر الذي رويناه ، ثبت أيضا بنص القرآن. وهو قوله تعالى : (وَاعْلَمُوا : أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ) (٢).

ومن تأمل في هذه البراهين العقلية ، وضم إليها هذه الآيات ، وهذا الخبر خاصة ، ورجع إلى نفسه : لم يبق في قلبه شك في صحة مذهبنا. ولكن ذلك إنما يسهل على من سهله الله عليه.

الحجة التاسعة والعشرون : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ألا أعلمك كلمة من تحت العرش [كنز (٣)] من كنوز الجنة : لا قوة إلا بالله. يقول الله : «أسلم عبدي واستسلم» وجه الاستدلال به : إن القدرة بالنسبة إلى الفعل أو إلى الترك ، على السوية. وما دام تبقى القدرة على هذا الاستواء ، امتنع صدور الفعل. فإذا رجح جانب الفعل على جانب الترك بتحصيل الدواعي وإزالة الصوارف ، فحينئذ يحصل الفعل. وهذه التقوية هي المشار إليها بقوله : «لا حول ولا قوة إلا بالله» ولما كان الإيمان لا يتم ولا يكتمل إلا به ، لا جرم زعم أنه من تحت العرش ، ومن كنز الجنة.

__________________

(١) غير (م).

(٢) سورة الأنفال ، آية ؛ ٢٤.

(٣) من (ط ، ل).

٢٤٣

الحجة الثلاثون : عن أبي طهمان عن ابن عباس قال : «أول ما خلق الله تعالى : القلم». فقال : «اكتب. فقال : وما أكتب؟ فقال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة». وجه الاستدلال به : إنه دخل في هذا المكتوب جميع أفعال العباد ، وخلافه يوجب انقلاب العلم جهلا ، والصدق كذبا. وكل ذلك محال.

واعلم : أن الأحاديث الواردة في هذا الباب كثيرة ، ومن وقف على كيفية الاستدلال بهذه الأخبار التي رويناها ، أمكنه التمسك بسائر الأخبار الواردة في هذا الباب. والله أعلم.

٢٤٤

الباب الرابع

في

الآثار الواردة عن علماء السلف

في هذا الباب

٢٤٥
٢٤٦

اعلم : أن حال هذه المسألة : حال عجيبة. وذلك لأن الخلق أبدا كانوا مختلفين فيها ، بسبب أن الوجوه التي يمكن الرجوع إليها في هذه المسألة متعارضة متدافعة.

وتقرير ذلك : أن نقول :

الجبرية : عولوا في تقرير قولهم على أن الممكن لا بد له من مرجح. وهذه المقدمة مقدمة بديهية. وإذا كان الأمر كذلك ، فالقادر على الضدين يمتنع أن يرجح أحد الطرفين على الآخر ، لا لمرجح. وذلك المرجح ليس منه ، وإلا لزم التسلسل ، بل هو من الله (١). وحينئذ يلزم الجبر.

__________________

(١) يقول المسيح عليه‌السلام : «لما كان كل إنسان محتاجا ، كان يعمل كل شيء لأجل منفعته. ولكن الله الذي لا يحتاج إلى شيء ، عمل بحسب مشيئته. لذلك لما خلق الانسان خلقه حرا ، ليعلم أن ليس لله حاجة إليه. كما يفعل الملك الذي يعطي حرية لعبيده ، ليظهر ثروته ، وليكون عبيده أشد حبا له. إذا قد خلق الله الإنسان حرا ، لكي يكون أشد حبا لخالقه وليعرف جوده. لأن الله وهو قادر على كل شيء ، غير محتاج إلى الإنسان. فإنه إذ خلقه بقدرته على كل شيء ، تركه حرا بجوده ، على طريقه يمكنه معها مقاومة الشر وفعل الخير. وإن الله على قدرته على منع الخطيئة ، لم يرد أن يضاد جوده. إذ ليس عند الله تضاد. فلما عملت قدرته على كل شيء وجوده ، عملهما في الإنسان ، لم يقاوم الخطيئة في الإنسان ، لكي تعمل في الإنسان رحمة الله وبره» [برنابا ١٥٥ : ١٠ ـ ١٦].

٢٤٧

وأما القدرية : فقد عولوا (١) في تقرير قولهم : على أن حسن المدح والذم معلوم بالبديهة. ونعلم بالبديهة : أنه لو لم يكن العبد قادرا على الفعل لما حسن المدح والذم. وما كان أصلا للبديهي : أولى أن يكون بديهيا.

فالحاصل : أن عمدة الجبرية هي أن الممكن لا بد له من مرجح. وعمدة (٢) القدرية : هي حسن المدح والذم. وهما مقدمتان معلومتان بالبديهية. فقد وقع التعارض بين هاتين المقدمتين في هذا المقام.

وأما الدلائل العقلية : فاعتماد الجبرية على أن هذه التفاصيل ، غير معلومة (٣) لنا فلا تكون مخلوقة لنا. واعتماد القدرية على أن هذه الأفعال ، واقعة على وفق مقصودنا ودواعينا. فهي منّا. فقد وقع التعارض بين دليل العلم ودليل القصد.

وأما الإلزامات العائدة إلى باب الكمال والنقصان فاعتماد الجبرية على حرف واحد ، وهو أن القدرة على الإيجاد صفة كمال ، فلا يليق بالعبد الذي هو منبع النقصان. واعتماد القدرية على حرف واحد ، وهو أن أفعال العباد سفه وعبث ، وإيجادها نقصان. وذلك لا يليق بالإله المتعالي عن النقصان.

وأما الدلائل السمعية فالقرآن مملوء مما يوهم الجبر تارة ، ومما يوهم القدر أخرى.

وأما الأنام (٤) فكذلك جميع الملل والنحل ، بعضهم مجبرة ، وبعضهم قدرية. ولا ترى أمة من الأمم خالية عن هاتين الطائفتين.

وأما الأوضاع والحكايات فهي أيضا متعارضة في هذا الباب. حتى قيل : إن واضع «النرد» وضعه على مذهب الجبر ، وواضع «الشطرنج» وضعه على مذهب القدر. فظهر عندك أن التعارض غالب في هذه المسألة إلا

__________________

(١) فقد عوا في (م).

(٢) وعملة القدرية حسن (م).

(٣) مضمونة [الأصل].

(٤) [الأصل].

٢٤٨

أن مذهبنا أقوى بسبب حرف واحد ، وهو أنا [إن (١)] قدحنا في قول : «الممكن لا بد له من سبب» انسد علينا باب إثبات الصانع ، وإن سلمنا بهذه المقدمة لزمنا القول بأن العبد غير مستقل بالإيجاد. فلما كان دليل قولنا في هذه المسألة ، ودليل إثبات الصانع : دليلا واحدا ، لا جرم كان جانبنا أقوى وأكمل.

ولنذكر الآن طرفا من الحكايات المذكورة في هذه المسألة :

الحكاية الأولى : جاء رجل إلى علي بن أبي طالب ، وقال : أنا أملك الخير والشر ، والطاعة والمعصية. فقال علي بن أبي طالب : تملكها مع الله أو تملكها بدون الله؟ فإن قلت: أملكها مع الله (٢) فقد ادعيت أنك شريك الله ، وإن قلت : أملكها بدون الله ، فقد ادعيت أنك أنت الله. فتاب الرجل على يده.

الحكاية الثانية : جاء رجل آخر إلى علي بن أبي طالب ، وسأل عن القضاء والقدر. فقال : «بحر عميق. لا يدرك غوره» فأعاد السائل السؤال. فقال : «طريق مظلم ، لا نسلكه» فأعاد السؤال. فقال [علي (٣)] : «لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم» تعرف معناها؟ قال : لا. فما (٤) معناها؟ قال : «لا حول عن معصية الله ، إلا بعصمة الله. ولا قوة على طاعة الله ، إلا بتوفيق الله» وهذا إشارة إلى ما ذكرناه ، من أن القادر متساوي القدرة بالنسبة إلى الطاعة والمعصية. فلا يترجح أحد الجانبين على الآخر ، إلا لمرجح من قبل الله.

الحكاية الثالثة : ورد الشام معتزلي. فكتب هشام بن عبد الملك إلى أبي

__________________

(١) زيادة.

(٢) يقول المسيح عليه‌السلام : «لو لم يخطئ الإنسان ، لما علمت أنا ولا أنت رحمة الله وبره. ولو خلق الله الإنسان غير قادر على الخطيئة ، لكان ندا لله في ذلك الأمر. ولذلك خلق الله المبارك : الإنسان صالحا وبارا ، ولكنه حر أن يفعل ما يريد من حيث حياته وخلاصة لنفسه ، أو لعنته» [برنابا ١٥٤ : ٢٣ ـ ٢٥].

(٣) من (م ، ل).

(٤) فإيش معناها [الأصل]

٢٤٩

جعفر الباقر ، ليحضر ويتكلم معه. فقال إني كبير ، والآن ابني جعفر ينوب عني في المناظرة. فجاء جعفر الصادق ، وقال للقدري : اقرأ الفاتحة. فقرأ فلما بلغ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) قال له جعفر الصادق : على ما ذا تستعين بالله ، وعندك : أن الفعل (١) منك. وجميع ما يتعلق بالإقدار بالتمكين ، والألطاف قد حصلت وتمت؟ فانقطع القدري بهذا الحرف الواحد.

الحكاية الرابعة : جاء قدري ليتكلم مع أبي حنيفة. فقال أبو حنيفة : هل يمكنك التكلم بالحروف؟ فقال [نعم فقال (٢)] اذكر. فذكرها. فقال : أين مخرج الحاء والخاء؟ وكم بينهما؟ [وأي شيء تفعل حتى تخرج الحاء؟ (٣)] وأي شيء تفعل حتى تخرج الخاء؟ فقال : لا أعرف. فقال أبو حنيفة : من لا يعرف هذه الأشياء. فكيف يمكنه أن يخلقها ويوجدها؟

الحكاية الخامسة : جاء رجل إلى عمرو بن عبيد. وقال : أنت مستجاب الدعوة. وقد سرق ردائي. فادع الله أن يرد علي ردائي. فرفع يده وقال : اللهم إنك لم ترد أن يسرق ، وقد سرق. اللهم فرد عليه رداءه. فقال الرجل : امسك عن الدعاء. فإنه لم يرد أن يسرق ردائي وقد سرق ، فإذا أراد أن يرد علي ردائي ، لم يرده أيضا.

الحكاية السادسة : قيل لعمرو بن عبيد : هل ألزمك أحد سؤالا لم تقدر على جوابه؟ قال : بلى. ركبت البحر ، وكان في السفينة مجوسي. فقلت له : لم لا تسلم؟ فقال : لأن الله لم يرد إسلامي. فإذا أراد إسلامي أسلمت. فقلت للمجوسي : إن الله يريد إسلامك ، ولكن الشياطين لا يتركونك. فقال المجوسي : فأنا أكون مع الشريك الأغلب. لأن الله أراد شيئا ، ولم يحصل مراده. والشيطان أرادوه ، وحصل. فالشيطان غالب. والكون مع الغالب ، أولى من الكون مع المغلوب.

الحكاية السابعة : كان «الصاحب بن عباد» يؤاكل الأستاذ «أبا اسحاق

__________________

(١) الفطر (م).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) من (ل).

٢٥٠

الأسفرايني» من أصحابنا ـ فقال الصاحب : لا شك أن فاعل أفعالي أنا لا غيري. ورفع لقمة ووضعها في فمه. وقال : الرفع باختياري ، والوضع في الفم باختياري ، والمضغ باختياري ، والابتلاع باختياري. ثم اتفق في أثناء المضغ أن عطس ، فسقطت اللقمة ، ووثبت الهرة ، فأخذت اللقمة ، وأكلتها.

الحكاية الثامنة : وحكى أن «الصاحب بن عباد» كان جالسا مع الأستاذ «أبي اسحاق» في بستان ، فمد يده إلى ثمرة وفصلها عن الشجرة. وقال : أيها الأستاذ من الذي فصل هذه الثمرة عن الشجرة؟ فقال الأستاذ أبي اسحاق : الذي فصل هذه الثمرة عن هذا الغصن ، الثمرة عن هذا الغصن ، هو الذي يقدر على أن يصلها به مرة أخرى. والمراد منه : أن القادر عند المعتزلة لا بد وأن يكون قادرا على الضدين. فلو كان العبد قادرا على الفصل ، لوجب أن يكون قادرا على الوصل. وحيث لم يقدر على الوصل ، وجب أن لا يقدر على الفصل.

الحكاية التاسعة : كان الأستاذ «أبو اسحاق الأسفرايني» جالسا في دار «الصاحب بن عباد» فدخل «القاضي عبد الجبار الهمداني» فلما رأى الأستاذ «أبا إسحاق» قال في الحال : سبحان من تنزه عن الفحشاء. فقال الأستاذ في الحال : سبحان من لا يجري في ملكه إلا ما يشاء.

قال الداعي إلى الله ، محمد الرازي ـ رحمة الله عليه ـ : من نظر في هاتين الكلمتين ، علم أن كل واحد من هذين جمع جميع كلماته (١) في هذا الحرف.

الحكاية العاشرة : قال أكثر الفقهاء : إذا قال المؤذن : حي على الصلاة ، حي على الفلاح. فالسنّة عند سماع هذه الكلمة : أن يقال : لا حول ولا قوة إلا بالله. كأنه يقول : لا حول ولا قوة على أداء الصلاة ، وعلى أداء سائر العبادات ، إلا بإعانة الله وبتوفيقه. وذلك صريح مذهبنا.

ولنكتف بهذه الحكايات في هذا الباب.

والله أعلم بالصواب

__________________

(١) أي آراءه في القضاء والقدر.

٢٥١
٢٥٢

الباب الخامس

في

حكاية الشبه العقلية

التي عليها تعويل المعتزلة

٢٥٣
٢٥٤

الفصل الأول

في

حكاية قول من يقول

العلم الضروري حاصل بكون العبد موجدا

ـ قد نقلنا في أول المسألة : أن «أبا الحسين» يدعي العلم الضروري بأن العبد موجد لأفعال نفسه ـ واحتجوا على أن العلم الضروري حاصل بذلك بوجوه ثلاثة :

الأول : إن كل عاقل يعلم من نفسه : أن وقوع تصرفاته موقوف على دواعيه [ولو لا دواعيه (١)] لما وقع شيء منها. فمتى اشتد به الجوع ، وكان تناول الطعام ممكنا ، فإنه يصدر منه تناول الطعام. ومتى اعتقد أن [في (٢)] الطعام سما ، ينصرف عنه. وكذلك يعلم من غيره من العقلاء ، الذي أحوالهم سليمة : أنه يجب وقوع أفعالهم بحسب دواعيهم. فإن الولد العاقل السليم إذا علم ما له من المنفعة في شرب الماء ، حال شدة عطشه ، ولم يمنعه منه مانع ، فإنه يصدر منه الشرب ، لا محالة. ومتى علم ما له من المضرة في دخول النار ، فإنه لا يدخل فيها. وإذا كان معنى الموجد للشيء : هو الذي يحدث منه الفعل ، موافقا لدواعيه ، ثبت أن العقلاء قد يعرفون (٣) ببدائه عقولهم كون العبد كذلك. علمنا : أن علمهم بكون العبيد محدثين لتصرفاتهم : علم ضروري.

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) سقط (م).

(٣) يعرف في بداية عقولهم (م).

٢٥٥

الوجه الثاني في تقرير ذلك : أن العقلاء يعلمون بالضرورة : حسن ذم من أساء إليهم ، ومدح المحسن إليهم. ويعلمون بالضرورة : قبح المدح والذم على كونه طويلا أو قصيرا ، وكون السماء [فوقه (١)] والأرض تحته. ولو لا علمهم الضروري بكون العبد محدثا لأفعاله ، لما علموا بالضرورة حسن مدحه وذمه على أفعاله ، وقبح مدحه وذمه على ما لا يكون واقعا به. لأن العلم بحسن المدح والذم لما كان فرعا على العلم بحدوث ذلك منهم ـ والعلم بالفرع إذا كان ضروريا ، كان العلم بالأصل أولى أن يكون ضروريا ـ لزم القطع بأن علم العقلاء بكونهم محدثين لتصرفاتهم : علم ضروري بديهي. ولأجل ظهور هذا العلم عند العقلاء ، حصل هذا العلم للمراهقين. فإن الإنسان إذا رمى المراهق بآجرة ، فإنه يذم الرامي ولا يذم تلك الآجرة. ولو لا أنه عالم (٢) بالضرورة : بأن الرامي فاعل ، وأن الآجرة ما فعلت شيئا ، وإلا لما فرق بينهما من الوجه المذكور.

الثالث : إن الواحد منا يجد من نفسه ـ ومن غيره ـ إذا طلب فعلا من غيره ، أنه يطلب منه طلب عالم بأنه [هو (٣)] الذي يحدث ذلك الفعل. ولذلك فإنه يتلطف في استدعائه ذلك الفعل منه ، بكل لطف وينهاه عن فعل ما يكرهه ، ويعنفه على فعله ، ويتعجب من فعله ، ويستظرفه ، ويعجب العقلاء في فعله. ويعلل كل ذلك : بأن فعله. وأيضا : فنجد من أنفسنا : الفرق الضروري بين أمره بالقيام والقعود ، وبين أمره بإيجاد السماء والكواكب. ولو لا أن العلم الضروري حاصل بكوننا موجدين لأفعالنا ، وإلا لما صح ذلك.

قالوا : فهذه الوجوه الثلاثة : منبهة على أن العلم الضروري حاصل بكون العبد موجدا. وهذا غاية تقرير مذهب «أبي الحسين البصري» في هذه المسألة.

__________________

(١) من (ط).

(٢) علم (م).

(٣) سقط (م).

٢٥٦

واعلم : أن دعوى الضرورة في كون العبد موجدا لأفعاله : [باطل (١)] ويدل عليه [وجوه (٢)].

الأول : إن الناس كانوا قبل «أبي الحسين» فريقان : منهم من يزعم : أن فعل العبد مخلوق لله تعالى ، ومنهم من يزعم : أنه يحصل بإيجاد العبد (٣) وبتكوينه. والعلم بذلك علم استدلالي. ولذلك فإن جميع مشايخ المعتزلة إنما كانوا يثبتون هذا المطلوب بناء على الدلائل والبينات. ولو كان العلم بهذا المطلوب ضروريا ، لكان جميع الناس الذين كانوا قبل «أبي الحسين» منكرين للبديهيات. أما مخالفوا المعتزلة. فلا شك أنه يلزم على قول «أبي الحسين» كونهم منكرين للبديهيات. وأما جميع مشايخ المعتزلة فكذلك. لأنهم لما كانوا مطبقين على أنه لا سبيل إلى إثبات هذا المطلوب إلا بالدلائل ، كانوا متفقين على أن العلم بهذا المطلوب ليس بضروري. فثبت : أن العلم بهذا المطلوب لو كان ضروريا ، لزم أن يقال : إن جميع الخلق الذين كانوا قبل «أبي الحسين» كانوا مطبقين متفقين على إمكان البديهيات والضروريات. ولما كان ذلك باطلا ، علمنا فساد قول «أبي الحسين».

الثاني : إنا [إذا (٤)] رجعنا إلى أنفسنا ، لم نعلم إلا أن (٥) هذه الأفعال حاصلة على وفق تصورنا ودواعينا. فأما أن المؤثر في دخولها في الوجود هو قدرتنا فقط ، أو مجموع قدرتنا مع دواعينا. أو (٦) المؤثر في حصولها شيء آخر يحصلها مقارنا لذلك المقصود (٧) فذلك البتة غير معلوم. إذ ليس من المشتبه أن يقال : إنه تعالى أجرى عادته بأن الإنسان الذي تكون أعضاؤه سليمة ، ومزاج بدنه يكون خاليا من الأسقام والأمراض ، إذا خلق فيه إرادة حصول شيء ، فإنه

__________________

(١) من (م ، ل).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) الله (م ، ل).

(٤) سقط (م).

(٥) لأن (م).

(٦) إلى [الأصل].

(٧) لذات المطلوب (م).

٢٥٧

يخلق ذلك المراد على وفق تلك الإرادة. والحاصل : أن مقارنة الفعل مع حصول القدرة والإرادة معلومة. فأما كون الفعل به ، فذاك البتة غير معلوم. ومن قال خلاف ذلك ، كان مكابرا معاندا.

الثالث : إنا إذا رجعنا إلى أنفسنا ، علمنا : أن إرادتنا للشيء ، لا تتوقف على إرادتنا لتلك الإرادة. وإلّا لزم التسلسل. بل نعلم بالضرورة : أنا إن شئنا أم أبينا ، فإنا نريد ذلك الفعل المخصوص ، ونعلم أنه متى حصلت تلك الإرادة بنا. فالإنسان مضطر في صورة مختار.

والعجب من «أبي الحسين» أنه خالف أصحابه في قولهم : «الفعل لا يتوقف على الداعي» وزعم : أن الفعل يتوقف على الداعي ، وزعم أن حصول الفعل عقيب الداعي واجب. والاعتراف بهاتين المقدمتين : عين الاعتراف بالجبر. ثم إنه بعد ذلك بالغ في إثبات الاعتزال ، وزعم : أن العلم الضروري حاصل بكون العبد موجدا. والجمع بين هذين القولين: عجيب. والأظهر : أنه لما بالغ في تقرير الجبر من حيث المعنى ، فلعله خاف من مخالفة أصحابه ، فأراد إخفاء ذلك المذهب بهذه المبالغة. والله أعلم.

٢٥٨

الفصل الثاني

في

حكاية الدلائل التي تمسكوا بها

في اثبات أن العبد موجد

اعلم أنهم احتجوا بوجوه كثيرة :

الحجة الأولى : أنهم قالوا : إن أفعالنا يجب وقوعها على وفق دواعينا ، ويجب انتفاؤها على حسب كراهاتنا لها. وذلك يدل على وقوعها بنا.

أما المقدمة الأولى : فبيانها : أن الصائم في الصيف الصائف (١) إذا اشتدت شهوته إلى شرب الماء ، والشارع يشير إليه بذلك ، والطبيب يشير إليه به. وعلم قطعا أنه لا تبعية عليه في شرب ذلك الماء ، في الحال ولا في الاستقبال. فإنه لا بد وأن يشربه. وكذلك العالم بما في دخول النار من الألم ، إذا علم أنه لا نفع (٢) له في دخولها البتة ، وعلم أنه لو دخلها لحصلت آلام عظيمة في جسده. فإنه مع هذا العلم لا يدخلها البتة. فثبت بما ذكرنا : أن أفعالنا يجب وقوعها بحسب دواعينا ، ويجب انتفاؤها بحسب صوارفنا. وذلك هو تمام المقدمة الأولى.

وأما المقدمة الثانية : فهي قولنا : إن الأمر لما كان كذلك ، وجب أن يكون حدوث أفعالنا بنا. والدليل عليه : أنه لو كان المحدث لها غيرنا ، لصح

__________________

(١) الصيف (م).

(٢) يقع (م).

٢٥٩

من ذلك الغير أن لا يحدثها عند حصول إرادتنا ، وأن يحدثها عند حصول كراهتنا. وذلك يبطل ما بيناه في المقدمة الأولى من وجوب مطابقة أفعالنا لدواعينا نفيا وإثباتا.

الحجة الثانية : الأنبياء عليهم‌السلام أجمعوا على أن الله أمر عباده ببعض الأشياء ، ونهاهم عن بعضها. ولو لم يكن العبد موجدا لأفعال نفسه ، لما صح ذلك. فكيف يعقل أن يقول الله للعبد : افعل الإيمان والصلوات والعبادات ، ولا تفعل الكفر والمعاصي. مع أن الفاعل لهذه الأفعال ، والتارك لها ليس هو العبد؟ فإن أمر (١) الغير بالفعل يتضمن الإخبار عن كون ذلك المأمور قادرا على الفعل ، حتى إنه لو لم يكن المأمور قادرا عليه لمرض أو لسبب آخر ، ثم أمره غيره به. فإن العقلاء يتعجبون منه وينسبونه إلى الحماقة والجنون. ويقولون : إنك تعلم أنه لا يقدر على ذلك الفعل ، فكيف تأمره به؟ ولو صح هذا لصح أن يبعث الله رسولا إلى الجمادات مع المعجزات ، والكتب والشرائع. لأجل أن يبلغ ذلك الرسول تلك الشرائع إلى تلك الجمادات. ثم إنه تعالى يخلق الحياة والعقل لتلك الجمادات ، ويعاقبها ، لأجل أنهم لم يمتثلوا أمر الرسول ، حال كونها جمادات. وذلك مما يعلم فساده ببديهة العقل.

واعلم : أنا قد حكينا لهم استدلالهم بما تقرر من هذا الوجه ، على أن علم العبد بكونه موجدا لأفعال نفسه : علم ضروري. وذلك الوجه مغاير لهذا الوجه. لأنا في ذلك الوجه استدللنا بحصول العلم الضروري ، وبحسن المدح والذم على أن العلم الضروري حاصل بكون العبد موجدا. والآن نستدل بحسن المدح والذم على كون العبد موجدا. فظهر الفرق.

ولا يقال : لم لا يجوز أن يقال : العبد وإن لم يكن موجدا لأفعال نفسه ، إلا أنه مكتسب لها ويكفي (٢) هذا القدر في حسن المدح والذم؟ لأنا نقول : دخول فعل العبد في الوجود ، إما أن يكون من العبد ، وإما أن لا يكون منه

__________________

(١) من (م).

(٢) ففي [الأصل].

٢٦٠