المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

إحدى هاتين القضيتين هي الموصوفة بالصدقية في نفس الأمر ، والأخرى هي الموصوفة بالكذبية في نفس الأمر بل نحن لا نعرف أن الموصوف بالصدقية أي الطرفين؟ والموصوف بالكذبية أيهما؟ فأما في نفس الأمر ، فإنه يجب أن يكون أحدهما بعينه موصوفا بالصدقية ، والأخرى بالكذبية. إذا ثبت هذا ، فنقول : إن هذا يقتضي أن تكون جميع الحوادث المستقبلة : مقدرة على وجه ، يمتنع تطرق الزيادة والنقصان والتغيير إليها. على ما هو مذهبنا في مسألة القضاء والقدر.

والدليل عليه : أن الجانب الذي صدق عليه أنه سيقع في الوقت الفلاني. إما أن يكون أن لا يقع في ذلك الوقت ، أو لا عكس. والأول باطل. لأن كل ما كان [ممكنا (١)] فإنه لا يلزم من فرض وقوعه محال. فليفرض غير واقع. وإذا لم يقع ، صار قولنا : إنه سيقع : كذبا من أول وقت دخول هذا الخبر في الوجود. وكنا قد فرضنا : أنه كان موصوفا بالصدقية. فإذا لم يحصل ذلك الفعل ، في ذلك الوقت ، لزم من عدم وقوعه في ذلك الوقت، ارتفاع الصدقية من ذلك الخبر ، من أول دخوله في الوجود. فيلزم أن يكون عدم وقوع ذلك الفعل في ذلك الوقت ، موجبا زوال صفة الصدقية عنه في الزمان الماضي ، فيفضي هذا إلى إيقاع التصرف في الزمان الماضي. وإنه محال. فثبت : أن عدم وقوع ذلك الفعل في ذلك الوقت ، يلزم منه محال. والممكن هو الذي لا يلزم من فرض وقوعه محال. فثبت : أن عدم وقوعه في ذلك الوقت محال. فكان وقوعه فيه واجبا وهو المطلوب.

فإن قيل : مدار كلامكم على أن كون الخبر صدقا وكذبا : صفة حقيقة. تستدعي موصوفا موجودا ، وكل موجود فهو في نفسه معين. فنقول : لا نسلم أن كون الخبر صدقا أو كذبا : صفة وجودية. ولم لا يجوز أن يكونا أمرين اعتباريين ، لا حصول لهما في الأعيان؟.

__________________

(١) من (ط ، ل).

٦١

والجواب من وجوه :

الأول : إن الصدقية والكذبية متقابلان بالسلب والإيجاب. لأن الصدق هو الخبر المطابق ، والكذب هو الخبر الذي لا يطابق. ولما كان هذان الوصفان متقابلين بالسلب والإيجاب ، كان أحدهما لا محالة صفة ثابتة موجودة. وإذا كان كذلك ، وجب أن يحصل له موصوف معين. وحينئذ يحصل المطلوب.

ولا ينافي مذهبنا أن الصدقية والكذبية وصفان سلبيان ، لأن الوصف السلبي لا بدّ له أيضا من محل معين. لأن هذا السلب عبارة عن عدم شيء [عن شيء (١)] من شأنه أن يكون حاصلا [له (٢)] فما لم يحصل إمكان حصول ذلك الوصف لذلك الموصوف ، امتنع أن يحكم الذهن بزواله عنه. فثبت : أنه وإن كان سلبيا إلا أنه لا بد له من محل معين.

[الثاني (٣)] : وهو إنه إذا كان هذا الطرف بعينه خاليا عن الصدقية والكذبية ، كان مجرد قولنا : «زيد غدا يمشي» : خاليا عن كونه كاذبا ، وخاليا عن كونه صادقا. فتكون هذه القضية بعينها خالية عن النقيضين معا. وذلك محال ، وكذا القول في الطرف الآخر. لا يقال : إنه وإن خلا عن الصدقية بعينها ، والكذبية بعينها ، لكنه ما خلا عن كونه. إما صدقا وإما كذبا. لأنا نقول : هذا الإيهام إنما يقع في الأذهان. أما في الأعيان. فالحاصل إما وصف الصدقية ، وإما وصف الكذبية. فإذا كانت القضية خالية عنهما معا ، لزم خلوهما عن النقيضين. وهو محال.

واعلم : أن هذا البرهان قد دل على أن جميع الحوادث المستقبلة ، مترتبة في أنفسها ترتبا ، يمتنع على المتقدم أن يصير متأخرا ، أو على المتأخر أن يصير متقدما. وذلك يبطل الاعتزال بالكلية. ثم إنا إذا أردنا أن نبين أن ذلك الوجوب إنما حصل بإيجاب الله تعالى وبتقديره. قلنا : إن ذلك الموجب يمتنع أن

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (ط).

(٣) الثالث (ل).

٦٢

يكون بالذات. لما ثبت : أن الممكن لذاته ، لا يكون واجبا لذاته. بل لا بد وأن يكون واجبا بالغير. وذلك الغير ليس هو العبد. لأن هذا الوجوب حاصل قبل قصد العبد إلى إيجاده ، بل حاصل قبل وجود العبد. وكيف. وهذا الوجوب الذي قررناه كان حاصلا من الأزل إلى الأبد. ولا بد وأن يكون [المقتضى (١)] لذلك الوجوب أمرا كان مستمرا من الأزل ، وما ذاك إلا الله سبحانه. فثبت : أن هذا الوجوب إنما حصل في هذه الحوادث المستقبلة ، بتقدير الله وبإيجاده (٢) إما ابتداء وإما بواسطة. وذلك هو المطلوب.

وهذا برهان شريف ، لا بد من التأمل فيه ، ليحصل الوقوف عليه ، كما ينبغي.

وبالله التوفيق

البرهان السابع

أفعال العباد معلومة الوقوع لله تعالى. أو معلومة اللاوقوع. وكل ما هو معلوم الوقوع ، كان واجب الوقوع. وكل ما هو معلوم اللاوقوع ، كان واجب اللاوقوع. وكل ذلك قد تقدم تقريره.

فنقول : ومتى كان الأمر كذلك ، وجب أن يكون ذلك الوجوب [إما (٣)] بسبب : أن الله رجح وجودها على عدمها [وإما (٤)] بسبب أن الله تعالى خلق ما يوجب وقوعها ، إما بواسطة ، أو بغير واسطة. وعلى كل هذه التقديرات ، فمقصودنا حاصل.

والذي يدل على [صحة (٥)] هذه المقدمة : أن فعل العبد لما كان واجب

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) وبإيجاده وإيجابه (ل).

(٣) زيادة.

(٤) زيادة.

(٥) سقط (ط).

٦٣

الوقوع في ذلك الوقت المعين. فإما أن يكون وجوبه لذاته. وهو محال. لأن الممكن لذاته ، لا يكون واجبا لذاته. وإما أن يكون وجوبه لغيره وذلك الغير. إما العبد ، وإما الله. والأول باطل. لأن الفعل الذي علم الله ، وقوعه في الوقت الفلاني [محكوم عليه في الأزل بأنه واجب أن يقع في الوقت الفلاني (١)] في لا يزال. فالوجوب بهذا التفسير حاصل في الأزل ، بما لا يكون حاصلا في الأزل : محال. ولما بطل هذا ، ثبت : أن المؤثر في حصول الوجوب بالتفسير الذي ذكرناه : صفة من صفات الله تعالى.

وتلك الصفة. إما العلم ، وإما غيره. والأول باطل. لأن العلم يتعلق بالمعلوم على ما هو عليه ، وهو يتبع المعلوم ولا يستتبعه. فيمتنع أن يكون المقتضي لهذا الوجوب هو علم الله. فثبت : أن المقتضي لهذا الوجوب : صفة من صفات الله ، باشرها في ترجيح أحد طرفي الممكن على الآخر ، وتلك الصفة ليست إلا القدرة أو الإرادة.

فثبت : أن المؤثر في وقوع أفعال العباد ، ليس إلا قدرة [الله (٢)] إما ابتداء أو بواسطة. وذلك هو المطلوب.

وهذا أيضا [برهان (٣)] شريف المطلوب. إلا أن البرهان المبني على اعتبار أحوال المتناقضين أشرف من هذا البرهان. وذلك لأنا في هذا البرهان نفتقر لإقامة الدلالة على كونه تعالى عالم بجميع المعلومات. حتى يثبت لنا عند ذلك : أنه تعالى كان عالما بأفعال العباد قبل وقوعها. وهذه المقدمة إن أخذناها على سبيل أن الخصم شاهد عليها ، كان هذا الكلام إلزاما برهانيا. فإن حاولنا إثباتها بالدليل ، تعذر ذلك علينا. لأن المعتمد في إثبات أنه تعالى عالم بأفعال العباد قبل وقوعها : هو أنه تعالى مقدر لها وخالق لها. فوجب أن يكون عالما بها. فنحن إنما أثبتنا كونه تعالى عالما بها قبل وقوعها ، لأنه ثبت كونه تعالى

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) من (ط ، ل).

٦٤

خالقا لها. فلو أثبتنا كونه تعالى خالقا لها ، بناء على كونه عالما بها قبل وقوعها ، لزم الدور.

وأما البرهان المبني على اعتبار أحوال النقيضين في الصدق والكذب. فهو مبني على أن النقيضين المختلفين بالسلب والإيجاب ، فإنه يجب أن تكون إحداهما صادقة والأخرى كاذبة. وهي مقدمة معلومة بالبديهة. فلا جرم كان هذا البرهان أقرب إلى التقرير ، وأبعد عن الشكوك والشبهات.

وبالله التوفيق

البرهان الثامن

لو حدث بقدرة العبد شيء ، لامتنع أن يقال : إنه إنما صدر عنه هذا الفعل ، لأنه صدر عنه فعل آخر. وإلا لزم التسلسل وهو محال. بل لا بد وأن تنتهي أفعال العبد (١) إلى فعل (٢) أول صدر عنه ذلك الفعل ، لا بواسطة فعل آخر منه ، فنقول : صدور ذلك الفعل عنه ، لا بد وأن يكون لأجل اتصاف ذاته بصفات حصلت بتخليق الله [تعالى (٣)] فنقول: [ذاته (٤)] مع مجموع تلك الأمور المعتبرة في كونه موجدا لذلك. إما أن يكون كافيا في صدور ذلك الأثر عنه ، أو لا يكون. فإن كان كافيا ، كان الفعل مع ذلك المجموع واجبا. إذ لو لم يجب ، لجاز أن يتخلف. ولو جاز أن يتخلف ، لكان صدور الأثر عن ذلك المجموع ممكنا ، لا واجبا. فكان يفتقر إلى زائد آخر. ولو كان كذلك ، لما كان الحاصل قبل ذلك كافيا في صدور الأثر عنه. وكنا قد فرضناه كذلك. هذا خلف. فثبت : أن حصول الأثر عند ذلك المجموع ، يكون واجبا. وهو الجبر.

وأيضا : إذا كان حصول الأثر عند حصول ذلك المجموع غير واجب.

__________________

(١) العباد (م).

(٢) أول فعل (ط ، ل).

(٣) من (ط).

(٤) من (ط).

٦٥

بل يجوز أن يحصل الفعل تارة ، وأن لا يحصل أخرى ، ولم يكن تميز حصول الفعل (١) عن لا حصوله ، بأمر آخر يضمه العبد إلى المجموع ، الذي كان حاصلا. فحينئذ يكون حصول الفعل محض الاتفاق. وهذا أيضا محض الجبر.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : ذات العبد [مع مجموع العبد (٢)] مع مجموع تلك الأمور : غير كاف في كونها مصدرا لذلك الفعل. فحينئذ لا بد من ضم شيء آخر إليه ، وذلك [الأمر (٣)] الآخر ، إن كان فعلا له ، فهو محال. وإلا لزم أن يحصل فعل ، قبل حصول أول الأفعال. وذلك محال. وإن لم يكن فعلا له ، بل كان فعلا لله تعالى ، فعند (٤) حصوله قد تم كل ما لا بد منه في كونه مصدرا لأفعاله. فإما أن يكون صدور أفعاله عنه واجبا ، أو لا يكون وحينئذ يعود التقسيم المذكور بعينه. فثبت : أن حصول الفعل عند حصول كل ما لا بد منه في المؤثرية : واجب. وثبت : أن عند فقدان كل تلك الأمور ، وعند فقدان بعضها ، يكون صدور الفعل عن العبد (٥) ممتنعا. وعلى هذا التقدير ، فإنه يكون القول بالجبر لازما.

وبالله التوفيق

البرهان التاسع

نقول للمعتزلة : إذا جوزتم كون العبد موجدا. فما الأمان من أن يكون محدث المعجزات واحدا من الشياطين والأبالسة. وعلى هذا التقدير فإنه يخرج المعجز من أن يدل على الصدق؟

__________________

(١) لا عن (م).

(٢) سقط (ل).

(٣) سقط (ط).

(٤) قصد (ط).

(٥) الفعل (م).

٦٦

قالوا : الدليل دل على أن غير الله لا يقدر على خلق الجسم والحياة. وتقرير ذلك الدليل ، أن نقول : لو قدر أحد من الخلق على ذلك ، لكان ذلك القدر. إما أن يكون قادرا لذاته ، وإما أن يكون قادرا بالقدرة. والقسمان باطلان ، فبطل القول بكون أحد من الخلق قادرا على خلق الجسم ، وعلى خلق الحياة ، وإنما قلنا : إنه لا يجوز أن يكون قادرا لذاته ، لأن ذلك القادر لا بد وأن يكون جسما ـ والأجسام متماثلة ـ فلو كان الجسم (١) قادرا لذاته ، لكان كل جسم كذلك. ضرورة أن حكم الشيء حكم مثله. ولما بطل هذا ، علمنا : أنه لا يجوز أن يكون قادرا لذاته.

وإنما قلنا : إنه لا يجوز أن يكون قادرا بالقدرة. لأن القدرة لا تصلح بفعل الجسم. ويدل عليه وجهان :

الأول : إن القدرة التي لنا ، لا تصلح لفعل الأجسام ، فهذا الامتناع حكم مشترك فيه بين القدرة التي لنا. والحكم المشترك لا بد من تعليله بوصف مشترك فيه. وما ذاك إلا كونها قدرا. فثبت : أن كون القدرة قدرة : مانعة من صلاحية إيجاد الجسم. فوجب أن تكون كل قدرة كذلك.

الثاني : إن كل قدرة نفرضها. فهي إما أن تكون مثلا لهذه القدرة الحاصلة لنا ، أو مخالفا لها. فإن كانت مثلا لهذه القدرة ، وجب أن لا تكون صالحة للإيجاد. كما أن هذه القدرة غير صالحة للإيجاد. ضرورة أن حكم الشيء [حكم (٢)] مثله. وإن كانت مخالفة لهذه القدر ، لم تكن مخالفتها لهذه القدرة أشد من مخالفة بعض هذه القدر لبعض. فلما كانت هذه القدر مع كون بعضها مخالفا للبعض ، لا يصلح للإيجاد. فكذلك تلك القدرة المفروضة ، وجب أن لا تصلح للإيجاد.

هذا حاصل ما لخصه القوم ، وعولوا عليه ، في أن فاعل المعجزات هو الله تعالى. وهو كلام في غاية الرخاوة والسقوط. فنقول : لم لا يجوز أن يكون

__________________

(١) في الأصل (جسم) والتصحيح ص (م).

(٢) زيادة.

٦٧

ذلك الفاعل قادرا [لذاته (١)] لكان كل جسم كذلك. ضرورة أن الأجسام متماثلة» لكنا لا نسلم أن ذلك الفاعل يجب أن يكون جسما. وذلك لأن الفلاسفة يثبتون موجودات ليست متحيزة [ولا حالة في المتحيز (٢)] كالعقول والنفوس الفلكية ، والنفوس الناطقة. فما لم تقيموا الدلالة على فساد هذا التقسيم ، لا ندرك الجزم بأن ذلك الفاعل ، يجب أن يكون جسما.

والمتكلمون ما ذكروا في ابطال هذا القسم كلاما يصلح أن يلتفت إليه بل نقول : [لم (٣)] لا يجوز أن تكون النفس الناطقة التي لهذا الشيء ، هي التي أحدثت هذا المعجز. وما كانت نفسه مخالفة لسائر النفوس في الماهية ، لم يلزم من قدرته على تلك الأفعال قدرة غيره عليها؟.

وبالجملة : فهذا الاحتمال لا يندفع إلا باقامة الدلالة على أن كل ما سوى الله تعالى ، فهو إما متحيز ، أو حال فيه.

سلمنا : أن ذلك الفاعل يجب أن يكون جسما. فلم قلتم : إن الأجسام كلها متماثلة؟ وما الدلالة على ذلك؟ وتقريره : إن المعلوم : هو أن الأجسام متساوية في وجوب الحصول في الحيز ، وفي كونها بحيث يمنع غيرها عن أن يحصل بحيث هو ، وفي كونها قابلة للأعراض. إلا أن ذلك إشارة إلى الأحكام واللوازم. وقد ثبت : أن الأشياء المختلفة في الماهيات ، لا يمتنع اشتراكها في لازم واحد. فلم قلتم : إن جميع الأجسام [بأسرها (٤)] متساوية في ماهياتها. حتى يتم لكم ما ذكرتم؟ سلمنا : أن الأجسام بأسرها متساوية في تمام الماهية. لكن لم قلتم : «إن الأفراد المتساوية في تمام الماهية ، يجب أن يصح على كل واحد منها ما يصح على الآخر؟» بيانه : وهو أن تلك الأفراد ، وإن كانت متساوية في الماهية ، لكنها مختلفة في التشخّص والتعين. وإلا لكان كل واحد عين الآخر. وحينئذ لا يبقى التعدد. وإذا كان كذلك ، فلم لا يجوز أن يكون

__________________

(١) من (م ، ل).

(٢) من (ل).

(٣) سقط (ط).

(٤) سقط (ل).

٦٨

ذلك التعين شرطا لحصول ذلك الحكم ، في أحد الطرفين ، أو مانعا منه في الطرف الآخر؟.

سلمنا : أن التعين ساقط الاعتبار ، لكن قولكم : «يصح على الشيء ما يصح على مثله» : منقوض بصور كثيرة :

الأول : إن أفراد النوع الأخير متساوية في تمام الماهية. مع (١) أن تعين هذا يمنع حصوله لذاك ، وتعين [ذاك (٢)] يمتنع حصوله لهذا. وإلا لصار هذا عين ذاك ، وذاك عين هذا. وكل ذلك محال [فمحال أن يكون (٣)] مقدور العبد مثل المقدور لله تعالى. ثم [لم (٤)] يلزم منه أن يكون مقدور العبد بحيث صح أن يكون مقدورا لله تعالى ـ على مذهب المعتزلة ـ لأن عندهم مقدور واحد بين قادرين : محال.

الثالث : إن مشايخ المعتزلة : مذهبهم : أن الذوات متساوية في كونها ذوات. وإنما يخالف بعضها بعضا لأجل اختصاص كل واحد منها بصفته الخاصة. فعلى هذا : ذات الله تعالى مساوية لسائر الذوات في الذاتية. ثم لم يلزم منه أن يصح على كل واحد من الذوات [كل (٥)] ما يصح على سائر الذوات. وإلا لزم أن يصح على ذات الله : الحدوث والإمكان ، والحاجة إلى المحل ، وأن يصح على ذوات المحدثات كونها قديمة ، واجبة الوجود. وكل ذلك محال.

الرابع : إن صفة الوجود ـ عندهم ـ صفة واحدة. فيكون الوجود الحاصل في السواد والبياض : مساويا للوجود الحاصل في ذات الله. ولم يلزم الاستواء في جميع الأحكام.

__________________

(١) ثم (ط).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) سقط (ط).

(٤) من (ط ، ل).

(٥) من (ط ، ل).

٦٩

الخامس : عندهم العرض القائم بمحل يمنع حلوله في المحل الثاني ، مع أن [مثل (١)] ذلك العرض ، قد يكون قائما بالمحل الثاني. فههنا المتماثلات في تمام الماهية ، قد اختلفت في اللوازم.

السادس : إن الإرادتين المعلقتين بالمراد الواحد ، على الوجه الواحد : مثلان. [ثم (٢)] إن إحداهما قد تكون في محل ، والأخرى لا في محل ، والإرادة التي حصلت في المحل يمتنع حصولها لا في محلّ وبالعكس.

السابع : العرض الذي لا يبقى : يختص حدوثه بوقت معين. بمعنى أنه يمتنع حدوثه إلا في الوقت الذي حدث فيه. ثم إن تلك الأعراض متماثلة. كما (٣) أن الأصوات متماثلة في تمام الماهية [فههنا المساواة في تمام الماهية (٤)] حاصلة ، ولم يلزم منه المساواة في كل الأحكام.

الثامن : عندهم العبد إذا فعل فعلا ، ثم فني. فإنه لا يقدر على إعادته بعد العدم ، وقد يقدر على إيجاد مثله. فههنا المتماثلات في تمام الماهية ، لم تكن متساوية في كل الأحكام.

التاسع : الوجود صفة واحدة عندهم. وأيضا : فعندهم تأثير القادر ليس إلا في تحصيل الوجود. فإن الماهيات ـ عند مشايخهم ـ ثابتة في العدم ، فيمتنع أن يكون للقادر فيها تأثير. ثم مع هذا ، العبد يقدر على تحصيل الوجود لبعض الماهيات دون البعض.

العاشر : الجوهر حال حدوثه مفتقر إلى الفاعل ، وحال بقائه يمتنع إسناده إلى الفاعل. والتفاوت بين الذات الواحدة : بحسب وقتين من التفاوت ، بين ذاتين متفاوتين. فإذا جاز أن يختلف في الشخص (٥) الواحد بحسب وقتين ، في

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) فإن الأصوات (ط).

(٤) من (ط ، ل).

(٥) يختلف جاز الشخص (ط).

٧٠

الأحكام اللازمة ، فلم لا يجوز مثله في الذاتين المتفاوتين؟.

والحاصل : إن دليلهم على أن غير الله ، يمتنع أن يكون قادرا لذاته : مبني على ثلاث مقدمات :

أولها : إن ذلك المغاير يجب أن يكون جسما.

وثانيها : إن الأجسام متماثلة.

وثالثها : إن المتماثلات في تمام الماهية ، يجب تساويها في جميع اللوازم.

وقد ظهر : أن تنافي هذه المقدمات ، لم يتقرر البتة.

المقام الثاني : لم لا يجوز أن يكون قادرا بالقدرة؟

أما قوله : «القدرة الحاصلة ، عند ما لا يصلح شيء منها ، لإيجاد الجسم. فهذا الامتناع حكم مشترك ، فلا بد من علة مشتركة (١) ولا مشترك إلا كونها قدرا» قلنا : هذا الكلام أيضا مبني على أربع مقدمات :

أولها : قوله : «هذا الامتناع لا بد له من علة» وهذا باطل لأن الامتناع عدم محض ، والعدم لا علة له.

وثانيها : قوله : «الحكم المشترك لا بدّ له من علة مشتركة» وهذا أيضا باطل. بدليل : أن القبح عند المعتزلة ، وصف مشترك فيه بين الظلم والجهل ، والكذب والعبث. ثم إن قبح الظلم عندهم معلل بخصوص كونه ظلما ، وقبح الجهل معلل بخصوص كونه جهلا. فهذا حكم مشترك فيه. وهو غير معلل بعلة مشترك فيها.

وثالثها : قوله : «لا شركة إلا كونها قدرا» وهذا أيضا ممنوع. فلم لا يجوز أن يقال القدر على قسمين : قسم لا يصلح لخلق الجسم ، وقسم يصلح لذلك. والقسم الذي لا يصلح لخلق الجسم : مشترك في وصف واحد ، ولأجل ذلك الوصف يتعذر فعل الجسم بها. وذلك الوصف غير حاصل في القسم الثاني؟ وأقصى ما في الباب : أنا لا نعرف ذلك. لكن عدم العلم

__________________

(١) اشتراكه (م ، ل).

٧١

بالشيء ، لا يدل على العلم بعدم الشيء.

ورابعها : إن كون القدرة قدرة ، لما كانت على هذا الحكم ، وجب أن تكون كل قدرة مانعة من هذا الحكم. وهذا بناء على أن حكم الشيء حكم مثله. وقد بينا ما في هذه المقدمة.

وأما قوله ثانيا : «تلك القدرة إذا كانت مخالفة لهذه القدر ، لم تكن مخالفتها لهذه القدر التي عندنا أشد من مخالفة بعض هذه القدر لبعض. وإذا كانت هذه القدر ، مع مخالفة بعضها لبعض ، لا تصلح لخلق الجسم ، فكذلك تلك القدرة وجب أن لا تصلح لخلق الجسم».

فنقول : هذا أيضا في غاية السقوط. وبيانه من وجوه :

الأول : لا نسلم أن مخالفة تلك القدرة المفروضة ، لهذه القدر ، ليست أشد من مخالفة بعضها لبعض. فإن من الجائز أن يقال : إن هذه القدر ـ وإن كان بعضها يخالف بعضها ـ إلا أنها متشاركة في أنها لا تصلح لخلق الجسم ، أما تلك القدرة المفروضة فهي مخالفة لجملة هذه القدر. من حيث إن تلك القدرة صالحة لخلق الجسم ، وجملة هذه القدر ، لا تصلح لخلق الجسم. وكانت مخالفة هذه القدرة لجملة هذه القدر ، أشد من مخالفة بعض هذه القدر لبعض. فإن ادعيتم أن الأمر ليس كذلك ، فهو عين محل النزاع.

الثاني : [سلمنا (١)] أن مخالفة تلك القدرة لهذه القدر ، ليست أشد من مخالفة بعض هذه القدر لبعض. إلا أن هذه القدر ، لها ماهيات مخصوصة ، ولها أيضا : أن بعضها مخالف لبعض. فعلى هذا : الامتناع ليس [هو (٢)] كون بعضها مخالفا للبعض ، حتى يطرد هذا الحكم في جميع القدر ، التي يخالف بعضها بعضا. بل علة هذا الامتناع : تلك الماهية المخصوصة. ولما كانت تلك الماهية المخصوصة ، غير حاصلة في سائر القدر : سقط ما ذكرتم.

__________________

(١) من (م ، ل).

(٢) من (ط).

٧٢

الثالث : إن هذا الكلام يلزم عليه أن يصح على ذات الله تعالى ، كل ما يصح على كل الحوادث. فإنه يقال : ذات الله تعالى. إما أن تكون مساوية لهذه الذوات ، أو تكون مخالفة لها. فإن كان الأول ، وجب أن يصح عليه تعالى كل ما يصح على هذه الحوادث. وإن كان الثاني لم تكن مخالفة ذاته لهذه الذوات ، إلا كمخالفة بعض هذه الحوادث. وإن كان الثاني لم تكن مخالفة ذاته لهذه الذوات ، إلا كمخالفة بعض هذه الذوات لبعض. فكما أن هذه الذوات مع مخالفة بعضها لبعض ، متشاركة في الحدوث والإمكان والتغير ، وجب أن تصح كل هذه الأمور على ذات الله تعالى. ولما كان هذا الكلام باطلا ، فكذا ما ذكرتم.

وبالله التوفيق

فهذا حكاية عمدة المعتزلة. في أن غير الله ، لا يقدر على فعل الجسم ، وعلى فعل الحياة. وقد ظهر ضعفه وسقوطه. فثبت : أنهم [لما (١)] جوزوا كون العبد موجدا لبعض الحوادث ، لزمهم تجويز كونه موجدا لكلها ، ومتى جوزوا ذلك [خرج (٢)] المعجز عن كونه دليلا على الصدق.

وبالله التوفيق

البرهان العاشر

إن (٣) كل فاعلين ، يكون فعل أحدهما أشرف من فعل الثاني ، كان فاعل الأشرف [أشرف (٤)] من فاعل الفعل الأخس.

ودليل صحة هذه المقدمة : الاستقراء التام في جميع الأفعال ، وجميع

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) سقط (م).

(٣) العاشر : سقط (م).

(٤) من (ط).

٧٣

الفاعلين. ولا شك أن أشرف المخلوقات الإيمان بالله تعالى. ولو كان هذا واقعا بتخليق العبد، لزم أن يكون مخلوق العبد أشرف من جميع مخلوقات الله تعالى. وذلك يقتضي أن يكون العبد أشرف من الله. ولما كان باطلا بالإجماع ، علمنا : أن إيمان العبد ليس خلق للعبد ، بل هو خلق لله تعالى. وهو المطلوب.

وبالله التوفيق

٧٤

الفصل الثاني

في

تقرير الدلائل الدالة

على أن قدرة العبد غير مؤثرة

في خروج شيء من العدم الى الوجود

البرهان الأول

فعل العبد : ممكن. وكل ممكن فهو واقع بقدرة الله تعالى. ينتج : أن فعل العبد واقع بقدرة الله تعالى.

أما أن فعل العبد ممكن : فلا نزاع فيه. وأما أن كل ممكن فإنه لا يقع إلا بقدرة الله تعالى. فالدليل عليه :

أن الإمكان من حيث إنه هو إمكان : مفهوم واحد في كل الممكنات. والإمكان محوج إلى السبب. فإما أن يحوج إلى سبب بعينه ، أو إلى سبب لا بعينه. بل يحوج إلى سبب ما مبهم ، أيّ سبب [كان (١)]. وهذا الثاني باطل. لأن المبهم في نفسه لا وجود له البتة في الأعيان. لأن كل ما له حصول وثبوت في الأعيان ، فله في نفسه تعين وتميز ، يمتاز به عما سواه. فثبت : أن كل ما كان موجودا في الأعيان ، فهو في نفسه معين. فما لا يكون في نفسه معينا ، امتنع كونه موجودا في الأعيان ، وما لا يكون موجودا في الأعيان ، امتنع أن يكون سببا لوجود غيره في الأعيان. فثبت : أن الإمكان سبب للاحتياج إلى سبب ، وثبت : أنه يستحيل أن يكون سببا للاحتياج إلى سبب مبهم ، فوجب

__________________

(١) من (ط).

٧٥

أن يكون سببا للاحتياج إلى سبب معين. فإذا كان الإمكان أمرا واحدا في جميع الممكنات ، لزم القطع بافتقار جميع الممكنات إلى ذلك الشيء الواحد بعينه ، وما احتاج إليه كل الممكنات ، لم يكن من الممكنات ، وإلا لزم افتقار الشيء إلى نفسه. فوجب أن يكون واجبا لذاته. فثبت : أن جميع الممكنات لا يوجد شيء منها إلا بإيجاد الواجب لذاته. وذلك هو المطلوب.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : الإمكان سبب للحاجة إلى السبب ، من حيث هو سبب. ولا شك أن السبب من حيث إنه سبب : أمر متعين في نفسه وذاته.

والجواب : إن كونه تعالى موجبا أو مؤثرا (١) إما أن يكون هو نفس ذاته المخصوصة ، وإما أن يكون [أمرا (٢)] زائدا عليها. فإن كان الأول فقد حصل المقصود. لأنه لما كان ذاته المخصوصة ، وكون [تلك (٣)] الذات المخصوصة سببا ومؤثرا في الغير : أمرا واحدا ، والإمكان علة للانتساب إليه ، من حيث إنه مؤثر. فوجب أن يكون الامكان علة للانتساب إلى ذاته المخصوصة. فوجب أن لا يقع شيء من الممكنات ، إلا بتلك الذات المخصوصة. وذلك هو المطلوب.

وإن كان الثاني. لزم أن تكون المؤثرية والسببية : وصفا زائدا على الذات المخصوصة ، والوصف مفتقر إلى الموصوف. فهذه السببية مفتقرة لذاتها ولعينها إلى موصوف. فإما أن يفتقر إلى موصوف [مبهم (٤)] أو إلى موصوف معين. وحينئذ يعود التقسيم المذكور هاهنا. ويلزم التسلسل. ولما كان ذلك باطلا ،

__________________

(١) تعيين وقتين ويمتاز عما سواه (م).

(٢) مؤثرا له (ط).

(٣) زيادة.

(٤) من (ل).

٧٦

ثبت : أنه لا مؤثر إلّا الواحد [الأحد (١)] الحق.

البرهان الثاني

مقدور العبد مقدور لله تعالى. ومقدور الله تعالى لا يحصل إلا بقدرة الله تعالى. ينتج : أن مقدور العبد لا يحصل إلا بقدرة الله تعالى. وهو المطلوب.

أما المقدمة الأولى : وهي قولنا : إن مقدور العبد مقدور لله تعالى. فيدل عليه وجوه :

الأول : إن مقدور العبد شيء ، وكل شيء فإنه مقدور لله. لقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٢) ينتج : أن مقدور العبد مقدور لله تعالى.

الثاني : إن مثل مقدور العبد مقدور لله تعالى. ومتى كان الأمر كذلك ، وجب أن يكون مقدور العبد مقدور الله تعالى. أما الأول. فلأن العبد إذا حرك إصبعه. فمعناه : أنه حصل ذلك الجسم في ذلك الحيز. ولا شك أنه تعالى قادر على تحصيل ذلك الجسم في ذلك الحيز. فثبت : أن مثل مقدور العبد مقدور لله تعالى. وأما الثاني : فلأن المثلين متشاركان في تمام الماهية ، والمتشاركان في تمام الماهية يجب اشتراكهما في جميع اللوازم. لأن تلك اللوازم لما كانت صفات لا تستقل بأنفسها وجب كونها مفتقرة. والمؤثر فيها إما الماهية وإما (٣) أمرا وراء الماهية. فإن كان الموجب هو الماهية ، لزم حصول تلك الماهية بتمامها في كل تلك الأفراد ، وحصول ما هو الموجب التام لذلك الحكم (٤) فيجب حصول ذلك الحكم. وإن كان الموجب أمرا وراء الماهية. فالذي [هو (٥)] وراء الماهية ، هو التعين. لكن التعين قيد عدمي. إذ لو كان ثابتا ،

__________________

(١) سقط من (ط).

(٢) سورة البقرة ، آية : ٢٠.

(٣) وإما مرور الماهية (م ، ط ، ل).

(٤) لذلك التام (م).

(٥) سقط (م).

٧٧

لافتقر إلى معين آخر. ولزم التسلسل ، وهو محال. والقيد العدمي لا دخل له في التأثير. ولما سقط التعين ، لم يبق إلا أصل الماهية. وحينئذ يحصل التقريب.

وأما النقوض العشرة التي أوردناها في هذه المقدمة على المعتزلة فهي لازمة على مذاهبهم. وأما نحن إذ كنا لا نقول بتلك المذاهب ، لم يلزم علينا تلك النقوض. فثبت : أن مثل مقدور العبد مقدور لله تعالى ، وثبت : أن ما صح على الشيء ، صح على مثله ، فوجب القطع بأن مقدور العبد ، يصح أن يكون [مقدورا (١)] لله تعالى وإذا حصلت هذه الصلاحية ، وجب تعلق قدرة الله تعالى به. إذ لو لم تتعلق قدرة الله تعالى به ، مع أنه يصح [تعلق (٢)] قدرته به ، لكان تعلق قدرته ببعض المقدورات دون البعض : ترجيحا لأحد طرفي الجانب على الآخر. وذلك لا يحصل إلا لمخصص قادر. فيلزم : أن لا يصير الله تعالى قادرا على مقدوراته ، إلا لأجل أن شيئا آخر قدر عليه. ولما كان ذلك في حق الله تعالى محالا ، علمنا : أنه قادر على جميع المقدورات ، فوجب القطع بكونه تعالى قادرا على مقدور العبد.

الحجة الثالثة على أنه تعالى قادر على مقدورات العباد : وهي : إنه لا شك أن الله تعالى قادر على بعض الممكنات. فكون ذلك البعض ، بحيث يصح أن يكون مقدورا لله تعالى ، وجب أن يكون معللا بإمكانه. لأنا لو رفعنا الإمكان ، بقي. إما الامتناع ، وإما الوجوب. وهما يحيلان المقدورية. وما كان مانعا من الشيء ، لا يكون علة لحصوله. ولما خرج الوجوب والامتناع عن أن يكونا علة لصحة المقدورية ، بقي الإمكان مانعا لهذه العلية. فثبت : أن الذي لأجله يصح في بعض الممكنات أن يكون مقدورا لله تعالى ، حاصل في جميع الممكنات ، فوجب القطع بأن جميع الممكنات يصح عليها أن تكون مقدورة لله تعالى. ولما ثبت عموم هذه الصحة فلو تعلقت قدرة الله ببعضها دون

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) سقط (ط).

٧٨

بعض (١) لزم الافتقار إلى المخصص ، وهو محال. فثبت : أنه تعالى قادر على جميع الممكنات.

الحجة الرابعة : لا شك أنه تعالى قادر على نقل ذلك الجسم ، من ذلك الحيز إلى الحيز الثاني. وأيضا (٢) : العبد قادر عليه. فلو لم يكن مقدور العبد مقدورا لله تعالى ، لكان ذلك الانتقال ، الذي حصل بقدرة العبد : مميزا عن ذلك الانتقال الذي حصل بفعل الله تعالى ، قبل دخولهما في الوجود. لأنه قبل دخولهما في الوجود ، صدق على أحدهما أنه يجب أن يكون مقدورا لله تعالى ، ويمتنع أن يكون مقدورا للعبد ، وصدق على الثاني أنه يجب أن يكون مقدورا للعبد ، ويمتنع أن يكون مقدورا لله تعالى. والتباين باللوازم والصفات ، موقوف على التباين بالحقائق والماهيات. فثبت : أنه لو لم يكن مقدور العبد ، مقدورا لله تعالى ، لوجب أن يكون الانتقال الذي هو مقدور للعبد ، مميزا عن الانتقال الذي هو مقدور لله تعالى ، قبل الدخول في الوجود. إلا أن هذا محال لوجهين :

الأول : إنه يلزم منه كون المعدوم شيئا ، وهو محال.

والثاني : حصول الجسم في الحيز لا حقيقة له ، ولا ماهية [له (٣)] إلا هذا الحصول ، وتحقق هذا الحصول حال كون الجسم معدوما : محال. إلا أن يقال : الجسم حال عدمه حاصل في الحيز ، ومنتقل من حيز إلى حيز آخر. إلا أن هذا لا يقوله عاقل. ولو جاز ذلك ، فكيف الأمان (٤) من كون هذه المتحركات والساكنات معدومة؟ ومعلوم أن من جوز ذلك ، فهو [قد (٥)] فارق العقل بالكلية.

الحجة الخامسة : إن الحركة التي هي مقدورة للعبد ، والحركة التي هي

__________________

(١) البعض (م ، ل).

(٢) والعبد أيضا (ط).

(٣) زيادة.

(٤) الآن ما من كون (ط ، ل).

(٥) من (م ، ل).

٧٩

مقدورة لله تعالى. إما أن يكون لهما تحقق وتعين قبل الدخول في الوجود ، أو لا يكون. والأول محال. لأنه لا معنى للمقدور إلا الذي يكون تحققه وتكونه يقع بتأثير القادر. وما كان كذلك ، كان تحققه متأخرا عن تأثير قدرة القادر ، والمتأخر عن تأثير القادر ممتنع أن يكون هو بعينه مقدما على تأثير القادر. فثبت : أن الذي هو مقدور للعبد ، والذي هو مقدور لله تعالى : لا تحقق له ، ولا تعين له ، قبل الدخول في الوجود. وما كان كذلك ، امتنع أن يقع فيه [الامتياز ، وكل ما لا امتياز فيه (١)] امتنع أن يقال : إن شيئا منه مقدور للعبد ولا لله ، وشيء آخر منه مقدور لله ولا للعبد. فثبت : أن القول بأن مقدور العبد غير مقدور الله : يفضي إلى هذين القسمين الباطلين ، فيكون باطلا بهذا الطريق.

ومعنى قول من يقول : «إن تلك المقدورات أشياء وأمور حاصلة في العدم» أنا نقول : إن بتقدير أن يتحقق في العدم [شيء (٢)] أمور متميزة. إلا أن على هذا التقدير ، يمتنع كونها مقدورة. لأن المقدور هو الذي يكون تحققه ووقوعه ، لأجل تأثير القادر [فيه(٣)] وما كان متحققا في العدم ، يمتنع أن يقال : إن تحققه وتعينه لأجل تأثير القادر فيه. فثبت : أن ما كان مقدورا ، يمتنع كونه متحققا في العدم. وهذا كلام معتقد متين في تقرير هذا المطلوب.

الحجة السادسة : إنه تعالى هو الذي أقدر العبد على الفعل. ومن أقدر غيره على شيء ، وجب أن يكون هو قادرا عليه. لأن العاجز عن الشيء ، يمتنع أن يجعل غيره قادرا عليه ، كما أن الجاهل بالشيء يمتنع أن يجعل غيره عالما بذلك الشيء.

ولما توافقنا على أن الله تعالى هو الذي أقدر العبد على الفعل (٤) وثبت : أن من أقدر غيره على فعل ، وجب أن يكون قادرا عليه : لزم القطع بكون الله تعالى قادرا على مقدور العبد.

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) من (ل).

(٣) من (ط ، ل).

(٤) العبد (م ، ط).

٨٠