المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

طرفي الممكن على الآخر لا لمرجح. ولا شك أن هذا أقبح وأقطع مما ألزموه علينا.

وأما الوجه الثالث من الوجوه التي نسبناها إليهم :

فجوابه : إن مذهبهم : أن حصول الفعل لا يتوقف على الداعي. وحينئذ يلزمهم على هذا المذهب ، عين ما ألزموه علينا.

وبالله التوفيق

وأما بيان أن كل من نفى كون العبد موجدا ، فإنه يتعذر عليه الاعتراف بالنبوة (١) فبيانه من ثلاثة وجوه :

__________________

(١) في التوراة ، وفي الإنجيل : نبوءات واضحة الدلالة على نبي الإسلام ، محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. نذكر منها :

أولا : البشارة بنبي الإسلام في التوراة

أولا : جاء في سفر التكوين : أن الله تعالى وعد إبراهيم عليه‌السلام بأن يطرح البركة في ولديه أ ـ إسماعيل ب ـ وإسحاق. وقد فسر علماء اليهود البركة بأنها تعني أ ـ الملك ب ـ والنبوة. أي يكون من نسل إسحاق : نبي وملوك على الشعوب. ويقولون إن بركة إسحاق عليه‌السلام قد تحققت. فإنه أنجب يعقوب ، ومن سلالة يعقوب جاء النبي موسى عليه‌السلام بالتوراة. وقد انتشر اليهود في الأرض أمما ، وحكموا وعلّموا. كما قال تعالى : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ : يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ. إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ ، وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً. وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ) [سورة المائدة ، آية ٢٠] والتوراة نصت على ١ ـ بركة إبراهيم ٢ ـ وعلى بركة لإسحاق ٢ ـ وعلى بركة لإسماعيل. كما نص القرآن في قوله تعالى : (رَحْمَتُ اللهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ) [سورة هود ، آية : ٧٣] وفي قوله تعالى : (وَبارَكْنا عَلَيْهِ ، وَعَلى إِسْحاقَ) [سورة الصافات ، آية : ١١٣] أي على إسماعيل الذبيح ، وإسحاق أخيه. وهذا هو نص التوراة في البركة :

١ ـ «بذاتي أقسمت يقول الرب : إني من أجل أنك فعلت هذا الأمر ، ولم تمسك ابنك وحيدك. أباركك مباركة ... ويتبارك في نسلك جميع أمم الأرض. من أجل أنك سمعت لقولي» [تكوين ٢٢ : ١٦ ـ ١٨] ٢ ـ «وقال الله لإبراهيم : ساراى امرأتك لا تدعوا اسمها ساراى ، بل اسمها سارة ، وأباركها وأعطيك أيضا منها ابنا. أباركها فتكون أمما. وملوك شعوب منها يكونون» [تكوين ١٧ : ١٥ ـ ١٦] ٣ ـ «وقال إبراهيم لله : ليت إسماعيل يعيش أمامك؟ فقال الله : وأما إسماعيل فقد سمعت لك فيه. ها أنا أباركه. وأثمره. وأكثّره كثيرا جدا. أثنى عشر رئيسا يلد وأجعله أمة كبيرة» [تكوين ١٧ : ١٨ ـ ٢٠].

١٢١

__________________

من هذه النصوص يتبين لنا : أن البركة الموعود بها إبراهيم وهي على تفسير اليهود. تعني الملك والنبوة. هي لإسماعيل كما هي لإسحاق. وحيث تحققت مع بني إسحاق في شخص نبي ، بدأت البركة من ظهوره لأنه صاحب شريعة. لا بد وأن تتحقق مع بني إسماعيل في شخص نبي ، تبدأ بركة إسماعيل من ظهوره. والتاريخ يشهد : أن صاحب الشريعة في نسل إسحاق هو موسى. ويشهد أن صاحب الشريعة في نسل إسماعيل هو محمد. ولذلك جاء في القرآن الكريم أن محمدا مماثل لموسى في قوله تعالى : (إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ ، كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً) [المزمل ١٥].

ثانيا : جاء في الاصحاح الثامن عشر من سفر التثنية هذا النص : «يقيم لك الرب إلهك : نبيا من وسطك. من إخوتك. مثلي. له تسمعون ... أقيم لهم : نبيا من وسط إخوتهم. مثلك. وأجعل كلامي في فمه. فيكلمهم بكل ما أوصيه به. ويكون أنّ الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي. أنا أطالبه وأما النبي الذي يطغى فيتكلم باسمي كلاما لم أوصه أن يتكلم به أو الذي يتكلم باسم آلهة أخرى. فيموت ذلك النبي. وإن قلت في قلبك : كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب؟ فما تكلم به النبي باسم الرب ، ولم يحدث ولم يصر ، فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب. بل بطغيان تكلم به النبي. فلا تخف منه» [التثنية ١٨ : ١٥ ـ ٢٢].

ومن هذا النص يتبين مجيء نبي بعد موسى عليه‌السلام. وهذا النبي لا بد وأن يكون من نسل إسماعيل. لأن لإسماعيل بركة. وهذا النص يوضح أوصاف النبي الآتي بتسعة أوصاف : ١ ـ نبي ٢ ـ من بني إسماعيل لقوله من وسط إخوتهم ولقوله في سفر التكوين إن لإسماعيل بركة ٣ ـ مثل موسى في المعجزات والانتصار على الأعداء في الحروب. وقد نصت التوراة في آخر سفر التثنية بأنه لن يأتي نبي في المستقبل من بني إسرائيل مثل موسى. وحيث أن لإسماعيل بركة ، ولن يأتي مماثل لموسى من اليهود ، ونص النبوءة بقول عن النبي المنتظر : إنه مثل موسى. يكون النبي المنتظر هو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ٤ ـ أمي. لا يقرأ ولا يكتب «واجعل كلامي في فمه» ٥ ـ ينسخ شريعة موسى «له تسمعون» ٦ ـ أمين على الوحي الإلهي «فيكلمهم بكل ما أوصيه به» ٧ ـ يقضي على ملك بني إسرائيل في العالم «ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي : أنا أطالبه» وفي بعض التراجم : أنا أنتقم منه وأهلكه ٨ ـ لا يقتل : «وأما النبي الذي يطغى ... الخ» ٩ ـ يتحدث عن غيب ويقع في مستقبل الأيام «وإن قلت في قلبك ... الخ» والأوصاف كلها تنطبق على محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثالثا : في الأصحاح التاسع والأربعين من سفر التكوين قول يعقوب لبنيه : «لا يزول قضيب من يهودا ومشترع من بين رجليه ، حتى يأتي شيلون. وله يكون خضوع شعوب» [تكوين ٤٩ : ١٠] أي لا يزول الملك من بني إسرائيل ، ولا تنسخ شريعتهم ، شريعة التوراة ، حتى يأتي نبي الأمان. ولا بد وأن يكون شيلون من غير بني إسرائيل. لأن النص يوضح زوال الملك منهم إذا ظهر شيلون. ولو كان هو منهم لاستمر الملك ولم يزل. والمراد منه: نبي الاسلام لثبوت بركة في نسل إسماعيل عليه‌السلام.

رابعا : قال موسى في نهاية التوراة : «وهذه هي البركة التي بارك بها موسى رجل الله بني ـ

١٢٢

__________________

ـ إسرائيل قبل موته. فقال : «جاء الرب من سيناء. وأشرق لهم من سعير. وتلألأ من جبال فاران. وأتى من ربوات القدس ، وعن يمينه نار شريعة لهم. فأحب الشعب جميع قديسيه في يدك. وهم جالسون عند قدمك ، يتقبلون من أقوالك» [تثنية ٣٣ : ١ ـ ٣] وفي هذا النص نجد الكاتب يخبر عن تقسيم البركة الموعود بها إبراهيم عليه‌السلام حسب ما جاء عن موسى عليه‌السلام فقال : إن الله جاء من سيناء ، أي ظهرت شريعته على يد موسى في طور سيناء. ويعني بالإشراق من ساعير : أن علماء بني إسرائيل كانوا يفسرون التوراة في أرض فلسطين والأردن. ويعني بالتلألؤ من جبال فاران : ظهور شريعة واضحة من فاران. والدليل على أن فاران جبال مكة ، وعلى أن فاران موطن بني إسماعيل ما جاء في التوراة أن ملاك الله قابل هاجر وقال لها : «قومي احملي الغلام وشدي يدك به. لأني سأجعله أمة عظيمة ... وكان الله مع الغلام فكبر ، وسكن في البرية ، وكان ينمو رامي قوس. وسكن في برية فاران» [تكوين ٢١] وفي بعض التراجم ـ وهي اليونانية ـ وأتى مع ربوات جيش المقدسين ... الخ أي أن أصحاب النبي محمد سيأتون إلى فلسطين لإنهاء الشريعة اليهودية منتها إلى غير رجعة. ومن يعمل بها بعد ظهوره لا يقبل عمله لدى الله. لأن الله نسخها على يد محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

ثانيا : البشارة بنبي الإسلام في الإنجيل

تمهيد :

الأناجيل المقدسة عند النصارى هي : إنجيل متى ومرقس ولوقا ويوحنا وفي هذه الأناجيل صفة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفي إنجيل اسمه المبارك أحمد. ولقد ظهر في القرن التاسع عشر إنجيل يسمى بإنجيل برنابا وفيه اسم محمد وأوصافه. ويطول بنا الحديث إذا ذكرنا نصوص النبوءات كلها. من الأناجيل. ولذلك سنختار النص الذي يشير إلى اسم أحمد في إنجيل يوحنا.

النص :

في الأصحاح الرابع عشر من إنجيل يوحنا وما بعده. قال المسيح لتلاميذه : «إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي. وأنا أطلب من الأب فيعطيكم معزّيا آخر. ليمكث معكم إلى الأبد. روح الحق. الذي لا يستطيع العالم أن يقبله ، لأنه لا يراه ولا يعرفه. وأما أنتم فتعرفونه ، لأنه ماكث معكم ويكون فيكم» ـ «وأما المعزّي ـ الروح القدس ـ الذي سيرسله الأب باسمي ـ فهو يعلمكم كل شيء ، ويذكركم بكل ما قتله لكم» ـ «وقلت لكم الآن قبل أن يكون ، حتى متى كان تؤمنون» ـ لكني أقول لكم الحق : إنه خير لكم أن أنطلق. لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي. ولكن إن ذهبت أرسله إليكم. ومتى جاء ذاك يبكّت العالم عن خطية وعلى بر وعلى دينونة. أما على خطية فلأنهم لا يؤمنون بي. وأما على بر فلاني ذاهب إلى أبي ولا ترونني ، وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين. إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم. ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن. وأما متى جاء ذاك روح الحق ، فهو يرشدكم إلى جميع الحق ، لأنه لا يتكلم من نفسه ، بل كل ما يسمع يتكلم به. ويخبركم بأمور آتية. ذاك يمجدني ، لأنه يأخذ لي مما لي ويخبركم» [يو ١٤ ، ١٥ ، ١٦] ـ

١٢٣

الأول : إن العجز إنما يدل على صدق المدعى ، إذا اعتقدنا أنه لا يجوز ظهوره عقيب دعوى الكذاب. فمن اعتقد أنه لا خالق لجميع أنواع الكفر والفواحش إلا الله تعالى. فكيف يمكنه أن يقول : إنه لا يجوز من الله تعالى إظهار المعجز عقيب دعوى الكذاب؟ بل نقول : إنه لا يفسده في إظهار المعجز عقيب دعوى الكذب ، إلا أن ذلك قد يؤدي إلى الجهل والتلبيس.

فمن قال : إنه تعالى هو الخالق لكل كفر ، وكل جهل ابتداء. فكيف

__________________

ـ ووجه الدليل في هذا النص.

١ ـ كلمة «المعزّي» ٢ ـ والأوصاف التي وردت في النص عن «المعزّي» ـ بضم الميم وفتح العين وتشديد الزاي مكسورة ـ أما كلمة «المعزّي» فهي في التراجم الحديثة ، وموضوع بدلها في التراجم القديمة كلمة «باركيت» أو فارقليط في بعض التراجم معناها : النائب عن المسيح الذي سيأتي ليعزي بني إسرائيل في فقدهم الملك والنبوة. فمن هو المعزي؟

أ ـ يقول النصارى إنه الإله الثالث في الثالوث المقدس. ويقولون : إنه قد أتى بعد رفع المسيح إلى السماء بخمسين يوما.

ب ـ ويقول المسلمون : إنه محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ويستدلون على قولهم بما يلي :

١ ـ إن النصارى وعلماء اللغات يقولون إن كلمة «بيركليت» كلمة عبرانية ومعناها : أحمد. وتترجم في اليونانية «بيركليتوس» وحيث أن اللغة العبرانية لم يكن فيها حروف مدّ قبل القرن الخامس الميلادي. فإذن يكون المسيح قد نطق «بيركليت» ولم ينطق «باركليت» ويؤكد هذا أن وجهة نظر النصارى في «المعزّي» وجهة باطلة. لأن التوراة نصت على أن الله واحد وكذلك نص الإنجيل. وعلى ذلك فالقول بالتثليث قول باطل.

٢ ـ إن الأوصاف الواردة في النص تدل على شخص بشري. ومن الأوصاف : أنه يبكت العالم ويخبر بكل شيء ويعلم كل شيء ويمجد المسيح ويرشد إلى جميع الحق.

٣ ـ أن اليهود كانوا ينتظرون «النبي» الذي نصت التوراة على مجيئه في زمان المسيح عليه‌السلام. ولم يخبر المسيح أنه هو ، وقد أخبر يوحنا المعمدان ـ الذي هو يحيى عليه‌السلام ـ بأنه سيأتي من بعده ، بقوله : «يأتي بعدي من هو أقوى مني ، الذي لست أهلا أن أنحني وأحل سيور حذائه» [متى ٣] والذي يدل على أن اليهود كانوا ينتظرون هذا النبي زمان المسيح : ما جاء في الأصحاح الأول من إنجيل يوحنا : أن اليهود من أورشليم أرسلوا وفدا من العلماء ليسألوا يحيى : هل أنت النبي؟ هل أنت المسيح؟ هل أنت إيلياء؟ وأجاب يحيى لست المسيح ولست إيلياء ولست النبي. ثم نطق بقوله : «توبوا فقد اقترب ملكوت السموات» ونطق بقوله : «يأتي بعدي من هو أقوى مني ... الخ» ولقد نطق المسيح بمثل قوله فقد بدأ دعوته كما هو مبين في الأصحاح الثالث والرابع من إنجيل متى بقوله لبني إسرائيل : «توبوا فقد اقترب ملكوت السموات» مما يدل على تشابههما في الهدف من الدعوة ، وأنهما معا يبشران بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

١٢٤

يمكنه أن يقول : إنه تعالى لا يجوز منه أن يفعل [ما قد يؤدي (١)] إلى الجهل والتلبيس؟ لا يقال : الدليل على أنه لا يجوز من الله تعالى إظهار المعجز على يد الكذاب : أنه تعالى قادر على أن يعرفنا صدق الأنبياء عليهم‌السلام على سبيل الضرورة. فوجب أيضا أن يقدر [على (٢)] أن يعرفنا صدقهم بالدليل ، وإلا لزم المعجز. ثم إنه ثبت أنه لا دليل سوى المعجز ، فلو جوزنا من الله تعالى أن يظهر المعجز على يد الكاذب ، فحينئذ لزم أن لا يقدر الله تعالى على أن يعرفنا صدق الأنبياء على سبيل الاستدلال. وذلك يفضي إلى تعجيز الله تعالى ، وأنه محال.

لأنا نقول : هذا الكلام ضعيف من وجوه :

الأول : لا نسلم أنه تعالى لما قدر على أن يعرفنا صدق الأنبياء على سبيل الاضطرار ، وجب أن يقدر على أن يعرفنا من صدقهم على سبيل الاستقلال. وما الجامع بينهما؟

ثم إن القول (٣) بأن الله تعالى هو الخالق للكفر والفواحش ، يمتنع أن ينفي المعجز وجه دلالته على الصدق. والقادر إنما يكون قادرا على ما يكون في نفسه جائزا صحيحا ، لا على ما يكون في نفسه ممتنعا. وليس كذلك تعريف صدقهم على سبيل الضرورة. لأن ذلك غير ممتنع في نفسه ، فصح كونه قادرا عليه. وظهر الفرق.

الثاني : سلمنا أنه تعالى لما قدر على تعريف صدق الأنبياء اضطرارا ، وجب أن يقدر على تعريف صدقهم بالاكتساب. إلا أن مذهبكم يفضي إلى أن لا يقدر الله تعالى على ذلك ، فكان مذهبكم مفضيا إلى المحال ، فوجب أن يكون محالا. وأنتم ما زدتم على هذا ، إلّا السعي في إبطال مذهبكم.

الثالث : إنكم قلتم : إنه لا يصح من الله تعالى إظهار المعجز على يد

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) سقط (م).

(٣) إن الفرق القول (م).

١٢٥

الكاذب ، وإلا لزم تعجيزه (١) على أن يعرفنا صدق الأنبياء بالاكتساب. ونحن نقول : وجب أن لا يصح من الله تعريفنا صدق الأنبياء بالاكتساب ، وإلا لزم تعجيزه عن خلق المعجزات ، عقيب دعوى الكذاب. ولما كان ممتنعا في نفسه ، لم يكن عدم القدرة عليه عجزا. قلنا : ولم ينفصلون عمن يقول : دلالة المعجز على الصدق ، لما كانت ممتنعة لنفسها ، لم يكن عدم القدرة على خلق هذا الدليل : عجزا؟.

وبالجملة : فلا فرق بين الجانبين.

الرابع : وهو أن قولكم : إنه تعالى لا يصح منه خلق المعجز عقيب دعوى الكاذب : كلام باطل. لأن فلق القمر ، عقيب تكلم (٢) إنسان بكلام كذب ، ممكن في نفسه. والله تعالى قادر على كل الممكنات ، فيمتنع حصول هذا الامتناع ، نظرا إلى القدرة ، ويمتنع أيضا حصوله نظرا إلى الداعي. لأن قبح القبائح ، لا تأثير لها عندكم في هذا الباب.

ولما ثبت أنه لا يمكن القول بحصول هذا الامتناع. لا نظرا إلى القدرة ، ولا نظرا إلى الإرادة والداعي. كان القول بثبوت هذا الامتناع : باطلا قطعا.

الوجه الثاني في بيان أن القول بأن الله تعالى خالق لأعمال العباد ، يمنع من القول بإثبات النبوات : وذلك لأن المقصود من بعثة الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ إلى الخلق : دعوتهم إلى الطاعات ، ومنعهم عن القبائح والمنكرات. لكن دعوة الخلق إلى هذه الأشياء إنما تعقل عند كونهم قادرين على الأفعال. لأن قبح تكليف العاجز ، معلوم في بدائه العقول. فإذا لم يكن العبد مستقلا بالفعل والترك ، كان تكليفه تكليفا للعاجز. فثبت : أن القول بأن العبد غير موجد لأفعال نفسه ، ينافي الإقرار بالنبوة.

الوجه الثالث : إن الكتب الإلهية بأسرها ناطقة بأن العباد قادرون على

__________________

(١) تعجزة (م).

(٢) تكله (م).

١٢٦

الخيرات والشرور متمكنون فيهما (١) غير ممنوعين عنهما (فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن) وثبت بالمتواتر المقطوع [به (٣)] أنهم كانوا يمدحون من آمن وأطاع ، ويذمون من كفر وعصى.

فلو قلنا : العبد غير مستقل بالفعل ، كان ذلك تصريحا بكونهم ممنوعين من الأفعال ، غير قادرين عليها. وذلك تصريح بتكذيب الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ في عين تلك الأشياء ، التي (٤) ادعوا كونهم رسل الله فيها. والتصريح بمثل هذا التكذيب ، ينافي الاعتراف بكونهم صادقين. فثبت بهذه الوجوه الثلاثة : أن القول بأن العبد غير موجد لأفعال نفسه ، ينافي الإقرار بالنبوة.

واعلم : أن المعتمد في الجواب عن هذا المقام ، أن نقول : هذا الذي ألزمتموه علينا ، لازم عليكم من وجوه :

الأول : إنكم لما اعترفتم بأن قدرة العبد صالحة للإيجاد. لم (٥) يمكنكم القطع بأن فاعل هذه المعجزات هو الله تعالى. ونحن قد حكينا في باب دلائلنا العقلية : دليل المعتزلة على أن غير الله تعالى ، لا يصح منه خلق الجسم والحياة. وبينا ضعفه وسقوطه.

وأما نحن [فلما (٦)] قلنا : إن قدرة العبد لا تصلح للإيجاد ، لم يتوجه هذا السؤال علينا البتة. فثبت : أن دلالة المعجز على صدق المدعي ، إنما تتم على مذهبنا ، لا على مذهبكم.

الثاني : إن المعتزلة. إما أن يحكموا بأن الفعل يتوقف على الداعي ، أو لا يحكموا بذلك. فإن كان الأول لزمهم الجبر. وذلك لأن عند عدم الداعي ،

__________________

(١) فيها (م).

(٢) سورة الكهف ، آية : ٢٩.

(٣) زيادة.

(٤) التي هم ادعوهم كونهم (م).

(٥) ولم (م).

(٦) من (م ، ل).

١٢٧

يمتنع صدور الفعل عنه ، وعند وجوده يجب (١) صدور الفعل عنه. وتكون أفعال العباد معلولات أفعال الله تعالى. وحينئذ يلزمهم ما ألزموه علينا. وإن كان الثاني. وهو أن صدور الفعل عن القادر لا يتوقف على الداعي ، فعلى هذا التقدير يخرج المعجز عن كونه دليلا على الصدق. لاحتمال : أنه تعالى خلق ذلك المعجز. لا لداعية ولا لغرض أصلا. وعلى هذا التقدير ، فإنه يخرج المعجز عن كونه دليلا على صدق المدعي.

الثالث : وهو أن إظهار المعجز على هذا الكاذب ، إنما يقبح إذا كان غرض الله منه: تصديق ذلك الكاذب. أما لو خلق الله المعجز عقيب دعوى الكاذب. لا لغرض التصديق ، بل لغرض آخر. لم يقبح البتة.

ومن المعلوم : أن أغراض الله تعالى في خلق المخلوقات كثيرة ، غير مضبوطة. ولما ثبت أنه يجوز أن يخلق الله تعالى ذلك المعجز عقيب دعوى الكاذب ، لغرض آخر سوى التصديق، وثبت أن على هذا التقدير لا يقبح [خلقه (٢)] علمنا : أنه لا يقبح من الله تعالى خلق المعجز ، عقيب دعوى الكاذب.

ولا يقال : إنه يقبح من الله تعالى خلق المعجز عقيب دعوى الكاذب مطلقا. وذلك لأنه تعالى [إن (٣)] خلقه لغرض تصديقه ، فهو قبيح. وإن خلقه لغرض آخر فهو أيضا قبيح. لأنه يوهم كونه واقعا لغرض التصديق. وكما أن فعل القبيح قبيح ، فكذا فعل ما يوهم القبيح قبيح أيضا. لأنا نقول : لا نسلم أن فعل ما يوهم القبيح : قبيح. ألا ترى أن إنزال المتشابهات قبح (٤) تقصيرا من المكلف. حيث قطع لا في موضع القطع. فكذا هاهنا. لما ثبت أن خلق المعجز ، عقيب دعوى الكاذب ، يحتمل وجها آخر ، سوى التصديق.

__________________

(١) تحت (م).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) سقط (م).

(٤) القبيحة [الأصل].

١٢٨

فلو جزم المكلف بحمله على التصديق ، كان التقصير من المكلف. حيث قطع لا في موضع القطع.

فثبت بهذه الوجوه الثلاثة : أن الإشكال الذي ألزموه علينا ، فهو أيضا لازم على أصولهم ، من هذه الوجوه الثلاثة.

وبالله التوفيق

وأما بيان أن القول بأن العبد غير موجد لأفعال نفسه ، ينافي الإقرار بكون القرآن (١) حجة : فبيانه من ثلاثة أوجه :

الأول : إنه لما لم يقبح منه تعالى ، خلق الضلالات والفواحش. فكيف يقبح منه أن يكذب؟ ومع هذا التجويز لا يبقى القرآن حجة. لا يقال كلام [الله (٢)] صفة قديمة ، والصفة القديمة يمتنع أن تكون كذبا. لأنا نقول : إن هذا الكلام : باطل من وجوه :

الأول : إنا لا نسلم أن كلام الله صفة قديمة. فإن ذلك مما عظم الخلاف فيه ، بيننا وبينكم.

ثم نقول : لو كان كلام الله قديما ، لكان كذبا. والدليل عليه : أنه مشتمل على الإخبار عن الأمور الماضية. كقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (٣) ـ (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ) (٤) والإخبار عن الأمور الماضية لا يكون صدقا إلا إذا كان المخبر عنه سابقا على الخبر. وكون الأدنى مسبوقا بغيره : محال.

فثبت بهذا : أن كلام الله تعالى ، لو كان قديما ، لكان كذبا. وأنتم ادعيتم أن كونه قديما ، ينافي كونه كاذبا. فوجب أن يقال : إن كونه قديما ،

__________________

(١) بكون إلا القرآن (م).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) أول القدر.

(٤) أول نوح.

١٢٩

ينافي كونه كذبا. قالوا : الدليل عليه : هو أنه تعالى عالم بجميع المعلومات ، وكل من كان عالما بشيء ، لم يمتنع أن يخبر في نفسه ، عن ذلك الشيء بخبر صدق. فلو كان [صدقه (١)] تعالى كذبا ، لكان ذلك الكذب قديما ، والقديم يمتنع زواله. وإذا امتنع زوال الكذب ، امتنع حصول الصدق. لأن اجتماع الضدين : محال. فثبت : أنه تعالى ، لو كان كاذبا ، لامتنع عليه أن يخبر عما علمه بخبر صدق ، وقلنا : إن هذا الامتناع باطل ، فثبت : أن كلام الله صدق.

واعلم : أن هذا الكلام ضعيف. لأنا نقول : كما أن العالم بالشيء يمكنه أن يخبر في نفسه عما علمه بخبر صدق ، فكذلك يمكنه أيضا أن يخبر [عنه بخبر (٢)] كذب ، وكون الكلام القديم صدقا ، يمنع من إمكان هذا الكذب. فإن منعوا هذا الإمكان في جانب الكذب ، منعناه أيضا في جانب الصدق. ثم لئن سلمنا : أن الكلام القديم يجب كونه صدقا ، إلا أنكم لما تمسكتم بآيات القرآن على أنه تعالى هو الموجد لأعمال العباد ، فأنتم ما تمسكتم بذلك الكلام ، القديم الأزلي المنزه عن أن يكون حرفا أو صوتا. وإنما تمسكتم بهذه الألفاظ المركبة المحدثة المسموعة. فهب أن ذلك الكلام القديم : صدق ، إلا أن نقول : لم لا يجوز أن يقال : [إن (٤)] هذه الألفاظ التي نسمعها ، ونستدل بها في هذه المسألة ، تكون كلها أكاذيب وأضاليل وأباطيل؟ فثبت : أنه وإن كان الكلام القديم صدقا ، إلا أن ذلك لا ينفع في القطع بصحة مدلولات هذه الألفاظ التي نسمعها. وإن خلط أحد البابين بالآخر، إما جهل أو تجاهل.

الوجه الثاني في بيان أن القول بأن العبد غير موجد لأفعال نفسه ، يمنع من الاعتراف بأن القرآن حجة. لو أن مدار التمسك بالقرآن ، وبسائر الدلائل اللفظية على أصل واحد ، وهو أن [الأصل (٣)] في الكلام : الحقيقة.

لا دليل لنا على صحة هذه المقدمة ، إلا أن نقول : لو أراد المتكلم من

__________________

(١) من (م).

(٢) من (ط)

(٤) سقط (م).

(٣) من (ط ، ل).

١٣٠

كلامه غير حقيقته ، مع أنه لم يدل على مراده ولم يبينه ، لزم كونه جاهلا ساعيا في إيقاع التلبيس والتدليس أو نقول : يلزم منه تكليف ما لا يطاق. إلا أنا نقول : من اعتقد أنه لا جهل ولا تلبيس [ولا تدليس (١)] إلا وهو واقع بإيقاع الله ، وبإرادته. فمع هذا المذهب كيف يمكنه تقرير هذه المقدمة؟ وأما قوله : «يلزم منه تكليف ما لا يطاق» فهذا أيضا وارد على مذهب الجبرية. لأنه تعالى يخلق الكفر في الكافر ، ثم يأمره بالإيمان. فكذا هاهنا. فثبت : أنه لا سبيل إلى إثبات هذه المقدمة على مذهب الجبرية. ومتى تقيد (٢) إثباتها ، فقد تعذر الاستدلال بالقرآن والأخبار.

الوجه الثالث في تقرير هذا المطلوب : إن مذهب الجبرية : أنه تعالى هو الذي يخلق الكفر في الكافر ويريده ، وكل من أراد شيئا ، فإنه أيضا يريد كل ما أفضى إليه. ومعلوم : أن التلبيس والتدليس وإطلاق اللفظ لإرادة غير معناه مما يفضي إلى حصول الجهل والضلال. وذلك يقتضي على مذهب [الجبرية (٣)] أنه تعالى أراد بهذه الألفاظ غير ظواهرها ، ومع هذا الاحتمال كيف يمكن التمسك بالقرآن؟

واعلم : أن للمعتقد في الجواب أن يقول : هذه الإلزامات أيضا واردة عليكم [وذلك (٤)] وإن نفينا الكذب في حق الله تعالى. إلا أن الوجوه العشرة التي ذكرناها قائمة. ومع تلك الوجوه العشرة لا يبقى شيء من الدلائل اللفظية : يقينية. فهذا جملة الكلام في هذا الموضع.

واعلم : أن جوابنا عن مجموع هذه السؤالات أن نقول : رأينا المعتزلة ملئوا كتبهم من الاستدلال بالآيات والأخبار ، على أن العبد موجد لأفعال نفسه. فنقول : جواز التمسك بالدلائل السمعية. إما أن يكون موقوفا على العلم بكون العبد موجدا لأفعال نفسه ، أو لا يكون موقوفا عليه. فإن كان

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) يفيد (م).

(٣) من (م ، ل).

(٤) من (ط ، ل).

١٣١

الأول كان إثبات كون العبد موجدا بالدلائل السمعية ، إثباتا للأصل بالفرع وإنه يوجب الدور. وإن كان الثاني ، فحينئذ لا يلزم من القدح في كون العبد موجدا ، تعذر الاستدلال بالآيات والأحاديث. فإن قالوا : مقصودنا من ذكر الآيات والأحاديث في بيان كون العبد موجدا : ليس هو إثبات ذلك في نفس الأمر ، بل مقصودنا : إلزام الخصم. وذلك لأن المجبرة لما كانوا معترفين بأن القرآن حجة. فإذا ثبت أن القرآن يدل على كون العبد موجدا لأفعال نفسه ، فقد حصل الإلزام. فنقول : فاقبلوا منّا مثله. فإن المعتزلة لما سلّموا أن القرآن حجة ، ثم دل القرآن على أن موجد أفعال العباد هو الله تعالى. فحينئذ يحصل الإلزام والإفحام. فثبت : أن ما ألزموه علينا ، لازم عليهم.

وبالله التوفيق

البحث الثالث

في

أن القرآن هل يصير مطعونا فيه بسبب ما فيه من الآيات

الدالة تارة على الجبر ، وأخرى على القدر؟

قالوا : إن الجبرية تمسكوا بآيات كثيرة ، قوية الدلالة على الجبر. والقدرية أيضا تمسكوا بآيات كثيرة ، قوية الدلالة على القدر. فترى كل واحد من هذين الخصمين ، إذا حاول الجواب عن دلائل خصمه ، فإنه يحتاج إلى تأويلات مستكرهة ، ووجوه متعسفة. ولا يليق بالحكيم أن يتكلم بكلام ، ويريد به تلك المعاني. فعلمنا منهم أن القرآن مشتمل على التناقض. ثم الذاكرون لهذا السؤال فريقان. منهم من ينكر نبوة محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ فيستدل بهذه الشبهة على قوله ، ومنهم من يقر بنبوة محمد ـ عليه الصلاة والسلام.

وحينئذ يستدل بهذه الآيات المتعارضة على أن القرآن قد دخله التغيير والتحريف ، وأنه ما بقي كما أنزله الله. فإن من المحال أن يقول الحكيم كتابا يشتمل على هذا الحد من التناقض.

١٣٢

واعلم. أن هذه الشبهة أيضا : باطلة (١) [لأن (٢) الحكيم كما يتكلم بالحقيقة ، فقد يتكلم بالمجاز ، واذا كان الأمر كذلك ، لم يلزم من حمل يعض الآیات علي مجازاتها : محذور.

فهذه جملة ما يتعلق بهذه المقدمة.

وبالله التوفيق

__________________

(١) واعلم : أن هذه الشبهة باطلة. ويدل على بطلانها : معرفة المحكم والمتشابه. فالمحكم قوله تعالى : (اعْمَلُواما شِئْتُمْ) [فصلت ٤٠] والمتشابه قوله تعالى : (... وَاللهُ خَلَقَكُمْ؟ وَما تَعْمَلُونَ)؟ [الصافات ٩٥ ـ ٩٦] فالمحكم بين أن العبد مستقل بإيجاد الفعل. والمتشابه يحتمل معنيين. الأول : والله خلقكم وخلق عملكم. والثاني : أن الآيات في معرض الاستهزاء والتهكم بقوم إبراهيم عليه‌السلام. (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) من هذه الحجارة؟ والحال: أن الخالق لكم هو الله تعالى. ثم وبخهم بقوله : (وَما تَعْمَلُونَ)؟ أي أي شيء تعملونه؟ إن نحتكم الأصنام من الحجارة عمل باطل. والمتفق مع المتشابه : هو المعنى الثاني ، فيكون هو المراد لله عزوجل. وعلى هذه الطريقة لا يكون في القرآن موهم للتعارض ولا موهم للتناقض. ولو أن القرآن كله على نسق واحد من الفهم ، لما تميز العالم عن الجاهل. والله يريد أن يتميز العالم عن الجاهل. ومثل هذا كثير في التوراة. فإن في سفر أشعياء أن الله تعالى «مبدع النور ، وخالق الظلمة ، ومجري السلام ، وخالق الشر» [أشعياء ٤٣ : ٧] ومنه نعلم أن الله خالق الشر. وإن في سفر التكوين : «ورأى الله جميع ما صنعه فإذا هو حسن جدا» [التكوين ١ : ٣١] ومنه نعلم : أن الله ليس خالقا للشر. لأن الشر ليس حسنا جدا. وعلى ذلك فعبارة أشعياء معناها : أن خالق الدنيا على ما هي عليه هو الله تعالى. وخلقها على ما هو عليه حسن جدا. فإن الله خلق الإنسان وسخر له ما في السموات وما في الأرض. ولكن قد يسيء الإنسان استعمال النعمة فيحولها إلى نقمة. فمثلا خلق العنب نعمة وهو حسن والله مبدعه وخالقه. وإذا جعله الإنسان خمرا وسكر وبالكسر أضاع عقله وفقد عرضه وماله. نقول حينئذ إنه قد صار شرا في العالم. وأصل الشر من الله ، لأن العنب الذي هو أصل الشر من إبداع الله وخلقه. والإنسان الذي أساء هو أيضا من إبداع الله وخلقه. فقول أشعياء «خالق الشر» هو على هذا المعنى ، بحسب إيجاد أصل الأنواع وقد عبر بأن الله خالق الشر ، لئلا يتوهم متوهم أن الشرور في العالم تأتى من إله آخر. كما كان يعتقد المجوس. في إلهين اثنين. واحد يأتي بالخير وواحد يأتي بالشر. فلكي يمنع أشعياء من هذا الاعتقاد ، قال بأن الخير والشر من إله واحد.

والشرور على أنواع ثلاثة : ١ ـ ما يصيب الإنسان من جهة طبيعة الكون والفساد ٢ ـ ما يصيب الناس من بعضهم لبعض ٣ ـ ما يصيب الإنسان بسبب فعله هو. وتبين التوراة أن الله قال لبني اسرائيل : «هذا قد كان من أيديكم» [ملاخي ١ : ٩] وفي سفر الأمثال : «إنما يعمل هذا مهلك نفسه» [أمثال ٦ : ٣٢] ونفس المعنى في القرآن الكريم ، يقول تعالى : (وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) [الشورى ٣٠](وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة ـ

١٣٣

__________________

ـ ١٩٥] وعلماء بني إسرائيل يفهمون القضية على أنها محكم ومتشابه ففي الفصل التاسع من «براشيت ربه» ما نصه : «لا يوجد شر نازلا من فوق». وهم بهذا قد أولوا نص أشعياء بإرجاعه إلى المحكم. ولموسى بن ميمون المتوفى سنة ٦٠٢ ه‍ تعليل وجيه لبعض أنواع الشرور. والغاية من تعليله : أنها من الناس وليست من الله. يقول ابن ميمون :

«أما الضروريات كلها فمحصورة متناهية. أما التطاول فغير متناه. إن تعلق شوقك : أن تكون أوانيك فضة ، وكونها ذهبا أجمل ـ وآخرون اتخذوها بلورا ـ ولعلك أيضا تتخذ من الزمرد والياقوت كل ما يمكن وجوده. فلا يزال كل جاهل فاسد الفكرة : في نكد وحزن ، على كونه لا يصل أن يعقل ما فعله فلان من التطاولات. وفي الأكثر يعرض نفسه لأخطار عظيمة ، كركوبه البحر وخدمة الملوك. وغاية ذلك : أن ينال تلك التطاولات الغير ضرورية. فإذا أصابته المصائب في طرقه تلك التي سلكها ، تشكي من قضائه وقدره ، وأخذ يذم الزمان ، ويتعجب من قلة إنصافه ، كيف لم يساعده على تحصيل مال جزيل يجد به خمرا كثيرا ، يسكر بها دائما ، وجوارى عدة ، محليات بأنواع الذهب والأحجار ، حتى يحركنه للجماع بأكثر مما في الطاقة ، ليلتذ؟ كأن الغاية الوجودية إنما هي لذة هذا الخسيس فقط. وإلى هنا انتهى غلط الجمهور ، حتى عجّزوا البارئ ، في هذا الوجود الذي أوجده بهذه الطبيعة الموجبة لهذه الشرور العظيمة بحسب خيالهم ، لكون تلك الطبيعة لا تساعد كل ذي رذيلة على نيل رذيلته ، حتى يوصل نفسه السيئة غاية سؤلها ، الذي لا نهاية له» [دلالة الحائرين ص ٥٠٥]

(٢) مخطوطة أسعد فيها زيادات غير موجودة في (م ، ط) والنسخ المشابهة لهما. ومن هنا تبدأ الزيادة إلى قوله ووجه الاستدلال بهذا الخبر الذي بعده الحجة الثامنة عشر التي فيها خلقت هؤلاء للجنة ولا أبالي. في الفصل الثاني من الباب الثالث.

١٣٤

الفصل الثاني

في

التمسك بالآيات المشتملة على لفظ «الخلق»

الكلام في تقرير هذا المطلوب ، يستدعي تقديم مقدمة في لفظ «الخلق» فنقول : لفظ الخلق ، جاء بمعنى الإحداث تارة ، وبمعنى التقدير أخرى.

أما الأول : فيدل عليه أمور :

الأول : قوله تعالى : (إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ) (١) ولو كان الخلق

__________________

(١) سورة القمر ، آية : ٤٩ ...

ويقول الدكتور علاء الدين أمير محمد مهدي. القزويني :

«أما ما يتعلق بأفعال الإنسان. فيمكن القول أن الله تعالى قضى بها عليه. على معنى : حكم بها عليه ، وألزمه إياها وأوجبها ، وهذا الإلزام : هو أمره له وليس على سبيل الإلجاء والإجبار. كما يمكن أيضا القول أن الله قدر أفعال الإنسان على معنى أنه بين مقاديرها وأوضح تفاصيلها واختلاف أحوالها ، من حسنها وقبحها ، وفرضها وحلالها ، وحرامها ومندوبها. وأما أنه قضاها بمعنى خلقها في الإنسان فباطل لا يجوز ، لأنه إن أريد أنه خلقها فيه ، لقال سبحانه : وقضى في خلقه بالعصيان ولا يقول قضى عليهم ، لأن الخلق إنما يكون في الإنسان لا عليه ، مع أنه تعالى قد أبطل هذا القول بقوله :» (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) [السجدة ٧] فهو صريح في عدم وجود القبيح في خلقه ، وأن كل فعله حسن ، والمعاصي قبائح باتفاق المسلمين ، فوجب نفيها عنه سبحانه. وإن أريد أنه قضى عليه بالمعاصي بمعنى أمره بها فقد أبطل هذا القول أيضا ، قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ. أَتَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ؟) [الأراف ٢٨] فهذا صريح في عدم إرادة هذا المعنى. وإن أريد أن الله قضى على الإنسان بالمعاصي بمعنى أعلمه بها ، فغير صحيح أيضا. لأن الإنسان لا يعلم في المستقبل بأنه يطيع أو يعصي. ولا يستطيع أن يحيط علما بما يكون فيه على التفصيل. ولأنه لو خلق الطاعة والمعصية في عباده ، ليسقط اللوم ـ

١٣٥

هو التقدير ، لصار معنى الكلام : إنا قدرنا كل شيء. أن الخلق هاهنا ليس هو التقدير ، فوجب أن يكون هو الإحداث ، ضرورة أنه لا قائل بالفرق.

الثاني : قوله تعالى : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ، فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (١) والاستدلال كما تقدم.

الثالث : قوله تعالى : (هُوَ اللهُ الْخالِقُ) (٢) وهذا التركيب يفيد الحصر. والخلق بمعنى التقدير غير منحصر ، فوجب أن يكون المدلول عليه بهذا الحصر ، هو الخلق. بمعنى الإحداث.

الرابع : قول سلف الأمة : لا خالق إلا الله. وهذا الحصر لا يصح إلا إذا كان الخلق بمعنى التكوين والإحداث.

وأما مجيء لفظ الخلق بمعنى التقدير. فيدل عليه وجوه :

الأول : قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ ، كَمَثَلِ آدَمَ ، خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ، ثُمَّ قالَ لَهُ : كُنْ. فَيَكُونُ) (٣) ولا شك أن قوله : (كُنْ فَيَكُونُ) استعارة عن الإحداث والإيجاد. ثم إنه تعالى نصّ على أن هذا الإحداث والإيجاد متأخر عن الخلق ، فوجب أن يكون المراد من لفظ الخلق هاهنا : شيئا مغايرا للإحداث والإيجاد. فيكون هو التقدير. لأنه لا قائل بالفرق.

الثاني : قوله تعالى : (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (٤) وهذا التركيب يدل على كون غيره خالقا. وقد دل الدليل على أنه لا موجد إلا الله ، فلا بد وأن يكون المراد من الخلق في هذه الآية : شيئا سوى الإحداث. فيكون هو التقدير. لأنه لا قائل بالفرق.

__________________

ـ عن العاصي بمقتضى العدل ، ولم يستحق الطائع ثوابا على عمله بمقتضى العقل» [ص ٩١ ـ ٩٢ كتاب الفكر التربوي عند الشيعة الإمامية ـ رسالة دكتوراه في كلية التربية ـ جامعة عين شمس للدكتور علاء الدين أمير محمد مهدي القزويني]

(١) سورة الفرقان ، آية : ٢.

(٢) آخر الحشر.

(٣) سورة آل عمران ، آية : ٥٩.

(٤) سورة المؤمنون ، آية : ١٤.

١٣٦

الثالث : قوله تعالى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) (١) والاستدلال كما تقدم.

الرابع : إن الكذب يسمى خلقا واختلاقا. قال تعالى : (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) (٢) وقال : (إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ) (٣) وقال : (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) (٤) وما ذاك إلا لأن الكاذب يقدر المعدوم موجودا في ذهنه أولا ، ثم يعبر عنه بلفظه.

الخامس : إن أهل اللغة يقولون : خلقت من الأديم خفا ، ومن الشقة قميصا. قال الشاعر :

ولا ييط بأيدي الخالقين ، ولا

أيدي الخوالق إلا جيد الآدم

وقال :

ولأنت تفري ما خلقت ، وبع

ض القوم ، يخلق ، ثم لا يفري

وقال الحجاج في خطبته : «أي لا أهم إلا أمضيته ، ولا أخلق إلا فريت» إذا عرفت هذا فنقول : أما الخلق بمعنى الإحداث والإيجاد. فعندنا : أنه ـ سبحانه ـ منفرد به. وأما بمعنى التقدير ، فهو أيضا على ضربين : أحدهما : إحداث الشيء على مقدار مخصوص. والخلق بهذا التفسير يرجع حاصله إلى كيفية مخصوصة في الاحداث. فإذا لم يصح الإحداث إلا من الله تعالى ، فكذلك التقدير بهذا التفسير ، وجب أيضا أن لا يصح إلا من الله تعالى. والثاني : إن حكم الحاكم بأن ذلك الشيء وقع على ذلك المقدار يسمى تقديرا أيضا. يقال : السلطان قدر لفلان من الرزق كذا ، ومن المملكة كذا. والتقدير بهذا التفسير يصح صدوره عن العبد.

__________________

(١) سورة المائدة ، آية : ١١٠.

(٢) الشعراء ١٣٧ وقراءة حفص بضم الخاء واللام وقرأ الكسائي وغيره خلق بفتح الخاء.

(٣) سورة ص ٧.

(٤) سورة العنكبوت ، آية : ١٧.

١٣٧

ولما لخصنا هذه المقدمة ، فلنرجع إلى تقرير الدلائل والبينات :

الحجة الأولى في بيان أن الله تعالى خالق لأعمال العباد : نقول : عمل العبد شيء ، وكل شيء فهو مخلوق لله تعالى. لقوله تعالى : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (١) ينتج : أن عمل العبد مخلوق لله تعالى. واعلم : أنا قبل الخوض في تعديد السؤالات والجوابات نقدم أمرين لا بد منهما.

أما الأول : فهو أن نقول : إن الموجود إما أن يكون واجبا لذاته أو ممكنا لذاته ، والممكن لذاته. لا يترجح عدمه على وجوده ، ووجوده على عدمه ، إلا بترجيح الواجب لذاته. وقد قررنا هذه النكتة في باب الدلائل العقلية. فيثبت : أنه تعالى هو الخالق والموجد والمقدر لجميع الممكنات. ولما كان فعل العبد من جملة الممكنات ، وجب دخوله في هذه القضية. فثبت : أن ظاهر قوله سبحانه : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) قد تأكد بهذا البرهان العقلي القاطع.

وأما الثاني : فهو أنه تعالى ذكر هذه الآية في مواضع من كتابه : إحداها : قوله تعالى : (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ. خَلَقُوا كَخَلْقِهِ. فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ. قُلِ : اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) (٢) وثانيها : قوله تعالى : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ. فَاعْبُدُوهُ) (٣) وثالثها : قوله : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ ، وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) (٤) ورابعها : قوله : (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ. فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً) (٥).

فإن قيل : دليلكم ينتج أن فعل العبد مخلوق لله تعالى. ونحن نقول بموجبه. وذلك لأن الخلق عبارة عن التقدير. وعندنا : أن أفعال العباد واقعة بتقدير الله تعالى ، وإن كانت حاصلة بإيجاد العبد وإحداثه.

لا يقال : هذا مدفوع من وجهين :

__________________

(١) سورة الرعد ، آية : ١٦.

(٢) سورة الرعد ، آية : ١٦.

(٣) سورة الأنعام ، آية : ١٠٢.

(٤) سورة الأنعام ، آية : ١٠١.

(٥) سورة الفرقان ، آية : ٢٥.

١٣٨

الأول : إن التقدير عبارة عن الفكرة والروية والظن والحسبان. وذلك في حق الله تعالى ممتنع. ولما امتنع حمل كونه خالقا لأفعال العباد ، على معنى التقدير ، وجب حمله على معنى الإحداث.

الثاني : هب أن كونه تعالى خالقا لأفعال العباد ، عبارة عن كونه تعالى مقدرا لها إلا أن التقدير عبارة عن إيقاع ذلك الفعل في زمان مخصوص ، ومحل مخصوص ، على وجه مخصوص. وهذا المعنى لا يتأتى إلا ممن كان محدثا للفعل. فلما ثبت بهذا النص : أنه تعالى مقدر لأفعال العباد ، وثبت بالعقل : أن مقدر الأفعال يجب أن يكون موجدا لها ، لزم من مجموع الأمرين كونه تعالى موجدا لأفعال العباد. لأنا نقول :

أما الأول. فجوابه : إن التقدير عبارة عن إيقاع الفعل على قدر مخصوص. وهذا المعنى لا يحصل إلا بالعلم أو الظن. ثم إن كان العلم حاصلا ، كما في حق الله تعالى ، فلا حاجة إلى الفكرة ، وإن لم يكن حاصلا كما في حق العبد. فهناك يحتاج إلى الفكرة لتحصيل ذلك العلم ، أو ذلك الظن.

وأما السؤال الثاني : فجوابه : أن نقول : إنه تعالى مقدر لأفعال العباد. بمعنى أنه تعالى حاكم بوقوعها على تلك المقادير ، كما يقال : فلان يكفر فلانا ، أو يضلله. إذا حكم بكفره وضلاله. سلمنا : أن الخلق هو الإحداث. لكن لم قلتم : إن الآية تتناول أفعال العباد؟ ولا نسلم أن لفظة «كل» تفيد الاستغراق. وبيانه : إن لفظة «كل» كما تستعمل في الاستغراق ، فقد تستعمل أيضا في الأكثر الأغلب. يقال : أكلت كل هذه الرمانة ، وإن كان ربما تساقط منها حبة أو حبتان. ويقال : كل هذا الثور أبيض ، وإن كان ربما حصلت شعور قليلة غير بيض في جلده. ولا ننكر أن أفعال العباد ، بالنسبة إلى جميع مخلوقات الله تعالى ، كالقليل بالنسبة إلى الكثير ، فلم لا يجوز أن يكون المراد من قوله : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) : ما سوى أفعال العباد؟.

لا يقال : لفظ الكل حقيقة في الاستغراق. لأنا نقول : هذا مدفوع من وجهين :

١٣٩

الأول : لا نسلم أن لفظ «كل» مجاز في الأغلب. فما الدليل عليه؟ الثاني : سلمنا أنه كذلك ، إلا أنه مجاز متعارف مشهور. فالقول بأنه لا يجوز حمل هذا اللفظ على مثل هذا المجاز ، لا يفيد إلا الظن. وهذه المسألة قطعية. والدليل الظني لا يجوز التمسك به في المسألة القطعية. وعلى هذا الحرف تعويل أهل السنة والجماعة ، في الجواب عن استدلال المعتزلة بالعمومات في مسألة الوعيد.

سلمنا : أن لفظ «كل» يفيد العموم. إلا أن هذه الآية عام ، دخله التخصيص ، فوجب أن لا يكون حجة. إنما قلنا : إنه عام. دخله التخصيص ، لأنه تعالى شيء. ويمتنع أن يكون خالقا لنفسه. لا يقال : لا نسلم أن هذه الآية قد دخلها التخصيص. وبيانه من وجهين :

الأول : لا نسلم أن اسم الشيء يقع على الله تعالى. ويدل عليه وجوه :

الأول : قوله تعالى : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (١) والكاف معناه : المثل. فصار تقدير الآية : ليس مثل مثل الله شيء. ومثل مثل الشيء : عين ذلك الشيء. فكانت هذه الآية دالة على أن الله تعالى لا يقع عليه اسم الشيء. وقولهم : الكاف زائدة : ضعيف. لأن الأصل : صون كلام الله عن اللغو.

الثاني : لو كان تعالى بالشيء ، لزم دخول التخصيص ، في قوله : (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) بالنسبة إلى الله تعالى. إلا أن مثل هذا التخصيص لا يجوز. وذلك لأن التخصيص إنما يجوز في الشيء الحقير ، الذي لا يؤبه به ، كما ضربنا من المثال في قولنا : كل هذا الثور أبيض. وإن كان قد حصلت شعيرات سود في جلده. فأما إذا كان الخارج عن صيغة العموم، هو الأعظم الأشرف ، فإنه لا يجوز. ومعلوم أن اسم الشيء لو وقع على الله ، لكان أشرف الأشياء هو الله. بل كان سائر الأشياء بالنسبة إليه ـ سبحانه ـ كالعدم. وعلى هذا التقدير يكون الخارج عن هذا العموم ، هو الأكمل الأشرف ، والباقي فيه ، هو الأخس الأقل. ومثل هذا يكون كذبا.

__________________

(١) سورة الشورى ، آية : ١١.

١٤٠