المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

وهذا تقسيم دائر بين النفي وبين الإثبات ، ولا واسطة بينهما. فإن كان فعل العبد في الوجود من العبد ، فقد حصل المقصود. وإن لم يكن به ، فحينئذ يكون أمره بتحصيل العقل مع أنه لا قدرة له على التحصيل يكون أمرا له لما ليس في وسعه. وحينئذ تتوجه المحالات المذكورة. وإذا كان ترتيب الدليل على هذا الوجه لم يكن إلقاء لفظ الكسب (١) في البين : دافعا لهذا الإشكال البتة. وبالله التوفيق.

الحجة الثالثة : لو كان موجد فعل العبد هو الله تعالى ، لكان تكليف العبد بالفعل والترك ، تكليفا بما لا قدرة له عليه ، واللازم باطل. فالملزوم مثله. بيان الملازمة : أن العبد [لو كان (٢)] له قدرة [على الفعل (٣)] لكان إما أن يقدر عليه حال ما خلق الله الفعل ، أو حال (٤) ما لم يخلقه الله. والأول محال. لأن ذلك الفعل لما دخل في الوجود بتخليق الله تعالى ، امتنع أن يقدر العبد على تحصيله. لأن تحصيل الحاصل محال. والثاني محال. لأنه تعالى إذا لم يخلق ذلك الفعل ، فلو قدر العبد على تحصيله كان هذا تسليما ، لكون العبد قادرا على التحصيل والإيجاد ، وذلك ينافي قولنا : إنه غير قادر عليه. فثبت : [أن غيره قادر عليه. فثبت (٥)] أن موجد فعل العبد لو كان هو الله تعالى لما كان العبد قادرا على الفعل البتة. وإنما [قلنا (٦)] أنه قادر على الفعل. لأنه إذا قيل لنا : انتقل من هذا المكان إلى ذلك المكان. ثم قيل لنا : اخلق شمسا وقمرا وسماء وأرضا. فإنا ببديهة العقل ندرك التفرقة بين البابين ، ونعلم بالضرورة : أنه يمكننا الحركة يمنة ، بدلا عن يسرة ، وبالعكس. ولا

__________________

(١) الأشعري قال بالكسب ، كحل وسط بين القائلين بالجبر وبين القائلين بالاختيار. والكسب يرجع إلى الجبر. كما فسره الأشعري نفسه في كتاب الإبانة. فقد ذكر الأشعري الحديث المنسوب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفيه أن الملاك يكتب رزق الإنسان وأجله وأن شقى أو سعيد. واحتج به على القدر. فإذن القول بالكسب تبرير بدون دليل من القائل به. لأن القائل به دليل على الجبر.

(٢) من (م ، ل).

(٣) (م ، ل).

(٤) حال لم يخلقه والأول ... (م).

(٥) من (م).

(٦) من (ط ، ل).

٢٦١

يمكننا خلق الشمس والقمر والسماء والأرض. ولو لا كوننا قادرين على أفعالنا ، وإلا لما حصلت هذه التفرقة. وأما إلقاء لفظ الكسب في البين ، فلا فائدة فيه. لأنه إن كان قادرا على التحصيل ، فقد حصل المطلوب. وإن لم يكن قادرا عليه ، فالإلزام المذكور لازم ، ولا واسطة بين القسمين. فكيف ينفع في مثل هذا الموضع إلقاء لفظة مجهولة في البين؟

الحجة الرابعة : لو لم يكن العبد موجدا لأفعال نفسه لبطل القول بإثبات إله ، وبإثبات النبوة. وكون كتب الله المنزلة : حجة. وقد تقدم تقرير هذا الفصل.

الحجة الخامسة : إن الله تعالى عالم بقبح القبائح ، وعالم بكونه غنيا عن فعلها. وكل من كان كذلك ، امتنع كونه فاعلا لهذه القبائح. وذلك يدل على أنه تعالى ما أوجد هذه القبائح البتة.

أما المقدمة الأولى : وهي قولنا : إنه تعالى عالم بقبح القبائح وعالم بكونه غنيا عنها ، فتقريره يتوقف على إثبات أمور ثلاثة :

الأول : أن القبائح إنما تقبح لوجوه عائدة إليها ـ وتقريره سيجيء في مسألة الحسن والقبح ـ.

وثانيها : إنه تعالى غني عن الحاجات.

وثالثها : إنه تعالى عالم بجميع المعلومات. وحينئذ يحصل من مجموع هذه المقدمات الثلاثة ، قولنا : إنه تعالى عالم بقبح القبائح ، وعالم بكونه غنيا عنها.

وأما المقدمة الثانية : وهي قولنا : كل من كان كذلك ، فإنه لا يفعل القبيح البتة. فتقريره : إن صدور الفعل عن القادر يتوقف على حصول الداعي ، والعلم بقبح القبيح مع العلم بالاستغناء عنه : جهة صرف وامتناع. وكون العلم الواحد داعيا صارفا مقتضيا مانعا : محال. فثبت : أنه تعالى يمتنع أن يكون فاعلا لهذه القبائح.

الحجة السادسة : لو كان تعالى هو الخالق لأفعال العباد ، وفيها القبائح

٢٦٢

كالظلم والعبث ، لجاز أن يخلقها ابتداء ، وحينئذ يلزم أن يكون ظالما عابثا سفيها. وذلك باطل بالعقل والسمع.

الحجة السابعة : إن من جملة أفعال العباد : الإشراك بالله ، ووصفه بالأضداد ، والصاحبة والأولاد ، وشتمه وسبه. فلو كان تعالى فاعلا لأفعال العباد ، لكان فاعلا لكل هذه الأمور ، وذلك يبطل حكمته. لأن الحكيم لا يشتم نفسه. وفي ذلك إلحاقه بالسفهاء.

الحجة الثامنة : لو جاز أن يخلق الزنا واللواطة ، لجاز أن يبعث رسولا هذا دينه. ولو جاز ذلك ، لجاز فيما سلف من الأنبياء من لم يبعث إلا للدعوة إلى السرقة ، والأفعال القبيحة ، ومدح الشيطان وعبادته ، والاستخفاف بالله وبرسوله وبالوالدين ، وذم المحسن ومدح المسيء.

الحجة التاسعة : لو كان تعالى يخلق الكفر في الكافر ، ثم يعذبه عليه. لكان ضرره على العبد أشد من ضرر الشيطان [لأنه (١)] لا يمكنه أن يلجئهم إلى القبح ، بل الغاية القصوى منه : أن يدعوهم إلى القبح. كما حكى الله تعالى ذلك عنه في قوله : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ. إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ) (٢) وأيضا : فدعاء الشيطان أيضا من فعل الله تعالى. وأما الله سبحانه ، فإنه يلجئهم إلى القبائح ويخلقها فيهم. ولو كان كذلك ، لكان يحسن من الكافر أن يمدح الشيطان ، وأن يذم الله سبحانه ـ تعالى الله علوا كبيرا ـ.

الحجة العاشرة : لو لم يكن العبد موجدا لأفعال نفسه ، لما استحق ثوابا وعقابا ، ولكان تعالى مبتدئا بالثواب والعقاب من غير حصول استحقاق لذلك. ولو جاز ذلك ، لجاز تعذيب الأنبياء وإثابة الفراعنة والأبالسة. ولو كان كذلك ، لكان أسفه السفهاء. وقد نزه نفسه عن أن يفعل ذلك فقال في كتابه : (أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ؟ ما لَكُمْ؟ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) (٣)؟.

الحجة الحادية عشر : لو خلق الكفر في الكافر ، لكان قد خلقه للعذاب

__________________

(١) زيادة.

(٢) سورة إبراهيم ، آية : ٢٢.

(٣) سورة القلم ، آية : ٣٥ ـ ٣٦.

٢٦٣

في نار جهنم. ولو كان كذلك ، لما كان لله نعمة على الكافر أصلا في الدين. وأيضا : على هذا التقدير ، وجب أن لا يكون له عليه شيء من النعم الدنيوية ، لأن اللذات العاجلة بالنسبة إلى العقوبة الأبدية. كالقطرة في البحر. وذلك لا يعد نعمة. ألا ترى أن من جعل السم في الحلو ، فإن اللذة الحاصلة من تناول ذلك [الحلو (١)] لا تعد نعمة. فكذا هاهنا. ومتى التزم ملتزم فقد خالف الكتاب. قال تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْراً) (٢) وقال : (وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) (٣).

الحجة الثانية عشر : لو خلق الظلم والجور والفساد ، لصح وصفه بأنه ظالم وجائر ومفسد ، لأنه لا معنى للظالم إلا كونه فاعلا للظلم. ولذلك فإنه لا يصح إثبات أحدهما مع نفي الآخر. وأيضا : فإنه لما فعل العدل سمي عادلا ، فكذا لو فعل الظلم وجب أن يسمى ظالما ، بل يجب أن لا يسمى العبد ظالما وسفيها ، لأنه لم يفعل شيئا من ذلك.

الحجة الثالثة عشر : لو جاز أن يخلق الكفر في الكافر ، ثم يقول له : لا تكفر. لجاز أن يقيد يديه ورجليه ثم يرميه من شاهق الجبل ، ويقول له : ارجع. ولجاز تكليف الأعمى بنقط المصحف. بل يلزم جواز التكليف بخلق العدم ، والجمع بين السواد والبياض. ولو جاز ذلك ، لجاز تكليف الجمادات. وكل ذلك باطل بالضرورة.

الحجة الرابعة عشر : لو كان تعالى هو الخالق لأعمال العباد ، لكان إما أن يتوقف خلقه لها على دواعيهم وقدرهم ، أو لا يتوقف. والأول باطل. لأنه يلزم منه أن يكون تعالى محتاجا إلى إرادتهم وقدرتهم. والثاني باطل لأنه يلزم أن يصح منه تعالى خلق تلك الأفعال من دون قدرتهم وإرادتهم. فيلزم صحة أن توجد الكتابة والصياغة المحكمتان فيمن لا يكون عالما بالصياغة والكتابة ،

__________________

(١) من (ط).

(٢) سورة إبراهيم ، آية : ٢٨.

(٣) سورة القصص ، آية : ٧٧.

٢٦٤

وصحة صدور الكتابة ممن لا يد له ولا قلم. ويلزم تجويز أن تقدر (١) النملة على نقل الجبال ، وأن لا يقوى الفيل على نقل الذرة ، وأن يجوز من الممنوع المقيد : المقدرة ، وأن يعجز القادر الصحيح المخلي : من تحريك الأنملة. وفي زوال الفرق بين القوي والضعيف ، وفساد تصرفاتهم في حبس السراق وقطاع الطريق. وكل ذلك معلوم الفساد بالضرورة.

الحجة الخامسة عشر : لو جوزنا صدور القبائح من الله تعالى فلعل هذه العلوم البديهية الحاصلة فينا ، كلها جهالات ، خلقها الله فينا ، وجعلها فرية متأكدة في قلوبنا. وتجويز ذلك يفضي إلى الشك في البديهيات ، وكل باطل محال.

فهذا مجموع كلام القوم في هذا الباب.

واعلم : أن هذه الوجوه ـ وإن كثرت ـ إلا أن حاصلها راجع إلى شبهات (٢) أربعة:

أولها : إن وجود أفعالنا دائر مع حصول قصورنا وإرادتنا ، فوجب أن يكون وقوع هذه الأفعال بها.

وثانيها : إن المكنة من الفعل والترك ، أمر وجداني اضطراري ، وكون الله تعالى موجدا لأفعال العباد ، يبطل هذا الوجدان.

وثالثها : إن العبد لو لم يكن موجدا لأفعال نفسه ، يلزم أن يكون تكليفه جاريا مجرى تكليف العاجز. وذلك قبيح في العقل. ولزم كونه تعالى خالقا لهذه القبائح ، وبشتم نفسه. وكل ذلك قبيح في العقول.

ورابعها : إنه لو لم يكن العبد موجدا لأفعال نفسه ، لزم العجز عن إثبات الإله ، وعن إثبات النبوة ، وعن كون القرآن معجزا. وكل ذلك باطل.

__________________

(١) تقوى (م).

(٢) أمور [الأصل].

٢٦٥

فهذا حاصل هذه (١) الوجوه.

والجواب عما احتجوا به أولا من وجوه :

الأول : إنكم إما أن تدعوا وجوب حصول الفعل عند حصول الداعي ، وامتناع حصول الفعل عند عدم تلك الدواعي. وإما أن لا تدعوا ذلك. فإن ادعيتم الأول لزمكم الجبر ، لأن حصول تلك الدواعي ليست (٢) من العبد. وإلا لزم التسلسل ، بل تكون من الله تعالى.

وعلى هذا التقدير : إذا خلق الله في العبد تلك الدواعي ، وجب حصول ذلك الفعل ، شاء العبد أم أبى [وإذا لم يخلقها فيه امتنع حصول الفعل ، شاء العبد أم أبى (٣)] وإذا كان كذلك ، كان تكليف العبد تكليفا بما ليس في وسعه. وأيضا : فلأنه تعالى لما كان هو الفاعل لما يوجب حصول هذه الأفعال القبيحة ، كان أيضا فاعلا لهذه القبائح. لأنه لا فرق بين فعل القبيح ، وبين ما يوجب فعل القبيح ، أو فعل ما يجب عنده القبيح. فأما أن لا تقولوا بوجوب حصول الفعل عند حصول الإرادة ، وامتناع حصوله عند عدم الإرادة. فحينئذ لا يتم لكم هذا الاستدلال. لأنه إذا لم يجب حصول الفعل عند حصول الدواعي ، لم يلزم من عدم حصول الفعل عند توفر الدواعي ، ومن حصوله عند خلوص الصوارف : محال. وحينئذ يفسد هذا الدليل بالكلية.

الثاني : أن نقول : لا نسلم أن حصول هذه الأفعال عند توفر الدواعي واجب. وذلك لأنه ليس حصول الأفعال عند حصول الدواعي أظهر من حصول الشبع للحي السليم ، عند تناول الغذاء (٤) الجيد. وحصول الري عقيب الشرب. وحصول النبت عند إلقاء البذر في الأرض الحرة ، مع حصول سائر الشرائط من السقي والشمس. ثم إن الأكثرين من المعتزلة : سلموا أن

__________________

(١) هذا الجواب (م).

(٢) ليس (م).

(٣) من (ط).

(٤) العبد (م).

٢٦٦

حصول هذه الأشياء عقيب هذه الأمور على سبيل العادة ، لا على سبيل الوجوب. فكذا هاهنا.

الثالث : لم لا يجوز أن يقال : إن ذلك الفعل كان واجب الحدوث في ذلك الوقت بعينه لذاته ، وكان ممتنع الحدوث في سائر الأوقات لعينه ولذاته؟ وهذا غير مستبعد على أصول المعتزلة. وذلك لأن عندهم الأعراض التي لا تبقى ، يختص (١) حدوث كل واحد منها بوقت معين ، مع أنه كان يمتنع حدوثه قبل ذلك أو بعده. فإذا عقل اختصاص ذلك الجواز بوقت دون وقت ، فلم لا يجوز أيضا أن يختص وجوب حدوث هذه الأفعال ، بوقت دون وقت ، لا لمؤثر أصلا البتة؟ وعلى هذا التقدير ، يمتنع أن يقال : إن ذلك الفاعل إنما وقع بقدرة العبد. وعلى هذه الشبهة [أصول كثيرة ، شرحناها في كتاب «نهاية العقول»].

وأما الشبهة (٢) الثانية : وهي قوله : «لو لم يكن العبد موجدا لأفعال نفسه ، لزم أن لا يكون متمكنا من الفعل والترك».

فالجواب عنها : أن نقول : هذا أيضا لازم عليكم في صور كثيرة :

أولها : إن علم الله متعلق بجميع الجزئيات. وما علم أنه يقع : محال أن يقع ، وما علم أنه لا يقع : محال أن يقع. فيلزمهم في العلم ، كل ما ألزموه علينا في الإيجاد.

الثاني : إنه تعالى أخبر عن «أبي جهل» أنه لا يؤمن ، فلو صدر عنه الإيمان ، انقلب الخبر الصدق : كذبا. وذلك محال. والمفضي إلى المحال : محال. فلزمهم في الجبر ما ألزموه علينا.

الثالث : أن يقال : كلف «أبو لهب» بالإيمان. ومن الإيمان تصديق الله في كل ما أخبر عنه. ومما أخبر عنه : أنه لا يؤمن. فقد صار مكلفا بأن يؤمن بأنه لا يؤمن.

__________________

(١) تخصيص (م).

(٢) من (ط ، ل).

٢٦٧

الرابع : إنه تعالى إذا وجب [عليه (١)] إيصال الثواب والعوض إلى العبد ، فإذا لم يفعل ذلك ، لزم إما الجهل أو الحاجة. وهما محالان. والمفضي إلى المحال : محال. وهذا يقتضي أنه يستحيل من الله [تعالى (٢)] عقلا أن لا يفعل ذلك الواجب. وإذا امتنع الترك ، وجب الفعل. فإن كان هذا الوجوب يمنع من المدح والذم ، وجب أن لا يستحق الله تعالى بذلك مدحا ، ولا بتركه ذما. وذلك باطل.

الخامس : إنا بينا : أن البديهة دلت على أن الفعل يتوقف على الدواعي. وبينا (٣) : أن عند حصول الداعية يجب الفعل. وعلى هذا التقدير فالجبر لازم ، ويلزمهم ما ألزموه علينا. وأيضا : فبتقدير أن نقول : فاعل الفعل لا يتوقف على الداعي ، كان معناه : أن القادر يصدر عنه أحد الفعلين من غير أن يميل طبع ذلك [الفاعل إلى ذلك (٤)] الواقع من غير أن يخص ذلك الفاعل ، ذلك الواقع بأمر البتة. وعلى هذا التقدير يكون حصول ذلك الفعل [حصولا (٥)] على الاتفاق من غير تخصيص ، ومن غير ترجيح. والاتفاقيات لا تكون في الوسع والقدرة. فحينئذ يكون التكليف به ، تكليفا بما لا يطاق. وأيضا : بتقدير أن يقول قائل : الفعل يتوقف على الداعي ، لكن عند حصول الداعي لا يجب. فإنه إذا لم يجب جاز تارة ، وأن لا يجوز (٦) أخرى. وحينئذ يكون اختصاص أحد الوقتين بالوقوع دون الوقت الثاني ، يكون اختصاصه (٧) به اتفاقيا ، لا لمرجح أصلا. وذلك يوجب الجبر ـ على ما قررناه ـ وحينئذ يلزمهم كل ما ألزموه علينا.

السادس : إن الأمر بتحصيل العلم وارد. كقوله تعالى : (فَاعْلَمْ : أَنَّهُ

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) من (ل).

(٣) وهنا (م).

(٤) من (ط ، ل).

(٥) من (ط).

(٦) يوجد (م).

(٧) اختصاص (م).

٢٦٨

لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) (١) وقد دللنا على أن تحصيل العلم : ليس في الوسع.

السابع : إن التكليف. إما أن يتوجه على العبد حال استواء الداعي إلى الفعل والترك ، أو حال الرجحان. فإن كان الأول لزم أن يصير مأمورا بالترجيح حال الاستواء ، وذلك تكليف بالجمع بين النقيضين. وإن كان الثاني فهو محال. لأنه [إن (٢)] أمر بترجيح الطرف الراجح كان ذلك أمرا بتكوين الكائن. وهو محال. وإن أمر بترجيح الطرف المرجوح كان ذلك أمرا بأن يحصل المرجوح حال كونه مرجوحا راجحا. فيكون أمرا بالجمع بين النقيضين. وهو محال. ولا يقال : إنه حال الاستواء يكون مأمورا بأن يرجح بعد ذلك. لأنا نقول : هذا باطل. لأنه إما أن يكون المراد منه : أنه حال الاستواء مأمورا بأن يرجح في الزمان الثاني ، قبل مجيء الزمان الثاني ، أو عند مجيئه. والأول محال. لأن إحداث الترجيح في الزمان الثاني قبل حضور الزمان الثاني محال. وإن كان الحق هو الثاني ، فنقول : إن عند مجيء الزمان الثاني يعود التقسيم المذكور فيه. لأن عند مجيء الزمان الثاني ، إما أن يكون الطرفان على السوية ، أو لا يكون على السوية ، وحينئذ تعود المحالات المذكورة.

الثامن : إن القدرة إما أن تكون قدرة على الفعل [حال وجود الفعل (٣)] أو حال عدمه. والأول يقتضي أن يقال : الكافر لا قدرة له على الإيمان. مع أنه مأمور بالإيمان. فيكون هذا تكليف بما لا يطاق. والثاني محال. لأن قبل الوجود يكون الشيء باقيا على عدمه الأصلي ، والعدم الأصلي لا يكون مقدورا ، فيمتنع أن تكون القدرة ، قدرة عليه. ولا يقال : القدرة حال عدم الفعل تقتضي حصول وجود ذلك الفعل في الزمان الثاني. لأنا نقول: إما أن يكون المراد أن القدرة تقتضي حصول الوجود في الزمان [الثاني (٤)] قبل حضور الزمان الثاني ، أو بعد حضوره. والقسمان باطلان. على ما سبق تقريره.

__________________

(١) سورة محمد ، آية : ١٩.

(٢) زيادة.

(٣) من (ط).

(٤) من (ط ، ل).

٢٦٩

التاسع : التوبة واجبة. وقد دللنا على أن تحصيل الندم ليس في الوسع.

العاشر : إن العبد إذا صار مأمورا ، بأن يحرك إصبع نفسه ، فقد صار مأمورا بتحريك جملة الأجزاء التي منها تركب ذلك الإصبع ، في جميع تلك الأحياز ، التي منها تركبت (١) تلك المسافة في جميع تلك الآنات ، التي منها تركب ذلك الزمان. ثم أن كمية تلك الأجزاء مجهولة ، وكمية تلك الأحياز مجهولة ، وكمية تلك الآنات مجهولة. فكان الأمر بهذا الفعل ، أمرا بتكوين ما هو مجهول من هذه الوجوه. وذلك تكليف بما ليس في الوسع. لأن القصد إلى تكوين ما هو غير معلوم ، ولا متصور : تكليف بما لا يطاق.

فثبت بهذه الوجوه العشرة : أن الذي ألزموه علينا ، فهو لازم عليهم. وهذه المسائل العشرة ، كل ما هو جوابهم عنها ، هو جوابنا عما ألزموه علينا. وأما أصحابنا. فقد أوردوا عليهم إلزامات أخرى :

أحدها : أن الذوات عندهم حاصلة في العدم ، فلا يمكن أن يكون للقدر أثر فيها. وأما الصفة صفة (٢) الوجود فهي عندهم حال ، والحال لا تكون معلومة ولا مقدورة. وأما الماهية الموجودة فهي ليست إلا الماهية وإلا الوجود. ولما لم يكن واحد منهما صالحا للمقدورية ، لم يكن المجموع أيضا صالحا للمقدورية. فيلزمهم أن يكون التكليف بالفعل ، تكليفا بما لا يطاق. إلا أن هذا الإلزام غير وارد على «أبي الحسين» فإنه ينكر كون المعدوم شيئا.

وثانيها : إن عندهم الكائنية معللة بمعنى يوجبها. ثم إن أكثر الخلق لا يتصورون هذا المعنى. والقدرة لا تأثير لها في الكائنية أصلا. إذا ثبت هذا ، فنقول : التكليف إن وقع بتحصيل الكائنية ، كان ذلك تكليفا بما لا يطاق. لأن العبد لا قدرة له على الكائنية. وإن وقع بتحصيل ذلك الموجب ، فذلك غير متصور الماهية ، عند أكثر الخلق. فكان التكليف بإيجاده تكليفا بتحصيل ما لا تكون ماهيته متصورة عند الذهن. وذلك تكليف بما لا يطاق. لأن إيجاد

__________________

(١) تركيب (م).

(٢) الصفة (م).

٢٧٠

الشيء لا يمكن إلا بالقصد إلى تحصيله والقصد إلى تحصيله مشروط بالعلم بماهيته. وعند فقدان هذا العلم يكون هذا تكليفا بما لا يطاق. إلا أن هذا الإلزام غير وارد على «أبي الحسين» لأنه لا يثبت هذا المعنى. والله أعلم.

وأما الشبهة الثالثة :

فالجواب عنها من وجهين :

الأول : إنا بينا بالدلائل العشرة : أنه تعالى كلف بما لا يطاق. وذلك يبطل قولهم : أنه تعالى لا يفعل ذلك.

والثاني : إنه بناء على الحسن والقبح العقلين. وذلك باطل على ما سيأتي تقريره إن شاء الله.

واعلم : أن أكثر ما ذكروه من الوجوه راجع إلى هذا الأصل. مثل : قولهم : لو جاز تكليف العبد بما لا قدرة له عليه ، لجاز إرسال الرسل إلى الجمادات. وأيضا : لا يجوز من الحكيم أن يخلق شتم نفسه. وأيضا : لو جاز مثل هذا التكليف ، لجاز أن يقيد يديه ورجليه ، ويلقيه من شاهق الجبل ، ثم يضربه ، ويقول له : قف في الهواء. فإن هذه الكلمات يرجع حاصلها إلى أنها قبيحة في العقول. فإذا نازعنا في هذا الأصل ، فقد سقط الكل.

وأما الشبهة الرابعة : وهي قولهم : «لو لم يكن العبد موجدا لأفعال نفسه ، لما أمكن الاعتراف بالصانع وبالنبوة وبكون القرآن حقا» فالجواب : أن الاعتراف بهذه الأصول إن كان موقوفا على العلم يكون العبد موجدا ، لم يكن إثبات كون العبد موجدا ، بالبناء على تلك الأصول. وإلّا وقع الدور [وإن لم يكن موقوفا عليه ، لم يلزم من القدح في كون العبد موجدا ، القدح في تلك الأصول. والله أعلم (١)].

__________________

(١) من (ط ، ل).

٢٧١
٢٧٢

الباب السادس

في

حكاية الدلائل القرآنيّة

التي يتمسكون بها

اعلم : أن كلام المعتزلة في هذا الباب قد طال وكثر. ونحن نشير إلى معاقد أقوالهم على سبيل الاختصار.

٢٧٣
٢٧٤

النوع الأول

الاستدلال الاجمالي

وتقريره : إن المقصود من جميع كتب الله المنزلة. إما تقرير الدلائل على التوحيد والنبوة والمعاد. وإما الأمر والنهي ، والمدح والذم ، والثواب والعقاب. وإما القصص (١) لإرادة أن يعتبر المكلف ، فيحترز عن مخالفة تكاليف الله تعالى. فهذه هي المعاقد الكلية ، والمطالب الأصلية من كتب الله المنزلة. وكلها مبطلة للقول بالجبر. أما تقرير الدلائل على التوحيد والنبوة والمعاد وسائر المطالب ، فالكل على مذهب الجبر عبث باطل. لأنه تعالى إن كان قد خلق العلم والمعرفة بتلك الأشياء ، فلا حاجة به البتة الى معرفة الدلائل. وإن كان الله لم يخلق العلم في المكلف ، لم ينتفع المكلف البتة بشيء من تلك الدلائل. فعلى كلا التقديرين [يكون (٢)] نصب الدلائل وتقريرها وإيضاحها : عبثا ضائعا ، على مذهب الجبر. وأما الأمر والنهي فهو أيضا ضائع على مذهب الجبر. لأن الأمر والنهي إنما يحسنان إذا كان المأمور والمنهي قادرا على الفعل ، متمكنا منه. ألا ترى أن من قيد يداه ورجلاه ورمي من شاهق جبل ، ثم أمر بالرجوع ، أو نهي عن النزول : كان ذلك سفها وعبثا. ولو كان [كل (٣)] فعل : خلقه الله تعالى ، لكان جميع تكاليف الله تعالى كذلك. لأن الذي خلقه

__________________

(١) التقصيص (م).

(٢) زيادة.

(٣) زيادة.

٢٧٥

الله تعالى فيه كان واجب الحصول. فكان الأمر به جاريا مجرى ما إذا يقيد الإنسان يدي عبده ورجليه ، ويرميه من شاهق الجبل ، ثم يقول [له (١)] : انزل ، وإن [لم (٢)] تنزل عذبتك. والذي ما خلقه الله تعالى فيه [يكون (٣)] ممتنع الحصول ، فكان الأمر به جاريا مجرى ما إذا يقيد يديه ورجليه ويرميه من شاهق الجبل ، ثم يقول له : ارجع وإن لم ترجع (٤) عذبتك. ومعلوم : أن أمثال هذه التكاليف عبث فاسد. فثبت : أن القول بالجبر يفضي (٥) إلى أن تكون جميع تكاليف الله باطلة ضائعة. وأما المدح والذم والوعد والوعيد فكل ذلك إنما يحسن إذا كان المخاطب قادرا على الفعل والترك ، متمكنا منهما. حتى أنه إذا (٦) أطاع باختياره مدح وأثيب ، وإن (٧) عصى باختياره ذم وعوقب. فأما إذا خلق الكفر فيه ، شاء أم أبى ، ثم يعاقبه عليه أبد الآباد ، ويذمه عليه ، ويقول : لم فعلت؟ فهذا محض الكذب ، ومحض الظلم والسفه. وأما القصص المذكورة في كتب الله المنزلة. فالفائدة منها : أن يعتبر المكلف بها ، فيقدم على الطاعة ، وينزجر عن المعصية. كما قال تعالى : (لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ) (٨).

وهذه الفائدة إنما تحصل إذا كان العبد قادرا على الاختيار أولا ، وقادرا على الطاعة والمعصية ثانيا. فأما إذا كان لا قدرة له على الطاعة ولا على المعصية الستة ، كان ذكر الاعتبار عبثا محضا. لأن الله تعالى إن خلق الطاعة فيه ، فهي حاصلة. سواء حصل ذلك الاعتبار أو لم يحصل ، وإن لم يخلقها امتنع حصولها. سواء حصل هناك اعتبار ، أو لم يحصل. فكان ذكر القصص لإرادة

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سقط (م).

(٣) من (م ، ل).

(٤) ولم ترجع (م).

(٥) يقضي أن يكون (م).

(٦) إنما (م).

(٧) ولك (م).

(٨) اخر سورة يوسف.

٢٧٦

الاعتبار عبثا محضا. فثبت بما ذكرنا : أن المقصود من بعثة الأنبياء وإنزال الكتب عليهم : ليس إلا هذه الأمور ، وثبت : أنها بأسرها لا تقرر إلا على القول بالعدل ، وإبطال القول بالجبر والجور. فثبت : أن جميع كتب الله ناطقة بفساد القول بالجبر (١).

__________________

(١) في التوراة : «إن هذه الوصية التي أوصيك بها اليوم ، ليست عسرة عليك. ولا بعيدة منك. ليست هي في السماء ، حتى تقول : من يصعد لأجلنا إلى السماء ويأخذها لنا ويسمعنا إياها ، لنعمل بها. ولا هي في عبر الحبر ، حتى تقول : من يعبر لأجلنا البحر ويأخذها لنا ويسمعنا إياها ، لنعمل بها. بل الكلمة قريبة منك جدا. في فمك وفي قلبك لتعمل بها» [تثنية ٣٠ : ١١ ـ ١٤].

ومعلوم أن أ ـ الوصية هي الشريعة. ب ـ والغرض من الشريعة : العمل بها. ت ـ والعمل بها يستلزم أن يكون الإنسان قادرا على الفعل ، وقادرا على الترك.

وفي الإنجيل : يستدل المسيح عليه‌السلام بنص التوراة السابق على كون الإنسان حرا. يقول المسيح : «أما كون الإنسان حرا ، فواضح من كتاب موسى. لأن إلهنا عند ما أعطى الشريعة على جبل سيناء. قال هكذا : «ليست وصيتي في السماء لكي تتخذ لك عذرا قائلا : من يذهب ليحضر لنا وصية الله؟ ومن يا ترى يعطينا القوة لنحفظها؟ ولا هي وراء البحر ، لكي تعد نفسك كما تقدم. بل وصيتي قريبة من قلبك ، حتى إنك تحفظها متى شئت» ... الخ [برنابا ١٦٤].

وفي إنجيل لوقا يقول المسيح : «ولا تبتدءوا تقولون في أنفسكم : لنا إبراهيم أبا. لأني أقول لكم : إن الله قادر أن يقيم من هذه الحجارة أولادا لإبراهيم. والآن قد وضعت الفأس على أصل الشجر. فكل شجرة لا تصنع ثمرا جيدا ، تقطع وتلقى في النار» [لوقا ٣ : ٨ ـ ٩].

وبولس قد حرف نص التوراة عن مواضعه ـ النص الذي استدل به المسيح على الحرية ـ بقوله : إن المراد من وصية الله هي الإيمان بالمسيح ربّا مصلوبا. وأما العمل فإنه غير واجب على الإنسان إذا آمن بالمسيح ، لأن المسيح ألغى الأعمال بصلبه فداء عن الخطايا. وتفسير بولس باطل لأنه إذا ألغى الأعمال ونادى بأن المسيح هو الإله الخالق للعالم. فإن يكون داعيا إلى هدم الشريعة من أساسها [انظر الرسالة إلى أهل رومية].

وفي القرآن الكريم يقول تعالى : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ) أي من كانت نيته متجهة إلى الضلال واستحب الضلال على الهدى. فإن الله يضله. ولقد سأل المسيح عن سبب ضلال الله لفرعون. فأجاب بقوله : «إنما فعله لأنه نكل بشعبنا وحاول أن يبغى عليه بإبادة كل الأطفال الذكور من إسرائيل ، حتى كاد موسى أن يخسر حياته» [برنابا ٦٦].

٢٧٧
٢٧٨

النوع الثاني

من وجوه تمسكهم بالقرآن

أن قالوا : القرآن من الباء من «بِسْمِ اللهِ» إلى السين من قوله : (مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) ناطق بفساد مذهب الجبر. ونحن نشرح ذلك في سورة الفاتحة. ليقاس عليه الباقي. ورتبناه على فصول :

الفصل الأول

في

المباحث المستنبطة من قولنا :

«أعوذ بالله من الشيطان الرجيم»

قالوا : هذا يدل على بطلان القول بالجبر من وجوه :

الأول : إن قولنا : «أعوذ» : اعتراف بكون العبد فاعلا. ولو كان فعل العبد (١) مخلوقا لله تعالى ، لامتنع كونه فاعلا ، للاستعاذة. لأن تحصيل الحاصل محال ، لأن الله تعالى إذا خلق ذلك الفعل ، لم يقدر العبد على الامتناع منه ، وإن لم يخلقه الله تعالى فيه ، استحال منه الإقدام على تحصيله. فثبت : أن قوله : «أعوذ» : اعتراف بكونه موجدا لأفعال نفسه.

__________________

(١) الفعل (م).

٢٧٩

الثاني : إن الاستعاذة بالله ، إنما تعقل ، لو لم يكن الله هو الفاعل للأمور التي منها يستعاذ. أما إذا كان الفاعل لها هو الله تعالى ، امتنع أن يستعاذ به تعالى من تلك الأفعال. لأنه يصير كأنه استعاذ بالله ، من الله ، في الفعل الذي فعله الله تعالى.

الثالث : إن إقدام العبد على الاستعاذة من المعاصي ، يدل على أن العبد غير راضي بها. ولو كانت المعاصي مخلوقة لله تعالى ، لزم أن لا يكون العبد راضيا بقضاء الله. وذلك كفر.

الرابع : إن الاستعاذة بالله من الشيطان ، إنما تعقل لو كانت الوسوسة فعلا للشيطان. أما إذا كانت فعلا لله تعالى ، ولم يكن للشيطان فيها (١) أثر. فكيف يعقل أن يستعاذ من شر الشيطان؟

الخامس : إن لفظ «الشيطان» مشتق. إما من شطن ، وهو البعد. أو من شاط ، وهو الاحتراق. وعلى التقديرين فهو اسم دم. والذم إنما يحسن في حق القادر على الفعل. فإذا كان الشيطان لا قدرة له على الفعل لم يحسن ذمه.

السادس : إن «الرجيم» معناه المرجوم. وهو إشارة إلى كونه معذبا. وذلك إنما يحسن في [حق (٢)] القادر على الفعل. لا في حق العاجز عنه.

فثبت بما ذكرنا : أن قوله «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» : يبطل القول بالجبر. ولا يقال : إنا لا نقول بالجبر ، بل نقول : العبد مكتسب. لأنا نقول : هذا ليس بشيء. فإن العبد إما أن يمكنه تحصيل شيء وتكوينه ، أو لا يمكنه ذلك. فإن أمكنه فهو مذهبنا. وإن كان لا يمكنه فقد توجهت السؤالات المذكورة. وليس بين النفي والإثبات واسطة. فثبت: أن إلغاء لفظ الكسب في الشيء : محض التزوير.

قال أهل السنة والجماعة : إن كانت الوجوه التي استنبطوها من قولنا :

__________________

(١) فيه (م).

(٢) من (ط ، ل).

٢٨٠