المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

«أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» توجب فساد الجبر ، فههنا وجوه أخرى مستنبطة منها توجب فساد القول بالاعتزال.

فالأول : إن شر الشياطين والأبالسة إذا لم يكن لله [تعالى (١)] فيه أثر البتة ، لم تجز الاستعاذة بالله. لأن على هذا التقدير إما أن يكون المطلوب من الله في هذه الاستعاذة : أن يمنع الشيطان بالنهي والزجر والتهديد ، أو بأن يمنعه منه بالقهر والإلجاء.

أما الأول فقد فعله الله تعالى ، فكان طلبه لتحصيل الحاصل ، وهو عبث. وإن كان الثاني لم يجز من الله تعالى أن يفعله ، لأن الإلجاء ينافي كون الشيطان مكلفا.

الثاني : إن الله تعالى إما أن يكون مريدا لصلاح حال العبد ، وإما أن لا يكون كذلك. فإن كان الأول فالشيطان إما أن يتوقع منه إفساد العبد ، أو لا يتوقع منه ذلك. فإن [كان (٢)] المتوقع من الشيطان إفساد العبد ، مع أن الله تعالى يريد إصلاحه ، فلم خلقه؟ ولم يسلطه على العبد؟ وإن كان لا يتوقع منه إفساد العبد. فأي فائدة في الاستعاذة بالله منه؟

وأما الثاني : فهو أن الله قد لا يريد إصلاح العبد. وعلى هذا التقدير : الاستعاذة بالله لا تفيد الاعتصام من آفات الدين والدنيا.

الثالث : إن الشيطان إما أن يكون مجبورا على فعل الشر ، أو لا يكون قادرا على الشر والخير. فإن كان الأول فقد أجبره الله تعالى على الشر. وذلك يناقض الاعتزال. وإن كان الثاني فحينئذ لا تترجح فاعلية الشر على فاعلية الخير ، إلا لمرجح من قبل الله تعالى ـ على ما قررناه مرارا وأطوارا ـ فحينئذ يلزم الجبر ـ فكيف يستعاذ من الشيطان؟

الرابع : إن كان الفعل المستعاذ منه : معلوم الوقوع. فهو واجب

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) زيادة.

٢٨١

الوقوع. وإن كان معلوم اللاوقوع ، فهو ممتنع الوقوع. وعلى التقديرين فلا فائدة في الاستعاذة.

الخامس : إنا إذا قلنا : ضلال الكافر والفاسق ، إنما حصل من وسوسة الشيطان. فإن قلنا : إن ضلال الشيطان ، إنما حصل من شيطان آخر. لزم التسلسل. وهو محال. وإن قلنا : حصل من قبل نفسه ، فهو باطل من وجهين :

الأول : إنا إذا قلنا ذلك ، فلم لا نقول : إن ضلال الكافر والفاسق إنما حصل من قبل نفسه ، لا من قبل الشيطان؟ وحينئذ تكون الاستعاذة من الشيطان عبثا.

الثاني : إن المكلف لا يرضى لنفسه [البتة (١)] باختيار الجهل والكفر ، إلا إذا قيل: إنه إنما اختار ذلك ، لأنه ظن أن ذلك الاعتقاد : علم. لأنه على هذا التقدير لا يمكنه اختيار هذا الجهل ، إلا لسبق جهل آخر. ولا يتسلسل بل ينتهي إلى جهل أول. وحينئذ يعود السؤال في كيفية حصوله. فثبت : أن ضلال ذلك الشيطان إنما حصل بإضلال الله تعالى ، وحينئذ تقبح الاستعاذة بالله من الشيطان ، على هذا التقدير. وإلى هذا التحقيق الإشارة بقوله تعالى : (هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا. أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) (٢) يعني : إن كانت غوايتهم منا ، فغوايتنا ممّن. فالذي أغوانا هو الذي أغوى الكل.

الوجه السادس في بيان أن الاستعاذة من الشيطان غير معقولة : إن الحدقة السليمة إذا صارت مقابلة للمرئي ، وكان ذلك المرئي قريبا ، والشرائط حاضرة ، والموانع زائلة. فعند اجتماع هذه الأمور يجب حصول الإدراك. وحصول الإدراك مستلزم للعلم بماهيّة المدرك. والعلم بماهية المدرك يوجب

__________________

(١) من (م ، ل).

(٢) سورة القصص ، آية : ٦٣ وفي تفسير مجمع البيان : (الَّذِينَ أَغْوَيْنا) يعنون أتباعهم (أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) أي أضللناهم عن الدين بدعائنا إياهم إلى الضلال ، كما ضللنا نحن بأنفسنا.

٢٨٢

العلم بكونه نافعا أو ضارا أو خاليا عنهما. والعلم بكونه نافعا خاليا عن المعارض يوجب الميل إلى تحصيله. والعلم بكونه ضارا خاليا عن المعارض يوجب النفرة عنه. والميل الجازم يوجب الفعل والنفرة توجب الترك. فترتب كل واحد من هذه المراتب على ما قبله ترتب ضروري ذاتي ، ولا عمل للشيطان فيه. لأن الواجب بذاته لا يصير واجبا بغيره. وثبت : أنه لا تأثير لعمل الشيطان في مرتبة من هذه المراتب. فكيف يستعاذ بالله منه؟ بقي أن يقال : لم لا يجوز أن يقال : إن الشيطان ألقى كلاما في خاطر الإنسان وذكره صورة أمر ، بعد أن كان غافلا؟ لكنا نقول : صدور هذا التذكير عن الشيطان ، لا بد فيه من المراتب الأربعة المذكورة. فإن كان ذلك الإدراك إنما حصل في قلب ذلك الشيطان ، لأن شيطانا آخر ذكره ، لزم التسلسل. وإن انتهت هذه الحركات والبواعث والدواعي (١) إلى [أنها] لم تقع [إلا] بتخليق الله وبتكوينه فقد صار الكل من الله وحينئذ يرجع حاصل قوله أعوذ بالله من الشيطان الرجيم إلى ما صرح به رسول الله وهو قوله : «أعوذ بك منك» فوسوسة الشيطان هي المبدأ القريب ، وفعل الحق سبحانه هو المبدأ البعيد. لأنه سبحانه مسبب الأسباب. ومراتب الكتاب منتهية إليه ، ودرجات الحاجات متصاعدة إليه.

ونظيره : قوله تعالى : (اللهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) (٢) ثم قال : (قُلْ : يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ) (٣) ثم قال : (تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا) (٤) وما ذاك إلا لما ذكرنا : من أن من الأسباب ما قد تكون قريبة ، وقد تكون بعيدة. فكذا هاهنا.

الوجه السابع : إن المقصود من الاستعاذة. إما أن يكون طلب مصالح الدين ، أو طلب مصالح الدنيا. فإن كان الأول فالمطلوب : إما الأقدار ، أو التمكين ، أو تحصيل الإيمان. أما الأول فهو حاصل عند المعتزلة. فلم لا يجوز طلبه؟ وأما الثاني فذاك اعتراف بأن الإيمان والكفر من الله. وأما مصالح الدنيا

__________________

(١) والدواعي التي لم تقع بتخليق ... الخ [الأصل].

(٢) سورة الزمر ، آية : ٤٢.

(٣) سورة السجدة ، آية : ١١.

(٤) سورة الأنعام ، آية : ٦١.

٢٨٣

فهي خسيسة. فلا يجوز أن يجعل (١) المكلف طلبها ، مقدمة لإقدامه على جميع العبادات والطاعات. والله أعلم.

فهذا خلاصة المباحث الواقعة في ماهية الاستعاذة ، على المذهبين.

وبالله التوفيق

الفصل الثاني

في

المباحث الواقعة في قولنا : (بِسْمِ اللهِ)

قالت المعتزلة : الإله هو الذي تحق له العبادة.

وهذا المعنى لازم على القول بالجبر. وبيانه من وجهين :

الأول : إنه تعالى إنما يكون مستحقا للعبادة ، لأنه صدر عنه غاية الإنعام والإحسان. ولو أنه خلق فيهم الكفر ، ليستدرجهم إلى النار ، لما كان منعما على العبيد. وأيضا : فكل من آمن في الحال ، لم يأمن أن تكون عاقبة أمره : الردة والكفر. وحينئذ يصير كل ما هو فيه وبالا عليه. ومن كان كذلك ، فهو أعظم المفترين ، لأعظم المنعمين. فكيف يستحق العبادة والتعظيم؟ ولهذا السبب قال الجبائي في تفسير قوله : (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (٢) : إن كان تعالى يخلق الكفر في الكافر [في الدنيا (٣)] ثم يعذبه عليه أبد الآباد في الآخرة ، فحينئذ لا يكون هو ـ تعالى ـ (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) بل يكون: بئس المولى وبئس النصير.

الثاني : إنه ـ تعالى ـ إنما يستحق العبادة على العبد ، لو كان العبد قادرا

__________________

(١) يحصل (م).

(٢) آخر الحج.

(٣) من (ط ، ل).

٢٨٤

على فعل (١) العبادة. أما إذا كان العبد غير قادر على العبادة. بل يكون القادر على العبادة هو الله تعالى لزم أن يقال : إنه استحق على نفسه أن يعبد نفسه ، وذلك غير معقول.

قال أهل السنة : كلامكم مبني على أن لفظ «الله» معناه : المستحق للعبادة. وهذا باطل. ويدل عليه وجهان :

الأول : إنا بينا في تفسير أسماء الله : أن «الله» : اسم [علم (٢)] غير مشتق.

[الثاني (٣)] : لو سلمنا أنه مشتق ، لكن لا نسلم أن معناه : أنه الذي يستحق العبادة. ويدل عليه وجهان :

الأول : إنه لو كان كذلك ، لوجب أن لا يكون إلها للجمادات والبهائم ، لأنه ـ تعالى ـ يستحق عليها العبادة ، ولزم أن لا يكون إلها في الأزل لم يخلق أحدا ، ولم ينعم على أحد فلم يكن مستحقا للعبادة.

الثاني : إنا بينا : أن العقل لا يدل على حصول الاستحقاق. لأنه لا يتفاوت حال المعبود بسبب هذه العبادة ـ وهي شاقة على العابد ـ فوجب أن لا يحكم العقل بوجوبه.

إذا ثبت هذا ، فنقول : الإله هو القادر على الاختراع. والدليل عليه : أنه تعالى إنما ظهر الامتياز بينه وبين سائر الذوات بصفته الخلاقية. فقال : (أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ) (٤)؟ ولما كان المذكور في معرض الامتياز هو هذه الصفة ، علمنا : أن معنى الإلهية ليس إلا الخلاقية. فلو كان العبد موجدا لأفعال نفسه ، لكان خالقا لها ، وحينئذ يبطل الفرق بين الإله ، وبين العبد في

__________________

(١) أفعال (م).

(٢) من (م ، ل).

(٣) من (م ، ل).

(٤) سورة النحل ، آية : ١٧.

٢٨٥

أخص أوصاف الإلهية. فكان قولنا (بِسْمِ اللهِ) دالا على أن العبد غير موجد من هذا الوجه.

الفصل الثالث

في

المباحث الواقعة في قولنا : (الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)

قالت المعتزلة : لو كان الكفر والفسق كله من الله ، لا من العبد ، لكان المغضوب عليه من الخلق ، أكثر من المرحوم. لأن أهل النار أكثر من أهل الجنة. ومن كان عقابه وضرره أكثر من رحمته وإحسانه ، لم يكن رحمانا. لأن الرحمن هو الكامل في الرحمة ، والرحيم من صفة الرحمة بشرط أن لا يحصل نقيضه. قالوا : فأما على مذهبنا فإنه يتم لنا القول بأنه الرحمن الرحيم. لأنه تعالى خلق الخلق كلهم للنفع والرحمة ، وأما الذين كفروا وفسقوا فمن جهة أنفسهم. ونقول في ذلك كما قال تعالى : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ ، حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) (١) وقال : (ما يَفْعَلُ اللهُ بِعَذابِكُمْ. إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ) (٢) وقال : (قُلْ : ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي. لَوْ لا دُعاؤُكُمْ) (٣) فثبت : أن كونه رحمانا رحيما لا يثبت إلا على قولنا.

قال أهل السنة والجماعة : هذا الذي أوردتم علينا ، وارد عليكم. وبيانه من وجوه :

الأول : عند حصول القدرة والداعية. إما أن يجب الفعل ، أو لا يجب. فإن وجب ، لزمكم ما ألزمتموه علينا. لأنه تعالى هو الخالق لتلك القدرة ولتلك الداعية. وهما يوجبان الكفر والفسق. فكان ذلك إجبار للعبد على القبح. وأما إن قلتم : إن عند حصول القدرة والداعية لا يجب الفعل فحينئذ يكون صدور الفعل اتفاقيا ، والاتفاقي لا يكون مقدورا للعبد. فيترتب

__________________

(١) سورة الرعد ، آية : ١١.

(٢) سورة النساء ، آية : ١٤٧.

(٣) الفرقان ، آية ٧٧.

٢٨٦

أن العقاب عليه ظلم. فثبت : أن الذي أوردوه [علينا (١)] وارد عليهم لا محالة.

الثاني : إن خلاف معلوم الله ممتنع الوقوع. فإذا قال لمن علم أنه يموت على الكفر : كلفتك بالإيمان. فكأنه قال له : غير علم الله وإلا عاقبتك. ومعلوم أن هذا لا يليق بالرحمة البتة. لأن كل ما أوصل الله من الرحمات إلى عباده ، لا يخلو إما أن يقال : إنه تعالى أحوجهم إليها وجعلهم مشتهين لها ، أو ما فعل ذلك. فإن كان الأول لم يكن ذلك رحمة. لأنه تعالى لما أحوجهم إليها ، ثم أعطاهم ذلك المحتاج إليه ، جرى هذا مجرى ما إذا خرق بطن إنسان ثم يداويه. فإن ذلك لا يعد رحمة. وإن كان الثاني وهو أنه تعالى ما أحوجهم إليها ، وما جعلهم (٢) مشتهين لها ، راغبين في حصولها ، لم يكن إيصال ذلك إليهم (٣) نفعا في حقهم. ألا ترى أن إلقاء العظم إلى الكلب إحسان إليه. لأنه يشتهي ذلك العظم. أما إلقاء قلادة من الدر (٤) إليه ، فإنه لا يكون إحسانا إليه. لأنه لا يشتهي ذلك فثبت أن على القسمين لا تعقل حصول الرحمة. وهذا بخلاف الإحسان الصادر من الخلق ، لأن الحاجة ما حصلت من قبل هذا المحسن ، بل كانت الحاجة موجودة في ذات ذلك الشخص. فإذا سعى إنسان في دفع تلك الحاجة ، كان ذلك إحسانا. أما الحق سبحانه فهو الذي أحوج إلى ذلك الشخص ، فإذا أعطى المحتاج إليه ، جرى [ذلك (٥)] مجرى ما إذا أساء ثم أحسن بقدر تلك الإساءة ، ومجرى ما إذا جرح ثم عالج ، فإن ذلك لا يكون إحسانا. فثبت: أن هذا الإلزام وارد عليهم.

الرابع : إنه تعالى لما علم من الكافر أنه لا يقبل الإيمان ، وأنه يقدم على الكفر والفسق ، وأنه لا يستفيد من الخلق والتكليف ، إلا عذاب الأبد. كان

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) وما جعلتم (م).

(٣) إليها (م).

(٤) الذي (م).

(٥) من (ل).

٢٨٧

خلقه وتكليفه مع علمه بأن عاقبته تؤدي إلى هذه الحالة : سعيا في الإضرار والإيلام. وذلك لا يليق بالرحمة.

قال أهل السنة والجماعة : الرحمة الكرم إنما تتحقق على مذهبنا ، لا على مذهب المعتزلة. وذلك لأن الجود هو إفادة ما ينبغي ، لا لغرض. وعند المعتزلة أنه تعالى لو لم يعط الثواب والعوض ، فإنه يستحق الذم ، فهو بإعطاء ذلك الثواب ، وذلك العوض ، يتخلص من الذم ، وإذا تفضل فقد اكتسب استحقاق الحمد من العبد. ولو لا ذلك التفضل ، لما حصل ذلك الاستحقاق. فثبت : أنه تعالى بإعطاء تلك المنافع قد اكتسب لنفسه منفعة وعوضا. فلم يكن هذا جودا. فأما على قولنا : إنه لا يجب على الله لأحد شيئا ، وأنه مستحق الثناء والحمد لذاته ، لا لأمر منفصل (١) عن ذاته. لم يكن [لفعل (٢)] شيء من أنواع الجود والكرم ، أثر في تخليته (٣) عن الذم ، ولا أثر في تحصيل مزيد استحقاق الحمد. فكانت عطاياه محض الجود والكرم والرحمة. والرحيم هو الذي يرحم وليس من شروطه أن لا يفعل الرحمة. فهو تعالى رحيم لمن أراد ، وقهار لمن أراد. كما أنه تعالى نافع ضار.

واسم الرحمن يدل على المبالغة في الرحمة. وهذه المبالغة إشارة إلى وجهين :

الأول : إن كل ما سواه فإنما يرحم لاكتساب عوض. وهو إما استحقاق الثواب ، أو استحقاق الثناء ، أو التخلص من الذمة ، أو دافع الرقة الحقيقية عن القلب. وكل ذلك أعواض. فأما الحق سبحانه فإنه يرحم لا لغرض أصلا. فكانت رحمته هي الرحمة الحقيقة. ولهذا السبب استحق أن يسمى رحمانا.

والثاني : إن جميع الخلق لا يرحمون أحدا ، إلا إذا حصلت في قلوبهم

__________________

(١) متصل (م).

(٢) من (ط).

(٣) تخليفة (م).

٢٨٨

داعية الرحمة ، والخالق لتلك الداعية هو الله سبحانه ، فكان الراحم في الحقيقة ليس إلا الله سبحانه من هذا الوجه. فهذا هو الكلام في هذا الباب.

والله أعلم بالصواب

الفصل الرابع

في

قولنا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ)

قالت (١) المعتزلة : هذا لا يتم إلّا على مذهبنا. وذلك لأن المستحق للحمد هو الذي لا قبح في فعله ، ولا جود في قضيته ، ولا سوء في مشيئته ، ولا عيب في صنعه. وعندنا : أن الله كذلك. فكان مستحقا لأعظم المحامد والمدائح. أما على مذهب الجبر ، فلا قبيح إلا وهو فعله ، ولا جور إلا وهو قضيته ، ولا عبث إلا وهو صنعه. لأنه يخلق الكفر في الكافر ثم يعذبه عليه [ويؤلم الحبر امانه (٢)] من غير أن يعوضها ، فامتنع كونه مستحقا للحمد والمدائح. وأيضا : ذلك الحمد الذي يستحقه بسبب كونه إلها. إما أن يستحقه على العبد ، أو على نفسه. فإن استحقه على العبد ، وجب أن يكون [العبد (٣)] قادرا على الفعل. وذلك يبطل القول بالجبر. وإن كان يستحقه على نفسه ، كان معناه أنه يجب عليه أن يحمد نفسه. ومعلوم أن ذلك باطل. فثبت : أن قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) : لا يتم إلا على قولنا.

قال أهل السنّة والجماعة : بل هذا لا يتم إلا على قولنا. وبيانه من وجوه :

__________________

(١) في (م) أدمج الناسخ الفصل الرابع والخامس في فصل واحد هو الرابع. وفصل (رَبِّ الْعالَمِينَ) في (ط) فقط.

(٢) من (ط).

(٣) من (ط ، ل).

٢٨٩

الأول : إن الألف واللام في قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) يفيدان الاستغراق والاستغراق يوجب أن تكون كل المحامد والمدائح لله.

الثاني : إن العبد لو كان هو الموجد للإيمان والطاعات ، لكان فعله أحسن من فعل الله تعالى. لأن أشرف المخلوقات هو العلم والإيمان. ومن كان فعله أشرف من فعل غيره ، كان استحقاقه للحمد أعظم من استحقاق غيره فلو كان الايمان حصل بإيجاد العبد ، لوجب أن يكون استحقاق العبد للحمد ، أكمل من استحقاق الله له. وذلك يقدح في صحة قولنا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ).

الثالث : إنه تعالى إذا فعل فعلا ، فذلك الفعل إما أن يكون في حقه من الواجبات ، مثل : إعطاء الثواب والعوض ، أو لا يكون من باب الواجبات ، بل يكون من باب التفضل. فإن كان الأول فقد تخلص ذلك الفعل عن استحقاق الذم. فهو تعالى إنما فعل ذلك الفعل ليتخلص عن هذا الضرر ، فلا يوجب الحمد. وإن كان من القسم الثاني فهو تعالى إنما فعله ليكتسب له نوع فضيلة وكمال ، فلا يكون إحسانا محضا. فوجب أن لا يستحق الحمد بسببه. أما على مذهبنا فإنه لا يجب عليه شيء ، ولا يكتسب بفعل شيء مريد محمدة ولا فضيلة ، فكان إحسانا محضا. فلا جرم كان موجب الحمد والمدح.

الرابع : إن قوله (الْحَمْدُ لِلَّهِ) : مدح منه لنفسه ، ومدح النفس مستقبح فيما بين الخلق. ولما بدأ كتابه بمدح النفس دل ذلك على أن حاله بخلاف حال الخلق ، وأنه يحسن منه ما يقبح من الخلق ، وذلك يدل على أنه تعالى مقدس عن أن تقاس أفعاله على أفعال العباد. وذلك يبطل مذهب الاعتزال بالكلية. فثبت : أن قولنا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ) لا يتم إلا على قولنا.

والله أعلم

٢٩٠

الفصل الخامس

في

قولنا (رَبِّ الْعالَمِينَ)

قالت المعتزلة : التربية عبارة عن إيصال المنافع إلى الغير ، لغرض الإحسان إليه. فلما وصف الله نفسه بأنه رب العالمين ، وجب أن يقال : إن كل ما أوصل الله إلى الغير فإنه منفعة ، وأنه تعالى إنما أوصلها إليهم لغرض الإحسان إليهم. وهذا إنما يتم على قولنا. فإنا نقول : إنه تعالى ما خلق الخلق ، وما كلف أحدا إلا لغرض الإحسان إليهم. فأما على قول الجبرية ، وهو أنه تعالى خلقهم للنار والعذاب الدائم ، فهذا لا يكون ربا ولا مربيا البتة.

قال أهل السنة والجماعة : هذه الآية من أدل الدلائل على صحة قولنا. وبيانه من وجوه :

الأول : إن العالم كل موجود سوى الله ، فتكون أفعال العباد من جملة العالم. ولما كان ربا للعالمين ، وجب أن يكون ربا لأفعال العباد والرب هو المتصرف [بالشيء (١)] فيلزم كونه متصرفا في أفعال العباد ، والتصرف في أفعال العباد لا يكون إلا بخلقها وتكوينها. فدلت هذه الآية على أنه تعالى خالق لأفعال العباد.

الثاني : إنه تعالى لما علم أن الكافر لا يؤمن ، وأنه لا يستفيد من صيرورته مأمورا بالإيمان إلا استحقاق العذاب الدائم ، فكيف يمكن أن يقال : إنه تعالى إنما كلفه لغرض الإحسان؟ ومثاله : من وقع في البئر ، وعلم إنسان علما يقينا : أنه لو رمى إليه حبلا ، فإنه يخنق نفسه ، ثم إنه مع هذا اليقين رمى إليه حبلا ، وقال : غرضي منه : أن يستعين به على الصعود من البئر. فإن كل أحد يقول : إنك علمت أنه لا يصرف ذلك الحبل إلا إلى مضرة نفسه ، فكان

__________________

(١) من (م ، ل).

٢٩١

إلقاء الحبل إليه محض الإضرار. فكذا هاهنا.

الثالث : إن الإيمان أكثر نفعا للعبد من كل سواه ، ولما كان إيمان العبد من خلقه ، كان تربية العبد لنفسه أكمل من تربية الله له. فوجب أن يكون كون العبد ربا ومربيا لنفسه ، أكمل من كون الله ربا ومربيا له. وهذا يوجب أن يصح من الله التمدح بكونه ربا للعالمين.

والله أعلم

الفصل السادس

في

قوله : (مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ)

قالت المعتزلة : الدين هو الجزاء. والجزاء إنما يحسن على الفعل فإذا [كان (١)] لا فعل للعبد ، امتنع ترتب الجزاء عليه. فوجب أن يكون مالكا ليوم الدين.

قال أهل السنة والجماعة : كونه تعالى مالكا ليوم الدين ، لا يتم إلا على قولنا. وبيانه من وجوه :

الأول : إنا نفرض رجلا استمر على كفره ثمانين سنة ، ثم اتفق أن آمن ، ومات عقيب إيمانه بلحظة. فهذا الرجل عصى الله بالكفر في جميع عمره ، ثم أتى بالإيمان لحظة واحدة ، فإنه ينعزل عن الإلهية ، ويصير سفيها مستحقا للذم. وعلى هذا التقدير لا يكون مالكا ، بل يكون مملوكا [بل يكون حاله أشد من حال مملوك (٢)] لأن المملوك قد يتوقع الخلاص عن ذلّ تكليف المولى. والله تعالى لا رضاء له [البتّة في الخلاص (٣)] عن ذلك التكليف.

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) من (م ، ل).

٢٩٢

فيلزم أن لا يكون تعالى مالكا ليوم الدين ، بل يكون مملوكا في يوم الدين ـ تعالى الله عنه علوا كبيرا ـ

الثاني : إن كفر العبد ومعصيته متناهية. والعقل يقضي أن يكون العقاب بقدر الجرم. لا زائدا عليه. فوجب أن يكون عقاب الكفر والمعصية متناهيا [فلما جعل عقاباته غير متناهية (١)] علمنا أنه لا يمكن أن يقال : أحكام أفعاله على أحكام أفعالنا في الحسن والقبح. وذلك يبطل قول المعتزلة.

الثالث : إن المحاسبة على المأكول والمشروب مستقبحة من العظماء. وجميع الدنيا بالنسبة إلى خزائن الله أقل من الذرة بالنسبة إلى البحر الأعظم. فلو كانت أحكامه مثل أحكامنا ، لوجب أن يقبح منه حساب العبد في الذرة واللقمة. ولما لم يقبح ، علمنا : أنه لا تقاس أفعاله على أفعالنا ، ولا أحكامه على أحكامنا. وذلك يبطل الاعتزال بالكلية.

الفصل السابع

في

قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ)

قالت المعتزلة : هذا تصريح بكون العبد فاعلا ومستقلا بأفعال نفسه. فإنه لو كان فعل العبد قد خلقه الله ، لكان سعي العبد جاريا مجرى تحصيل الحاصل. وذلك محال. وحينئذ يبقى قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) : كذبا محضا. وأيضا : لو كانت العبادة خلقها الله تعالى ، لوجب أن يقول العبد : إياك نسأل منك خلق العبادة.

قال أهل السنّة والجماعة : إنما تصير [العبادة (٢)] داخله في الوجود

__________________

(١) من (م ، ل).

(٢) بالقدر وهو ليس (م).

٢٩٣

بالقصد ، وهي ليست من العبد ، وإلا لزم التسلسل. فهي من الله. وذاك من أقوى البراهين في أن العبد غير مستقل بفعل [العبادة (١)].

الفصل الثامن

في

قوله : (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)

قالوا : هذا إنما يتم على قولنا : إن للعبد فعلا وتصرفا. لأن الاستعانة والإعانة [لا يعقلان (٢)] إلا في القادر على الفعل. أما إذا لم يكن له فعل ، فكيف تعقل الاستعانة؟ وهل يجوز أن يقال : إياك أستعين في طولي وفي قصري ، وفي خلق السماء والأرض؟ ولما لم يجز ذلك علمنا : أن الاستعانة هي طلب المعونة على ما يقدر العبد عليه ، ويحصل من جهته. وأيضا : فقوله (وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) : نص في كون العبد فاعلا لهذا الطلب. فوجب كونه مستقلا بالفعل.

قال أهل السنة والجماعة : هذه الآية من أدل الدلائل. لأن الآية تدل على طلب الإعانة وهذه الإعانة إما أن تكون عبارة عن تحصيل نفس الإيمان [أو عبارة عن تحصيل الإعانة على العبادة (٣)] والأول باطل ويدل عليه وجهان :

الأول : إن كل ذلك حاصل. وطلب الحاصل عبث.

الثاني : إن على هذا التقدير تكون هذه الإعانة إعانة في تحصيل القدرة بالآلة وإزالة الموانع ، لا في نفس العبادة. والآية دالة على أن المطلوب في هذا الدعاء هو تحصيل الإعانة على العبادة. لأنه ذكر العبادة أولا في قوله : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) وهذا يدل على أن المطلوب هو الاستعانة فيما

__________________

(١) سقط (م).

(٢) من (م ، ل).

(٣) زيادة

٢٩٤

[تقدم (١)] ذكره. وهو العبادة. فثبت : أن المطلوب في هذه الآية هو الإعانة. في نفس العبادة. ولا بد وأن تكون لقدرة الله تعالى أثر في نفس تلك العبادة. ومتى كان ذلك ، امتنع أن يكون لقدرة العبد فيها أثر. لما بينا أن اجتماع المؤثرين على الأثر الواحد : محال. فعبارة هذه الآية دالة على قولنا من هذا الوجه.

والله أعلم

الفصل التاسع

في

قوله : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ.

صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)

قالت المعتزلة : هذه الآية دالة على قولنا من وجهين :

الأول : إن قوله : (اهْدِنَا) : طلب. وهذا تصريح بكون العبد فاعلا لهذا الطلب. الثاني : إن طلب الهداية إنما يحسن إذا كان العبد يصح منه أن يهتدي بهداه. إذ الهدى هو الدلالة والبيان. ولا يجوز المراد بقوله : (اهْدِنَا) أي اخلق لنا الإيمان لأن الهدى في اللغة عبارة عن الدلالة والبيان ، لا عن خلق العلم. بدليل قوله تعالى : (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ. فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى) (٢).

قال أهل السنة والجماعة : هذه الآية من أدل الدلائل على مذهبنا من وجهين :

الأول : إنه لا يمكن حمل هذه الهداية على البيان والدلالة. لأن الله تعالى

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) سورة فصلت ، آية : ١٧.

٢٩٥

قد فعل ذلك. فلو حملنا هذا الدّعاء عليه ، كان [هذا (١)] طلبا لتحصيل الحاصل. وهو باطل. بل الهدى عبارة عن الدلالة بشرط أن تكون تلك الدلالة مفضية إلى المقصود ، وذلك إنما يكون بخلق العلم والمعرفة. ولا يقال : فهذا يقتضي أن لا يكون الإيمان حاصلا لهم في الحال. لأنا نقول : هذا غير لازم. وبيانه من وجهين :

الأول : قال بعض المفسرين : المراد بقوله (اهْدِنَا) : أي ثبتنا على هذه الهداية الحاصلة في الحال. وإليه الإشارة بقوله تعالى : (يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) (٢) والثاني : أن يكون المراد : اهدنا إلى معرفة قدسك وجلا لك وكبريائك. فإنه لا نهاية لهذه المعرفة.

الثاني : إنه قال : (صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ) بالهداية والمعرفة. وذلك يدل أيضا على مذهبنا.

والله أعلم

__________________

(١) سقط (م).

(٢) سورة ابراهيم ، آية : ٢٧ وفي تفسير مجمع البيان : «قيل في معنى (اهدنا) وجوه : أحدها : أن معناه : ثبتنا على الدين الحق. لأن الله تعالى قد هدى الخلق كلهم. إلا أن الإنسان قد يزل وترد عليه الخواطر الفاسدة فيحسن أن يسأل الله تعالى أن يثبته على دينه ويديمه عليه ويعطيه زيادات الهدى التي هي إحدى أسباب الثبات على الدين ، كما قال الله تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) وهذا كما يقول القائل لغيره وهو يأكل : كل. أي : دم على الأكل. وثانيها : أن الهداية هي الثواب لقوله تعالى (يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ) فصار معناه : اهدنا إلى طريق الجنة ثوابا لنا ، ويؤيده قوله : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا) وثالثها : أن المراد دلنا على الدين الحق في مستقبل العمر ، كما دللتنا عليه في الماضي ... الخ.

٢٩٦

الفصل العاشر

في

قوله تعالى : (غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ)

قالت المعتزلة : هذا إنما يتم على قولنا. لأن العبد لو لم يقدر على الفعل لكان غضب الله [عليه (١)] محض الظلم. وأيضا قوله : (وَلَا الضَّالِّينَ) يقتضي إسناد الضلال إليهم ، لا إلى الله تعالى.

قال أهل السنة والجماعة : هذه الآية دالة على قولنا. لأنه تعالى وصفهم بكونهم مغضوبا عليهم ، ثم ذكر عقيبه كونهم ضالين. وهذا يدل على أن كونهم مغضوبا عليهم ، هو المؤثر في كونهم ضالين. والذي يدل عليه : أن العبد لما كان قادرا على الإيمان والكفر ، امتنع أن يقدم على الإيمان بدلا عن الكفر ، وبالعكس ، إلا لمرجح من قبل الله تعالى. فإذا خلق الله فيه مرجح الكفر ، فذلك هو غضب الله عليه. والضلال بعد ذلك هو أثر ذلك الغضب ونتيجته وثمرته. فثبت بهذا البرهان العقلي. أن كونه مغضوبا عليه هو الموجب لصيرورته من الضالين. واللفظ أيضا مشعور به. لأنه ثبت في أصول الفقه أن ترتيب (٢) الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية. وكونه ضالا يناسب أن يكون معللا بكونه مغضوبا عليه. وهو مذكور عقيبه. فيوجب كونه معللا به ، وذلك يبطل القول بالاعتزال. ونظير هذا قوله تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ ، وَرَضُوا عَنْهُ) (٣) فإن كونه تعالى راضيا عنهم ، هو الذي أوجب صيرورتهم راضين عنه. وهذا هو الواجب ، لتكون صفة الحق مؤثرة في صفة الخلق. أما لو كان كوننا راضين عنه يؤثر في كونه تعالى راضيا عنا ، لكانت صفة الخلق مؤثرة في صفة الحق. وذلك محال. ونظيره أيضا قوله تعالى : (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) (٤) والله أعلم.

__________________

(١) من (ط).

(٢) تركيب (م).

(٣) سورة البينة ، آية : ٨.

(٤) سورة المائدة ، آية : ٥٤.

٢٩٧

فهذا إشارة مختصرة إلى المناظرة الجارية بين الجبرية وبين القدرية. ومن وقف على ذلك أمكنه استنباط الدلائل من الجانبين ، وعند هذا يصير كل القرآن صالحا لأن يتمسك به.

هذا. ولا يكاد يظهر الترجيح القاطع إلا بالرجوع إلى الدلائل العقلية. وقد عرفت قوة الدلائل العقلية من جانبنا. فثبت : أن قولنا هو الحق ، ومذهبنا هو الصدق.

والله أعلم

٢٩٨

النوع الثالث

من استدلالات المعتزلة بالقرآن

اعلم أنها كثيرة جدا. غير أنا نذكر معاقدها على سبيل الاختصار :

فالوجه الأول من استدلالاتهم بالقرآن : الألفاظ الدالة على إسناد الأفعال إلى العباد [وهو على طريقين :

الطريق الأول (١)] إسناد الأفعال إلى الفاعلين. أ ـ قوله تعالى :

(الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ، وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ ، وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) (٢) فأضاف الفعل إليهم ، ولم يقل : الذين خلق فيهم الايمان ، والصلاة ، والإنفاق. ب ـ (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا. سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ ، أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ. لا يُؤْمِنُونَ) (٣) فبين تعالى : أن الإيمان موقوف عليهم ، وأنهم لا يأتون به. ج ـ (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : آمَنَّا بِاللهِ ، وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ. يُخادِعُونَ اللهَ ، وَالَّذِينَ آمَنُوا. وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) (٤) وعلى قول المجبرة : كان يجب أن يقال يخادع الله نفسه ، الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض. وكل

__________________

(١) زيادة.

(٢) سورة البقرة ، آية : ٣.

(٣) سورة البقرة ، آية : ٦.

(٤) سورة البقرة ، آية : ٩.

٢٩٩

ذلك نص في أن هذه الأشياء منهم. ه‍ ـ (قالُوا : أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها ، وَيَسْفِكُ الدِّماءَ ، وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ ، وَنُقَدِّسُ لَكَ) (١) فأضافوا الفساد وسفك الدماء إلى الشر ، وأضافوا التسبيح والتقديس إلى أنفسهم. وبالجملة : فأمثال هذه الإضافات والإسناد في القرآن مما لا حد لها ولا حصر. وطريق الاستدلال بالكل : أن نقول : خروج هذه الأفعال من العدم إلى الوجود. إما أن يكون بقدرة الله تعالى ، أو بقدرة العبد. فإن كان بقدرة الله لم يكن للعبد قدرة ، لا على وجودها ، ولا على عدمها. لإن الله تعالى إذا خلقها فهي حاصلة. سواء أراد العبد ذلك ، أو لم يرده. وإذا لم يخلقها ، لم يقدر العبد على تحصيلها. فثبت : أن حصول الفعل ، لو كان بقدرة الله لم يبق للعبد إليه اختيار ومكنة ، وعند هذا لا يكون الفعل فعلا للعبد ، وحينئذ تصير هذه الآيات الدالة على كونه فاعلا ، كلها أكاذيب وأباطيل وأضاليل. ولما كان ذلك باطلا ، علمنا أن العبد موجد لأفعال نفسه. ولا يقال : العبد وإن لم يكن موجدا لأفعال نفسه ، لكنه مكتسب لها. لأنا نقول : هذا اللفظ غير ملخص المعنى. إلا أنا ذكرنا في الدليل : أن المؤثر في إخراج (٢) هذه الأفعال من العدم إلى الوجود. إما أن يكون هو العبد ، أو لا يكون. فإن كان هو العبد فقد حصل المطلوب. وإن لم يكن هو العبد ، لم يكن العبد على هذا التقدير متمكنا لا من الفعل ، ولا من الترك. وذلك يقتضي كون هذه الآيات أكاذيب. وإذا كان لا واسطة بين النفي وبين الإثبات ـ ونحن أبطلنا أحد القسمين ـ فحينئذ يبقى [الثاني (٣)] لا محالة. فكان إلقاء لفظ «الكسب» في هذا الموضوع : محض التزوير.

والجواب : لا شك أن القرآن مملوء من هذا النوع من الآيات. فإنكارها يكون إنكارا للقرآن ، وقد دلت الدلائل القاهرة على أن الكل بقضاء الله وقدره ، فلا بد من التوفيق بين البابين. فنقول : مجموع القدرة مع الداعي

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ٣٠.

(٢) خروج (م).

(٣) زيادة.

٣٠٠