المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

الحجة السابعة : قادرية [الله (١)] تعالى ، أكمل من قادرية العبد ، فإذا لم يمتنع [تعلق قادرية العبد بذلك المقدور ، مع كون تلك القادرية ناقصة ، فبأن لا يمتنع (٢)] ذلك في قادرية الله تعالى ، مع كونها كاملة ، كان أولى.

الحجة الثامنة : لو لم يكن مقدور العبد ، مقدورا لله تعالى. لزم تناهي مقدورات الله تعالى. لأن جملة مقدورات الله تعالى ، بدون مقدورات العباد : أقل من مجموع مقدورات الله تعالى مع مقدورات العباد. وكل ما كان أقل من غيره كان متناهيا. فلو لم تكن مقدورات العباد ، مقدورة لله تعالى. لزم أن يقال : مقدورات الله تعالى متناهية. ولما كان اللازم باطلا ، كان الملزوم أيضا باطلا.

وهذه الوجوه الثلاثة الأخيرة فيها إيجاب.

وأما المقدمة الثانية : فهي في بيان أن كل ما كان مقدورا لله تعالى ، فعند وقوعه يجب أن يكون وقوعه بقدرة الله تعالى.

وتقريره من وجهين :

الأول : إن العبد إذا قصد إلى إيجاد مقدوره ، والله تعالى أيضا قصد إلى إيجاده في ذلك الوقت. فإما أن يقع ذلك الفعل أو لا يقع. والقسمان باطلان ، فما أدى إليه يكون باطلا. إنما قلنا : إنه يمتنع وقوعه. لأنه لو وقع. لوقع إما بإحدى القدرتين ، وإما بكل واحدة منهما. لا يجوز أن يقع بإحدى القدرتين ، لأن كل واحدة من هاتين القدرتين ، لما فرضنا كونها مستقلة بالإيجاد ، لم يكن وقوع هذا الفعل بإحدى هاتين القدرتين أولى من وقوعه بالثانية. لا يقال : لم لا يجوز أن يقال : إن قدرة الله تعالى ، أقوى من قدرة العبد. فكان وقوع ذلك المقدور بقدرة الله تعالى أولى؟ لأنا نقول : حصول الجوهر الواحد ، في الحيز الواحد ، في الزمان الواحد ، لا يقبل الأشد

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) من (ط ، ل).

٨١

والأضعف ، والأقل والأكثر. وإذا لم يكن ذلك الفعل قابلا للتفاوت ، امتنع أن يكون التأثير في إيجاده قابلا للتفاوت. وإذا كان التأثير فيه غير قابل للتفاوت ، امتنع أن يقال : إن قدرة الله أولى بالتأثير من قدرة العبد. نعم قدرة العبد لا تتعلق إلا بهذا المقدور ، وقدرة الله تعالى متعلقة بها وبسائر المقدورات. إلا أن التفاوت بين قدرة الله وبين قدرة العبد ، إذا ظهر بالنسبة إلى هذا المقدور الواحد. فإنه لا يقبل التفاوت. فثبت بما ذكرنا : أنه يمتنع أن يقال : إن ذلك المقدور يقع بإحدى القدرتين دون الثانية. وأما القول بأن ذلك المقدور يحصل بكل واحدة من هاتين القدرتين. فهذا أيضا محال. لأن الأثر مع المؤثر المستقل التام ، يكون واجب الحصول ، وكونه واجب الحصول ، يمنعه من الاستناد إلى الغير [والافتقار إلى الغير (١)] فلو اجتمع على هذا المقدور الواحد : قادران مستقلان بالتأثير ، كان ذلك المقدور لكونه مع هذا القادر : واجب الحصول. ووجوب حصوله به ، يمنعه من الاستناد إلى القادر الثاني ، وكونه مع القادر الثاني ، يمنعه من الانتساب إلى القادر الأول. لعين ما ذكرناه. وعلى هذا التقدير : يلزم أن يستغني بكل واحد من هذين القادرين ، لكل واحد منهما ، فيلزم كونه منتسبا إليهما ، حال كونه منقطعا عنهما. وذلك محال.

وأما القسم الثاني : وهو أن يقال : إن ذلك المقدور لا يقع بواحد من هذين القادرين. فنقول : هذا أيضا محال. لأن كونه قادرا مستقلا بالإيجاد يقتضي حصول الأثر ، وعند تمام المقتضى لا يتعذر الأثر ، إلا لقيام المانع من وقوع الفعل ، بقدرة هذا القادر ـ ليس نفس قدرة القادر الثاني ـ بل المانع من ذلك هو وقوعه بقدرة القادر الثاني ، وعند قيام المقتضى ما لم يحصل المانع ، لا يتحقق الامتناع. فعلى هذا ، لا يمتنع وقوع الفعل بقدرة هذا القادر ، إلا إذا وقع ذلك الفعل بقدرة القادر الثاني. ولا يمتنع وقوعه بقدرة القادر الثاني ، إلا إذا وقع ذلك الفعل بقدرة القادر الأول. فيلزم : أن يقال : إنه لا يمنع وقوع الفعل ، وقوع ذلك الفعل بهما معا ، إلا إذا كان ذلك الفعل واقعا بهما.

__________________

(١) من (ط ، ل).

٨٢

فيلزم : أن يجتمع النفي والإثبات على الشيء الواحد. وهو محال. فثبت بما ذكرنا : أن وقوع مقدور الله بقدرة غير الله : يفضي إلى هذه الأقسام الباطلة ، فيكون القول به باطلا.

الوجه الثاني : وهو أن مقدور الله تعالى لو وقع بقدرة العبد ، فعند وقوعه بقدرة العبد لا يبقى لله تعالى قدرة على إيقاعه ، لأن إيجاد الموجود محال. فيلزم أن يقال : إن العبد منع الله من الفعل وأعجزه عنه ، بعد أن كان [الله (١)] قادرا عليه. ومعلوم : أن ذلك محال. لا يقال : إنه تعالى إذا علق مقدور نفسه. فبعد دخول ذلك المقدور في الوجود ، لا يبقى الله تعالى على إيجاده قادرا. فيلزمكم أن تقولوا : إنه تعالى أعجز نفسه. لأنا نقول : هذا غير وارد. لأن معنى كونه (٢) تعالى قادرا على ذلك الفعل : انه (٣) يمكنه إيجاده وتكوينه. فإذا [وقع (٤)] هذا المعنى لم يكن ذلك قادحا في كونه تعالى قادرا على الفعل. بل يكون ذلك مقدورا لهذا المعنى. أما إذا قاومه غيره ، ودفعه عنه ، ومنعه منه ، بعد أن كان قادرا عليه ، كان هذا تعجيزا. فظهر الفرق.

وبالله التوفيق

البرهان الثالث

لو كان العبد موجدا لأفعال نفسه ، لكنا إذا فرضنا أنه إذا حاول تحريك جسم ، وفرضنا : أن الله تعالى حاول تسكينه. فإما أن يقع المرادان ، أو لا يقع واحد منهما ، أو يقع أحدهما دون الثاني. والأقسام الثلاثة باطلة ، فالقول بأن العبد موجد باطل. إنما قلنا : إنه يمتنع حصول المرادين ، لأنه يلزم أن يصير الجسم الواحد ، في الوقت الواحد ، متحركا وساكنا معا. وهو محال.

__________________

(١) من (ط).

(٢) لكونه (ط).

(٣) إلا أنه (ط).

(٤) سقط (م).

٨٣

وإنما قلنا : إنه يقع (١) المرادان معا. وذلك لأن قدرة كل واحد من القادرين صالحة للإيجاد. فعند حصول المقتضى ، لا يصير الأثر مقيدا ، إلا لقيام المانع. والمانع لكل منهما : غير مراد. وهو حصول مراد الثاني. فلو امتنع المرادان معا ، لوجب أن يحصلا معا ، حتى يصير حصول مراد كل واحد منهما ، مانعا للآخر عن حصول مراده. فثبت : أنه لو امتنع المرادان معا ، فيعود هذا القسم إلى القسم الأول ، وإنه باطل. وإنما قلنا : إنه يمتنع حصول أحد المرادين دون الثاني ، لأن كل واحد من هذين القادرين مستقل بالإيجاد. وقد دللنا على أنه يمكن أن يقال : إن إحدى القدرتين أقوى من الأخرى. لأنا بينا : أن ذلك المقدور شيء واحد ، لا يقبل التّجزؤ والتبعض. ولا يقبل الأشد والأضعف. وإذا كان المقدور غير قابل للتفاوت ، امتنع أن يكون الاقتدار عليه قابلا للتفاوت. فثبت : أن كل واحدة من هاتين القدرتين ، مساوية للأخرى في القوة والشدة. وإذا ثبت هذا فنقول : لو كان مقدور إحدى القدرتين أولى بالوقوع ، لكان هذا رجحانا لأحد طرفي الممكن على الآخر من غير مرجح. وهو محال. فثبت : أن القول بإثبات موجد (٢) ما سوى الله تعالى ، يفضي إلى هذه الأقسام الباطلة ، فكان القول به باطلا.

واعلم : أن هذا الدليل ، هو الدليل المشهور ، المذكور في إثبات أن إله العالم واحد.

وبالله التوفيق

البرهان الرابع

لو كان العبد موجدا لأفعال نفسه ، لكان عالما بتفاصيل أفعال نفسه. وهو غير عالم بتفاصيل أفعال نفسه ، فوجب أن لا يكون موجدا لأفعال نفسه. فنفتقر هاهنا إلى إثبات مقدمتين :

__________________

(١) يقدر [الأصل].

(٢) موجد سوى (م ، ل).

٨٤

أما المقدمة الأولى : وهي قولنا : لو كان موجدا لأفعال نفسه ، لكان عالما بتفاصيل نفسه [وهو غير عالم بتفاصيل نفسه ، فوجب أن لا يكون موجدا لأفعال نفسه (١)] فيدل عليه القرآن والبرهان.

أما القرآن : فهو قوله : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ) (٢)؟ استكبر أن يكون الخالق للشيء ، غير عالم به.

وأما البرهان : فهو إن العبد يمكنه أن يأتى بالأزيد مما أتى به ، وبالأنقص عما أتى به ، وبفعل آخر مغاير لما أتى به. فلما كان قادرا على الكل ، كان رجحان بعض هذه الممكنات على البعض ، لا بد أن يكون لأجل أن القادر المختار : خصص ذلك النوع ، وذلك المقدار بالوقوع. دون المغاير ، ودون الأزيد والأنقص. لكن القصد إلى إيقاع الشيء بقدر خاض ، وكيفية خاص ، مشروط بالعلم بذلك القدر. لأن القصد إلى الشيء ، بدون الشعور بماهيته : محال. فثبت : أن خالق الشيء لا بد وأن يكون قاصدا إليه ، وثبت : أن القاصد إلى الشيء عالم بماهية ذلك الشيء ، الذي قصد إليه. وذلك يدل : على أن خالق الشيء ، لا بد وأن يكون عالما به.

وأما القدمة الثانية : وهي قولنا : إن العبد غير عالم بتفاصيل أفعال نفسه. فيدل عليه وجوه :

الأول : إن النائم والساهي قد يصدر عنهم كثير من الأفعال الاختيارية ، مع أنه لا شعور لهم بتفاصيل تلك الأفعال [لا (٣)] بكميتها ولا بكيفيتها.

الثاني : إن الإنسان إذا حرك بدنه وجثته ، فلا شك أن (٤) بدنه مؤلف

__________________

(١) من (ط).

(٢) سورة الملك ، آية : ١٤. وفي مجمع البيان في تفسير القرآن : «قيل في معناه وجوه : أحدها : ألا يعلم ما في الصدور : من خلق الصدور؟ وثانيها : ألا يعلم سر العبد من خلقه؟. أي من خلق العبد ـ فعلى الوجهين يكون (مَنْ خَلَقَ) بمعنى الخالق. وثالثها : أن يكون (مَنْ خَلَقَ) بمعنى المخلوق. والمعنى : ألا يعلم الله مخلوقه؟».

(٣) من (ط ، ل).

(٤) أنه مؤلف (ط).

٨٥

من أجزاء كثيرة موجودة بالفعل.

أما عند من يثبت الجوهر الفرد ، فلا شك فيه. وأما عند من ينكره ، فلا شك أنه معترف بأن مجموع البدن ، مؤلف من الأعضاء البسيطة ـ أعني العظام والغضاريف والأعصاب والعضلات والرباطات ، إلى [غير (١)] ذلك من الأعضاء البسيطة ـ فإذا حرك الانسان بدنه ، فلا معنى لهذا التحريك إلا أنه حرك مجموع تلك الأجزاء ، لكنا نعلم بالضرورة [أنه (٢)] البتة غير عالم بأعداد تلك الأعضاء. وأيضا : فلا شك أنه لما حرك بدنه ، فقد نقل تلك الجثة من حيز إلى حيز ، ومر بما بين الطرفين ، مع أنه غير عالم بأعداد تلك الأحياز فلا يمكنه [أن يعلم (٣)] ما بين مبدأ تلك الحركة إلى منتهاها. وأيضا : فلا شك أن تلك الحركة وقعت في مقدار معين من الزمان ، وذلك القدر المعين من الزمان ، مركب من آنات متتالية متعاقبة. وهو البتة لا يعلم مقدار الزمان ، ولا عدد الآنات ، التي منها تركب [ذلك (٤)] الزمان. فثبت بما ذكرنا : أن من انتقل من مكان إلى مكان ، فهو لم [يعلم (٥)] أن الأجزاء التي حركها. كم هي؟ والأحياز التي منها تألفت تلك المسافة التي فيها وقعت الحركة. كم هي؟ والآنات التي منها تألف الزمان ، الذي هو طرف لتلك الحركة. كم هي؟ فثبت : أن العبد غير عالم بتفاصيل أفعاله البتة.

الثالث : إن الإنسان إذا تحرك. فلا شك أن حركته أبطأ من حركة الفلك. وللناس في هذا البطء مذهبان :

أحدهما : مذهب المتكلمين : وهو أن الحركة البطيئة [نشأت (٦)] عن كونه متحركا في بعض الأحياز ، وساكنا في بعضها ، فامتزجت تلك الحركات ،

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) زيادة.

(٤) (ط ، ل).

(٥) من (م ، ل).

(٦) زيادة.

٨٦

بتلك السكنات ، فشاهد تلك الحركات المخلوطة ، بتلك السكنات : حركة بطيئة. إذا ثبت هذا ، فنقول : إذا كانت هذه الحركة فعلا اختياريا ، وجب القطع بأن الإنسان باختياره يتحرك في بعض الأحياز ، وباختياره يسكن في بعضها. لكن تخصيص بعض الأحياز بالحركة ، والبعض بالسكون ، تخصيصا بالقصد ، لا يمكن إلا بعد الشعور والعلم. لكنا نعلم بالضرورة : أن الإنسان إذا تحرك فإنه لم يخطر بباله أنه يتحرك في بعض الأحياز ، ويسكن في بعضها. وكيف يقال : إنه باختياره فعل في بعض الأحياز حركة ، وفي بعضها سكونا؟.

والمذهب الثاني : مذهب الفلاسفة : وهو أن الحركة البطيئة : حركة من أول المسافة إلى آخرها ، ولم يختلط بها شيء من السكونات. والبطء : كيفية قائمة بالحركة.

وعلى [هذا (١)] المذهب ، فالإشكال لازم [من (٢)] وجه آخر. وذلك أن مراتب البطء والسرعة في الحركات كثيرة متفاوتة. فإنه لا بطء ، إلا ويوجد ما هو أبطأ منه ، أو ما هو أسرع منه. فوقوع هذه المرتبة المعينة من البطء والسرعة ، دون سائر المراتب ، لا بد وأن يكون بالقصد. لأن القصد إلى إيقاع هذه المرتبة دون سائر المراتب : مشروط بالعلم بامتياز (٣) هذه المرتبة عن سائر المراتب. ومعلوم : أن النملة إذا تحركت ، فإنه لم يخطر ببالها امتياز تلك المرتبة من السرعة والبطء ، عن المرتبة التي تزداد عليها وتنتقص عنها ، فقدر تلك المرتبة من السرعة والبطء ، عن المرتبة التي تزداد عليها وتنتقص منها قدر قليل لا يحس الإنسان به. فإن الذي لا يقدر الإنسان على الإحساس به ، كيف تقدر النملة والدودة على الإحساس به؟

وأيضا : فعلى هذا المذهب لا بد وأن يكون البطء عرضا قائما بتلك الحركة. ففاعل تلك الحركة البطيئة فاعل لنوعين من الفعل.

__________________

(١) من (ل).

(٢) من (م ، ل).

(٣) بالامتياز (م).

٨٧

أحدهما : أصل الحركة. والثاني : البطء الذي [هو (١)] يوجده في تلك الحركة. ومعلوم : أن هذا المعنى لا يخطر ببال أكثر العلماء ، فضلا عن العوام ، والصبيان ، والمجانين. فضلا عن البهائم والحشرات.

الرابع : إن مذهب مشايخ المعتزلة : أن قدرة العبد لا يكون لها تأثير في حصول الجسم في الحيز. وإنما تأثيرها في المعنى الذي يقتضي حصول الجسم في الحيز.

إذا ثبت هذا فنقول : إن البهائم والنائمين والغافلين حين ما يتحركون ويسكنون ، لا يخطر ببالهم إلا نفس حصول الجسم في الحيز. فأما إثبات معنى يقتضي حصول الجسم (٢) في الحيز. فذلك [مما (٣)] لا يخطر ببال أفضل الفقهاء والنحاة ، فضلا عن العوام ، فضلا عن الصبيان والمجانين ، فضلا عن البهائم والحشرات. وعلى هذا فنقول : الذي تصوره العقلاء وعرفوه ـ وهو حصول الجسم في الحيز ـ قد أخرجوه عن كونه مقدورا للعبد. والذي جعلوه مقدورا للعبد ، فهو شيء لا يتصوره أحد ، ولا يدركه البتة ، لا بالقليل ولا بالكثير. ومتى كان الأمر كذلك ، فكيف يعقل أن يقال : إن الفاعل المختار أبدا ، يقصد إيجاده وتكوينه.

واعلم : أن هذا الإلزام إنما يتوجه على المشايخ. أما على «أبي الحسين» فلا. لأنه لا يثبت هذا المعنى.

الخامس : إن الصبي إذا تكلم. فلا شك أنه يعقل هذه الحروف المخصوصة. وذلك لأن الكلام عبارة عن الحروف المتوالية المتعاقبة. فلو لم يكن قادرا على الإتيان بالحروف ، لم يكن قادرا على الإتيان بالكلام. لكن الإتيان بكل واحد من هذه الحروف المخصوصة ، إنما يكون بآلة مخصوصة ، على كيفية مخصوصة ، ووضع تلك الآلات على وجه مخصوص ، وهي : الحلق

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) معنى (م ، ل).

(٣) من (م ، ل).

٨٨

واللسان والشفتان [والأسنان (١)] وتركيب [بعض (٢)] هذه الأعضاء مع بعض. وجعل كل واحد منهما على شكل خاص ، وهيئة خاصة ، حتى يقدر الإنسان بواسطتها على الإتيان بهذه الحروف المخصوصة. لكنا نعلم أن جمهور الخلائق يتكلمون بهذه الحروف المخصوصة ، مع أنه لا يخطر ببالهم كيفية أحوال هذه الأعضاء ، اللواتي هي الآلات في إيجاد الحروف المخصوصة ، ولا يخطر ببالهم كيفية تلك الأوضاع التي باعتبارها يتمكنون من التلفظ بهذه الحروف [فثبت (٣)] بمجموع ما تقدم : أن العبد لو كان موجدا لأفعال نفسه ، لكان عالما بتفاصيل تلك الأفعال ، وثبت أنه غير عالم بتلك التفاصيل ، فوجب أن لا يكون موجدا لها.

وبالله التوفيق

البرهان الخامس

اعلم : أنا نبين أن العبد غافل عن أحوال فعل نفسه ، وعن أحوال فاعليته لها ، من وجوه كثيرة. ثم نبين : أنه متى كان الأمر كذلك ، امتنع كونه موجدا لتلك الأفعال. وهذا البرهان [هو عين (٤)] ما تقدم. إلا أن الوجوه المذكورة (٥) هاهنا ، مغايرة للوجوه المذكورة في تقرير البرهان المتقدم.

فنقول : الذي يدل على كون العبد غافلا عن أحوال فعله ، وعن أحوال فاعليته ، وجوه :

الأول : إن الناس تحيروا في أن القادر على الإيجاد ، أيقدر عليه حال وجود الأثر ، أو قبله؟ فقال بعضهم : إنما يقدر عليه حال وجوده. لأنه قبل

__________________

(١) من (ل).

(٢) سقط (ل).

(٣) من (ط ، ل).

(٤) من (ط ، ل).

(٥) الكثيرة (م ، ل).

٨٩

وجوده مستمر على عدمه الأصلي ، فلم يكن لقدرته فيه أثر ، فيمتنع كونه قادرا عليه. لأنه لما كان في إحدى الحالتين قادرا عليه ، وفي الحالة الثانية لا قدرة له عليه ، والتخيير بين الحال التي فيها يقدر على الفعل ، وبين الحال التي لا يقدر فيها على الفعل ، يجب أن يكون مدركا. لأن التمييز بين حال الاقتدار ، وبين حال عدم الاقتدار : تمييز معلوم بالضرورة. فكان يجب أن لا يحصل هذا الالتباس. وحيث حصل : علمنا. أن العبد لا قدرة له على الايجاد.

وثانيها : إن الناس تحيروا في أن من أوجد شيئا. فتأثير إيجاده. أيحصل في نفس الماهية ، أو في الوجود ، أو فيهما؟ ولو كان هذا الإيجاد واقعا به ، لعلم بالضرورة : أن الذي أوجده وأوقعه : ما ذا؟.

وثالثها : إن الناس تحيروا في أن المؤثرية. هل هي نفس الأثر؟ منهم من قال : غيرها. لأن المؤثر موصوف بالمؤثرية ، وغير موصوف بالأثر. فأحدهما مغاير للآخر. ومنهم من قال : بل المؤثرية نفس الأثر. إذا لو كان مغايرا له ، لكان (١) اقتضاء ذات المؤثر لتلك [المؤثرية (٢)] زائدا عليه. ولزم التسلسل.

ورابعها : إن الناس تحيروا في أن محل العلم. أهو القلب ، أو الدماغ ، أو شيء آخر سواهما ـ هو النفس الناطقة؟ ـ وبتقدير أن كون محل العلم هو القلب أو الدماغ. فهو جميع أجزائها ، أو بعض أجزائها. ولو كان موجد العلم هو العبد ، لوجب أن يعلم أنه في أي موضع أوجده؟ وفي أي محل أحدثه؟ ولو كان الأمر كذلك ، لما بقي ذلك الاشتباه. وحيث بقي ، علمنا : أن حصول هذه العلوم ليس بإيجاده. فظهر : أن اختلاف الناس في هذه المطالب ، يدل على أن عقول أكثر الخلق قاصرة عن حضور ماهية الإيجاد والتكوين. وإذا كان كذلك ، فكيف يدعى أن جميع الحيوانات ، حتى البهائم والحشرات تقصد إلى الإيجاد والتكوين [والإنشاء (٣)] مع أن حقيقة الإيجاد والتكوين غير متصورة

__________________

(١) لكان تلك اقتضاء (ل).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) (م ، ل).

٩٠

البتة عندهم ، فإن من المعلوم بالضرورة : أن القصد إلى تحصيل الشيء ، لا يمكن إلا عند حصول تصوره في الذهن.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إن حقيقة الإيجاد والتكوين متصورة من بعض الوجوه ، عند البهائم والحشرات. وإن كان كمال تصور هذه الماهية غير حاصل عندهم. وإذا كان كذلك ، كفى ذلك القدر من التصور ، في إمكان قصد هذه الحيوانات ، إلى الإيجاد والتكوين؟.

والجواب : إن ماهية الإيجاد والتكوين غير متصورة عند الأكثرين من البشر ، والأكثرين من البهائم والحشرات. وإذا كانت هذه الماهية غير متصورة عندها ، استحال منها أن تقصد إليها وإلى تحصيلها. لأن القصد إلى تحصيل الشيء مشروط بتصوره وحصول (١) الشعور بماهيته.

وبالله التوفيق

البرهان السادس

أن نقول : العبد لو صح منه إيجاد بعض الممكنات ، لصح منه إيجاد كلها. واللازم محال ، فالملزوم محال.

وبيان الملازمة من وجوه :

الأول : إن العبد لو قدر على إيجاد بعض الممكنات ، لكان [كون (٢)] ذلك البعض مقدورا. إنما كان : لكونه ممكن الوجود. فإنا لو رفعنا الإمكان ، بقي إما الوجوب ، وإما الامتناع. وهما يحيلان المقدورية ، وما يحيل المقدورية لم يفد صحة المقدورية. ولما ثبت أنه لا مدخل لهما في هذا الباب ، لم يبق إلا الإمكان. والإمكان قضية مشتركة بين كل الممكنات ، فلزم من هذا كون جميع الممكنات مقدورة للعبد.

__________________

(١) وعند حصول (م).

(٢) من (ط).

٩١

الثاني : إنه لو قدر العبد على إيجاد بعض الممكنات ، لما كان لقدرته تأثير ، إلا في إعطاء الوجود. لأنا بينا في سائر كتبنا بالدلائل الكثيرة : أن وجود الممكنات زائد على ماهياتها. ولا يمكن أن يكون تأثير القادر في تكوين الماهيات. فإن الشيء ما لم يكن ممكن الوجود ، لم يتصور أن يكون للقادر فيه تأثير. فتأثير القادر فيه ، مسبوق بكونه في نفسه ممكن الوجود ، وكونه في نفسه ممكن الوجود (١) يقرر ماهيته المخصوصة. لأن إمكانه صفة له ، وصفة الشيء متأخرة بالرتبة عن الموصوف. فثبت : أن تأثير القادر فيه : متأخر عن تقرر ماهيته بمرتبتين. ولو كان تأثير القادر في ماهيته ، لكان تقرر ماهيته متأخرا عن تأثير القادر فيه ، وحينئذ يلزم أن يكون المتقدم على الشيء بمرتبتين ، متأخرا عنه. وذلك محال. فثبت بهذا الوجه : أن تأثير القادر ، تبين في جعل الماهية ماهية ، بل ذلك التأثير في جعلها موجودة. فثبت : أن العبد لو كان قادرا على الإيجاد ، لما كان لقدرته تأثير إلا في إعطاء الوجود.

واعلم : أن هذا كلام حسن قوي. إلا أنه يشم منه رائحة : أن المعدوم شيء. فثبت : أن العبد لو كان قادرا على إيجاد بعض الممكنات ، لما كان لقدرته تأثير إلا في إعطاء الوجود. فنقول : لو كان الأمر كذلك ، لوجب أن يقدر على كل الممكنات. وذلك لأنه [لما (٢)] كان لا تأثير للموجد ، إلا في إعطاء الوجود ، وثبت : أن الوجود قضية واحدة في جميع الممكنات ، ولا تفاوت بينهما البتة في هذا المفهوم : لزم أن يكون القادر على إيجاد (٣) بعض الممكنات ، قادر على إيجاد كلها. ضرورة أن القادر على الشيء قادر على مثله.

الوجه الثالث في بيان أن العبد لو قدر على إيجاد بعض الممكنات ، لقدر على إيجاد كلها : أن نقول : مذهب مشايخ المعتزلة : أن المعدوم شيء ، وأن القادر لا تأثير له إلا في إعطاء الوجود. وثبت : أن الوجود مفهوم داخل في الكل ، وثبت : أن القادر على الشيء قادر على مثله : لزم أن يكون القادر على

__________________

(١) لا وجود (ط).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) الإيجاد (ط).

٩٢

إيجاد بعض الممكنات [قادرا (١)] على إيجاد كلها.

وأما بيان أنه يمتنع كون العبد قادرا على إيجاد كل الممكنات. فمن وجوه :

الأول : إن الخصم مساعد عليه.

والثاني : وهو إنا نعلم بالضرورة : أنا الآن عاجزون عن خلق الأجسام. فلو قدرنا على إيجاد بعض الممكنات لوجب أن نقدر على إيجاد الأجسام. لأن القدرة على الشيء ، مع العجز عن إيجاد مثله : محال.

والثالث : وهو أنه يلزم أن نقدر على خلق القدرة والحياة لأنفسنا. وذلك محال. لأن الخلق لا يصدر إلا عن الحي القادر. ولما كان حيا ، كان قادرا ، فامتنع خلق الحياة والقدرة فيه مرة أخرى ، لامتناع اجتماع المثلين. فثبت بما ذكرنا : أن العبد لو قدر على إيجاد بعض الممكنات ، لقدر على إيجاد كلها ، وثبت : أنه لا يقدر على إيجاد كلها. فثبت : أنه لا يقدر على إيجاد شيء منها.

وهو المطلوب

البرهان السابع

الخصوم وافقونا على أن العبد لا يقدر على إيجاد أفعاله بعد عدمها. فنقول : لو كان قادرا على الإيجاد ، لكان قادرا على الإعادة. لأن الحاصل عند الإعادة : عين ما كان حاصلا عند الابتداء. وماهية الشيء لا تختلف باختلاف الأوقات. فلو كانت قدرة العبد صالحة لتكوين ذلك الشيء وقت الابتداء ، لكانت صالحة لتكوينه في وقت الإعادة. لكنا توافقنا على أن قدرة العبد غير صالحة للإعادة ، فوجب أن لا تكون صالحة للابتداء.

فإن قيل : لا نسلم أن إعادة المعدوم جائزة في الجملة. سواء كان ذلك

__________________

(١) من (ط ، ل).

٩٣

في حق الله تعالى ، أو في حق العبد. وبيانه : أن الذي عدم فقد فني ولم يبق منه لا ذاته ولا حكم من أحكامه. فإذا حصل بعد ذلك شيء آخر ، فهو مغاير للأول ، وامتنع أن يكون عين ذلك الذي عدم. سلمنا : أن الإعادة في الجملة جائزة. لكن لم قلتم : إن القادر على الابتداء ، يجب أن يكون قادرا على الإعادة؟ وتقريره : إن الابتداء يمتاز عن الإعادة بأمر من الأمور. فلم لا يجوز أن يقال : إن ما به حصل الامتياز يكون شرطا في أحد الطرفين أو مانعا في الطرف الآخر؟ ثم نقول : الفرق بين الإعادة وبين الابتداء. هو أنه لو صحت الإعادة من العبد ، لكان إما أن يقدر على إعادته بتلك القدرة ، التي بها أوجد ذلك الفعل في الابتداء ، أو بغير تلك القدرة. والقسمان باطلان. أما أنه يمتنع [إعادة (١)] ذلك الفعل بعين القدرة التي بها أوجده في الابتداء. فذلك لأن القدرة لا بد وأن تتعلق في كل وقت بإيجاد فرد من أفراد ذلك النوع. فلو تعلقت أيضا في وقت من الأوقات بإعادة ما عدم ، لكان قد تعلقت في الوقت الواحد ، في المحل الواحد [من الجنس الواحد (٢)] بأكثر من مقدور واحد. ولو جاز [ذلك (٣)] لما كان عدد أولى من عدد. فيلزم جواز (٤) تعلقها بما لا نهاية له. وذلك محال. لأنه يلزم أن لا يبقى التفاوت بين القادر وبين الأقدر. فثبت : أن إعادة الفعل بعين القدرة التي حصل بها الإيجاد في الابتداء : محال. وأما أنه لا يمكن إعادته بقدرة أخرى. لأنه لو جاز أن تتعلق قدرتان بإيجاد مقدور واحد ، لجاز قيام كل واحد منهما بقادر آخر. وذلك يفضي إلى حصول مقدور ، بين قادرين. وهو محال. فثبت : أن العبد لو قدر على إعادة فعل نفسه ، لقدر عليه. إما بعين تلك القدرة وإما بقدرة أخرى وثبت أن كل واحد منهما محال فلزم القول : بأن العبد لا يقدر على الاعادة. وهذا العذر غير موجود في القدرة على إيجاد الفعل ابتداء. فثبت : أنه لا يلزم من قدرة العبد على الإيجاد ابتداء ، قدرته على إعادة ذلك الفعل. فهذا هو تقرير هذا الفرق.

__________________

(١) سقط (م).

(٢) من (طا ، ل).

(٣) من (طا ، ل).

(٤) وجوازه (س).

٩٤

[ثم نقول : هذا الذي ذكرتم قياس فاسد. لأن الفرق الذي ذكرناه. إن صح ، فقد بطل الجمع. وإن فسد ، منعنا الحكم في الأصل ، وقلنا : العبد يقدر على الإعادة. فهذا القياس دائر بين ظهور الفارق بين الأصل والفرع. وبين منع الحكم في الأصل (١)] ثم نقول : إنكم بنيتم هذه الحجة على أنا سلمنا أن العبد لا يقدر على إعادة فعل نفسه. ولو منعنا ذلك ، وحكمنا بأنه يجوز منه إعادة فعله ، فحينئذ لا يبقى دليلكم البتة.

والجواب : أما بيان أن الإعادة جائزة فهو أن جواز الوجود من لوازم الماهية ، فلما ثبت جواز إيجاده في بعض الأحوال ، وجب أن يدوم ذلك [في (٢)] كل الأحوال. قوله : «إنه نفي محض ، فكيف يمكن الحكم عليه بهذا الحكم المخصوص»؟ قلنا : قولكم : بأنه لا يصح الحكم عليه : حكم عليه بامتناع الحكم عليه. ولما كان عدمه غير مانع من هذا الحكم ، فلم لا يجوز أن لا يمنع أيضا من الحكم الذي ذكرناه؟ قوله : «الإعادة ممتازة عن الابتداء ، بأمر ما فلم لا يجوز أن يكون ما به الامتياز ، شرطا في أحد الطرفين ، وإلا لكان ذلك الوصف أيضا مبتدأ ، ويلزم التسلسل. وإذا كان ذلك الوصف عدما محضا ، امتنع دخوله في المقتضى.

وأما الفرق الذي ذكروه فهو بناء على أصولهم الفاسدة في أنه يمتنع حصول مقدور واحد ، بين قادرين. وفي أن القدرة الواحدة في الوقت الواحد ، في المحل الواحد ، من الجنس الواحد ، لا تتعلق إلا بمقدور واحد. وكل هذه الأصول عندنا فاسدة. قوله : «لو ثبت فساد هذا الفرق ، منعنا الحكم ، وقلنا : العبد يقدر على الإعادة» قلنا : هذا لا سبيل إليه لأن الأمة مجمعة على أن العبد لا يقدر على إعادة فعل نفسه ، فالقول بأنه يقدر على هذه الإعادة يكون خرقا للإجماع.

وبالله التوفيق

__________________

(١) سقط (س).

(٢) سقط (م).

٩٥

البرهان الثامن

لو كان العبد موجدا لفعله. لكان إما أن يقصد إيجاده فقط ، أو يقصد إيجاده في الوقت المعين. والأول باطل. لأنه لو قصد مطلق الإيجاد من غير أن يقيد ذلك الإيجاد بوقت معين ، لم يكن وقوع ذلك الفعل في بعض الأوقات ، أولى من وقوعه في الوقت الآخر. فيفضي إلى أن يحصل حدوثه في كل الأوقات ، أو إلى أن لا يقع حدوثه في شيء من الأوقات. والكل محال.

وأما الثاني : وهو أن يقال : إنه قصد [إلى (١)] إيقاع الفعل في الوقت المعين. فهذا أيضا باطل. لأن الحركة من أول المسافة إلى آخرها ، عبارة عن حصولات متوالية في أحياز متعاقبة. وكل واحد من تلك الحصولات غير منقسم. فإذا كان لا ماهية للحركة إلا حصولات غير منقسمة ، متوالية في أحياز متلاصقة ، غير منقسمة ، كان القصد إلى إيجاد تلك الحركة : قصدا إلى إيجاد تلك الحصولات الغير منقسمة في تلك الأحياز الغير منقسمة. والقصد إلى الشيء بدون العلم بماهية [المقصود (٢)] إليه : محال. فوجب أن يكون القاصد (٣) إلى تكوين الحركة عالما بالضرورة بأنه يحدث ويدخل في الوجود حصولات متعاقبة غير منقسمة [في أحياز متلاصقة غير منقسمة (٤)] ومعلوم أن هذا العلم : مقصود في حق الأكثرين.

فثبت : أن موجد الحركة ومكونها ، ليس هو العبد.

وذلك هو المطلوب

البرهان التاسع

لو أثرت قدرة العبد في حدوث الفعل. لكان أثرها في حدوث ذلك الفعل ، إما أن يكون بتركه من محل تلك القدرة ، أو لا بتركه من محلها.

__________________

(١) من (م).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) الفاصل (ط).

(٤) من (ط).

٩٦

والقسمان باطلان ، فالقول بأن قدرة العبد مؤثرة في حدوث الفعل : محال. إنما قلنا ؛ إنه ممتنع أن يحصل ذلك التأثير بتركه من ذلك المحل [لأن ذلك المحل (١)] ليس له إلا كونه قابلا للصفات.

أعني : أنه لا يمتنع حصول هذه الصفات فيه ، ولا يمتنع لا حصولها أيضا فيه. فلو جعلنا المحل جزءا من المؤثر ، لكنا قد جعلنا القابل جزءا من الموجد. وذلك محال. لأن هذه القابلية طبيعتها طبيعة الإمكان الخاص. والموجدية طبيعتها طبيعة الوجوب. والإمكان الخاص ينافي الوجوب. وكون المنافي جزء من المنافي الآخر محال في العقول. وإنما قلنا : إنه يمتنع أن يكون تأثير القدرة في حدوث ذلك الفعل ، لا شركة من ذلك المحل. وذلك لأن وجود الشيء جزء من كونه موجدا لغيره فلو كانت هذه القدرة غنية في مؤثريتها عن ذلك المحل ، لكانت غنية أيضا في وجودها عن ذلك المحل. لأنه متى كان المركب غنيا عن شيء ، كان كل واحد من بسيطه [أيضا (٢)] غنيا عنه. فثبت : أن هذه القدرة لو كانت في مؤثريتها في الفعل غنية عن ذلك المحل ، لكانت في وجودها أيضا غنية عن ذلك المحل. وذلك محال. فثبت بما ذكرنا : أن القدرة لو كانت مؤثرة في وجود الفعل ، لكان ذلك التأثير إما أن يكون بشركة من ذلك المحل ، أو لا بشركة من ذلك المحل ، وثبت كون كل واحد من هذين القسمين باطلا. فثبت : أن القدرة غير مؤثرة في حدوث الفعل.

وهذا هو دليل الحكماء على أن القوى الجسمانية غير مؤثرة في الوجود أصلا.

وبالله التوفيق

البرهان العاشر

لو كان فعل العبد يحدث بإيجاد العبد ، لوجب أن لا يجد إلا ما أراده العبد. واللازم باطل ، فالملزوم مثله.

__________________

(١) من (م ، ل)

(٢) من (ط).

٩٧

بيان الشرطية : أن العبد لما كان قادرا على الأفعال المختلفة ، كان رجحان البعض على الباقي لا يكون إلا بقصده ، فوجب أن لا يقع ، وان لا يحدث إلا ما قصده وأراده. وبيان أنه ليس كذلك : أن العبد يقصد تحصيل العلم الحق ، والاعتقاد الصواب ، فلا يحصل له ذلك ، بل يحصل له الجهل والباطل. ويقصد الإيمان ، فيحصل له الكفر. بل نقول : الإنسان إذا كتب سطرا ، فلو أتى بجميع حيل الدنيا ، حتى يكتب سطرا آخر ، يشابه الأول ، في جميع الكيفيات المحسوسة. لعجز عن ذلك. فثبت بما ذكرنا : أنه لو كان فعله بإيجاده ، لما وقع إلا ما قصد إيقاعه. وثبت : أنه ليس كذلك ، فوجب أن لا يكون فعله بإيجاده. وهذه الدلالة أخذتها من قول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه : «عرفت ربي بنقص العزائم ، وفسخ الهمم».

فإن قيل : إنه إنما حصل له هذا الاعتقاد المخصوص ، لأنه ظن أن هذا الاعتقاد علم وحق وصواب. فلهذا السب اختاره وحصله ورضي به.

فالحاصل : أنه إن علم كونه جهلا ، لما رضي به ، ولكنه لما اعتقد فيه أنه هو العلم. لا جرم رضي به واختاره.

والجواب : إن هذا باطل من وجهين :

الأول : إنه إنما قصد تحصيل هذا الاعتقاد. لأنه كان قد اعتقد أن هذا الاعتقاد : علم. فلولا تقدم ذلك الجهل ، وإلا لما رضي بهذا الجهل الثاني. فنقول : ذلك الجهل الأول ، كيف حصل؟ فإن كان [ذلك (١)] لتقدم جهل آخر ، لزم التسلسل. وإن [كان (٢)] ذلك لأنه اختار الجهل وارتضاه لنفسه ابتداء. فهذا محال. فلم يبق إلا أن يقال : الجهالات تترقى إلى جهل أول ، خلقه الله تعالى في العبد ابتداء. وذلك هو المطلوب.

الوجه الثاني : أن من أنصف : علم أنه لا اختيار للعبد البتة في حصول

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) من (ل).

٩٨

الجهل [له (١)] وذلك لأنه ما لم يترتب في ذهنه مقدمات موجبة لهذا الجهل ، لم يحصل في قلبه هذا الجهل. ثم الكلام في تلك المقدمات كما في هذه النتيجة. فتلك الجهالات لا بد أن تترقى إلى جهل أول وقع في قلبه. لا بسعي منه ، ولا بطلب لحصول ذلك الجهل الأول في قلبه ، وتأدى ذلك الجهل إلى سائر الجهالات اللازمة منه : ليس أيضا بسعيه ولا باختياره. فثبت : أن جميع الجهالات إنما تحصل في العبد على سبيل الاضطرار ، ولا على سبيل الاختيار.

وبالله التوفيق

__________________

(١) من (ط ، ل).

٩٩
١٠٠