المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

الحجة السابعة : ما روى أبو صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : جاءت فاطمة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وطلبت منه خادما. فقال لها : «قولي اللهم رب السموات السبع ورب العرش العظيم ، ربنا ورب كل شيء ، أنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، منزل التوراة والإنجيل والفرقان ، فالق الحب والنوى ، أعوذ بك من شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها» وجه الاستدلال : قوله : «أعوذ بك من شر كل دابة» [يدل على أن الشر ليس من الله ، ومن قال بغير ذلك (١)] فإنه باطل.

الحجة الثامنة : روى ابن مسعود أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «إذا قال العبد عند ما يصيبه هم أو حزن : اللهم إني عبدك وابن عبدك وابن أمتك. ناصيتي بيدك ، ماض في حكمك ، عدل في قضائك. أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، وأنزلته في كتابك ، وعلمته أحدا من خلقك ، واستأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن ربيع قلبي ، ونور بصري ، وجلاء حزني ، وذهاب همي : أذهب الله همه ، وأبدل مكان حزنه فرحا» ووجه الاستدلال به : أن قوله : «عدل في قضاؤك» يدل على أن لا جور في قضائك.

ولا يقال : إن كل ما يفعله الله تعالى بعبده فهو عدل ، لأنه يتصرف في ملك نفسه. لأنا نقول : فعلى هذا التقدير يمنع أن يكون له ظلم على العبد ، فوجب أن لا يتمدح بذلك. لأن من لم يقدر على الظلم فلم يظلم ، لم يكن ذلك قدحا في حقه.

ولقائل أن يقول : يشكل هذا بقوله تعالى : (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ) (٢) فإن هذا في معرض المدح ، مع أن إيجاد الولد له ممتنع في نفسه.

الحجة التاسعة : روى أبو عمر (٣) قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول

__________________

(١) زيادة.

(٢) سورة مريم ، آية : ٣٥.

(٣) يقول المسيح عيسى بن مريم عليه‌السلام : «فإن ملكوت السموات يشبه رجلا ، رب بيت ، خرج مع الصبح ، ليستأجر فعلة لكرمه. فاتفق مع الفعلة على دينار في اليوم ، وأرسلهم إلى ـ

٣٦١

وهو قائم على المنبر : «إنما بقاؤكم فيمن سلف قبلكم كما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس ، أعطي أهل التوراة التوراة ، فعملوا بها حتى إذا انتصف النهار عجزوا عنها. فأعطوا قيراطا قيراط. وأعطي أهل الإنجيل الإنجيل فعملوا به ، حتى إذا بلغوا صلاة العصر ، عجزوا. فأعطوا قيراطا [قيراطا (١)] وأعطيتم القرآن فعلمتم به ، حتى إذا غربت الشمس أعطيتم قيراطين [قيراطين (٢)] قال أهل التوراة والإنجيل : ربنا هؤلاء أقل عملا وأكثر جزاء. فقال : الله : هل ظلمتكم من أجركم شيئا؟» فقالوا : لا. فقال : فضلي أوتيته من أشاء» ووجه الاستدلال به : أنه لا يصح استحقاق الأجر والثواب على ما يخلقه الله فينا كألواننا وصورنا [وحيث (٣)] أثبت الله الأجر ظهر أن أفعالنا ليست بخلق الله.

الحجة العاشرة : قوله عليه الصلاة والسلام : «نية المرء خير من عمله» وهذا تصريح بإثبات العمل للعبد.

الحجة الحادية عشر : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ حكاية عن رب العزة : «كذبني ابن

__________________

ـ كرمه. ثم خرج نحو الساعة الثالثة ، ورأى آخرين قياما في السوق بطالين. فقال لهم : اذهبوا أنتم أيضا إلى الكرم ، فأعطيكم ما يحق لكم. فمضوا. وخرج أيضا نحو الساعة السادسة والتاسعة ، وفعل كذلك. ثم نحو الساعة الحادية عشرة خرج ووجد آخرين قياما بطالين. فقال لهم : لما ذا وقفتم هاهنا كل النهار بطالين؟ قالوا له : لأنه لم يستأجرنا أحد. قال لهم : اذهبوا أنتم أيضا إلى الكرم ، فتأخذوا ما يحق لكم. فلما كان المساء. قال صاحب الكرم لوكيله : ادع الفعلة وأعطهم الأجرة مبتدئا من الآخرين إلى الأولين. فجاء أصحاب الساعة الحادية عشرة وأخذوا دينارا دينارا. فلما جاء الأولون ظنوا أنهم يأخذون أكثر. فأخذوا هم أيضا دينارا دينارا وفيما هم يأخذون ، تذمروا على رب البيت ، قائلين : هؤلاء الآخرون عملوا ساعة واحدة وقد ساويتهم بنا. نحن الذين احتملنا ثقل النهار والحر. فأجاب وقال لواحد منهم : يا صاحب ما ظلمتك. أما اتفقت معي على دينار. فخذ الذي لك واذهب. فإني أريد أن أعطي هذا الأخير مثلك ، أو ما يحل لي أن أفعل ما أريد بما لي. أم عينك شريرة ، لأني أنا صالح؟ هكذا يكون الآخرون أولين ، والأولون آخرين. لأن كثيرين يدعون وقليلين ينتخبون» [متى ٢٠ : ١ ـ ١٦]

(١) من (ط ، ل).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) زيادة.

٣٦٢

آدم. ولم يكن له ذلك. وشتمني ابن آدم. ولم يكن له ذلك. أما تكذيبه إياي فهو قوله : أني يعيدني كما بدأني؟ وأما شتمه إياي فهو أن يقول : اتخذ الله ولدا ، وأنا الصمد ، الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوا أحد» ووجه الاستدلال : أنه تعالى لو كان هو الذي خلق هذه الأحوال في ابن آدم ، فكيف يجوز أن يحكى ذلك عنه في معرض الشكاية.

الحجة الثانية عشر : الخبر المشهور المروي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «خلق الله [يوم خلق (١)] السموات والأرض مائة رحمة ، فجعل في الأرض منها رحمة واحدة ، فبها تعطف الوالدة على ولدها ، والوحوش بعضها بعضا ، وأخر تسعة وتسعين في يوم القيامة. فإذا كان يوم القيامة أكمل الله لها هذه الرحمة» ووجه الاستدلال بهذا الخبر : أن من كانت رحمته هكذا ، فكيف يليق به أن يخلق الإنسان في الدنيا فقيرا مريضا أعمى زمنا ، ثم يخلق فيه الكفر ، ويخرجه من الدنيا إلى أطباق النيران أبد الآباد ، بسبب كفره الذي خلقه فيه ، وألجأه إليه. وجعل من كل ألف من بني آدم تسعمائة [وتسعة (٢)] وتسعين كفارا من أهل النار؟ فكيف تليق هذه القسوة بهذه الرحمة؟.

الحجة الثالثة عشر : قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه وينصرانه» وهذا تصريح بإضافة الفعل إلى الأبوين لا إلى الله تعالى.

الحجة الرابعة عشر : عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم. قال : «لما خلق الله الخلق كتب كتابه على نفسه. فهو موضوع عنده على العرش : إن رحمتي تغلب غضبي» والاستدلال به : إن الكفار والفساق أكثر من أهل الثواب ، فلو كان الكفر والفسق إنما يحصلان بخلق الله ، لكانت رحمته مقلوبة وغضبه غالبا ، وذلك يناقض ظاهر الحديث.

الحجة الخامسة عشر : ما رواه أبو ذر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ فيما يرويه عن ربه عزوجل ـ «إني حرمت الظلم على نفسي ، وحرمته على عبادي

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) من (ط ، ل).

٣٦٣

[فلا تظالموا. يا عبادي (١)] إنكم الذين تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا ، ولا أبالي. فاستغفروني أغفر لكم. يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم. يا عبادي كلكم عاري إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم [كانوا على أتقى قلب رجل واحد لم يزد ذلك شيئا. يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم (٢)] اجتمعوا في صعيد واحد. فسألوني فأعطيت كل إنسان منه ما يسألني ، لم ينقص ذلك من ملكي شيئا. إلا كما ينقص البحر أن يغمس فيه المخيط ، يا عبادي هذه أعمالكم أحفظها عليكم. فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك ، فلا يلومن إلا نفسه».

قالت المعتزلة : هذا الخبر يؤكد مذهبنا من وجوه :

الأول : إنه تعالى قال : «إني حرمت الظلم على نفسي» وهذا يدل على أنه تعالى قادر على الظلم. إذ لو لم يقدر على الظلم ، لما قال : «إني حرمته على نفسي» لأنه يجري مجرى ما إذا قال : إني حرمت على نفسي أن أجمع بين النقيضين ، ومعلوم أنه ركيك.

الثاني : إنه تعالى لما بين أنه حرم الظلم على نفسه ، أوجب على العباد أن لا يظلم بعضهم بعضا. ولو كان تعالى هو الذي يخلق الظلم فيهم ، لكان ظالما. وأيضا : فكيف يقول لهم : لا تظالموا مع أنه تعالى هو الذي يخلق ذلك الظلم فيهم؟.

والثالث : قوله : «إنكم تخطئون بالليل والنهار ، وأنا أغفر الذنوب. ولا أبالي» فلو كان حصول ذلك الخطأ بخلق الله وإيجاده ، كما أن الغفران منه ، لم يكن في هذا التفضيل والتميز فائدة. وأيضا : فإذا خلق الخطأ غيره فهو تعالى إنما غفر للعبد بسبب فعل ما فعله العبد ، وتصريح النص يبطل ذلك.

الرابع : إنه تعالى قال في آخر هذا الحديث : «هذه أعمالكم أحفظها

__________________

(١) من (م ، ل).

(٢) من (م ، ل).

٣٦٤

عليكم» وهذا تصريح بأن هذه الأعمال أعمالنا ، لا أعمال الله. ثم قال : «من وجد خيرا فليحمد الله» وهذا يدل على أنه تعالى خلق القدرة على الفعل ، وهدى العبد إليه ، ووضع الدلائل [عليه (١)] وأرشد إليه ، ومنع عنه أضداده. ثم قال : «ومن وجد غير ذلك ، فلا يلومن إلا نفسه» وهذا تصريح بأن المعاصي ليست من الله البتة.

الحجة السادسة عشر : ما روى هشام الدستواني قال : حدثنا قتادة عن مطرف بن عبد الله بن الشخير عن عياض بن حماد أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال ذات يوم في (٢) خطبته «إلا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم ، مما علمني في يومي هذا : كل مال نحلت عبادي فهو حلال لهم ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم. وإنهم أتاهم الشيطان فاحتالهم عن دينهم ، وحرم عليهم ما حللت لهم» وهذه الخطبة طويلة. والمقصود منها : أنه عليه الصلاة والسلام صرح بأنه تعالى خلق الخلق حنفاء على السلامة الأصلية وإن الشياطين هم الذين أضلوهم عن الحق. فمن قال : إن الله هو أصلهم عن الدين ، فقد (٣) جاهر بتكذيب رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم في هذه الخطبة.

الحجة السابعة عشر : ما روى أبو هريرة [رضي الله عنه (٤)] قال : قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يا أبا هريرة كن ورعا تكن أعبد الناس ، وكن قنعا تكن أشكر الناس ، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا ، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما» ووجه الاستدلال بهذا الخبر : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حثه على الإتيان (٥) بهذه الأفعال ، فلو كانت من خلق الله ، لصار هذا الحث والترغيب باطلا.

الحجة الثامنة عشر : عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من أحب أن يزحزح عن النار ، ويدخل الجنة فلتدركه منيته ، وهو مؤمن بالله

__________________

(١) من (ل).

(٢) إذا (م).

(٣) الذين قعد (م).

(٤) من (ل).

(٥) الإيمان (م).

٣٦٥

واليوم الآخر ، وليؤت إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه» ووجه الاستدلال : إنه لو كان الإيمان بخلق الله تعالى ، لكان هذا الترغيب عبثا. لأن العبد لا يقدر على أن يموت مؤمنا إذا خلق الله فيه الكفر ، ولا يقدر على أن يموت كافرا إذا خلق الله الإيمان فيه.

الحجة التاسعة عشر : عن أبي هريرة [رضي الله عنه (١)] قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «البيان من الله ، والغنى عن الشيطان. وليس البيان كثرة الكلام ، ولكن البيان: الفصل في الحق ، وليس الغنى قلة الكلام ، ولكن من سفه الحق» وهذا نص في موضع الخلاف.

الحجة العشرون : عن أبي هريرة [رضي الله عنه (٢)] قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا يقولن أحدكم زرعت ولكن ليقل : حرثت يا أبا هريرة ألم تسمع إلى قول الله : (أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ؟ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ) (٣) وهذا من أوضح الدلائل على وجوب التفرقة بين فعل الله وبين فعل العبد.

فثبت : أن الفعل المضاف إلينا مغاير للفعل المضاف إلى الله.

ولنكتف بهذا القدر من الأخبار. فإن من وقف عليها يمكنه التمسك بأخبار كثيرة سوى ما ذكرناه. والمعتمد لنا في الجواب عن الكل : أن الأخبار التي تمسكنا بها على صحة قولنا [معارضة لهذه الأخبار (٤)] ولما تعارضت الأخبار وجب الرجوع إلى دلائل العقل (٥). وقد بينا ؛ أن دلائلنا العقلية أقوى وأكمل وأوضح.

وبالله التوفيق

__________________

(١) من (ل).

(٢) من (ل).

(٣) سورة الواقعة ، آية : ٦٣ ـ ٦٤.

(٤) من (م ، ل).

(٥) هذا اعتراف من المؤلف بأن دلائل المعتزلة من القرآن الكريم والأخبار في إثبات الحرية للإنسان ، لا يمكن ردها. وإلا ما أحال على العقل. وكيف يمكن ردها ، وهي المحكمة ، وما تمسك به المؤلف هو المتشابه؟

٣٦٦

__________________

ـ والرجوع إلى دلائل العقل لا يحسم النزاع. لأن دلائل العقل إذا تعارضت يحسمها القرآن الكريم. ألا ترى أن العقل جوز وجود الإله ، والعقل أيضا لم يجوز وجود الإله. والقرآن حسم نزاع الطائفتين ، المجوزة عقلا ، والمنكرة عقلا بقوله : (فَاعْلَمْ : أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) فإذا استعمل المؤلف الشغب في إبعاد دلائل النقل عن القضية ، ثم استعمل الشغب في إبعاد دلائل العقل. فليدلنا على طريق آخر للاستدلال؟.

٣٦٧
٣٦٨

الباب الثامن

في

شرح الآثار المروية

عن الصحابة والتابعين مما

تمسك الخصم بها في إثبات قولهم

٣٦٩
٣٧٠

قالوا :

أ ـ اشتهر عن أبي بكر الصديق ، أنه لما سأل عن معنى الكلالة. قال : «أقول فيها برأيي. فإن يك صوابا فمن الله ، وإن يك خطأ فمن الشيطان والله ورسوله منه بريئان» وهذا تصريح منه بأن ذلك الخطأ ليس من الله. قال أصحابنا : المراد منه : أن ذلك ليس من الله ومن رسوله ، بمعنى الحكم والقضاء به. فأما أن يكون المراد أنه ليس منه بمعنى الخلق والتكوين ، فممنوع. وتمام الكلام هاهنا ، كما في قوله تعالى : (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ. وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (١).

ب ـ وأما عمر بن الخطاب فيروي أن كاتبه كتب : «هذا ما أرى الله عمر» فقال للكاتب : امحه. فمحاه. فقال : «اكتب هذا ما رأى عمر» قال الأصحاب : قوله : «هذا ما أرى الله عمر» لا يصدق إلا فيما عرف بنص. ولهذا السبب غيره.

ج ـ قالوا : ونقل عنه أنه لما أخذ له سارق. وقال له : لم سرقت؟ قال له : بقضاء الله. قطع يده وجلده (٢) وقال : «هذا لسرقتك ، وهذا لافترائك

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية : ٧٨.

(٢) ضربة ثلاثين سوطا.

٣٧١

على الله» ولقائل أن يقول : لعله كان مراد السارق من لفظ القضاء : إذن الله فيه وحكمه به.

د ـ وأما علي بن أبي طالب. فقالوا : القول بالعدل عنه في غاية الشهرة. وخطبه دالة عليه. فعنه أنه سأل عن [التوحيد (١)] والعدل. فقال : «التوحيد أن لا تتوهمه ، والعدل أن لا تتهمه» وهذا كلام في غاية الجلالة. والمراد من قوله : «أن لا تتهمه» أي لا تتهمه بأنه يفعل القبائح والفواحش وظلم العباد. وقال أصحابنا : المراد منه : أن الظلم من الله محال. لأن كل ما يفعله فإنه تصرف في ملك نفسه ، وليس ذلك بظلم.

ه ـ وأيضا : نقل عن علي بن أبي طالب أنه لما انصرف من صفين قام إليه شيخ من أهل الحجاز ، فقال : يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا إلى الشام ، أكان بقضاء الله وقدره؟ فقال : «والذي خلق الحبة وبرأ النسمة ، ما هبطنا واديا ، وما علونا تلعة (٢) إلا بقضاء الله وقدره» فقال الشيخ [عند الله (٣)] احتسب عنائي ومسيري ، والله ما احتسب لي من الأجر شيئا. فقال : أمير المؤمنين : لعلك تظن قضاء لازما ، وقدرا حتما. لو كان كذلك لبطل [الثواب (٤)] والعقاب ، وسقط الوعد والوعيد ، وما كان يأتي من الله لائحة لمذنب ، ولا محمدة لمحسن. ولا كان المحسن أولى بثواب الإحسان من المذنب ، ولا المذنب كان أولى بالعقوبة من المحسن. تلك مقالة إخوان الشياطين ، وعبدة الأوثان ، وخصماء الرحمن ، وشهود الزور ، وأهل العمى والفجور. تلك قدرية هذه الأمة ومجوسها. إن الله أمر تخييرا ، ونهى تحذيرا وكلف تيسيرا ، ولم يعص مغلوبا ، ولم يطع مكروها ، ولا بعث الأنبياء عبثا ، ولا أرى عجائب الآيات باطلا (ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) بقلة (م).

(٣) من (م ، ل).

(٤) من (ط ، ل).

٣٧٢

النَّارِ) (١) فقال الشيخ : وما ذلك [القضاء (٢)] الذي ساقنا؟ فقال أمير المؤمنين : أمر الله بذلك وإرادته. ثم تلا عليهم : (وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) (٣) قال : فنهض الشيخ مسرورا ، وهو يقول :

أنت الإمام الذي نرجو بطاعته

يوم النشور من الرحمن غفرانا

أوضحت من ديننا ما كان مشتبها

جزاك ربك عنا فيه إحسانا

و ـ روى مجاهد أن ابن عباس كتب إلى قرى أهل الشام : رسالة طويلة ذكر فيها أنه قال : «هل منكم إلا مفتري على الله ، يحل ما حرمه عليه ، وينسبها علانية إليه».

ز ـ وعن عكرمة عن ابن عباس أنه قال : القدر بحر عميق ، فقفوا عند أدناه. ولا تقولوا : إنه جبر العباد على المعاصي فتظلموه ، ولا تقولوا : إن الله لم يعلم ما العباد عاملون فتجهلوه؟ ولكن رجل امتحن الله قلبه للتقوى قال : إن عذب فبذنب ، وإن عفى فبفضل.

ح ـ وعن علي بن عبد الله بن عباس قال : كنت جالسا عند أبي. فقال له رجل : يا أبا العباس إن هاهنا قوما يزعمون أنهم أتوا من قبل الله ، وأن الله أجبرهم على المعاصي. فقال : لو أعلم أن هاهنا ، أحدا منهم لقبضت على حلقه ، فصرعته حتى تزهق نفسه.

ط ـ ونقل أن زين العابدين سأل عن أفعال العباد. فقال : إنها لا تخلو إما أن تكون فعلا لله تعالى ولا صنع للعبد فيه ، أو تكون فعلا للعبد ولا صنع لله فيه ، أو تكون بينهما. فإن كانت فعلا لله لزم سقوط الذم والعقاب من العبد ، وإن كانت بينهما فاللوم عليهما ، وإن كانت من العبد فهو الذي نقوله.

__________________

(١) ص ٢٧.

(٢) من (ط ، ل).

(٣) سورة الإسراء ، آية : ٢٣.

٣٧٣

وهو المجرم المذنب. ثم إن أبا العباس الناشئ (١) ـ من المعتزلة ـ نظم هذا المعنى. فقال :

إن تعد أفعالنا اللاتي نذم بها

إحدى ثلاث خلال في معانيها

إما تفرد مولانا بصنعتها

فاللوم يسقط عنا حين تأتيها

أو كان يشركنا فاللوم يلحقه

إن كان يلحقنا من لائم فيها

وإن لم يكن لإلهي في جنايتها

فعل فما الذنب إلا ذنب جانيها

ى ـ ونقلوا : أن النفس الزكية : محمد بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب : قبل الاعتزال عن واصل بن عطاء. فقال أبوه عبد الله يوما : يا ولدي أنت كامل في كل شيء لو لا أنك تقول بالقدر. فقال النفس الزكية : أيها الأب أتلزمني على فعلي ، أو على ما خلق الله في جبرا وقسرا؟ فإن كنت تلزمني على فعل صدر عني ، فهذا هو مذهبي. وإن كنت تلزمني على فعل خلقه الله في جبرا وقسرا. فما ذنبي؟ قالوا : فتفكر عبد الله في كلام ابنه ، وانتقل إلى مذهبه (٢).

__________________

(١) من الطبقة الثامنة للمعتزلة. وهو عبد الله بن محمد ، وكنيته أبو العباس ، من أهل الأنبار ، نزل بغداد. وله كتب كثيرة نقض فيها كتب المنطق ، وهو شاعر ، وله قصيدة على روي واحد وقافية واحدة ، أربعة آلاف بيت ، وخرج في آخر عمره إلى مصر ، وأقام فيها بقية عمره. وله مناظرات كثيرة ، إلا أن في كلامه طولا. ومن قصيدة له قوله :

ما في البرية أخزى عند فاطرها

ممن يدين بإجبار وتشبيه

(٢) يقول مؤلفو كتاب التربية الإسلامية لوزارة التربية في الكويت طبعة ١٤٠٠ ه‍ «وبعض المسلمين أخطأهم التوفيق في فهم حقيقة القدر. فجعلوه سببا فيما يقع منهم من أعمال سيئة ، يقولون : إن الله قدرها عليهم ولو شاء ما فعلوها. وهم مخطئون في هذا ، فقد خلق الله النفس الإنسانية مهيأة لتقبل الخير والشر (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها ، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) ومنح الإنسان العقل الذي يميز به بينهما ، ويتجه باختياره إلى أي منهما. فحين يعمل الإنسان أو يقول ، ينطلق في عمله وقوله بمحض إرادته ومشيئته وهذا هو ما يتعلق به التكليف ، والثواب والعقاب (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها ، لَها ما كَسَبَتْ ، وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ).

وقد حذر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من هذا القول ، وجعل الذين يردون على القائلين به في منزلة المجاهدين في سبيل الله بالسيف. روى جابر رضي الله عنه عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «يكون في آخر الزمان قوم يعملون المعاصي ثم يقولون : الله قدرها علينا. الراد عليهم يومئذ كالشاهر سيفه في سبيل الله».

٣٧٤

واعلم : أن أصحابنا حكوا عن هؤلاء الأكابر ، ضد ما حكاه المعتزلة

أ ـ فروى القاضي أبو بكر في كتاب الهداية : أن عمر بن الخطاب خطب فحمد الله وأثنى عليه وذكر في تحميده : «من يهدي (١) الله فلا مضل له ، ومن يضلل الله فلا هادي له» والجاثليق بين يديه ، فأنكر «الجاثليق (٢)» ذلك بلسانه. فقال : ما يقول؟ فقالوا : يزعم ؛ أن الله يهدي ولا يضل فقال عمر : «كذب عدو الله ، بل الله خلقك ، وهو أضلك ، وهو يدخلك النار».

ب ـ وروي أيضا عن الشعبي عن علي رضي الله عنه أنه خطب الناس على منبر الكوفة. فقال : «ليس منا من لم يؤمن بالقدر ، خيره وشره».

ج ـ وقد اشتهر عن علي رضي الله عنه أنه حين أراد حرب أهل الشام.

قال :

شمرت ثوبي

ودعوت قنبرا

قدّم لوائي

لا تؤخر حذرا

لن يدفع الحذار

ما قد قدرا

قال القاضي أبو بكر ـ رحمه‌الله ـ هذا تصريح منه بأنه لا ينفع حذر من قدر.

د ـ وقال كعب بن زهير في قصيدته المشهورة في مدح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم :

وقال كل خليل كنت آمله

لا ألهينك ، أني عنك مشغول

فقلت : خلوا سبيلي لا أبالكم

فكل ما قدر الرحمن مفعول

__________________

وأوقع عمر رضي الله عنه عقوبتين على رجل قال هذا القول. فقد جيء إليه بسارق ، فسأله : لم سرقت؟ فقال : قدر الله ذلك. فقال عمر : اضربوه ثلاثين سوطا ، ثم اقطعوا يده. فقيل له : ولم؟ فقال يقطع لسرقته ، ويضرب لكذبه على الله» ا. ه.

(١) إن الله يهدي الإنسان لعمل الخير ، إذا كانت نية الإنسان متجهة لعمل الخير ، والله يضل الإنسان إذا كانت نية الإنسان متجهة إلى الضلال.

(٢) الجاثليق : رئيس النصارى الكاثوليك. والكلام صحيح. فإن الله يرسل الأنبياء لهداية الناس ، ولمنعهم من الضلال.

٣٧٥

ه ـ وقال لبيد :

إن قربي ربنا خير نفل

وبإذن الله ديني والعمل

أحمد الله فلا ند له

بيديه الخير ، ما شاء فعل

من يهده سبل الخير اهتدى

ناعم البال. ومن شاء أضل

ولنكتف من الحكايات بهذا القدر. احترازا عن الإطناب. والله أعلم بالصواب.

[قال الناسخ] : رأيت في النسخة [هكذا].

قال ناقلها : «وجدت هذا الفصل على الحاشية في هذا المقام في الكتاب. بخط المصنف مع الشعر له ، فكتبته هاهنا».

وأقول : «كتبت هذه الحكاية في الفصل هاهنا تأسيسا به» :

فيا أيها العبيد لا تتشبهوا بالمريد العنيد ، ولا تقولوا على الحاضر العتيد ، وراقبوا الله في الوعد والوعيد. وأطيعوه في المنهج السديد ، وكونوا على حذر منه في العذاب الشديد. فمن [أتى (١)] بذلك فهو السعيد ، والزمان الذي ينفق فيه ذاك ، فهو المديد (٢) تذكروا إذ كنتم نطفا ثم [الكثيف (٣)] يرسب ، واللطيف طفا. وكأن بما بقي وقد انطفأ ، وخير بشدة ما وفى. تذكروا من استكبر وأبى ، وأتى من هذه المذرة كل ما أتى. ثم انتقل إلى دار الآخرة وترك [لأعدائه (٤)] ما حصله [من (٥)] المراتب الفاخرة ، ثم أحضر في موقف الجلال. وعرضت عليه موجبات النكال ، وحوسب بكل مقدار ، عند الملك الجبار.

وقال رحمه‌الله تعالى عليه شعرا :

__________________

(١) سقط (م).

(٢) المعيد (م).

(٣) سقط (م).

(٤) سقط (م).

(٥) في (م).

٣٧٦

إليك إله الخلق وجهت وجهتي

وأنت الذي أدعوك في السر والجهر

وأنت غياثي عند كل ملمة

وأنت رجائي في حياتي وفي قبري

وأنت الذي يسرت لي كل مطلب

وأنت معاذي في غنائي وفي فقري

٣٧٧
٣٧٨

الباب التاسع

في

بيان أن الله تعالى قد يمنع

المكلف عن الايمان بالقهر والقسر

٣٧٩
٣٨٠