المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

الفصل الثالث

في

التمسك بالآيات المشتملة

على لفظ «الجعل» وما يجري مجراه

اعلم : أن صيغة جعل ، قد تجيء متعدية إلى مفعول واحد ، ويكون معناها : الإحداث والتكوين. قال تعالى : (وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) (١) وقد تجيء متعدية إلى مفعولين ويكون معناها : جعل الذات موصوفة بصفة. قال تعالى : (وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (٢) (وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) (٣).

إذا عرفت هذه المقدمة ، فلنذكر الدلائل :

الحجة الأولى : قوله تعالى : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) (٤) وهذا تصريح بأن العبد لا يصير مسلما ، إلا بأن يجعله الله مسلما. وذلك يدل على أن الإسلام يحصل بخلق الله.

فإن قيل : كما أن الجعل يرد بمعنى التصيير ، فكذلك يرد لوجوه أخرى :

أولها : وصف الشيء بالشيء. قال تعالى : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) (٥) وقال : (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ : الْجِنَ) (٦).

__________________

(١) سورة الأنعام ، آية : ١.

(٢) سورة مريم ، آية : ٣٠.

(٣) سورة البقرة ، آية : ١٢٨.

(٤) سورة البقرة ، آية : ١٢٨.

(٥) سورة الزخرف ، آية : ١٩.

(٦) سورة الأنعام ، آية : ١٠٠.

١٦١

وثانيها : تنزيل الشيء منزلة غيره. قال تعالى : (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ ، أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ؟) (١) والتقدير : هل ننزل المصلحين منزلة المفسدين؟ وكقول القائل إذا نزله منزلة العدو : إنك جعلتني عدوا لنفسك.

وثالثها : الإقدار على الشيء ، والتمكين منه. يقال : جعل فلان أميرا وقاضيا. إذا نصب لذلك. قال تعالى : (إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً) (٢) وقال : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) (٣) والمراد منه : النصب لذلك الأمر ، والتعيين له.

إذا ثبت هذا فنقول : لم لا يجوز أن يكون المراد من قوله : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) : أحد هذه الوجوه؟ أما الحكم والتسمية فظاهر.

ولا يقال : هذا باطل من وجهين : الأول : إن كل مسلم فإنه يستحق أن يسمى مسلما. فأي فائدة في طلب ذلك من الله تعالى؟ الثاني : إن المسلمين يصفون المسلمين بالإسلام. وعلى هذا التقدير لا يبقى بين الجعل الصادر من الله تعالى ، وبين الجعل الصادر من كل أحد من آحاد المسلمين فرق.

لأنا نجيب عن الأول : بأن الإسلام أعظم الخصال الحميدة ، فإذا وصف الله عبدا بذلك ، كان ذلك أشرف المناصب وأعلاها. فلا جرم يحسن طلبه من الله تعالى. ونظيره : ما حكى الله في قوله : (وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ) (٤).

وعن الثاني : إن الله تعالى إذا وصف عبدا بخصلة شريفة ، كان ذلك يوجب من التعظيم والتقديم ما لا يوجبه وصف كل الخلق له بتلك الخصلة. ألا ترى أن الملك العظيم إذا وصف إنسانا ببعض صفات المدح

__________________

(١) ص ٢٨.

(٢) سورة البقرة ، آية : ١٢٤.

(٣) سورة الأنبياء ، آية : ٧٣.

(٤) سورة الشعراء ، آية : ٨٤.

١٦٢

والثناء ، كان ذلك أبلغ في التعظيم مما إذا وصفه بعض الأراذل بذلك. فكذا هاهنا. ثم نقول: وأيضا : يمكن حمل قوله : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) على أن يكون المطلوب تنزيلهما منزلة المسلمين في المدح والتعظيم ، أو في تكثير الألطاف في الدنيا ، أو في تكثير الثواب في الآخرة. والمسلم إن كان يستحق كل ذلك على الله تعالى ، إلا أنه لا يبعد أن يقال : إنه متى سأل الله تعالى ذلك ، فإنه لأجل ذلك السؤال يستحق مزيدا في هذه الأمور.

ثم نقول : أيضا : لا يبعد حمله على التمكين من الإسلام في الزمان المستقبل ، ولا يبعد أن يتوقف حسن تمكينها في المستقبل على إقدامها على ذلك السؤال. فثبت بما ذكرنا : أن قوله : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) محتمل لكل واحد من هذه الوجوه الثلاثة ، فكان الجرم بحمله على الإيجاد والتكوين تحكما محضا.

سلمنا : أن المراد من الجعل : التكوين والتصيير. لكن لم لا يجوز أن يكون المراد منه : خلق الألطاف الداعية لهما إلى الإسلام؟ لأن من فعل الله تعالى به ذلك ، فقد جعله مسلما ألا ترى أن من أدّب ولده حتى صار أديبا ، فإنه يجوز أن يقول له : إني صيرتك أديبا وجعلتك عالما. وفي ضد ذلك يقال : إنه جعل ولده لصا محتالا.

ثم نقول : هذه الآية متروكة الظاهر. لأنهما وقت هذا السؤال ، كانا مسلمين. فقوله : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) يقتضي طلب تحصيل الحاصل. وهو باطل.

ثم نقول : هب أن ظاهر هذه الآية يقتضي كونه تعالى خالقا للإسلام ، لكنه على خلاف الدلائل العقلية. لأنه لو كان فعل العبد مخلوقا لله تعالى ، لما استوجب العبد به مدحا ولا ذما ولا ثوابا ولا عقابا. وبالله التوفيق.

والجواب عن السؤال الأول من وجهين :

الأول : إن الجعل المتعدي إلى مفعولين ، هو أن يصير موصوفا بصفة. فقوله : (رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) أي صيرنا موصوفين بصفة الإسلام

١٦٣

ولا معنى للتصيير إلا إيجاد الصفة فيه. وأما الوجوه التي ذكروها. فقد اتفق أهل اللغة على أنها مجازات. والأصل في الكلام هو الحقيقة. ثم نقول : أما حمل الجعل على الحكم والتسمية فباطل من وجوه :

الأول : لو كان كذلك ، لكان من أخبر أن الله : موجود ، حي ، عالم ، قادر. لزم جواز أن يقال : إنه جعل الله موجودا عالما قادرا. ومعلوم أنه باطل.

الثاني : لا نزاع أن الجعل حقيقة في التصيير ، فوجب أن لا يكون حقيقة في غيره ، دفعا للاشتراك.

الثالث : إن بتقدير أن يكون المراد منه هو الحكم والتسمية. لكن الجبر على هذا التقدير أيضا لازم ، لما ثبت في باب العقليات : أن ما أخبر الله عنه ، فإن خلافه يفضي إلى الكذب في كلام الله. وذلك محال ، والمفضي إلى المحال محال ، فكان خلافه محالا ، فكان حصوله واجبا ، ضرورة أنه لا خروج عن النقيضين. فثبت : أن هذا الوجه الذي ذكروه ، فإنه مع غاية ضعفه ، لو صح ؛ فإن يقوى مذهبنا ويؤكده.

قوله : «لما لا يجوز حمله على طلب الألطاف؟» قلنا : هذا أيضا مدفوع لوجوه :

الأول : إن لفظ الجعل مضاف إلى الاسلام ، فصرفه إلى غيره مخالفة للظاهر.

الثاني : إن عندكم كل ما أمكن فعله من الألطاف ، فقد فعله الله. فحمل هذا السؤال على طلب الألطاف يكون طلبا لتحصيل الحاصل. وهو محال.

الثالث : إن تلك الألطاف. إما أن يكون لها أثر في ترجيح جانب الفعل على جانب الترك ، أو لا يكون. فإن لم يكن لها أثر في هذا الترجيح ، كان أمرا أجنبيا عن الإيمان ، جاريا مجرى نعيق الغراب ، وصرير الباب. وأما إن كان

١٦٤

لتلك الألطاف أثر في الترجيح. فنقول : متى حصل الرجحان ، فقد حصل الوجوب. وذلك لأن مع حصول ذلك القدر من الترجيح. إما أن يجب الفعل أو يمتنع ، أو لا يجب ولا يمتنع. فإن وجب فهو المطلوب. وإن امتنع فهو مانع لا مرجح. وإن لم يجب ولم يمتنع ، فحينئذ يمكن وقوع الفعل معه تارة ، ولا وقوعه أخرى.

فاختصاص أحد الوقتين بالوقوع والوقت الآخر باللاوقوع. إن كان لانضمام أمر آخر إليه كان اللطف المؤثر في الترجيح هو المجموع الحاصل مما حصل أولا. ومن هذه الضمانة فلا يكون الذي فرضناه حاصلا ، مؤثرا البتة في شيء من الترجيح ، وكنا فرضناه كذلك. هذا خلف. وإن لم يكن لانضمام قيد آخر إليه ، لزم الرجحان من غير مرجح. وهو محال. فثبت: أن عند حصول ذلك اللطف يجب حصول الفعل ، وعند عدمه يمتنع. وذلك يعود إلى ما ذكرناه من أن حصول الفعل عند مجموع القدرة والداعي واجب. وذلك هو عين مذهبنا.

أما قوله : «لما كانا مسلمين ، كان إقدامها على طلب الإسلام طلبا لتحصيل الحاصل. وهو محال» فنقول : الجواب عنه من وجوه :

الأول : إن الإسلام عرض قائم بالقلب ، والعرض لا يبقى. فقوله : (اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) معناه : طلب أن يخلق الله ذلك العرض في قلبه في الزمان المستقبل. ومعلوم أن طلب تحصيله في الزمان المستقبل ، لا ينافي كونه حاصلا في الحال.

الثاني : أن يكون المراد منه : الزيادة في الإسلام ، كقوله تعالى : (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) (١) وقوله : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) (٢) وقال ابراهيم عليه‌السلام : (وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي) (٣).

__________________

(١) سورة الفتح ، آية : ٤.

(٢) سورة محمد ، آية : ١٧.

(٣) سورة البقرة ، آية : ٢٦٠.

١٦٥

الثالث : إن لفظ الاسلام إذا ذكر خاليا عن الصلات ، أفاد الإيمان ، أما إذا قرن بحرف اللام ، كقوله : (مُسْلِمَيْنِ لَكَ) فالمراد الاستسلام والانقياد والرضا ، بكل ما قضاه الله. فيحتمل : أن يكون المراد بقوله : (اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ) : ما ذكرناه. والله أعلم.

وقوله : «الدلائل العقلية دلت على امتناع وقوع الفعل بخلق الله تعالى ، وهي في فصل المدح والذم» قلنا : دلائلنا العقلية أقوى وأجلى ـ على ما سبق تقريره.

الحجة الثانية : قوله تعالى في آخر هذه الآية : (وَتُبْ عَلَيْنا. إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) (١) ولو كانت التوبة بخلق العبد ، لكان طلبها من الله جاريا مجرى أن يقول العبد : يا إلهي أفعل ما أنا فاعله.

فإن قيل : هذا معارض بما أن الله تعالى طلب التوبة منا. فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحاً) (٢) ولو كانت التوبة فعلا لله تعالى ، لكان طلبها من العبد محالا. ولما ثبت التعارض ، وجب التوفيق بينهما. فنحمل قوله تعالى : (وَتُبْ عَلَيْنا) على التوفيق ، وفعل الألطاف ، أو على أن الله تعالى يقبل التوبة من العبد.

والجواب : الترجيح معنا. لأن دليل العقل يقوي قولنا : إن التوبة لا تحصل إلا بخلق الله تعالى. وبيانه من وجهين :

الأول : إنا أقمنا الدلائل القاهرة على أن القادر يمتنع أن يصدر عنه الفعل إلا عند حصول الداعي ، وأقمنا الدلائل القاهرة على أن عند حصول الداعي المرجح يجب الفعل. إذا ثبت هذا فنقول : إنه تعالى عند ما لم يخلق للعبد داعية إلى التوبة ، امتنع صدور التوبة عنه ، ولما خلق فيه تلك الداعية ، وجب صدور التوبة عنه. وعلى هذا التقدير تكون التوبة إنما حصلت بتحصيل الله تعالى. إما بواسطة ، أو بغير واسطة.

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ١٢٨.

(٢) سورة التحريم ، آية : ٨.

١٦٦

الوجه الثاني في بيان أن التوبة يمتنع حصولها إلا بتخليق الله تعالى : أن نقول : التوبة عبارة عن مجموع أمور ثلاثة مترتبة بعضها على البعض. وتلك الثلاثة هي : العلم ، والحال ، والعمل. فالعلم أول ، والحال ثاني ـ وهو معلول العلم ـ والعمل ثالث ـ وهو معلول الحال.

أما العلم فهو معرفة ما في الذنوب من المضار ، ثم يتولد من هذه المعرفة تألم القلب بسبب فوت المنفعة ، ونزول المضرة. ثم يتولد من ذلك الألم أحوال عملية ، لها تعلق بالحال والماضي والمستقبل. وأما تأثيره في الحال. فبأن يترك ذلك الذنب ، الذي كان ملابسا له. وأما تعلقه بالماضي. فبأن يتلافى ما فات بالقضاء ، إن كان قابلا للقضاء. وأما تعلقه بالمستقبل. فبالعزم على ترك ذلك العمل إلى آخر العمر.

فالعلم هو الأول. وهو مطلع هذه الخيرات. وأعني بهذا العلم : اشتمال الذنوب على المضار العظيمة ، ويجب أن يكون هذا الإيمان يقينيا متأكدا ، خاليا عن الشكوك والشبهات، وإلا لم يكن علما ، بل يكون ظنا. غير أن ذلك اليقين إذا استولى على القلب ، أوجب تألم القلب. وذلك العلم يوجب الأمور الثلاثة ، بحسب الأزمنة الثلاثة.

إذا عرفت هذا فنقول : الاعتقاد الجازم في كون الذنب ، سببا لحصول المضار العظيمة يوجب النفرة عن الذنوب. وهذه النفرة توجب الترك في الحال ، والعزم على الترك في المستقبل. فترتب كل واحد من هذه المراتب على ما قبله ، ترتب ضروري واجب بالذات ، فلا يمكن للعبد فيه مكنة واختيار.

بقي أن يقال : الداخل تحت التكليف هو تحصيل ذلك العلم. لكنا بينا بالبراهين القاهرة : أن تحصيل العلم ليس مقدورا للعبد. فثبت بما ذكرنا : أن حصول التوبة ليس إلا من الله تعالى. ولما ثبت أن مذهبنا تقوى بالدلائل العقلية ، كان مذهبنا أولى من مذهبكم. وبالله التوفيق.

الحجة الثالثة : قوله تعالى : (فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ) (١)

__________________

(١) سورة ابراهيم ، آية : ٣٧.

١٦٧

وقوله : (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِي) (١) ووجه الاستدلال : أنه أظهر الرغبة إلى الله تعالى في أن يجعل هوى الناس إلى «مكة».

والعقل أيضا يدل عليه. لأن تحصيل الإرادة في القلب ، إن كان من العبد ، لافتقر فيه إلى إرادة أخرى ، ولزم التسلسل. وإن كان من الله تعالى فهو المطلوب. وكل ذلك تصريح بأن أفعال العباد مخلوقة لله سبحانه.

الحجة الرابعة : قوله تعالى : (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (٢) فإن قيل : عليه الأسئلة التي (٣) تقدم ذكرها في الحجة الأولى. فالذي نزيده هاهنا أن نقول : لم لا يجوز أن يكون المراد كونه رضيا في الخلقة والصورة. وهو كونه تام الخلقة ، صحيح الحواس ، كامل العقل ، شديد القوة ، طلق الوجه ، حسن الصورة ، موصوفا بالأخلاق الحميدة ، محبوبا بين الناس؟ وكل ذلك من أفعال الله تعالى.

والجواب : إن مقدمة الآية هي قوله : (يَرِثُنِي ، وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) (٤) : وهذه الوراثة هي وراثة الدين والنبوة ، لا وراثة المال. ويدل عليه وجهان :

الأول : إن جمهور المفسرين قالوا بذلك.

والثاني : إن عمل مبالغة الرسول المعصوم وهو زكريا عليه‌السلام على حفظ مصالح الدين ، أولى من عمله على حفظ مصالح الدنيا ، فثبت : أن المراد من قوله (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) وراثة الدين والنبوة. ثم إنه تعالى قال بعده : (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) فوجب أن يكون مراده منه : كونه رضيا في الدين. لأن حمل اللفظ المجمل على المذكور السابق ، أولى من حمله على الشيء الأجنبي.

__________________

(١) سورة ابراهيم ، آية : ٤٠.

(٢) سورة مريم ، آية : ٦.

(٣) فإن قيل الأسئلة ما تقدم ـ والذي ... الخ [الأصل]

(٤) سورة مريم ، آية : ٦.

١٦٨

الحجة الخامسة : قوله تعالى : (وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ : رَأْفَةً وَرَحْمَةً) (١) ويقرب منه : قوله تعالى : (وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً) (٢) ولا شك أن تلك المودة والرحمة من الطاعات العظيمة. فدل ذلك : على أن طاعات العباد مخلوقة لله تعالى.

الحجة السادسة : قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ : عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) (٣) ونظيره قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ : عَدُوًّا. شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) (٤).

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد منه : الحكم بكون أولئك المجرمين ، أعداء لذلك النبي؟ فنقول : المراد : أنه تعالى لما خصص الرسل بالكرامات الفائقة ، والفضائل العظيمة ، التي بسببها يحسدهم الكفار ، ويعادونهم ، صار كأنه تعالى هو الذي جعلهم أعداء لأولئك الأنبياء ، وإليه أشار المتنبي بقوله :

أزل حسد الحساد عنّي بكبتهم

فأنت الذي صيرتهم لي حسدا

ثم الذي يدل على أنه لا بد من المصير إلى هذه التأويلات : جميع الآيات الدالة على أنه تعالى ينصر الأنبياء والرسل. قال ـ تعالى ـ : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ : بِالْهُدى ، وَدِينِ الْحَقِّ ؛ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ. وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) (٥) وقال : (وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً) (٦) فكيف يليق بمثل هذا الإعزاز ، أن يلقى عداوته في قلوب الناس؟

والجواب : أما تفسير لفظ الجعل بالحكم والتسمية. فقد ذكرنا أنه خلاف الظاهر. وأيضا : لو سلمنا ذلك. إلا أن الله تعالى لما كان قد حكم به

__________________

(١) سورة الحديد ، آية : ٢٧.

(٢) سورة الروم ، آية : ٢١.

(٣) سورة الفرقان ، آية : ٣١.

(٤) سورة الأنعام ، آية : ١١٢.

(٥) سورة الصف ، آية : ٩.

(٦) سورة الفتح ، آية : ٣.

١٦٩

في اللوح المحفوظ ، كان حصوله واجبا ، وتركه ممتنعا. لما بينا أن تركه يقتضي انقلاب خبر الله، الصدق : كذبا. وإنه محال. وأما الذي ذكروه في الوجه الثاني فضعيف جدا. وذلك لأن تخصيص الرسل بتلك الكرامات وتلك الفضائل لا يوجب حصول العداوة. ألا ترى أن تلك الفضائل هي التي صارت أسبابا قوية لحصول المحبة الشديدة في قلوب الأولياء. ولو كان حصول تلك الفضائل ، موجبا لحصول العداوة ، لكان السبب الواحد موجبا حصول ضدين. وهو محال. بل الحق : أن ذلك لا يوجب ، لا حصول المحبة ، ولا حصول العداوة. وأن الموجب لحصول المحبة : إلقاء دواعي المحبة في القلوب ، والموجب لحصول العداوة : إلقاء دواعي العداوة في القلوب. وعلى هذا التقدير يكون الكل من الله. وعند استحضار مسألة الداعي على الوجه الذي لخصناه ، يظهر أن ظاهر قوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) متأكدا بهذا البرهان العقلي القاطع ، الذي لا يقدر أحد على التشكيك فيه بوجه من الوجوه. وبالله التوفيق.

الحجة السابعة : قوله تعالى : (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) (١) والكلام سؤالا وجوابا : عين ما تقدم.

الحجة الثامنة : قوله تعالى : (لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً) (٢) فإن قيل : ظاهر هذا النص حجة عليكم. لأنه تعالى أضاف الإلقاء إلى الشيطان. ثم نقول : هذا النص يدل على أنه تعالى يجعل ما يلقيه الشيطان فتنة. والمراد من الفتنة : العلامة المميزة للذين في قلوبهم مرض ، عن الذين ما كانوا كذلك. يقال : فتنة. إذا امتحنته. ولا يلزم من قولنا : جعل ما يلقيه الشيطان علامة لبعض الأمور. قولنا : إنه تعالى هو الذي خلق تلك الوساوس الباطلة التي يلقيها الشيطان في القلوب.

والجواب : قوله : إنه تعالى أضاف الإلقاء إلى الشيطان ، إضافة الفعل

__________________

(١) سورة المائدة ، آية : ١٣.

(٢) سورة الحج ، آية : ٥٣.

١٧٠

إلى الفاعل» قلنا : سيجيء الجواب عنه إن شاء الله تعالى. قوله : «المراد من الفتنة : الامتحان» قلنا : هذه الفتنة المفسرة بالامتحان. إما أن تكون نسبتها إلى الهداية والضلالة على السوية ، أو لا تكون. فإن كان الثاني كان كسائر الأمور ، التي لا تعلق لها بهذا الباب ، فلم تكن فتنة وامتحانا. وإن كان الأول ، كان له مزيد اقتضاء للجهل والضلال. وقد دللنا على أنه متى حصل الرجحان ، فقد حصل الوجوب. وحينئذ يحصل المطلوب.

الحجة التاسعة : قوله تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا) (١) وقوله : (وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) (٢) وجعل الشيء : شيئا آخر ، عبارة : عن تحصيل تلك الصفة فيه. يقال : فلان جعل هذا الثوب أسود ، أو أبيض. أي حصل فيه صفة السواد وصفة البياض. فكذا هاهنا. المراد من جعلهم أئمة الهدى ، وأئمة النار : خلق صفة الهدى وصفة الضلال فيهم.

فإن قيل : هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها ، لأنه لو كان خالق الإيمان والكفر هو الله تعالى ، لم يكن لجعل هذا إماما في الهدى ، وجعل ذاك إماما في الضلال : معنى. لأن إمام الهدى ، إن دعى المؤمن إلى الهدى. فهو عبث. لأن الله تعالى ، لما خلق الهدى في المؤمن ، كانت دعوته الى الهدى عبثا. وإن دعي الكافر إلى الهدى فهو محال. لأن من خلق الله الكفر فيه ، امتنع صيرورته مؤمنا. وكذا القول في الإمام الداعي إلى النار. فإنه لا يخلو من هذين الوجهين.

فثبت : أن على مذهب الجبر لا يبقى في جعل الشخص إماما في الهدى ، وإماما في الضلال فائدة. وإذا ثبت هذا فنقول : لا بد لهذا الجعل من تأويل. وهو أحد أمرين : أحدهما : الحكم والتسمية. والثاني : أن يحمل ذلك على أحوال القيامة. وذلك لأنهم في الآخرة يدعون أصحابهم إلى النار. كما قال في حق فرعون : (يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ. فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ) (٣) ومما يقوي ذلك :

__________________

(١) سورة الأنبياء ، آية : ٧٣.

(٢) سورة القصص ، آية : ٤١.

(٣) سورة هود ، آية : ٩٨.

١٧١

أن هذه الآية التي تمسكتم بها ، ذكرها الله عقيب خبر آل فرعون.

والجواب عن السؤال الأول : إنا إذا قلنا : الفعل معلول مجموع القدرة مع الداعي. فهذا السؤال زائل. وذلك لأن أئمة الضلال إذا دعوا إنسانا إلى الضلال وزينوه في قلبه. فدعوتهم هي التي أثرت في ترسخ تلك الداعية في قلب ذلك الإنسان. فلا جرم جاز وصفه بكونه إماما فيه. وأما تفسير الجعل بالحكم والتسمية. فقد تقدم جوابه.

وأما حمله على أحوال القيامة : فالجواب عنه من وجهين :

الأول : إن قوله : (وَجَعَلْناهُمْ) لفظ للماضي ، فحمله على المستقبل خلاف الظاهر.

والثاني : هب أن الأمر كما قالوه : إلا أنه تعالى لما أخبر عنهم أنهم يكونون كذلك في القيامة ، استحال أن لا يكونوا كذلك. وإلا لزم أن ينقلب خبر الله الذي يجب أن يكون صدقا : كذبا. وذلك محال. والمفضي إلى المحال محال. وتمام تقريره ، قد تقدم. وبالله التوفيق.

الحجة العاشرة : قوله تعالى : (قُلْ : هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ ، مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ ، وَغَضِبَ عَلَيْهِ ، وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ ، وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) (١) وهذا تصريح بأنه تعالى جعلهم عبدة الطاغوت. ولا يمكن تفسير هذا الجعل بالحكم والتسمية. لأنه تعالى ذكر صيغة جعل ، ثم أسند هذه الصيغة إلى القردة ، ثم إلى الخنازير ، ثم إلى عبدة الطاغوت. ولا شك أن المراد من جعل ، عند إسنادها إلى القردة والخنازير ، هي التصيير ، والقلب من صفة إلى صفة. فوجب أن يكون المراد بإسنادها إلى عبدة الطاغوت هذا المعنى أيضا ، وإلا لزم استعمال اللفظ الواحد دفعة في حقيقته ومجازه معا. وإن ذلك محال.

__________________

(١) سورة المائدة ، آية : ٦٠.

١٧٢

فإن قيل : النص دل على أنه تعالى جعل من عبد الطاغوت. فصيغة جعل هاهنا متعدية إلى مفعول واحد ، فكانت بمعنى الإحداث. فيكون المعنى : أنه تعالى خلق من عبد الطاغوت. ولا نزاع فيه. وليس في الآية دلالة على أنه تعالى خلق عبادة الطاغوت فيهم.

والجواب عنه من وجهين :

الأول : إنه تعالى قال : (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ) وجعل الشيء من شيء آخر. معناه : إزالة الصفة الأولى ، وإحداث الصفة الثانية. وإذا كان كذلك ، لم يكن هذا الجعل بمعنى الإحداث ، بل بمعنى تصيير الشيء شيئا آخر. وإذا كان من الجعل المذكور في هذه الآية هذا المعنى ، وجب أيضا أن يكون هو المراد في قوله : (وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ) وإلا لزم استعمال اللفظ المشترك في كلا مفهوميه معا. وإنه لا يجوز. وإذا ثبت هذا وجب أن يكون معنى الآية : إنه تعالى جعلهم (عَبَدَ الطَّاغُوتَ) وعند هذا يحصل المطلوب.

الثاني : إنه تعالى إنما ذكر ذلك في معرض الذم لهم. ولو كان المقصود منه أنه تعالى خلق ذواتهم ، لما كان فيه مذمة لهم البتة. لأن المذمة في أن يقال : إنه تعالى جعلهم موصوفين بعبادة الطاغوت. وحينئذ يحصل المقصود.

وبالله التوفيق.

١٧٣
١٧٤

الفصل الرابع

في

سائر الدلائل المأخوذة من سائر الآيات

الحجة الأولى : الإيمان نعمة. وكل نعمة فهي من الله تعالى. ينتج : أن الإيمان من الله تعالى. إنما قلنا : إن الإيمان نعمة. لإطباق الأمة على قولهم : الحمد لله على نعمة الإيمان. وإنما قلنا : إن كل نعمة فهي من الله تعالى. لقوله تعالى : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ) (١).

فإن قيل : لا نسلم أن الإيمان نعمة. والإجماع الذي ادعيتم : ادعيتم : ممنوع. سلمنا : أنه نعمة ، وأن كل نعمة فمن الله ، حتى ينتج : أن الإيمان من الله. إلا أنا نقول : إن كل شيء كما يضاف إلى فاعله ، لأجل أنه فعله ، فكذلك قد يضاف إلى الآمر به ، والمعين عليه. لأجل أنه أمر به ، وأعان عليه. ألا ترى أن الأب إذا علم ولده الأدب ، وأعانه عليه ، صح أن يقال : هذا العلم إنما حصل له من ذلك الأب ومن وجهته ، وإن كان لا يقال : إنه فعله.

ونظيره : قول موسى صلوات الله عليه ، لما قتل القبطي : (هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) (٢) وما أراد أن الشيطان قتله ، لكن أراد أنه وسوس إليه ، حتى حدث ما حدث. فكذا هاهنا.

__________________

(١) سورة النحل ، آية : ٥٣.

(٢) سورة القصص ، آية : ١٥.

١٧٥

والجواب : الدليل على أن الإيمان نعمة : الإجماع الذي نقلناه ، وإنكاره مكابرة. فإن أصروا على المنع. قلنا : الدليل على أن الإيمان نعمة : أن لفظ النعمة مستعمل في صور كثيرة. ولا بد من جعلها حقيقة في القدر المشترك بينها ، دفعا للاشتراك والمجاز. وكونه أمرا منتفعا به خاليا عن كل جهات المضرة ، قدر مشترك. فوجب جعل اللفظ حقيقة فيه. ولأنا إذا قلنا : إن الله تعالى أعطى فلانا نعمة ، لم يفهم إلا ما ذكرناه. فثبت : أن لفظ النعمة اسم لكل أمر منتفع به ، خالي عن جميع جهات المضرة. والإيمان كذلك ، فوجب أن يكون نعمة.

قوله : «لم لا يجوز أن يكون الإيمان من الله ، بمعنى أنه حصل بأمره وبإعانته»؟

قلنا : لأن كلمة «من» لابتداء الغاية. وإنما يصدق القول بأن هذه النعمة من الله تعالى ، إذا كان ابتداء حدوثها من الله. فلو كان إحداثها وإيجادها من العبد ، لم يصدق عليها أنها من الله. وأقصى ما في الباب : أنه قد يطلق هذا اللفظ على سبيل المجاز في بعض المواضع. إلا أن المجاز خلاف الأصل. والله أعلم.

الحجة الثانية : قوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ ، وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (١) وهذه الآية هي التي يظن المعتزلة أنها في غاية القوة من جانبهم. وتقريره : أن نقول : فعل العبد موقوف على مشيئة العبد ، ومشيئة العبد موقوفة على مشيئة الله تعالى. ينتج : أن فعل العبد موقوف على مشيئة الله تعالى. وإنما قلنا : إن فعل العبد موقوف على مشيئة ، للقرآن والعقل. أما القرآن. فقوله تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ ، وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) دلت هذه الآية : على أن مشيئة الإيمان مستعقبة للإيمان ، ومشيئة الكفر مستعقبة للكفر. وظاهر أيضا : أن عند عدم هذه المشيئة لا يصدر الفعل عن القادر. وأما العقل. فهو أن القادر ، قادر على الضدين. أعني : الكفر والإيمان والمعصية والطاعة. فيمتنع أن

__________________

(١) سورة الكهف ، آية : ٢٩.

١٧٦

يترجح أحدهما على الآخر ، إلا بواسطة القصد والمشيئة.

وإنما قلنا : إن مشيئة العبد موقوفة على مشيئة الله تعالى للقرآن والعقل. أما القرآن. فقوله : (وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (١) ومفعول هذه المشيئة : محذوف. فإما أن يكون التقدير : وما تشاءون إلا إن شاء الله ذلك الشيء ، أو يكون التقدير : وما تشاءون شيئا ، إلا إن شاء الله مشيئتكم لذلك الشيء.

والأول محال. لأن «زيدا» إذا شاء حركة جسم ، وشاء «عمرو» سكونه. فيلزم أن يقال : إن الله شاء حركته وسكونه معا. وذلك محال. ولما بطل هذا تعين حمل الآية على الوجه الثاني. فيكون التقدير : وما تشاءون شيئا إلا وشاء الله مشيئتكم لذلك الشيء. وأيضا : فالمشيئة مذكورة صريحا ، ومفعول المشيئة غير مذكور صريحا. فإذا حملنا هذه الآية على أن المراد : وما تشاءون شيئا إلا ويشاء الله مشيئتكم لذلك الشيء. كنا قد أضمرنا ما لم يسبق ذكره. ولا شك وأن الأول : أولى. فثبت : أن تقدير الآية : وما تشاءون إلا أن يشاء الله مشيئتكم لذلك الشيء. وهذا يدل على أن حصول المشيئة لنا موقوف على مشيئة الله تعالى.

وأما المعقول : فهو أنه يمكن أن يحصل للعبد مشيئة الإيمان ، وأن يحصل له مشيئة الكفر بدلا عن مشيئة الإيمان. فحصول إحدى المشيئتين بدلا عن الأخرى ، لا بد وأن يكون لترجيح مرجح. فإن كان ذلك للعبد ، عاد الطلب فيه. ويلزم التسلسل. وهو محال. وإن كان هو الله فهو المطلوب.

فثبت بالقرآن والبرهان : أن صدور الفعل عن العبد ، موقوف على مشيئة لذلك الفعل ، وثبت أيضا بالقرآن والبرهان : أن حدوث تلك المشيئة في قلب العبد متوقف على إن شاء الله إحداث تلك المشيئة في قلبه ، وثبت في بدائه العقول : أن الموقوف على الموقوف على الشيء ، موقوف على الشيء. فيلزم القطع بأن صدور الفعل عن العبد ، موقوف على مشيئة الله. وذلك هو

__________________

(١) سورة الانسان ، آية : ٣٠.

١٧٧

المطلوب. وهذا برهان نفيس شريف ، مركب من مقدمتين مقررتين بالنص القاطع ، والبرهان الساطع.

الحجة الثالثة : إنه تعالى أضاف أعمال العباد إليهم ، ثم إنه تعالى أضافها بأعيانها إلى نفسه. وذلك يدل على أن فعل العبد ، فعل الله تعالى. بيان المقدمة الأولى ، بآيات : إحداها : قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا : آمِنُوا) (١) ثم قال : (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) (٢) وذلك يدل على أن إيمان العبد فعل الله تعالى ، والعبد معا. وثانيها : قوله تعالى : (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً ، وَلْيَبْكُوا كَثِيراً) (٣) ثم قال : (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) (٤) وثالثها : قوله تعالى : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ) (٥) وقال : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) (٦) ورابعها : قوله تعالى : (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ. وَلكِنَّ اللهَ قَتَلَهُمْ ، وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ. وَلكِنَّ اللهَ رَمى) (٧) فأضاف قتلهم ورميهم إلى نفسه. وخامسها : قوله تعالى : (إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٨) ثم قال : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِ) (٩).

فإن قيل :

أما قوله : (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) فالمراد منه : الإعانة ، وهو خلق الألطاف.

وأما قوله : (هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) فالكلام فيه من وجهين : الأول : لا نسلم أن «أضحك» عبارة عن إيجاد الضحك ، بل المضحك والمبكي من

__________________

(١) سورة النساء ، آية : ١٣٦.

(٢) سورة المجادلة ، آية ، آية : ٢٢.

(٣) سورة التوبة : آية : ٨٢.

(٤) سورة النجم ، آية : ٤٣.

(٥) سورة العنكبوت ، آية : ٢٠.

(٦) سورة يونس ، آية : ٢٢.

(٧) سورة الأنفال ، آية : ١٧.

(٨) سورة التوبة ، آية : ٤٠.

(٩) سورة الأنفال ، آية : ٥.

١٧٨

يفعل ما عنده يحصل الضحك والبكاء ، يقال : أضحكني كلامك ، وأبكاني وعظك. والثاني : سلمنا : أنه عبارة عن فعل الضحك والبكاء. لكنه إخبار عن أمر في الماضي. فيقتضي ذلك مرة واحدة. فلم قلتم : إن ضحكنا وبكاءنا هو تلك المرة؟.

وأما قوله تعالى : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) فهو محمول على الإقدار والتمكين. كما يقال : سير الأمير جنده إلى بلدة كذا. فإن الفهم يسبق إلى ما ذكرناه.

وأما قوله : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ. وَلكِنَّ اللهَ رَمى) فنقول : الفعل دل على امتناع وقوع الأثر الواحد بمؤثرين ، فوجب أن يحمل أحد الجانبين على المجاز. ثم إن الرمي يذكر ويراد به الإضافة. يقال : رمية من غير رامي. فكان التقدير : وما رميت عن علم ومعرفة وجزم بحصول المقصود. ولكن الله رمى ، أي ولكن الله أوصله إلى المقصود.

وأما قوله : (كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ) فالسؤال عليه ما تقدم في قوله : (أَضْحَكَ وَأَبْكى) فإنه إذا قيل أخرج الأمير فلانا من البلد ، لم يفهم منه البتة : أنه فعل منه ماهية الخروج ، بل السابق إلى الافهام : أنه كلفه بالخروج وألجأه إليه. سلمنا : أنه يقتضي نفس الخروج ، ولكنه لا يقتضي إلا مرة واحدة. فلم يتناول محل النزاع : والجواب : إن جميع الوجوه التي ذكرتموها عدول عن الحقيقة إلى المجاز. وذلك خلاف الظاهر.

وليس لهم أن يقولوا : دلت الدلائل العقلية على فساد القول بأن الله تعالى موجد لأفعال العباد ، فلا جرم حملنا هذه الآيات على مجازاتها. لأنا نقول : قد سبقت دلائلنا العقلية ، بحيث بلغت في القوة إلى قلع الجبال ، وهدم السموات.

الحجة الرابعة : قوله تعالى : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) (١) وقوله : (إِنَّ اللهَ

__________________

(١) سورة البروج ، آية : ١٦.

١٧٩

يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) (١) ولا نزاع أنه تعالى أراد الإيمان. أما عندكم فمن الكل. وأما عندنا فمن المؤمن. فوجب أن يكون هو الفاعل لإيمانه ، بحكم هذا النص. وإذا ثبت هذا ، ثبت أنه هو الفاعل للكفر. ضرورة أنه لا قائل بالفرق.

فإن قيل : المراد أنه (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) فعله. فلم قلتم : إنه تعالى يريد أن يفعل فعل العبد ، فإن ذلك أول المسألة؟ قلنا : قوله تعالى : (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) يتناول كل ما يريد وجوده ، وما ذكرتموه يفيد. خلاف الظاهر.

الحجة الخامسة : قوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ ، إِذا أَرَدْناهُ. أَنْ نَقُولَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) (٢) وقد أراد الله الإيمان ، فوجب أن يتكون ذلك الإيمان بقوله : (كُنْ فَيَكُونُ) وذلك عبارة عن تكوين الله إياه. فدل هذا النص : على أن إيمان العبد ، وجميع طاعاته ، حصل بتكوين الله وإيجاده.

الحجة السادسة : قوله تعالى : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) (٣) وذلك لأن قوله : (أَغْفَلْنا) على وزن قوله : أحيينا وأمتنا. فكما أن هذا يفيد خلق الحياة ، فكذا قوله : (أَغْفَلْنا) وجب أن يفيد خلق الغفلة.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : المراد بقوله : (أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) إنا وجدنا قلبه غافلا. ولا يكون المراد منه : خلق الغفلة. والدليل عليه : ما روي عن عمرو بن معدي كرب الزبيدي ، أنه قال لبني سليم : «قاتلناكم فما أجبناكم ، وسألناكم فما أبخلناكم ، وهجوناكم فما أفحمناكم» أي : ما وجدناكم جبناء ، ولا بخلاء ، ولا مفحمين.

ثم نقول : حمل هذا اللفظ ، على هذا المعنى : أولى. والدليل عليه : أنه لو كان المراد ، هو أنه تعالى جعل قلبه غافلا ، لوجب أن يقال : ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا. فاتبع هواه. لأن هذا على هذا التقدير يكون من أفعال المطاوعة. وهي إنما تعطف بالفاء ، لا بالواو. ومنه قولهم : كسرته

__________________

(١) سورة الحج ، آية : ١٤.

(٢) سورة النحل ، آية : ٤٠.

(٣) سورة الكهف ، آية : ٢٨.

١٨٠