المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

الفصل الأول

في

الدلائل الدالة على أن العبد

غير مستقل بنفسه بالفعل والترك

ولنا في هذه المسألة براهين :

البرهان الأول

أن نقول :

القادر على الفعل المخصوص. إما أن يصح منه الترك ، وإما أن لا يصح. والقسم الثاني يقتضي أن تكون تلك القدرة مستلزمة لذلك الفعل. وعند حصول تلك القدرة يجب الفعل ، وعند فقدانها يمتنع الفعل. فكان القول بالجبر لازما (١)

__________________

(١) وأما أفعال الناس فهم فيها مختلفون.

مذهب أكثرهم جمهور الأشعرية ـ : أن عند تحريك هذا القلم. خلق الله أربعة أعراض ، ليس منها عرض سببا للآخر. بل هي متقارنة في الوجود لا غير. العرض الأول : إرادتي أن أحرك القلم. والعرض الثاني : قدرتي على تحريكه. والعرض الثالث : نفس الحركة الإنسانية ـ أعني حركة اليد ـ والعرض الرابع : تحرك القلم. لأنهم زعموا : أن الإنسان إذا أراد شيئا ففعله ـ بزعمه ـ فقد خلقت له الإرادة ، وخلقت له القدرة على فعل ما أراد ، وخلق له الفعل. لأنه يفعل بالقدرة المخلوقة فيه ، ولا أثر لها في الفعل.

أما المعتزلة : فقالوا إنه يفعل بالقدرة المخلوقة فيه. وبعض الأشعرية قال : «للقدرة المخلوقة في الفعل أثر ما ، ولها به تعلق» ولكن أكثرهم استشنعوا ذلك. وهذه الإرادة المخلوقة ـ على زعم ـ كلهم ـ والقدرة المخلوقة. وكذلك الفعل المخلوق عند بعضهم. كل ذلك أعراض لا بقاء ـ

٢١

وأما القسم الأول : فنقول : لما كانت تلك القدرة صالحة للفعل والترك ، كان رجحان أحد [الطرفين على الآخر. إما أن يتوقف على مرجح ، أو لا يتوقف.

والقسم الثاني : يقتضي رجحان أحد (١)] طرفي الممكن المتساوى على الآخر ، لا لمرجح. وذلك يلزم منه نفي الصانع. وأيضا : فعلى هذا التقدير يكون وقوع الفعل بدلا عن الترك : محض الاتفاق ، ولم يكن مستندا إلى العبد. فيكون الجبر لازما.

وأما القسم الأول : فنقول : ذلك المرجح. إما أن يكون من العبد ، أو من غيره ، أولا منه ولا من غيره. لا جائز أن يكون من العبد. وإلّا عاد التقسيم الأول فيه ، ويلزم إما التسلسل وإما الجبر.

والقسم الثالث : فنقول : أيضا : باطل. لأنه يقتضي جواز حدوث الشيء ، لا لمحدث ، ولا لمؤثر. ويلزم منه نفي الصانع. ويلزم منه أيضا : القول الجبر ـ على ما بيناه ـ ولما بطل هذان القسمان ، ثبت : أن ذلك المرجح ، إنما حدث بإحداث الغير. فنقول : ذلك المرجح إنما يكون مرجحا ، إذا اقتضى رجحان جانب الفعل على جانب الترك ، وعند حصول هذا الرجحان يجب الفعل. وذلك لأن طرف الترك ، حال كونه مساويا لطرف الفعل ، كان ممتنع الرجحان. فحال حصوله مرجوحا ، أولى أن يصير ممتنع الرجحان. وإذا

__________________

ـ لها. وإنما الله يخلق في هذا القلم تحركا بعد تحرك. هكذا دائما طالما القلم متحركا. فإذا سكن. لم يسكن حتى خلق الله فيه أيضا سكونا ، ولا يبرح يخلق فيه سكونا بعد سكون ، طالما القلم ساكنا ففي كل آن من تلك الآنات ـ أعني الأزمنة المنفردة ـ يخلق الله عرضا في جميع أشخاص الموجودات. من ملك وفلك وغيرهما ، هكذا دائما في كل حين.

وقالوا : إن هذا هو الإيمان الحقيقي بإن الله فاعل. ومن لم يعتقد أن هكذا يفعل الله ، فقد جحد كون الله فاعلا ـ على رأيهم» [دلالة الحائرين ص ٢٠٨].

ذكر هذا النص «موسى بن ميمون» وعلق عليه بقوله «في مثل هذه الاعتقادات يقال عندي وعند كل ذي عقل : «أم أنتم تخدعونه ، كما يخدع إنسان»؟ [١٢ : ٩] إذ هذا هو عين الخدعة حقيقة»

(١) من (ط ، ل)

٢٢

صار (١) المرجوح ممتنعا ، صار الراجح واجبا. ضرورة أنه لا خروج عن النقيضين فثبت : أن صدور الفعل عن العبد ، موقوف على أن يفعل غيره فيه هذا المرجح.

واعلم : أنه متى فعل ذلك الغير فيه ذلك المرجح ، وجب صدور الفعل عنه. فثبت : أن مجموع القدرة مع الداعي ، يوجب الفعل ، وأنه تعالى ، إن خلقهما : وجب الفعل. وإن لم يخلق مجموعهما : امتنع الفعل. فثبت : أن العبد غير مستقل بنفسه في الفعل وفي الترك. وهو مطلوب.

فإن قيل : هذا الاستدلال في مقابلة البديهيات ، فيكون مردودا.

بيان أنه في مقابلة البديهيات : إن على هذا التقدير ، متى حصل مجموع القدرة مع الداعي ، كان الفعل واجب الوقوع ، ولم يكن للعبد مكانة واختيار في الفعل. فعلى هذا التقدير ، يكون حال العبد دائرا بين أن يجب (٢) صدور الفعل عنه ، وبين أن يمتنع صدور الفعل عنه. وعلى هذا التقدير : يلزم أن لا يكون للعبد مكنة واختيار في الفعل والترك. وذلك باطل في بدائه العقول. لأننا نجد من أنفسنا وجدانا ضروريا أنا إن شئنا الفعل فعلنا ، وإن شئنا الترك تركنا. فثبت : أن ما ذكرتموه من الدليل : واقع في مقابلة البديهيات. فوجب أن لا يستحق الجواب.

سلّمنا : أن ما ذكرتم من الدليل غير واقع في مقابلة البديهيات ؛ إلا أننا نقول : هذا الدليل الذي ذكرتم ، مطرد بعينه في الغائب. وذلك لأن كل ما لا بد منه في كونه تعالى مؤثرا في العالم. إما أن يقال : إنه كان حاصلا في الأزل ، أو ما كان حاصلا في الأزل. فإن كان الاول ، فحينئذ يلزم أن يقال : إن مجموع الأمور التي لأجلها كان الباري مرجحا لوجود العالم على عدمه ، كان حاصلا في الأزل. وأنتم زعمتم : أنه متى حصل الرجحان ، فقد حصل الوجوب. وعلى هذا التقدير يلزم كونه تعالى : موجبا بالذات ، لا فاعلا بالاختيار. وإن كان الثاني : نقلنا الكلام في

__________________

(١) كان (م).

(٢) يوجب (ط)

٢٣

حدوث تلك الامور ، ولا يتسلسل. بل ينتهي إلى الصفات الأزلية. وحينئذ يعود الإلزام المذكور ، وهو كونه تعالى موجبا بالذات. ثم نقول : لم لا يجوز أن يقال : القادر على الفعل وعلى الترك : يمكنه أن يرجح جانب الفعل ، على جانب الترك. وبالعكس من غير مرجح. ألا ترى : أن الهارب من السبع ، إذا ظهر له طريقان متساويان. فإنه يختار أحدهما على الآخر ، لا لمرجح. والعطشان إذا خير بين قدحين متساويين [فإنه يختار أحدهما على الآخر ، لا لمرجح (١)] والجائع إذا خير بين أكل رغيفين. فإنه يختار أحدهما دون الثاني ، لا لمرجح. فثبت : أن القادر يمكنه ترجيح أحد الطرفين على الآخر لا لمرجح (٢).

سلمنا : أنه لا بد في الفعل من الداعي ، وأن حصول تلك الداعية بخلق الله تعالى. لكن لم قلتم : إن عند حصول تلك الداعية : يجب الفعل؟ ولم لا يجوز أن يقال : إن عند حصول تلك الداعية ، يصير الفعل أولى بالوقوع ، مع أنه لا تنتهي تلك الأولوية إلى حد الوجوب؟

بيانه : وهو القادر لما كانت نسبة قادريته إلى الضدين على السوية ، امتنع صدور أحدهما بدلا عن الثاني. لأن الاستواء يناقض الرجحان. أما إذا دعاه الداعي إلى فعل أحد الضدين ، صار ذلك الضد أولى بالوقوع. لكن بشرط أن لا تنتهي تلك الأولوية إلى حد الوجوب. فلأجل أنه حصل الرجحان ، بسبب حصول تلك الداعية ، لا يلزم رجحان أحد الطرفين المتساويين على الآخر ، لا لمرجح. ولأجل أن تلك الأولوية ، لما انتهت إلى حد الوجوب ، لم يلزم الجبر. وحصل الامتياز بين المؤثر الموجب بالذات ، وبين الفاعل بالاختيار. أما قوله : «إنه حال الاستواء ، لما كان ممتنع الوقوع ، كان حال المرجوحية أولى بالامتناع [وإذا امتنع (٣)] المرجوح ، وجب الراجح. ضرورة : أنه لا خروج عن النقيضين».

__________________

(١) زيادة

(٢) يقول القاضي عبد الجبار بعدم المرجح في حالة الإلجاء يقول : «إذا ألجئ إلى الهرب من السبع ، وهناك طرق ينجو بكلها ، فإنه يقدر على سلوك كل واحد منها ، بدلا من الآخر» [ص ٤٩ المجموع].

(٣) من (ط ، ل)

٢٤

فنقول : هذا مغالطة. وذلك لأن الفعل كان معدوما. وعدمه كان مستمرا من الأزل إلى الأبد. والعدم المستمر لا يحتاج إلى المقتضى. فنقول : عند حصول الداعية المرجحة لجانب الوجود. الأولى دخوله في الوجود. وإن كان لا يمتنع بقاؤه على ذلك العدم الأصلي المستمر. ولا نقول : إن هذه القدرة إنما تترجح بسبب الداعية المرجوحة ، وهي (١) داعية الترك. لأن بقاء المعدوم على عدمه الأصلي ، لا يحتاج إلى مرجح ، بل يكون استمراره على ما كان عليه ، لنفسه. وعلى هذا التقدير ، فقد زال المحال الذي ذكرتموه.

والجواب عن السؤال الأول : إننا نسلم : أنا نجد من أنفسنا : أنا إن شئنا الفعل : فعلنا. وإن شئنا الترك : تركنا. ولكنا لا نجد من أنفسنا : أنا إن شئنا [أن نشأ (٢)] الفعل : حصلت لنا مشيئة الفعل. وإن شئنا أن نشأ الترك : حصلت لنا مشيئة الترك. وإلا لعاد الكلام في تلك المشيئة. ويلزم افتقارها إلى مشيئة ثالثة. ويلزم التسلسل. بل نجد قطعا ويقينا من أنفسنا : أنه قد يحصل في قلبنا مشيئة الفعل ، لا لأجل مشيئة أخرى سابقة عليها [وقد يحصل مرة أخرى مشيئة الترك ، لا لأجل مشيئة أخرى سابقة عليها (٣)] ونجد أيضا : أنه إذا حصلت المشيئة الجازمة للفعل ، في (٤) قلوبنا ، فإنه يحصل الفعل لا محالة. وإذا حصلت المشيئة الجازمة للترك في قلوبنا (٥) حصل الترك. فإذا اعتبرنا هذه الامور ، علمنا : أنه ليس حصول المشيئة فينا : بنا. وليس ترتب الفعل [الحصول (٦)] مشيئة الفعل : بنا بل هذه أمور مترتب بعضها على البعض. والمبدأ (٧) من خلق الله. فيكون الكل من الله. فثبت بما ذكرنا : أن هذا الاعتبار الذي نجده من أنفسنا : من أدل الدلائل على أن الكل من الله ، وأن الانسان مضطر في صورة مختار.

وأما السؤال الثاني : وهو طلب الفرق بين المؤثرات الطبيعية ، وبين

__________________

(١) وهذه (م).

(٥) قلبنا (ط ، ل)

(٢) من (ط)

(٦) من (ط ، ل)

(٣) من (ط ، ل)

(٧) ومبدأ [الأصل]

(٤) حصلت في قلوبنا (م)

٢٥

المؤثرات الاختيارية. فنقول : هذا الفرق حاصل من وجهين :

الأول : إن المؤثرات الطبيعية ، دائمة مستمرة غير مغيرة. فالمؤثر في التسخين يبقى أبدا موصوفا بالوجه الذي لأجله [كان (١)] موجبا للتسخين ، ولا يتغير. وكذا القول فيما يؤثر بالتبريد. بخلاف الأفعال الاختيارية. فإن الموجب للحركة يمنة : هو مجموع القدرة مع حصول الداعي إلى الحركة (٢)] يسرة. وهذه الدواعي سريعة التبدل والتغير. فالقادر إذا حصلت في قلبه داعية الحركة يمنة ، صار ذلك المجموع موجبا للحركة يمنة. ثم إن تلك الداعية تزول سريعا وتتبدل [بحصول (٣)] الداعية إلى الحركة يسرة. فيصير الآن هذا المجموع موجبا للحركة يسرة.

والحاصل أن في الأمور الطبيعية ما لأجله صار الشيء موجبا للتسخين يبقى ولا يتغير. وأما في الأمور الاختيارية فتلك الاختيارات سريعة التبدل والتغير. فهذا [هو (٤)] أحد الفريقين (٥).

والوجه الثاني في الفرق : إن المؤثرات الطبيعية لا شعور لها (٦)] بآثارها ، ولا علم ، ولا إدراك [وأما المؤثرات الاختيارية فهي إنما تؤثر بواسطة العلم والشعور والإدراك (٧)] فإنه ما لم يحصل تصور كون ذلك الفعل مفضيا إلى حصول اللذيذ ، أو النافع لم يفعل. وما لم يحصل تصور كونه مفضيا إلى حصول المؤلم والضار لم يترك. ولهذا السبب : سمي هذا الفعل فعلا اختياريا ، وسمى هذا الفاعل مختارا. لأنه (٨) إنما يفعل إذا تصور خيرا. فلأجل [أن (٩)] هذا الفعل لا يحصل إلا عند تصور الخير ، سمي هذا الفعل اختياريا ، وسمي هذا الفاعل مختارا.

فظهر من هذين الوجهين : حصول الفرق بين المؤثرات الطبيعية ، وبين المؤثرات الاختيارية.

__________________

(١) سقط (م)

(٦) من (ط)

(٢) من (ط ، ل)

(٧) من (ط ، ل)

(٣) من (ط ، ل)

(٨) إلا أنه (ط)

(٤) من (ط ، ل)

(٩) زيادة

(٥) الفريقين (ط)

٢٦

وأما السؤال الثالث : وهو قوله : إن الذي ذكرتم يقتضي كونه تعالى ، موجبا بالذات ، لا فاعلا بالاختيار»

فجوابه : إنا قد دللنا على أن الفعل يتوقف على حصول الداعية والإرادة المرجحة. ثم لما تأملنا أن كل ما للعبد من الدواعي والإرادات فهو محدث. فلا جرم افتقرت دواعي العباد وإرادتهم إلى مرجح آخر. فأما إرادة الله تعالى فإنها قديمة أزلية ، فلا جرم استغنت عن إرادة أخرى. فظهر الفرق بين البابين.

فإن قالوا : هب أنه ظهر الفرق من الوجه الذي ذكرتم. إلا أنا نلزمكم هذا الإلزام من وجه آخر. فنقول : إرادة الله [تعالى (١)] تعلقت بإحداث العالم في الوقت المعين. فهل كان يمكن أن تتعلق بإحداث العالم في وقت آخر ، بدلا عن التعلق الأول ، أو يمكن؟ فإن كان الأول لزم افتقاره إلى مرجح ، وإن كان الثاني [لزم (٢)] أن يكون موجبا [لا (٣)] مختارا والجواب : إن هذا الإشكال الذي أوردتم علينا في الإرادة : وأورد عليكم في العلم. فإن لزم من هذا القدر كونه تعالى موجبا ، فهو أيضا وارد عليكم بسبب العلم.

وأما السؤال الرابع : وهو قوله : «القادر يمكنه أن يرجح أحد مقدوريه على الآخر لا لمرجح» فنقول : هذا محال. ويدل عليه وجوه :

الأول : إن نسبة القادر إلى الضدين. إما أن تكون على السوية ، أولا على السوية. فإن كان على السوية ، امتنع حصول الرجحان. وإلا فحينئذ يكون ذلك الرجحان حاصلا ، لا لمؤثر. لأن الاستواء لا يوجب الرجحان البتة. وحصول الرجحان قول بحدوث الأثر ، لا لمؤثر. وذلك يوجب نفي الصانع وهو محال. وإن كانت نسبة القادر إلى أحد الضدين راجحة ، فهذا اعتراف بإن الرجحان لا لمرجح محال. وهو المطلوب.

الثاني : إنه لو حصل الرجحان لا لمرجح ، لكان حصول [ذلك

__________________

(١) من (م ، ل)

(٢) من (ط ، ل)

(٣) من (ل)

٢٧

الرجحان (١)] على سبيل الاتفاق المحض. وقد دللنا على أن ذلك يوجب الجبر.

الثالث : إنا لما اختبرنا (٢) أنفسنا ، علمنا : أن عند حصول تعارض الدواعي يتعذر الفعل. وذلك يدل على أن عند عدم الدواعي يمتنع صدور الفعل.

وأما السؤال الخامس : وهو الهارب من السبع ، إذا عنّ له طريقان.

فجوابه : من وجهين :

الأول : وهو أن الهارب من السبع ، ما لم يقصد الذهاب في أحد الطريقين ، فإنه لا يترجح ذهابه في أحد الطريقين ، على ذهابه في الآخر. وكذلك العطشان إذا خير بين شرب قدحين فإنه ما لم يقصد أخذ أحد القدحين فإنه لا تمتد يده إلى أحد القدحين دون الثاني [حتى (٣)] إنه لو لم يحصل في قلب الهارب من السبع ، قصد إلى سلوك أحد الطريقين بعينه ، فإنه يبقى هناك ولا يتحرك. وكذلك العطشان إذا لم يخص أحد القدحين بمد اليد وأخذه ، فإنه لا يتحرك ذلك القدح ، ولا يرتفع إلى فمه ، ولا ينصب بنفسه إلى حلقه. فثبت : أن القادر ما لم يخص أحد الطريقين بالقصد إليه ، وما لم يخص أحد القدحين بمد اليد إليه ، فإنه لا يترجح وهو على غيره. وإذا كان الأمر كذلك فحينئذ يصير هذا الكلام حجة لنا في قولنا : «إن القادر لا يصدر عنه الفعل المعين ، إلا إذا دعاه الداعي إليه»

بقي أن يقال : فلم حصل في قلب هذا الهارب : القصد إلى هذا الطريق ، دون ذلك الطريق؟ ولم حصل في قلب هذا العطشان : إرادة أخذ القدح ، دون ذلك القدح ، إلا أن [نقول (٤)] هذا عين الدليل الذي تمسكنا به.

__________________

(١) من (ط ، ل)

(٢) جربنا (ط)

(٣) من (ط ، ل)

(٤) من (ط ، ل)

٢٨

وذلك لأنا بينا : أن صدور الفعل عن القادر يتوقف على حصول الداعية المخصوصة في قلبه. وحصول تلك الداعية بعينها في قلبه ، ليس بداعية أخرى من قبل العبد وإلا لزم التسلسل. بل لا بد وأن يكون من الله ، وحينئذ يلزم أن [يكون (١)] العبد غير مستقل لا بالفعل ولا بالترك. فهذا الذي أوردتموه علينا ليس اعتراضا على كلامنا بل هو تأكيد ، وتقوية ، وتقرير له فظهر أن هذا السؤال الذي ذكروه : سؤال ساقط ، لا يصدر إلا عن قلة الفهم.

والوجه الثاني في الجواب : إنكم إما أن تقولوا : إن القادر على الضدين ، يترجح صدور أحد الضدين عنه من غير مرجح البتة. أو تقولوا : القادر يرجح أحد مقدوريه على الثاني من غير مرجح. والأول باطل. لأنا نجد من أنفسنا بالضرورة : أن الذي يمشي في السوق إلى موضع ، إذا وقع في قلبه : أن الرجوع عن ذلك الجانب إلى جانب آخر : مصلحة من وجه. فإنه متى تعادلت الداعيتان في قلبه ، ولم يترجح أحدهما على الآخر البتة ، فإن ذلك الإنسان يبقى في ذلك الموضع ، ولا يمكنه أن يتقدم أو يتأخر ويبقى (٢) على تلك الحالة إلى أن يقع في قلبه : أن أحد الجانبين أكثر مصلحة. وعند ظهور هذا الرجحان يترجح الإذهاب إلى ذلك الجانب. فثبت : أن القول بأنه يصدر عنه أحد الضدين من غير أن يكون هو مرجحا لذلك [الضد (٣)] كلام تدفعه بديهة العقل. وأيضا : فهل يقبل العقل أن يقال : العطشان إذا خير بين شرب قدحين ، ثم أنه لا يمد يده إلى أحدهما ، ولا يخص أحدهما بالأخذ والرفع. بل لمجرد كونه قادرا يرتفع أحد القدحين إلى فمه ، وينصب ذلك الماء في حلقه؟ فهذا مما يعلم (٤) بطلانه ببديهة العقل.

وأما إن [قيل : إن (٥)] القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر لا

__________________

(١) من (م)

(٢) لم يبق (ط ، ل)

(٣) من (ط ، ل)

(٤) لا يعلم (م)

(٥) من (ط ، ل)

٢٩

لمرجح. فنقول : هذا الكلام في نفسه متناقض. لأن هذا القائل سلم أن ذلك القادر ما لم يرجح أحد ذينك المقدورين على الآخر ، لم يحصل الرجحان وسلم أن ذلك الترجيح أمر زائد على مجرد كونه قادرا. فإذا كان لا يحصل الرجحان إلا عند حصول ذلك الترجيح ، وثبت أن ذلك الترجيح أمر زائد على مجرد كونه قادر ، فهذا اعتراف (١) بأن الرجحان لا يحصل إلا عند المرجح. فقوله : «القادر يرجح» مشعر بحصول المرجح الزائد. وقوله بعد ذلك : «إنه لا لمرجح» مشعر بنفى المرجح الزائد ، فكان قوله : «القادر يرجح أحد مقدوريه على الآخر لا لمرجح» جمع بين النقيضين. وهو كلام باطل.

وأما السؤال الخامس : وهو بقوله : «لا يجوز أن يقال : الفعل عند الداعي يصير أولى بالوقوع ، مع (٢) أنه لا ينتهي إلى الوقوف» فنقول : هذا باطل ويدل عليه وجوه :

الحجة الأولى : ما ذكرنا : أنه حال الاستواء كان [ممنوع (٣)] الوقوع ، فحال المرجوحية أولى بالامتناع ، وإذا كان طرف المرجوح ممتنعا ، كان الراجح واجبا. لأنه لا خروج عن التقصير. قوله : «إن بقاءه على العدم ، لا يكون لأجل حصول الداعي إلى الترك ، بل لأجل أن الأصل في كل أمر بقاؤه على ما كان» قلنا : هذا محال. لأن الممكن هو الذي يكون [دائرا (٤)] بين الوجود وبين العدم. فكما أن وجوده يتعلل بوجود ما يقتضي الوجود ، فعدمه (٥) معلل بعدم ذلك المؤثر. فإما أن يقال إنه يستمر (٦) عدمه لنفسه. فذلك محال. لأنه يقتضي ، إما انقلاب الممكن واجبا ، وإما استغناء الممكن عن المؤثر. وكلاهما [محال (٧)].

الحجة الثانية في بطلان هذه الأولوية : أن نقول : لا شك أن عند حصول القدرة مع الداعية المرجحة ، قد حصل قدر من الرجحان. فنقول : عند

__________________

(١) الاعتراف (م)

(٥) بعدمه (ط)

(٢) من : (م)

(٦) استمر (ط ، ل)

(٣) ممتنع (ل)

(٧) من (ط ، ل)

(٤) من (ل)

٣٠

حصول ذلك القدر من الرجحان. إن امتنع ، العدم ، فقد حصل الوجود. وذلك هو المطلوب. وإن لم يمتنع العدم ، فلنفرض ذلك واقعا. فإن كل ما كان ممكنا ، لم يلزم من فرض وقوعه محال. وعلى هذا التقدير يكون قد حصل عند حصول ذلك القدر من الرجحان : الوجود تارة ، والعدم أخرى ، بامتياز أحد الوقتين عن الآخر. بحصول الأثر في أحدهما ، وعدم حصوله في الثاني ، إن لم يتوقف على انضمام قيد إليه فقد يرجح الممكن المتساوي لا عن مرجح. لأن نسبة ذلك القدر من الرجحان إلى الوقتين ، لما كان على السوية ، ولم يختص أحد الوقتين بمزية ، لأجله صار هو أولى بالوقوع ، فحينئذ يكون تمييز أحد الوقتين عن الثاني تمييزا لأحد طرفي الممكن [المتساوي (١)] عن الآخر ، لا لمرجح. وإما أن يتوقف على انضمام قيد إليه ، فحينئذ يكون المرجح هو المجموع الحاصل من الأمر الذي كان حاصلا ، مع انضمام هذا القيد إليه. فيلزم أن يقال : إن مجرد الأمر الذي كان حاصلا [قبل (٢)] ذلك ، ما كان تمام المرجح. مع أنا فرضناه تمام المرجح. هذا خلف. وأيضا : يتحقق بقيد التقسيم عند حصول ذلك المجموع. فنقول : إن كان الفعل [واجبا (٣)] فهو المقصود. وإن لم يكن واجبا ، عاد التقسيم فيه. ولزم التسلسل. وهو محال.

الحجة الثالثة : إن عند حصول الداعية المرجحة للوجود. إن امتنع العدم ، فقد حصل الوجوب وهو المقصود. وإن لم يمتنع العدم ، فليفرض العدم حاصلا مع حصول ذلك القدر من رجحان الوجود. لأن كل ما كان ممكنا ، لم يكن من فرض وقوعه محال. لكن هذا الفرض محال ، لأن حال حصول رجحان الوجود. لو حصل العدم يحصل في تلك الحالة رجحان العدم لأن عند حصول العدم ، يكون العدم راجحا ، لا محالة. وهذا يوجب أن يقال : إن عند حصول رجحان الوجود ، حصل رجحان العدم. وذلك يقتضي كون وجوده راجحا على عدمه ، وعدمه راجحا على عدمه ، وعدمه راجحا على وجوده ، باعتبار واحد ، في حال واحد وإنه محال.

__________________

(١) من (ط ، ل)

(٢) من (ط ، ل)

(٣) من (م ، ل)

٣١

الحجة الرابعة : إنه إذا حصل ترجيح الوجود ، ثم فرضنا أن بقاء هذا الترجيح حصل العدم فحينئذ يكون ذلك العدم حاصلا ، لا بترجيحه ولا بإبقائه ، فإن كان ذلك الترجيح لمرجح آخر ، فيكون هذا اعترافا بأن ترجيح العبد لا أثر له في اقتضاء الرجحان ، وإنما المؤثر في الرجحان ترجيح غيره. فإن قلنا : بأن ذلك الترجيح وقع لا لمرجح أصلا ، كان هذا قولا بأن ذلك العدم إنما ترجح لمحض الاتفاق من غير مرجح أصلا. إلا أن القول بالاتفاق يوجب القول بالجبر على ما بيناه غير مرة ـ ويوجب نفي الصانع ، ونفي جميع الآثار والمؤثرات.

لا يقال : لم لا يجوز أن يقال : إن العبد إذا رجح جانب الوجود فهذا الترجيح إن بقي بحيث لا يعارض ترجيح مرجح آخر ، وقع الفعل. وإن عارضه ترجيح مرجح آخر ، فحينئذ خرج عن مضاد (١) العقل؟ لأنا نقول : إذا بقي ذلك الترجيح ، خاليا عن العوارض. فإن وجب ترتب الأثر عليه ، فذاك هو المقصود. وإن لم يجب ترتب الأثر عليه ، فحينئذ أمكن أن يبقى ذلك القدر من الترجيح ، مع انه لا يقع الوجود بل يقع العدم.

فحينئذ يلزم أن يكون ترتب الوجود عليه تارة ، وترتب العدم عليه أخرى ، لمحض الاتفاق. وذلك يوجب نفي التأثير والمؤثر. ويوجب القول أيضا بالجبر.

الحجة الخامسة : الترك ترك. وهذا يفيد أن العلم الضروري حاصل ، بأن القادر إذا شاء الفعل ، ولم يكن هناك مانع ، فإنه لا بدّ وأن يفعل. وإذا شاء الترك ولم يكن هناك مانع ، فإنه لا بد وأن يترك. ولا نرى في الدنيا عاقلا يقول : إني إن شئت أن أفعل لم أفعل. وإن شئت أن لا أفعل فعلت. فثبت : أن هذا دليل قاطع على أن جميع العقلاء يعلمون بالضرورة: أن القادر متى أراد الفعل ، ولا مانع له عنه ، فإنه يفعله لا محالة. وإذا أراد الترك ، ولا مانع له عن الترك ، فإنه يترك. وثبت : أن القول بحصول الفعل عند إرادة الترك ،

__________________

(١) من امضاءات (م).

٣٢

وبحصول الترك عند إرادة الفعل إذا كان لا مانع له عن المراد. أمر لا يجوزه عاقل أصلا.

فثبت بهذه الوجوه : أنه متى حصل الرجحان ، لزم القول بالوجوب. وذلك يبطل ما ذكروه من الاحتمال.

وبالله التوفيق

البرهان الثاني على ما ذكرناه

أن نقول :

لا شك أن كل موجود. فهو إما أن يكون واجب الوجود لذاته ، أو لا يكون. والقسم الأول هو الله ـ سبحانه ـ والقسم الثاني هو كل ما سواه. وهذا القسم تكون حقيقته [قابلة للعدم ، وقابلة للوجود. أما كونها قابلة للعدم ، فلأن حقيقته (١)] إن لم تكن قابلة للعدم ، كان [واجب (٢)] الوجود لذاته. وكنا قد فرضنا : أنه ليس كذلك. هذا خلف.

وأما كونها قابلة للوجود. فلأنا فرضناها موجودة.

ولو لم تكن تلك الحقائق قابلة للوجود ، لما كانت موجودة. فثبت : أن كل ما سوى الله سبحانه ، فإن حقيقته قابلة للعدم ، وقابلة للوجود. وكل ما كان كذلك ، فهو مفتقر إلى المؤثر. فكل ممكن ، فهو مفتقر إلى المؤثر. والشيء الذي يفتقر إليه كل الممكنات لا يكون ممكنا. وإلا لكان ذلك الممكن مفتقرا إلى [نفسه (٣)] فثبت : أن جميع الممكنات مستندة في سلسلة الحاجة والافتقار إلى واجب الوجود.

[ولا شك أن أفعال العباد ، قسم من أقسام الممكنات ، فوجب القطع

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) من (ط).

(٣) من (ط ، ل).

٣٣

بانتهائها في سلسلة الحاجة إلى واجب الوجود (١)] لذاته. وهو المطلوب.

فإن قيل : عندنا : أن فعل العبد. واقع بالقدرة القائمة بالعبد ، وبالداعية القائمة به. وتلك القدرة وتلك الداعية ، إنما حدثت بإيجاد واجب الوجود. فكان فعل العبد مستندا إلى واجب الوجود بهذا الطريق. إلا أن إسناده إلى واجب الوجود ، بهذا الطريق ، لا يمنع من وقوعه بقدرة العبد. فثبت : أن الدليل الذي ذكرتم لا يفيد مقصودكم من هذه المسألة.

الجواب : نحن ندعي أن [عند (٢)] فقدان القدرة والداعي ، يمتنع حصول الفعل. وعند حصولهما يجب الفعل. ومتى كان الأمر كذلك ، لم يكن العبد مستقلا بالفعل. أما (٣) أنه لا بد من القدرة ، فلأن العاجز عن الفعل ، لا يفعل. وأما أنه لا بد من الداعية ، فلما بينا في البرهان الأول : أن القادر إذا خلا عن الداعية ، امتنع صدور الفعل [عنه (٤)] وأما عند مجموع القدرة والداعي ، يجب الفعل. فلأن عند حصول هذا المجموع ، يحصل رجحان جانب الفعل. ومتى حصل الرجحان ، فقد حصل الوجوب. للدلائل الجمة التي قررناها في البرهان الأول.

فثبت : أن عند فقدان مجموع القدرة مع الداعي ، يمتنع الفعل. وثبت : أن عند حصولهما يجب الفعل. فإذا فعل الله ذلك المجموع ، وجب الفعل وإذا لم يفعل ذلك المجموع ، امتنع الفعل. فحينئذ لا يكون العبد مستقلا بالتكوين والإيجاد.

وبالله التوفيق

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) سقط (ط).

(٣) إلا (م).

(٤) من (ط ، ل).

٣٤

البرهان الثالث

على أن أفعال العباد بتقدير الله تعالى

اعلم أنا قبل الخوض في تقرير هذا البرهان ، نفتقر إلى تقديم مقدمات :

فالمقدمة الأولى : إنا نرى الناس مختلفين في العقائد. والاختلاف لا بدّ في البحث عن أسبابه.

فنقول : أسباب هذا الاختلاف : قد تكون من داخل ذات الإنسان ، وقد تكون من خارج ذاته.

والقسم الأول على ثلاثة أقسام :

أحدها : اختلاف ماهيات النفوس الناطقة ، وبيان حقائقها. فإن منها ما تكون زكية بالذات والجوهر. ومنها ما تكون بليدة. ومنها ما تكون رحيمة بالذات والجوهر. ومنها ما تكون قاسية. ومنها ما تكون [ميالة بالطبع إلى تحصيل اللذات الجسمانية ، نافرة (١) عن طلب السعادة الروحانية. ومنها ما تكون (٢) بالعكس من ذلك. حتى أنه لو عرض الدنيا بحذافيرها [عليه (٣)] لم يكن فرحه بها ، مثل فرحه باكتساب شيء من العلوم اليقينية ، والأخلاق الفاضلة. ومما يدل على ذلك : أنك قد ترى إنسانا يشق الشعرة (٤) في التدقيق والتحقيق في مصالح الدنيا ، مع أنه يكون في غاية البلادة والبلاهة [في العلوم (٥)] وقد يكون بالعكس من ذلك. وقد ترى إنسانين أحدهما في غاية الذكاء في هذا العلم ، والبلادة في علم آخر. والإنسان الآخر بالضد منه. حتى أنه قد يكون في غاية الذكاء والمنطق ، ويكون ناقص القوة في الرياضيات.

__________________

(١) نفورا.

(٢) من (ط ، ل).

(٣) من (ط ، ل).

(٤) الشعر (ط).

(٥) من (م ل).

٣٥

وبالعكس. بل قد يكون قويا في الهندسة ، ضعيفا في الحساب ، مع قرب أحد العلمين من الآخر.

وإذا وقفت على ما ذكرناه ، أمكنك استقراء أحوال الخلق ، وتفاوت طبائعهم ، في كون كل واحد منهم مستعدا لصناعة ، وبعيدا عن صناعة أخرى. والاستقراء يدل أيضا : على أن ذلك التفاوت ذاتي غريزي جوهري ، لا يمكن زواله البتة. وإلى هذا المعنى أشار صلوات الله [وسلامه (١)] عليه بقوله : «الناس معادن. كمعادن الذهب والفضة» وقال أيضا : «الأرواح جنود مجندة».

[والخطباء (٢)] والشعراء يذمون ويمدحون بهذه المعاني فيقولون : فلان [له (٣)] نفس كريمة سخية. وفلان له نفس لئيمة نذلة ضعيفة. بل لو اعتبرنا وتأملنا ، لعلمنا أن تفاوت الخلق في هذه المعاني ، قد يكون الأكثر (٤) جبليا غريزيا. حتى أن النفس النذلة ، لو اجتمع العالمون في إزالة تلك النذالة عنها ، فإنها لا تزول. و[لا (٥) أعني بهذا : أفعال النذالة والخزية. فإن تلك الأفعال قد تتبدل بالتكلف. وإنما أعني به : الأخلاق النفسانية ، والملكات الغريزية.

والسبب الثاني من الاسباب الداخلية : اختلاف أحوال الأمزجة. فإن من كان حار المزاج. وخصوصا مزاج الدماغ. فإنه يكون شديد الغضب ، مشوش الفكر. ومن كان بارد الدماغ ، كان بليدا ، ناقص الفكر. ومن كان يابس الدماغ ، فإنه تضعف عليه الأفكار لأن دماغه بسبب ما فيه من اليبس ، لا يقبل الصور النفسانية ، قبولا سهلا. ومن كان رطب الدماغ ، فإنه لا يكمل فكره. لأن الصور الدماغية ، تصير منحجبة عن الدماغ ، زائلة عنه ، بسبب ما فيه من الرطوبة.

والسبب الثالث من [الأسباب (٦)] الداخلية : اختلاف أشكال

__________________

(١) من (ل) س

(٤) الأكبر (ط).

(٢) من (م ، ل).

(٥) من (ط ، ل).

(٣) من (م ، ل).

(٦) من (ط ، ل).

٣٦

الأعضاء. فإن كبر مقدم الرأس ، يفيد قوة التخيل. وكبر مؤخر الرأس ، يفيد قوة الحفظ. وجودة شكل الرأس ، يفيد جودة الفكر ، وانتظام الأحوال السياسية. وهذه أمور ، من اعتبرها وتتبع أحوالها ، عرف أن الأمر كما ذكرناه. وكتب الأخلاق والفراسة والطب ، ناطقة بصحة ما ذكرناه. دالة على تفاصيل أحوالها ، وتعيين أسبابها. فثبت [أن (١)] اختلاف مراتب هذه الامور الثلاثة ، يوجب اختلاف [أحوال (٢)] القوى المدركة ، واختلاف أحوال القوى المحركة. أعني اختلاف الأحوال في السخاوة والبخل ، والفظاظة والرقة ، والبلادة والذكاء. وأشباهها.

وأما الأسباب الخارجية من ذات الإنسان. فهي أيضا أمور ثلاثة : [أولها (٣)] الألف والعادة وذلك لأن النفس الناطقة خلقت في مبدأ الفطرة ، خالية من (٤)] العقائد والأخلاق. واستماع الكلام ممن يعظم الاعتقاد في صدقه : يوجب أن يجعل الاعتقاد في حسن ذلك الشيء. ويكون الموجب : موجبا [أن يجعل الاعتقاد (٥)] متأكد الأثر.

إذا عرفت هذا ، فنقول : الإنسان إذا سمع في أول عمره ، ومبدأ صباه : أن المذهب الفلاني : مذهب حق حسن صواب مرغوب فيه. وأن ضده باطل [غير مرغوب (٦)] فيه. فقد ثبت وجوب تلك التصورات في نفسه ، خالية عن التصورات المضادة لتلك التصورات التي ذكرناها. لأن نفوس الصبيان خالية عن جميع التصورات. وذلك الاستماع يوجب حصول ذلك الاعتقاد الفاعل. وإذا لقى العامل الخالي عن العائق ، حصل الأثر لا محالة.

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) الأمور الثلاثة هي : الإلف ـ والعادة ـ واستماع الكلام ممن يعظم الاعتقاد في في صدقه.

(٤) سقط (ط)

(٥) يوجب (م).

(٦) من (ل).

٣٧

فإذا تكرر ذلك التحسين طول عمره ، فقد تكرر ذلك الموجب. [وتكرره (١)] يوجب أن يبلغ ذلك الاعتقاد في القوة ، إلى أقصى الغايات ، وأبلغ النهايات. فثبت : أن الإلف والعادة يوجبان تأكد العقائد والأخلاق.

السبب الثاني من الأسباب الخارجية : أن يكون تقرير ذلك المذهب مما يفيده رئاسة في الدنيا ، وتفوقا على الأقران. فهذا أيضا مما يوجب ميل قلبه إلى تلك العقائد والأخلاق. وذلك لأن النفوس مجبولة على حب الجاه والمال ، واللذة والسرور ، وعلى حب كل ما يكون وسيلة إلى حصول هذه الامور. فإذا كان تقرير مذهب من المذاهب يفيده ذلك [المطلوب (٢)] مال [قلبه (٣)] إلى تقرير ذلك المذهب. وقد عرفت : أن التكرير سبب للتأكيد. فثبت : أن هذا الذي ذكرناه من جملة الأسباب التي توجب تأكد الاعتقاد في المذهب المخصوص ، والفعل المخصوص.

السبب الثالث من الأسباب الخارجية : أن الإنسان إذا مارس صناعة النظر والاستدلال. فكل من كانت ممارسته لهذه الصناعة أكثر ، كان وقوفه على الحق أسهل. ثم [إن (٤)] التفاوت يقع في هذا الباب بحسب الكم. فإن بعضهم يكون أكثر استحضارا للمقدمات. وأما بحسب الكيف (٥) فأن يكون انفعال بعضهم من المقدمات الحاضرة ، إلى النتائج المستحضرة : أسهل. ولما كان التفاوت في هذين البابين ، مما يختلف بالأشد والأضعف ، والأقل والأكثر ، اختلافا غير مضبوط. لا جرم كان اختلاف الناس في الاستعداد لقبول المعارف اليقينية ، والأخلاق الفاضلة ، اختلافا غير مضبوط. واعلم : أن هذا السبب يوجب اختلاف الناس في العقائد من وجه آخر. وذلك لأن صاحب النظر والاستدلال ، قد ينتج فكره (٦) أن القول الفلاني حق صحيح. ولأجل أن ذلك

__________________

(١) زيادة. ويوجب : سقط (ط).

(٢) من (م ، ل).

(٣) من (ل).

(٤) من (ط ، ل).

(٥) الكلم (ط ، ل).

(٦) ذكره (م ، ط).

٣٨

كان [من (١)] مستنبطات خاطره ، ومن نتائج فكره (٢) عظم حبه لذلك. وقد يبلغ ذلك الحب إلى حيث يمنعه عن التأمل في صحته وفساده. وقد تبلغ قوة تلك المحبة إلى أنه لو سمع حجة دالة على فساد تلك الحالة ، فإنه لا يفهمها ، ولا يقف على كيفيتها. كما قيل : «حبك الشيء يعمي ويصم» ولما كان تفاوت الناس في مراتب هذه المحبة ، غير مضبوطة. لا جرم كان تفاوت الناس في العقائد والأخلاق ، بناء على هذا السبب : تفاوتا غير مضبوط.

فثبت بما ذكرنا : أن كل واحد من هذه الأسباب الستة : جنس تحته أنواع غير محصورة. وإن اختلافها يوجب اختلاف الناس في العقائد ، وفي الأفعال.

والمقدمة (٣) الثانية في بيان كيفية صدور الأفعال عن الحيوانات : اعلم أن كل حيوان يفعل فعلا. فهو إنما يفعل ذلك الفعل. إذا اعتقد أن فعله خير له من تركه. فإن لم يحصل هذا الاعتقاد ، امتنع إقدامه عليه. ولأجل هذا المعنى فإنه يسمى هذا المؤثر فاعلا. لأن المختار هو الذي يكون طالبا. ولا يكون خيرا إلا (٤) بحسب اعتقاده وتخيله.

والمقدمة الثالثة : إن المطلوب بالذات لكل حيوان ، هو اللذة والسرور. والمهروب عنه بالذات هو الألم والغم. وكل ما سوى هذين القسمين ، فهو مطلوب بالغرض ، لا بالذات فالفعل الصادر عن الإنسان. إن كان هو تحصيل اللذة ، أو إزالة الألم. فهذا الشيء مطلوب. فتكون غايته وغرضه هو عين ذاته. وإن كان الفعل الصادر عن الإنسان يكون وسيلة إلى أحد هذين الأمرين ، كان مطلوبا بالغرض والتبع. وكان غرضه وغايته ، أمرا مغايرا له. فثبت بهذا : أنه لا يجوز أن يقال في كل فعل : إنه إنما فعله بشيء آخر. وإلا لزم إما التسلسل ، وإما الدور.

__________________

(١) زيادة.

(٢) ذكره (م).

(٣) أما المقدمة (ط).

(٤) لا يكون بخير بحسب [الأصل].

٣٩

والمقدمة الرابعة : وهي أن البنية السليمة ، والمزاج الصحيح ، هو الذي ، لو انضمت إليه داعية الفعل ، ولم يكن هناك مانع ، فإنه يحصل ذلك الفعل. ولو انضمت إليه داعية الترك ، ولم يكن هناك مانع ، فإنه يحصل الترك ، فتكون الأعضاء سليمة.

وهذا (١) التفسير هو المراد من كون الحي قادرا على الفعل.

وإذا عرفت هذه المقدمات. فنقول : إنا إذا تصورنا أمرا. فإن كان ذلك التصور نفعا ، ترتب على ذلك التصور طلب تحصيله. وإن كان ضررا ، ترتب عليه هرب ونفرة. ثم إذا صار ذلك الشيء مطلوب الحصول ، ترتب [عليه (٢)] طلب جازم بإن المفضي إليه لا بد من تحصيله وهذا هو الإجماع [الجازم (٣)] والشوق [التام إلى تحصيل الفعل. ثم إذا حصل هذا الإجماع والشوق (٤)] تحركت الأعضاء.

فههنا مراتب أربعة أقربها إلى الفعل : هو القوة المحركة للأعضاء. وهي التي سميناها بسلامة المزاج ، واعتدال البنية. ويتقدمها : الإجماع الجازم على الفعل. ويتقدمه : الميل اللذيذ أو على الترتيب الذي ذكرناه ، حتى يصدر الفعل عن الحيوان.

أما المرتبة الأولى : وهي القدرة وسلامة الأعضاء. فلا بد منها في حصول الفعل الاختياري. فإن الحس يشهد بإن المريض ، والزمن العاجز ، لا يمكنه لا الفعل ولا الترك الاختياري.

وأما المرتبة الثانية : وهي الإجماع الجازم على حصول الفعل. فهذا أيضا لا بد منه بدليل : أن البنية السليمة ، والمزاج المعتدل ، إذا لم يمل طبعه ، لا إلى

__________________

(١) بهذا (ط).

(٢) من (ل).

(٣) من (ط ، ل).

(٤) من (ط ، ل).

٤٠