المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

الحركة إلى هذا الجانب ، ولا إلى الحركة إلى جانب آخر ، فإنه البتة لا يصدر عنه. لا الحركة إلى هذا الجانب ، ولا الحركة [إلى (١)] جانب آخر. بل يبقى متوقفا إلى أن يظهر في قلبه ميل خالي عن المعارض.

فإن قالوا : المريض قد يميل طبعه إلى أكل طعام مخصوص ، ومع ذلك يتركه. فعلمنا : أن حصول الفعل عقيب هذا العزم غير واجب. فنقول : هذا سوء فهم قررناه. وذلك لأن المريض إذا دعته شهوته إلى أكل الطعام. فهو إنما يمتنع من أكله ، إذا اعتقد أن له في أكله ضررا ، يزيد على اللذة الحاصلة من أكله. فلولا أن تلك الداعية ، صارت متعارضة بهذه الداعية الثانية ، وإلا لحصل ذلك الفعل لا محالة. إلا أنه لما حصل هذا التعارض. فعند ذلك لا تبقى الداعية الأولى جازمة خالية عن الفتور. فلا جرم لم يترتب عليه الفعل والأثر.

وأما المرتبة الثالثة : وهي أنه لا بد من حصول الميل إلى ما يعتقد فيه كونه نفعا ، وحصول النفرة عما يعتقد فيه كونه ضررا. فهذا أمر معلوم بالضرورة. فإنا نعلم بالضرورة : أن اللذة والسرور مطلوبان بالذات ، والألم والغم مهروب عنهما بالذات.

وأما المرتبة الرابعة : وهي التصور. وهذا أيضا أمر لا بد منه. فإذا إذا لم يصر ذلك الشيء متصورا ، امتنع العلم بكونه [نافعا ، وكونه (٢)] ضارا. وما لم يحصل هذا الإدراك ، لم يحصل الطلب والهرب. فثبت : أن هذه المقدمات [لازمة (٣)].

فلنرجع إلى تقرير البرهان على أن أفعال العباد واقعة على سبيل الاضطرار.

فنقول : قد بينا أنه إذا حصل التصور ، فإن كان التصور نافعا ، مال الطبع إليه. شاء الإنسان أم أبى. إلا أن يحصل هناك معارض. وهو أن

__________________

(١) سقط (ل).

(٢) سقط (ط).

(٣) سقط (ط).

٤١

يتصور تصورا آخر يوجب ضد مقتضى التصور الأول. إلا أن على هذا التقدير لا يبقى التصور الأول [تصورا (١)] لكون ذلك الشيء نافعا. وأما إن كان ذلك التصور ضارا ، حصلت النفرة. شاء الإنسان ، أو أبى. إلا إذا حصل التعارض المذكور. وحينئذ لا يبقى اعتقاد كونه ضارا. وإن لم يحصل ، لا اعتقاد كونه نافعا ، ولا اعتقاد كونه ضارا. فحينئذ لا يحصل الطلب ولا الهرب.

ثم بينا : أنه إذا حصل الطلب الجازم ، والميل التام ، ترتب عليه إجماع جازم. على أن لا بد من إيجاده. وإذا حصلت النفرة التامة ، ترتب عليه إجماع جازم. على أنه لا بد من تركه. وإذا حصل هذا الإجماع التام الجازم ، حصل الفعل لا محالة. فثبت : أن ترتب كل واحد من هذه المراتب على ما قبله : ترتب ضروري.

وليس لأحد أن يقول : الواقع بقدرة العبد هو تحصيل التصور ، الذي هو المبدأ الأول. لأنا نقول : هذا باطل من وجهين :

الأول : إنا سنقيم الدلالة على أنه لا يمكن أن يقع شيء من المعلوم والتصورات بقدرة العبد.

[الثاني (٢) :] إن ذلك التصور (٣) الذي حصل بفعل العبد ، حصل في تكوينه تلك المراتب الأربعة [المذكورة (٤)] فانتهت إلى تصور آخر. فإن كان ذلك أيضا بفعله ، لزم إما التسلسل وإما الدور. وهما باطلان. ولما بطل ذلك ، ثبت انتهاء هذه التصورات إلى تصور (٥) أول ، هو المبدأ للأفعال الاختيارية ، لذلك الحيوان. وثبت : أن حصول ذلك التصور ليس باختيار العبد ، بل هو حاصل في قلبه ، على سبيل الاضطرار. ثم إذا حصل ذلك

__________________

(١) سقط (ط).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) التصورات حصل ... الخ (ط).

(٤) من (ط ، ل).

(٥) إلى من تصور (ط).

٤٢

التصور ، ترتبت تلك المراتب بعضها على بعض ، بالغة ما بلغت ، ترتبا واجبا لازما اضطراريا. وعند هذا يظهر أن الإنسان مضطر في اختياره ، وأن جميع أفعال العباد : إما أفعال الله تعالى ، أو موجبات أفعال الله تعالى. وعلى التقديرين (١) فالمطلوب حاصل.

واعلم : أن كل من رجع نفسه ، واعتبر أحوال أفعاله وأعماله : علم ـ قطعا ويقينا ـ : أن الأمر كما ذكرناه. وذلك لأنه إنما تحرك إلى جهة كذا ، لأنه أراد تلك الحركة وإنما أراد الحركة إلى تلك الجهة لأنه اعتقد أن له في تلك الحركة منفعة. وإنما حصل ذلك الاعتقاد ، لأنه رأى شيئا ، فصارت تلك الرؤية سببا لتذكره : أن له في ذلك الفعل منفعة. وهلم جرا إلى جميع المراتب.

وبالجملة : فأفعال الجوارح مترتبة على أفعال القلوب [وأفعال القلوب (٢)] يستند بعضها إلى بعض. والأخير (٣) يستند إلى أمور خارجية اتفاقية. مثل : إن وقع بصره على شيء ، فتذكر شيئا. أو سمع صوتا فتذكر شيئا مع العلم الضروري بأن تلك الاتفاقات الخارجية : خارجة عن وسعه وطاقته. ثم إنا قد ذكرنا تلك الأشياء الستة التي بسببها تختلف أحوال الإنسان في عقائده وفي أخلاقه. فإذا انضمت تلك الأسباب الخارجية الاتفاقية ، إلى هذه الأسباب الستة التي ذكرناها ، ظهر حينئذ أن القول بالجبر لازم. ومثاله : إذا اتفق أن نفس الإنسان وقعت في أصل خلقتها : نفسا شديدة الاستعداد للغضب. ثم اتفق ان كان مزاج بدنه : شديد الاستعداد للصفراء ثم اتفق أن كانت أعضاؤه : مواتية للقهر والاستعلاء. ثم اتفق أن كان قد نشأ فيما بين أقوام يستحسنون إمضاء الغضب ، ويستحقون ترك تلك الأعمال. ثم اتفق أن صار بقاء دولته ورئاسته : معلقا بإمضاء أعمال الغضب.

__________________

(١) التقدير (م).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) وبالآخر (م ، ط ، ل).

٤٣

ثم [إن (١)] اتفق أن رأى شيئا ، لا يلائم طبعه. ثم اتفق أن حضر عنده أقوام يعينونه على إمضاء الغضب. ثم اتفق أن حضر عنده أقوام ، لو ترك إمضاء ذلك الغضب ، لكانوا يذمونه ويلومونه عليه. فعند اجتماع هذه الأمور بأسرها ، صار ذلك الإنسان بحيث لا يمكنه ترك تلك الأفعال الغضبية ، وأما إن اتفقت أسباب مضادة للأسباب التي ذكرناها ، فإنه يكون بحيث لا يمكنه الإتيان بالأفعال الغضبية (٢) وإن اختلط البعض بالبعض ، وتعارضت وتقاومت فالعبرة بالطرف الراجح فثبت بما ذكرنا : أن الجبر لازم على جميع التقديرات.

فإن قالوا : الإنسان مع حصول جميع الأمور التي ذكرتم ، يمكنه ترك الأفعال الغضبية فعلمنا : أن صدور تلك [الأفعال (٣)] عنه على سبيل الاختيار ، لا على سبيل الاضطرار.

فنقول : هذا هو الغلط الأخير. وعند ظهور الجواب عنه ، لا يبقى البتة فيما ذكرناه إشكال. فنقول : ما الذي تعنى بقولك : «إن الإنسان مع هذه الأمور ، يمكنه ترك الأفعال الغضبية؟» إن عنيت به أنه يمكن أن يعرض له في مقابلة تلك الخواطر : خاطر آخر. وهو أن الأولى ترك هذه الأفعال الغضبية. فنحن نسلم : أن (٤) عند ظهور هذا الخاطر ، قد يترك تلك الأفعال الغضبية. إلا أن على هذا التقدير ، صارت تلك الدواعي التي ذكرناها ، معارضة بهذه الداعية. فصارت لتلك الدواعي التي ذكرناها ، عند حصول هذا المعارض : فائدة غير جازمة. ونحن بينا : أن الفعل إنما يجب عند حصول الداعية الجازمة. فأما عند فتور الداعية ، فالفعل ممتنع. فثبت : أن ما ذكرتموه يقوي كلامنا ، ولا يوجب ضعفه. وإن أردتم أن تلك الدواعي حال بقائها على قوتها وسلامتها عن المعارض ، يمكن أن لا توجد الفعل. فهذا ممنوع. وكيف يمكن

__________________

(١) من (م).

(٢) الغيبة (م).

(٣) من (ط ، ل).

(٤) ذلك (ط).

٤٤

أن يقال : الإنسان حال اجتماع تلك الأسباب الموجبة للأفعال الغضبية ، وبراءتها عن الدواعي المعارضة لها ، فإنه يمكن أن لا يأتي بتلك الأفعال؟.

فالحاصل : أنكم إن أردتم أن سلامة أعضائه (١) حال انضمام دواعي الترك إليها ، بدلا عن دواعي الفعل. لأمكنه ذلك. فهذا مسلم. ولا يقدح في قولنا. وإن أردتم بأن سلامة أعضائه حال انضمام دواعي الفعل إليها ، وكانت تلك الدواعي خالية عن المعارض ، فإن مع التقدير يمكنه الترك. فهذا ممنوع. والعلم بامتناعه ضروري. ولما عرفت الكلام في هذا المثال ، أمكنك اعتبار أحوال جميع الأحوال والأفعال. ولا فائدة في التطويل.

ولنختم هذا البرهان القاطع ، بفصل منقول عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ يقوي ما ذكرناه.

روي أنه رضي الله عنه خطب (٢) فقال : وأعجب ما في الإنسان قلبه «فإن سنح له الرجاء ، أذله الطمع. وإن هاج به الطمع ، أهلكه الحرص. وإن ملكه اليأس ، قتله الأسف ... وإن عرض له الغضب ، اشتد به الغيظ. وإن أسعده الرضى [نسى (٣)] التحفظ. وإن ناله الخوف ، شغله الحذر ... وإن أصابته مصيبة قصمه الجزع ... وإن وجد مالا ، أطغاه الغنى. وإن عضته الفاقة ، شغله البلاء. وإن جهده الجوع ، قعد به الضعف ... فكل

__________________

(١) الأصل : أعضائه محال لو انضمت إليها دواعي الترك بدلا ... الخ.

(٢) نص الخطبة من كتاب «نهج البلاغة» طبعة دار التعارف ببيروت سنة ١٤٠٢ ه‍ صفحة ٦٨١ : لقد علق بنياط هذا الإنسان بضعة ، هي أعجب ما فيه. وذلك القلب. وله مواد من الحكمة وأضداد من خلافها. فإن سنح له الرجاء أذله الطمع وإن هاج به الطمع ، أهلكه الحرص. وإن ملكه اليأس ، قتله الأسف. وإن أعرض له الغضب ، أشتد به الغيظ. وإن أسعده الرضى ، نسى التحفظ. وإن ناله الخوف ، شغله الحذر. وإن اتسع له الأمن ، استلبته الغرة. وإن أفاد مالا ، أطغاه الغنى. وإن أصابته مصيبة ، فضحه رجوع. وإن عضته الفاقة شغله البلاء. وإن جهده الجوع ، فعد به الضعف. وإن أفرط به الشبع ، كظته البطنة. فكل تقصير به : مضر ، وكل إفراط له : «مفسد» اه.

(٣) سقط (م).

٤٥

تقصير به مضرّ ، وكل إفراط له مفسد».

قال المصنف : هذا الفصل تصريح منه ـ عليه الرحمة ـ بأن أفعال الجوارح مترتبة على أفعال القلوب [وأن أفعال القلوب (١)] مترتب بعضها على بعض ، ترتبا ضروريا. لا مجال للعبد في قطع بعضها عن بعض. وذلك يحقق ما قلنا.

وجاء في كتاب «الزبور» لداود عليه‌السلام. ما يقرب معناه من هذا وهو : إن الذي خلق أمزجة العباد ، علم أحوال قلوبهم [ومن علم أحوال قلوبهم (٢)] علم أفعالهم. ومن علم أفعالهم ، علم أحوال معادهم. وكل ذلك إشارة إلى ما ذكرناه ، من كون كل ما تأخر ، كالمعلول لما تقدم ، وإن تأدى ذلك المتقدم ، إلى ذلك المتأخر تأديا اضطراريا. ومتى كان الأمر كذلك ، كان من علم المتقدم ، فلا بد وأن يعلم المتأخر ، استدلالا بالعلة على المعلول.

وبالله التوفيق

البرهان الرابع

على أن العبد لا يمكنه أن يأتي إلا بما قدره الله تعالى.

وأن الذي ما قدره الله تعالى له ، فانه يمتنع صدوره عنه.

إن المعتزلة وافقونا على أنه تعالى : عالم بجميع الجزئيات التي ستقع وستوجد.

إذا عرفت هذا ، فنقول : تقريره من وجوه :

الأول : إنه تعالى لما علم [من الكافر (٣)] أنه لا يؤمن ، كان صدور

__________________

(١) من (م ، ل).

(٢) من (ط).

(٣) زيادة.

٤٦

الإيمان منه يستلزم انقلاب علم الله جهلا. وهذا محال. ومستلزم المحال محال. فيلزم : أن يكون صدور الإيمان عنه محالا.

الثاني : إن وجود الإيمان ، يستحيل أن يحصل مع العلم بعدم الإيمان. لأنه إنما يكون علما ، لو كان مطابقا للمعلوم. والعلم بعدم الإيمان ، إنما يكون مطابقا لو حصل عدم الإيمان. فلو وجد الإيمان مع العلم بعدم الإيمان ، يلزم أن يجتمع في الإيمان كونه موجودا ومعدوما معا. وهو محال. أنه تعالى لما علم منه عدم الإيمان [كان وجود الإيمان (١)] منه محالا. ولو علم منه وجود الإيمان ، كان عدم الإيمان منه محالا.

والثالث : إنه تعالى أخبر عن أقوام معينين : أنهم لا يؤمنون كقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا. سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ ، أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ. لا يُؤْمِنُونَ) (٢) وقوله : (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ. فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٣) فهؤلاء الذين أخبر الله عنهم ، أنهم لا يؤمنون. لو آمنوا ، لانقلب خبر الله ، الصدق : كذبا ، وهذا محال [والمؤدي الى المحال محال. فوجب أن يكون صدور الإيمان منهم محالا (٤)].

__________________

(١) من (م ، ل).

(٢) سورة البقرة ، آية : ٦. وفي مجمع البيان في تفسير القرآن : «إن قال قائل : إذا علم الله تعالى بأنهم لا يؤمنون ، وكانوا قادرين على الايمان ـ عندكم ـ فلم أنكرتم أن يكونوا قادرين على إبطال علم الله بأنهم لا يؤمنون؟ فالجواب : إنه لا يجب ذلك. كما أنه لا يجب إذا كانوا مأمورين بالإيمان ، أن يكونوا مأمورين بإبطال علم الله. كما لا يجب إذا كان الله تعالى قادرا على أن يقيم القيامة الساعة ، أن يكون قادرا على إبطال علمه بأنه لا يقيمها الساعة. والصحيح : أن نقول : إن العلم يتناول الشيء على ما هو به ، ولا يجعله على ما هو به ، فلا يمتنع أن يعلم حصول شيء بعينه ، وإن كان غيره مقدورا» أه.

(٣) سورة يس ، آية : ٧ وفي مجمع البيان : «لقد حق القول» أن وجب الوعيد واستحقاق العقاب عليهم (فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) ويموتون على كفرهم ، وقد سبق ذلك في علم الله تعالى. وقيل : تقديره لقد سبق القول على أكثرهم أنهم لا يؤمنون. ذلك أنه ـ سبحانه ـ أخبر ملائكته أنهم لا يؤمنون ، فحق قوله عليهم».

(٤) من (ط).

٤٧

الرابع : إنه تعالى كلف هؤلاء الذين أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون البتة : بالإيمان ، والإيمان يعتبر فيه تصديق الله في كل ما أخبر عنه. ومما أخبر عنهم : أنهم لا يؤمنون قط. فقد صاروا مكلفين بأن يؤمنوا بأنهم لا يؤمنون قط. وهذا تكليف بالجمع بين الضدين. وذلك لا يوجد البتة ، ويمتنع وجوده. فثبت : أن هؤلاء الذين أخبر الله عنهم أنهم لا يؤمنون : يستحيل صدور الإيمان عنهم ، والذين أخبر عنهم أنهم لا يؤمنون : يستحيل عدم الإيمان عنهم.

الخامس : إنه تعالى عاب الكفار على أنهم حاولوا فعل شيء على خلاف ما أخبر الله عنه. فقال : (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ. قُلْ : لَنْ تَتَّبِعُونا. كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) (١).

فثبت : أن القصد إلى تكوين ما أخبر الله عن عدم وقوعه : قصد إلى تبديل كلام الله. وذلك منهي عنه [فلما أخبر الله عنهم : أنهم لا يؤمنون ، كان القصد إلى تكوينه قصدا إلى تبديل كلامه. وذلك منهي عنه (٢)] وكان ذلك حاصلا ، سواء حاول تكوين الإيمان أو لم يحاول. فثبت : أن الذي علم الله أنه لا يقع ، وأخبر أنه لا يقع ، كان وقوعه ممتنع الحصول.

فإن قيل : علم الله لا يقلب الجائز ممتنعا. ويدل عليه وجوه عقلية ووجوه سمعية.

أما الوجوه العقلية فعشرة :

الأول : لو كان كذلك ، لوجب أن لا يكون الله قادرا على شيء أصلا. علم في لأنه تعالى إن الشيء أنه سيقع ، كان واجب الوقوع. وما كان واجب الوقوع لم يكن له في وقوعه حاجة إلى المؤثر ، فكان ينبغي أن يستغني وقوعه عن قدرة الله تعالى. فإن علم أنه لا يقع كان ممتنع الوقوع ، والممتنع لا قدرة

__________________

(١) سورة الفتح ، آية : ١٥ [أنظر مجمع البيان ، ولاحظ رأي الجبائي].

(٢) سقط (ط).

٤٨

عليه. فثبت : أن العلم لو اقتضى انقلاب الجائز واجبا أو ممتنعا ، لزم نفي قدرة الله تعالى. وذلك محال.

الثاني : إن العلم يتعلق بالمعلوم على ما هو عليه. فإن كان ممكنا ، علمه [ممكنا (١)] وإن كان واجبا ، علمه واجبا. ولا شك أن الإيمان والكفر ، بالنظر إلى ذاته من باب الممكنات. ولو صار واجب الوجود ، لصار العلم مؤثرا في المعلوم. وقد بينا أنه محال.

الثالث : لو كان العلم والخبر مانعا ، لما كان العبد قادرا على شيء أصلا. لأن الذي علم الله وقوعه كان واجب الوقوع. والواجب لا قدرة عليه ، والذي علم عدمه كان ممتنع الوقوع ، والممتنع لا قدرة عليه. فوجب أن لا يكون العبد قادرا على شيء أصلا ، فكانت حركاته وسكناته ، جارية مجرى حركات الجمادات ، ومجرى الحركات الاضطرارية للحيوانات. لكنا بالبديهة نعلم فساد ذلك. فإن [من (٢)] رمى إنسانا بالآجرة حتى شجة ، فإنه يذم الرامي ، ولا تذم الآجرة ، ويدرك بالبديهة تفرقة بين ما إذا سقطت الآجرة عليه ، وبين ما إذا لكمه إنسان بالاختيار. ولذلك فإن العقلاء ببدائه عقولهم ، يدركون الفرق بين مدح المحسن وذم المسيء ، ويلتمسون ويأمرون ويعاتبون ، ويقولون : لم فعلت؟ ولم تركت؟ فدل ذلك على أن العلم والخبر غير مانعين من الفعل.

الرابع : لو كان العلم بالعدم ، مانعا من الوجود. لكان أمر الله الكافر بالإيمان : أمرا له بإعدام علمه وبتجهيله وبتكذيبه. وكما أنه لا يليق بحكمته أن يأمر عباده بأن يعدموه ، فكذلك لا يليق بحكمته أن يأمرهم بأن يعدموا علمه. لأن إعدام ذات الله تعالى وصفاته ، ليس في طاقته. فكان الأمر سفها وعبثا. وهو على الحكيم محال. فدل هذا : على أن العلم بالعدم لا يكون مانعا من الوجود.

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) من (ط ، ل).

٤٩

الخامس : إن الإيمان في نفسه من قبيل الممكنات ، نظرا إلى ذاته وعينه. فوجب أن يعلمه الله من الممكنات الجائزات. إذ لو لم يكن كذلك ، لكان ذلك العلم جهلا ، وهو محال. وإذا [كان (١)] علم الله من الممكنات الجائزات ، التي لا يمتنع وجوده ولا عدمه ـ ولو صار بسبب العلم واجبا ـ لزم أن يجتمع على الشيء الواحد : كونه من الممكنات ، وكونه ليس من الممكنات. وهو محال.

السادس : إن الأمر بالمحال : عبث وسفه ، فلو جاز ورود الشرع به في بعض الصور ، لجاز وروده به في بقية الصور. فوجب أن لا يمتنع من الباري تعالى : أن يظهر المعجزات على أيدي الكاذبين ، وأن لا تمتنع أقوال الكتب المشتملة على الكذب والأضاليل. وعلى هذا التقدير لا يبقى وثوق بصحة نبوة الأنبياء عليهم‌السلام ، ولا بصحة القرآن. بل يجوز أن يكون كله كذبا. ولما بطل ذلك ، علمنا : أن العلم بعدم الإيمان ، والخبر عن عدم الإيمان ، لا يقتضي انقلاب الإيمان محالا.

السابع : لو جاز ورود الأمر بالمحال في هذه الصورة ، لجاز ورود أمر الأعمى بنقط المصحف ، وورود أمر الزّمن بالطيران في الهواء ، وأن يقال لمن قيد يداه ورجلاه ، وألقى من شاهق جبل : لم لم يطر إلى الفوق؟ ولما لم يجز شيء من ذلك في العقول ، علمنا : أنه لا يجوز ورود الأمر بالمحال. ثم إنا أجمعنا على أن الله تعالى أمر من علم منه أنه لا يؤمن. فدل ذلك على أن العلم بالعدم ، لا يدل على الامتناع.

الثامن : لو جاز ورود الأمر بالمحال ، لجاز بعثة الأنبياء الى الجمادات ، وإنزال الكتب عليها ، وإنزال الملائكة عليها ، لتبليغ التكاليف إليها ، حالا بعد حال. ومعلوم أن ذلك سخرية ، وتلاعب بالدين.

التاسع : إن العلم بوجود الشيء ، لو اقتضى وجوبه ، لأغنى هذا العلم عن الإرادة والقدرة ، فوجب أن لا تدل حدوث الأفعال على كونه تعالى قادرا مريدا. وذلك قول الفلاسفة القائلين بالموجب.

__________________

(١) من (م ، ل).

٥٠

العاشر : الآيات الدالة على أن تكليف ما لا يطاق لم توجد. قال الله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (١) ـ (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٢) ـ (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ ، وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ) (٣) ـ (وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٤) ولو كان العلم بالعدم ، مانعا من ذلك الفعل ، لكانت التكاليف بأسرها : تكليفا [بما لا يطاق (٥)] فثبت بمجموع هذه الوجوه العقلية : أن العلم بالعدم ، لا يمنع من الفعل.

وأما الوجوه السمعية فستة :

الأول : إن القرآن مملوء من الآيات [الدالة (٦)] على أنه لا مانع لأحد من الإيمان. قال تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) (٧)؟ وهو إنكار بلفظ الاستفهام ومعلوم أنه لو كان علم الله بعدم الإيمان ، وإخباره عن عدم الإيمان : مانعا. لصار قوله : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا) : كذبا. وكذلك قوله : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا) (٨)؟ وقوله لإبليس : (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ) (٩)؟ وقول موسى عليه‌السلام لأخيه : (ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ٢٨٦ وفي مجمع البيان : «أي لا يأمر ولا ينهي أحدا إلا ما هو له مستطيع». وقيل : إن معنى قوله (إِلَّا وُسْعَها) ألا يسرها دون عسرها ، ولم يكلفها طاقتها. ولو كلفها طاقتها لبلغ المجهود منها. عن سفيان بن عينية. وهذا قول حسن. وفي هذا دلالة على بطلان قول المجبرة في تجويز تكليف العبد ما لا يطيقه. لأن الوسع هو ما تتسع له قدرة الانسان ، وهو المجهود واستفراغ القدرة. وقال بعضهم : إن معناه : إلا ما يسعها ويحل لها. وهذا خطأ لأن نفس أمره إطلاق. فكأنه قال : لا أطلق لك ولا آمرك إلا بما أمرك.

(٢) سورة الحج ، آية : ٧٨.

(٣) سورة الأعراف ، آية : ١٥٧.

(٤) سورة البقرة ، آية : ١٨٥.

(٥) زيادة.

(٦) من (م ، ل).

(٧) سورة الإسراء ، آية : ٩٤.

(٨) سورة النساء ، آية : ٣٩.

(٩) سورة ص ، آية : ٧٥.

٥١

ضَلُّوا) (١)؟ [وقوله : (فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٢)]؟ ـ (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (٣)؟ ـ (عَفَا اللهُ عَنْكَ. لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) (٤)؟ ـ (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) (٥)؟ وهذا باب فيه إطناب. والقدر الذي ذكرناه : كافي.

الثاني : إنه تعالى قال : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ : حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (٦) وقال : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ. لَقالُوا : رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً. فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) (٧) بين تعالى أنه ما أبقى لهم عذرا ، إلا وقد أزاله عنهم. ولو كان علمه بكفرهم ، وخبره عن كفرهم : بيانا لهم عن الإيمان ، لكان ذلك من أعظم الأعذار ، وأقوى الوجوه الدافعة للعقاب عنهم. ولما لم يكن كذلك ، علمنا : أن العلم بعدم الإيمان ، لا يمنع من الإيمان.

الثالث : إنه تعالى حكى عن الكفار في «حم» السجدة أنهم قالوا : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ. وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) (٨) وإنما ذكر تعالى هذه الحكاية عنهم ، ذما لهم على هذا القول. ولو كان العلم بعدم الإيمان ، مانعا من الإيمان. لكانوا صادقين في هذا القول. فلم ذمهم عليه؟

الرابع : إنه تعالى إنما أنزل قوله : (إِنَ) (٩) الَّذِينَ كَفَرُوا. سَواءٌ عَلَيْهِمْ إلى قوله : (لا يُؤْمِنُونَ) : ذما لهم ، وزجرا لهم ، عن الكفر ، وتقبيحا لفعلهم. فلو كانوا ممنوعين عن الإيمان ، غير قادرين عليه : ما استحقوا الذم البتة. بل كانوا معذورين فيه. كما يكون الأعمى معذورا في أن لا يرى ، والزّمن في أن لا يمشى.

الخامس : القرآن إنما أنزل ليكون حجة لله ولرسوله على الكفار ، لا أن يكون حجة للكفار على الله وعلى رسوله. ولو كان العلم والخبر مانعين عن

__________________

(١) سورة طه ، آية : ٩٢.

(٢) سورة الانشقاق ، آية : ٢٠ والآية من (م).

(٣) سورة المدثر ، آية : ٢٩.

(٤) سورة التوبة ، آية : ٤٣.

(٥) سورة التحريم ، آية : ١.

(٦) سورة النساء ، آية : ١٦٥.

(٧) سورة طه ، آية : ٢.

(٨) سورة فصلت ، آية : ٥.

(٩) سورة البقرة ، آية : ٦.

٥٢

الإيمان ، لكان لهم أن يقولوا : لما اعترفت (١) بأن الله علم الكفر منا ، وأخبر عن حصول الكفر فينا ـ وهذا من أعظم الموانع لنا عن الإيمان ـ فلم يطلب المحال منا؟ ولم يأمرنا بالمحال؟ ومعلوم : أن هذا مما لا جواب لله و[لا (٢)] لرسوله عنه ، لو (٣) ثبت : أن العلم والخبر يمنع عن الإيمان.

السادس : إنه تعالى قال : (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (٤) ولو أنه أمر بالإيمان ، مع حصول المانع منه : لما كان (فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) بل كان بئس المولى وبئس النصير. ومعلوم : أن ذلك : كفر.

فثبت بهذه الوجوه : أن علم الله بعدم الإيمان ، وخبره عن عدم الإيمان : لا يدل على كون ذلك الإيمان ممتنع الحصول.

وأما الجواب على سبيل التفصيل :

فاعلم : أن للمعتزلة فيه طريقين :

الأول : طريقة «أبي علي» و «أبي هاشم» و «القاضي عبد الجبار بن أحمد» وهي أن قالوا : إن قول القائل : لو وقع خلاف معلوم الله ، لانقلب علم الله جهلا. قالوا : خطأ من يقول : إنه ينقلب علمه جهلا. لأن هذا تعليق للمحال بالممكن. فإن انقلاب علم الله جهلا محال. ووقوع علم الله أنه لا يقع ممكن. فقولنا : لو وقع ما علم الله أنه لا يقع تعليق المحال بالممكن. فكان خطأ. وخطأ أيضا : قول من يقول : إنه لا ينقلب جهلا. ولكن يجب الإمساك عن القولين.

الثاني : طريقة «الكعبي» واختيار «أبي الحسين البصري» وهو أن العلم تبع للمعلوم. فإذا فرضنا أن الصادر من العبد هو الإيمان ، كان الحاصل في أزل الله تعالى هو العلم بوجود الإيمان. وإذا فرضنا أن الواقع منه هو عدم

__________________

(١) اعترافنا (م ، ل).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) ولو (ط).

(٤) سورة الحج ، آية : ٧٨.

٥٣

الإيمان ، كان الحاصل في الأزل هو العلم بعدم الإيمان.

فهذا فرض علم بدلا عن علم آخر ، لا (١) أنه ينقلب جهلا.

فهذان الجوابان هما اللذان عليهما اعتماد المعتزلة. والله أعلم.

والجواب : أما الوجوه التي استدلوا بها على أن علم الله بعدم الإيمان ، وإخباره عن عدم الإيمان : لا يمنع من وجود الإيمان.

فالجواب عنها من وجهين :

الأول : إن الدليل الذي ذكرناه في كونه مانعا منه وهو دليل تلك المقدمات : صحيح. أما التركيب فكيف يقدح ما ذكرتموه في صحته؟ وبيانه : وهو أنا قلنا : إن العلم بعدم الإيمان ، لا يحصل إلا عند عدم الإيمان. فهذه مقدمة بديهية. لأن شرط العلم : أن يكون مطابقا للمعلوم. فالعلم بعدم الإيمان ، لا يكون علما ، إلا إذا كان مطابقا. ولا (٢) يكون إلا إذا حصل عدم الإيمان. فثبت : أن العلم بعدم الإيمان ، لا يحصل إلا عند عدم الإيمان. ثم نقول : لو حصل وجود الإيمان مع العلم بعدم الإيمان ، لزم اجتماع النقيضين ، وهذا كلام ، لا مجال للعقل في أن يتشكك فيه. وإذا كان الأمر كما ذكرنا ، لم تكن الوجوه التي ذكروها قادحة في صحة هذا الكلام البتة.

والوجه الثاني : أن نجيب عن كل واحد من تلك الوجوه ، على التفصيل :

أما السؤال الأول : وهو قوله : «يلزم أن لا يقدر الله تعالى على شيء أصلا» قلنا : لا نسلم. وذلك لأن الله تعالى إنما يعلم وقوع ذلك الممكن ، لو كان هو في نفسه واقعا. لأن العلم يتبع المعلوم ، ووقوع ذلك الممكن. لا بد

__________________

(١) لأنه [الأصل].

(٢) وأن (م ، ل).

٥٤

وأن يكون لأجل مؤثر يؤثر فيه ، وهو القدرة والإرادة. فالعلم إنما تعلق بوقوعه ، لأنه علم أنه واقع باتباع القدرة والإرادة. وإذا كان الأمر كذلك ، فكيف يعقل أن يقال : إن هذا العلم يغنيه عن القدرة والإرادة؟ ومثاله : أن علمه (١) تعالى ، لما تعلق بأن الجسم إنما تحرك لقيام معنى ، به يوجب المتحركية ، لم يكن هذا مغنيا لتلك المتحركية عن علتها. فكذا [هاهنا (٢)].

وأما السؤال الثاني : وهو قوله : «العلم يتعلق به ، كما هو في نفسه. وهو في نفسه من الممكنات» فجوابه : إن هذا مسلم. فإن العلم يتعلق به : أنه من حيث هو هو من الممكنات ، وأنه صار واجب الوقوع. لأن قدرة الله وإرادته تعلقتا بإيقاعه في الوقت الفلاني. وكون الشيء ممكنا بذاته ، لا ينافي كونه واجبا بغيره [فالعلم تعلق بأنه ممكن لذاته ، واجب لغيره (٣)].

وأما السؤال الثالث : وهو قوله : «ولو كان ذلك المعلوم ، واجب الوقوع ، لوجب أن لا يبقى للعبد قدرة على الفعل أصلا».

فجوابه : ما تقدم في البرهان الأول : أن ذلك الفعل [ما (٤)] صار واجب الوقوع بسبب العلم بل لأن القادر المختار ، خلق في العبد ما يوجب حصول ذلك الفعل وهو مجموع القدرة مع الداعي. فالمؤثر في وجوب ذلك الفعل : هو هذا المعنى. أما تعلق علم الله فهو يكشف عن حصول هذا الوجوب. لا (٥) أنه هو الموجب.

وأما السؤال الرابع : [وهو (٦)] قوله : «ولو كان الأمر كما قلتم ، لكان أمر الكافر بالإيمان : أمرا بتجهيل الله تعالى وبتكذيبه» قلنا : إن عنيتم به : إن أمر الكافر بالإيمان ، لا يتأتى إلا مع تجهيل [الله (٧)] ومع تكذيبه. فهذا ممنوع. وإن عنيتم أن حصول المأمور به ، لا يمكن إلا مع تجهيل [الله (٨)]

__________________

(١) علم الله تعالى (ط ، ل).

(٥) إلا (م ، ل).

(٢) من (ط ، ل).

(٦) من (ط ، ل).

(٣) من (ط).

(٧) من (ط ، ل).

(٤) سقط (ط).

(٨) من (ط ، ل).

٥٥

وتكذيبه. فهذا هو الذي قلناه. وزعمنا : أن هذا الأمر في الحقيقة : أمر بالمحال ، الذي لا يمكن إيقاعه.

وأما السؤال الخامس : وهو قوله : «الإيمان في نفسه من الجائزات (١) فلو صار محالا بسبب العلم : يكون (٢) الشيء الواحد : ممكنا محالا» فجوابه : إنه لا امتناع في كون الشيء الواحد : جائزا لذاته ، ممتنعا لسبب منفصل. ألا ترى أن الممكن : ممكن لذاته ، واجب عند حضور علة وجوده ، ممتنع عند عدم سبب وجوده. فكذا هاهنا.

وأما بقية الوجوه : فهي شبهات (٣) يذكرونها في أن الأمر بالمحال ، لا يجوز. لكنا بينا : أن هذا المعنى واقع. لأنه يخلق الدواعي إلى الكفر في حق الكافر ، ثم يأمره بالإيمان. وما ذاك إلا تكليف ما لا يطاق.

وأما الوجوه السمعية التي عولوا عليها : فهي قابلة للتأويل. وما ذكرناه من الدلائل لا يقبل التأويل. فكان الترجيح من جانبنا.

قلنا : جوابهم الأول. وهو قولهم : «خطأ قول من يقول : إن وقوع ما علم الله أنه لا يقع : يدل على انقلاب علم الله جهلا ، وخطأ قول من يقول : إنه لا يدل» : فضعيف. وذلك لأنهم إن أرادوا أن كلا النقيضين باطل في نفس الأمر. فهذا لا يقوله عاقل. وإن أرادوا به أن أحدهما حق ، ولكن لا ينطقون به [ولا يتلفظون به (٤)] فهذا مسلم. إلا أن إلزامنا غير مبني على نطقهم ، ولا على لفظهم وعبارتهم. فإنا لما بينا أنه تعالى إذا علم أنه لا يؤمن. فلو آمن ذلك الشخص. فإن على هذا التقدير ، لم يكن علمه مطابقا للمعلوم. ولا معنى للجهل إلا هذا. فثبت منه : أنه يلزم انقلاب علم الله جهلا. ولما كان هذا محالا ، وجب أن يكون ذلك محالا لأن المؤدي إلى المحال محال

__________________

(١) الجائز (م).

(٢) كون (ط).

(٣) شهادة (م).

(٤) سقط (ط).

٥٦

وأما جوابهم الثاني : فضعيف أيضا : لأن قولنا : لو كان الداخل في الوجود هو إيمان «زيد» لعلم الله في الأزل أنه يؤمن. ولو كان الداخل عدم إيمانه ، لعلم الله في الأزل أنه لا يؤمن. فهذا قضية شرطية. لأن قولنا : لو كان كذا ، لكان كذا : لا شك أنه قضية شرطية. لكنا نقول : إنه لا بد مع حصول هذه القضية الشرطية ، أنه تعالى [كان (١)] عالما في الأزل بأنه [يؤمن ، أو كان عالما بأنه (٢)] لا يؤمن.

فثبت : أن أحد هذين العلمين حاصل. وإذا كان ذلك حاصلا ، امتنع أن يقع نقيض ذلك المعلوم ، وإلا لزم أن يصير علمه جهلا وهذا محال. وأيضا : إن ذلك العلم ، لما كان علما في الأزل ثم قدرنا أن المعلوم لم يقع في الأزل ، فحينئذ ينقلب ذلك العلم جهلا في الأزل. وهذا مفضي إلى وقوع التبديل فيما حصل في الزمان الماضي ، وكل ذلك محال. فثبت بما ذكرنا : أن هذه الأجوبة في غاية الضعف ، وأن البرهان الذي عولنا عليه ، مما لا يمكن دفعه بوجه من الوجوه.

وبالله التوفيق

البرهان الخامس

لو لم يكن الله تعالى موجدا لأفعال العباد ، ولا موجدا لما يكون موجبا لها ، لامتنع كونه تعالى عالما بها قبل وقوعها. إلا أن خصومنا يوافقونا على أنه عالم بها قبل وقوعها. فيلزم القطع بأنه تعالى موجدا لها ، أو موجدا لما يكون موجبا لها. وهو المطلوب.

أما بيان أنه تعالى عالم بأفعال العباد قبل وقوعها : فقد ذكرنا أنه متفق عليه بيننا وبين خصومنا. إنما الشأن في تقرير المقدمة الثانية. وهو قولنا : لو لم يكن موجدا لها ، ولا موجدا لما يكون موجبا لها ، لامتنع كونه تعالى عالما بها قبل وقوعها.

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) من (ط ، ل).

٥٧

والذي يدل على صحة هذه المقدمة : إن ماهيات أفعال العباد قابلة للمعدوم ، وقابلة للموجود ، قبولا على التساوي ، من غير رجحان أصلا البتة (١). فلو فرضنا أنه لا يرجح أطراف وجود هذه الأفعال على طرف عدمها ، إلا قدرة العبد. ثم إن قدرة العبد غير موجبة لذلك ، بل هي صالحة للفعل والترك [ولم يكن (٢)] أيضا هذا الرجحان. لا ابتداء ولا بواسطة. لأن التقدير أنه لم يوجد في الأزل ما يوجب تلك الأفعال. لا ابتداء ولا بواسطة. وإلّا فالجبر لازم. وإذا كان الأمر كذلك ، كانت أفعال العباد في أنفسها قابلة للعدم ، وقابلة للوجود على السوية. ولم يكن هناك البتة ما يقتضي رجحان وجودها على عدمها. فلو اعتقد معتقد فيها : كونها راجحة الوجود على العدم ، كان ذلك الاعتقاد : اعتقادا غير مطابق. فكان جهلا. والجهل على الله محال. فثبت : أنه تعالى لو لم تتعلق قدرته في الأزل بإيقاع تلك الأفعال في لا يزال ، ولم يتعلق أيضا بإيقاع ما يوجب وقوع تلك الأفعال في لا يزال ، كان اعتقاد أنها ستقع في لا يزال ، اعتقادا غير مطابق للمعتقد ، وإنه جهل. وهو على الله محال. وإذا كان الأمر كذلك ، وجب أن يقال : إن قدرته تعالى في الأزل ، تعلقت بإيقاع هذه الأفعال في لا يزال ، أو بإيقاع ما يوجب هذه الأفعال في لا يزال ، حتى يكون علمه بأنها ستقع في لا يزال : علما ، ولا يكون جهلا.

فإنه قيل : إنه تعالى يعلم في الأزل أن فعل العبد سيترجح وجوده على عدمه ، في الوقت الفلاني ، وفي ذلك الوقت يكون المقتضى لترجح وجوده على عدمه حاصلا. فأما لمّا فرضنا أن المقتضى لذلك الترجح ، هو قدرة العبد. وفرضنا أن قدرة العبد حاصلة في ذلك الوقت. فعلى هذا التقدير ، كان المقتضى لترجحه حاصلا في ذلك الوقت.

والجواب : إن هذا سوء فهم ، لما ذكرناه. وذلك لأنه تعالى يعلم في الأزل أن وجود الفلاني سيترجح على عدمه في الوقت الفلاني في لا يزال.

__________________

(١) والبتة (م ، ط).

(٢) سقط (ط).

٥٨

ووقوع الترجيح ، وإن كان لا يحصل إلا في ذلك الوقت ، إلا أن المفهوم من قولنا : سيترجح: كان حاصلا في الأزل. [فهذا المفهوم لما كان حاصلا في الأزل (١)] وجب أن يحصل له ما يقتضي حصوله. لكن المقتضي لحصوله ، ليس هو ذاته ، وإلا لكان واجب الحصول لذاته. ولا قدرة العبد ، ولا إرادته ، لأن كل ذلك معدوم. فوجب أن يكون المقتضي له : هو قدرة [الله (٢)] وإرادته. وذلك يقتضي أن يكون وقوع أفعال العباد بقدرة الله وإرادته. فإن لم تكن قدرة الله وإرادته ، يقتضيان ما هو المفهوم من قولنا : إن الفعل الفلاني سيترجح في الوقت الفلاني ، وليس له نقيض آخر. وجب أن لا يحصل هذا المفهوم. وإذا لم يحصل هذا المفهوم ، كان [اعتقاد (٣)] حصوله جهلا. فثبت : أن (٤) على هذا التقدير أنه تعالى لو لم يكن موجدا لأفعال [العباد (٥)] ولا لما يكون موجبا لأفعال العباد ، لامتنع كونه تعالى عالما بوقوعها في الأزل. ولما كان هذا باطلا ، ثبت أن الحق ما ذكرناه. واعلم : أن هذه النكتة إنما استنبطناها من مسألة حكمية. وهي : أن الجزم بوقوع الممكن ، لا يمكن إلا بواسطة العلم بعلته وموجبه.

وبالله التوفيق

البرهان السادس

اعلم : أن هذا البرهان لا يمكن تقريره ، إلا بعد تقديم مقدمة في حقيقة المتناقضين.

فنقول :

إنهما القضيتان اللتان يجب لذاتهما أن تكون إحداهما صادقة ، والأخرى

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) سقط (ط).

(٤) أن أحد التقدير (ط).

(٥) من (ط ، ل).

٥٩

كاذبة. بعينه ، أو بغير عينه. وتقريره : إنا إذا عينا الموضوع أمرا واحدا في نفسه ، وعينا المحمول أمرا واحدا في نفسه ، وعينا الوقت [وقتا (١)] واحدا في نفسه. فإذا قلنا : ذلك المحمول ، ثبت لذلك الموضوع ، في ذلك الوقت. ثم قلنا : ذلك المحمول ، ما ثبت لذلك الموضوع ، في ذلك الوقت. والعقل قاطع بأنه لا بد في هذا الايجاب ، وهذا السلب ، أن يكون أحدهما صادقا ، والآخر كاذبا. ثم قالوا : الصادق والكاذب معنيان في الواجب وفي الممتنع وفي الممكن الماضي والحاضر. أما في الواجب فكل ما هو في جانب الثبوت ، فهو الصادق. وكل ما هو في جانب السلب ، فهو الكاذب. وأما في الممتنع ، فبالضد. وأما في الممكن الماضي والحاضر ، فالذي لم يقع هو الكذب في نفسه. والذي وقع في نفسه ، فهو الصادق. وأما الممكن المستقبل. فقال بعضهم : الصادق والكاذب غير متعينين ، بل أحدهما صادق ، والآخر كاذب على التعيين. وعندي : أنه يجب أن يكون الصادق متعينا ، والكاذب متعينا في نفس الأمر ، في الممكن المستقبل. والدليل عليه : أن الصدقية والكذبية صفتان حقيقيتان حاصلتان في نفس الأمر. فلا بد لكل واحد منهما من محل موجود في الخارج. وكل موجود في الخارج فهو في نفسه معين لأن (٢) كل ما كان موجودا في نفسه ، فهو معين في نفسه ، والإيهام لا يحصل [إلا (٣)] في الأذهان. بمعنى [أنه (٤)] لا يعلم أن الموصوف بالصدقية. أهو هذه القضية ، أم تلك الأخرى؟ فأما أن يكون الذي هو الموجود (٥) في الأعيان بينهما في نفسه غير معين بحسب وجوده (٦) فهو محال. ولما ثبت أن الصدقية والكذبية صفتان موجودتان ، وثبت أن الصفة الموجودة [ليست (٧)] محلا معينا في نفس الأمر ، يثبت أن

__________________

(١) من (ط)

(٢) من (ط ، ل).

(٣) من (ط ، ل).

(٤) من (ط ، ل).

(٥) أن يكون هو موجود (م ، ل).

(٦) نفسه (ل).

(٧) تستدعى (ل).

٦٠