المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

فانكسر ، ودفعته فاندفع ، ولا يقال : وانكسر واندفع.

والجواب عن الأول من وجهين :

الأول : إن الاشتراك خلاف الأصل ، فوجب أن يعتقد أن وزن الأفعال حقيقة في أحدها ، مجاز في الآخر. وجعله حقيقة في التكوين ، مجازا في الوجدان : أولى من العكس. ويدل عليه وجوه :

الوجه الأول : إن مجيء هذا البناء بمعنى التكوين أكثر من مجيئه بمعنى الوجدان. والكثرة دليل الرجحان.

الثاني : إن مبادرة الفهم إلى التكوين ، أكثر من مبادرته إلى الوجدان. أعني : من هذا اللفظ ، ومبادرة الفهم دليل كونه حقيقة فيه.

الثالث : إنا إن جعلناه حقيقة في التكوين ، أمكن جعله مجازا عن الوجدان ، لأن العلم بالشيء تابع لحصول المعلوم ، فجعل اللفظ حقيقة في الأصل ، مجازا في التبع ، موافق للعقول. أما لو جعلناه حقيقة في الوجدان ، مجازا في الوجود ، لزم جعله حقيقة في التبع ، مجازا في الأصل ، وإنه على خلاف المعقول.

والوجه الثاني في الجواب : إنا نسلم كون اللفظ ، بالنسبة إلى هذين المفهومين. إلا أنا نقول : يجب حمل قوله : (أَغْفَلْنا) على خلق الغفلة. وذلك لأن العبد يمتنع كونه موجدا لغفلة نفسه. والدليل عليه : أنه إذا حاول إيجاد الغفلة. فإما أن يحاول إيجاد مطلق الغفلة ، أو يحاول إيجاد الغفلة عن شيء معين. والأول باطل. وإلا لم يكن بأن تحصل له الغفلة عن هذا أولى من أن تحصل له الغفلة عن ذاك. لأن الطبيعة الحسنة ، نسبتها إلى كل الأنواع على السوية. وأما الثاني. فهو أيضا محال. لأن الغفلة عن كذا عبارة عن غفلة لا تمتاز عن سائر الغفلات ، إلا بكونها منتسبة إلى ذلك الشيء المعين ، فلا يمكنه أن يقصد إلى إيقاع الغفلة عن كذا ، إلا إذا اعتقد كونه غفلة عن كذا. ولا يمكنه أن يعتقد كون هذا الاعتقاد غفلة عن كذا ، لا إذا تصور ذلك الشيء. لأن العلم بنسبة أمر إلى أمر ، مشروط بتصور كل واحد من المنتسبين.

١٨١

فثبت : أنه لا يمكنه أن يقصد إلى تحصيل الغفلة عن كذا ، إلا مع الشعور بكذا ، لكن الغفلة عن كذا مضادة للشعور. فثبت : أن العبد لا يمكنه إيجاد هذه الغفلة ، إلا عند اجتماع الضدين. وهذا محال ، فوجب أن يكون ذاك أيضا محالا. وإذا ثبت هذا ، ثبت أنه لا موجد لغفلات العباد إلا الله تعالى. وهذه نكتة قاطعة عقلية في بيان أن خالق الغفلات هو الله تعالى. وحينئذ نجعل نص القرآن مؤكدا لهذا البرهان. فثبت أن قوله : (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا) لا يمكن حمله ، إلا على خلق الغفلة في القلب.

أما قوله : «لو كان المراد ذلك ، لكان الواجب ذكر الفاء ، لا ذكر الواو».

فجوابه : إن هذا إنما يلزم لو كان اتباع الهوى من لوازم الإغفال عن ذكر الله ، كما أن الانكسار من لوازم الكسر. ومعلوم أنه ليس الأمر كذلك ، لأنه لا يلزم من صيرورة الإنسان غافلا عن ذكر الله ، صيرورته متبعا للهوى. لاحتمال أن يكون الغافل عن ذكر الله ، لا يصير متبعا للهوى. بل يبقى متوقفا ، لابثا في حيز الحيرة. فسقط ما قالوه.

الحجة السابعة : إن الله تعالى أخبر عن أكابر الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ أنهم اعترفوا بأن الكفر والإيمان من الله. فقال حكاية عن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) (١) وقال حكاية عن يوسف ـ عليه‌السلام ـ : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَ) (٢) إلى قوله : (فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ) (٣) وقال حكاية عن موسى ـ عليه‌السلام ـ : (إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ) (٤) وقال لمحمد صلوات الله عليه وسلامه : (وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ ، لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً) (٥) وكل هذه النصوص دالة على أن الإيمان والكفر من الله.

__________________

(١) سورة ابراهيم ، آية : ٣٥.

(٢) سورة يوسف ، آية : ٣٣.

(٣) سورة يوسف ، آية : ٣٤.

(٤) سورة الأعراف ، آية : ١٥٥.

(٥) سورة الإسراء ، آية : ٧٤.

١٨٢

فإن قيل : هذا محمول على فعل الألطاف ، أو على الحكم والتسمية. قلنا : سبق الجواب عن الكل ، على سبيل الاستقصاء.

الحجة الثامنة : قوله : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١) ومجيء ما يجري مجرى هذا اللفظ في القرآن كثير. فنقول : إن فعل العبد شيء ، فوجب أن يكون الله قادرا عليه ، بحكم هذا النص ، فثبت : أن مقدور العبد ، مقدور لله تعالى ، فوجب أن يقع بقدرة الله تعالى. لأنه لو وقع بقدرة العبد ، لامتنع على الله تعالى إيقاعه. لأن إيجاد الموجود محال. وذلك يفضي إلى أن العبد يعجز عن فعله. وذلك محال.

فإن قيل : قوله : (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) عام دخله التخصيص من وجوه : منها : إن ذات الله وصفاته أشياء ، وهو غير قادر عليها. ومنها : إن الجواهر ـ حال بقائها ـ أشياء. وهو تعالى غير قادر عليها. لأن إيجاد الموجود محال. ومنها : إن الحركة شيء ، ثم إن إيجادها حال حصول ضدها محال. ومنها : إن الجوهر شيء ، ثم إن إيجاده حال عدم العرض محال. فثبت : أن هذا عام دخله التخصيص. فتصير دلالة هذا العام ظنية.

سلمنا : أن مقدور العبد مقدور لله تعالى ، فلم قلتم : إنه يجب وقوعه بقدرة الله تعالى ، وما ذكرتموه من التعجيز ، فهو لازم عليكم. لأنه تعالى إذا خلق شيئا ، امتنع عليه أن يخلقه مرة أخرى. فيلزمكم أن تقولوا : إن الله تعالى أعجز نفسه ، وهو محال.

والجواب : إنا ذكرنا مرارا : أن هذه الدلائل السمعية ظنية. وأما قوله : «يلزمكم أن الله إذا خلق شيئا ، أن يكون قد أعجز نفسه» قلنا : الإعجاز هو أن يصير بحيث لا يمكنه أن يفعل ما كان يمكنه أن يفعل ، بسبب منفصل. فالمقدور الواحد ، إذا كان مقدورا لله تعالى وللعبد. فإذا فعله العبد ، امتنع بهذا السبب أن يفعله الله تعالى ، فكان هذا تعجيزا. لأن هذا التعذر إنما جاء

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ٢٠.

١٨٣

بسبب منفصل ، بخلاف ما إذا خلق الله ذلك الفعل. فإن التأثير قد حصل منه وبه ، فكيف يكون تعجيزا؟.

الحجة التاسعة : قوله تعالى : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) (١) ومعلوم أن كون الإنسان منصورا على الغير. إما أن يكون بأفعال الجوارح. كما إذا تصارع رجلان ، ثم إن أحدهما يصرع الآخر. أو بالعلم واللسان ، كما إذا أغلب أحدهما صاحبه بالحجة والبرهان. فإذا كان النصر لا معنى له إلا ذلك. وكل ذلك فعل العبد ، ثم دل هذا النص ، على أن النصر ليس إلا من الله ، ثبت : أن فعل العبد حاصل بإيجاد الله.

فإن قيل : النصر قد يكون بتقوية القلب ، وبالإمداد بالملائكة ، وبإزالة الخوف عن القلب. وكل ذلك من الله. قلنا : هب أن ما ذكرتموه يسمى بالنصر ، إلا أن الأفعال المؤثرة في الغلبة ، لا شك أنها أيضا مسماة بالنصر. فلما قال تعالى : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) دخل فيه ما ذكرتم وما ذكرنا. وحينئذ يحصل المطلوب.

الحجة العاشرة : قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ ، مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ. ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللهُ) (٢) ومعلوم أن وقوف الطير في الهواء ، فعل اختياري لذلك الطير. وهذا يدل على أن الأفعال الاختيارية للحيوانات مخلوقة لله تعالى.

فإن قيل : المراد بالإمساك : إعطاء الآلات والقدر ، التي بها يتمكن الحيوان من فعل ذلك الاستمساك. قلنا : هذا عدول عن الظاهر. والأصل عدمه.

الحجة الحادية عشرة : قوله تعالى : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) (٣)

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية : ١٢٦.

(٢) سورة النحل ، آية : ٧٩.

(٣) سورة طه ، آية : ٢٥.

١٨٤

وقوله : (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ؟) (١) وقوله : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) (٢) ولا معنى لانشراح الصدر ، إلا حصول العلوم والمعارف. فهذه النصوص كلها دالة على أن المعارف والعلوم إنما تحصل بخلق الله تعالى.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من شرح الصدر ، إزالة الخوف والغم والحزن عنه ، بحيث لا يتأذى بكل ما يسمع من المكروهات؟ فالجواب عنه من وجهين :

الأول : إن كل ما يتعلق بالإقدار والتمكين ، وإزالة الموانع والعلل ، كان حاصلا قبل أن قال موسى ـ عليه‌السلام ـ : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) فيمتنع حمل هذا السؤال على تلك الأشياء.

الثاني : قيد هذا الشرح بالإسلام. فقال : (أَفَمَنْ شَرَحَ اللهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ) ثم قال : (فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ) وذلك النور ليس إلا المعرفة. والله أعلم.

الحجة الثانية عشر : أنه كما قال أولا : (رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي) قال بعده : (وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي) وهذا الأمر مجمل ، فوجب حمله على ما تقدم ذكره ، وهو قيامه بتبليغ الرسالة ، وشروعه في تلك المهمات على الوجه الأبلغ الأحسن. ولا يمكن حمل هذا التيسير على الإقدار ، وإزاحة العلل والأعذار. لأن كل ذلك ، كان حاصلا قبل هذا الدعاء. فوجب حمل هذا السؤال على خلق المعرفة والطاعة.

الحجة الثالثة عشر : قوله تعالى : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا ، وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) (٣) والاستدلال بهذه الآية من وجهين :

الأول : إنه تعالى إن كان لا يزيغ القلوب البتة ، ولا يجوز أن يصدر عنه

__________________

(١) سورة الشرح ، آية : ١.

(٢) سورة الزمر ، آية : ٢٢.

(٣) سورة آل عمران ، آية : ٨.

١٨٥

هذا الفعل ، كان هذا الدعاء طلبا لتحصيل الحاصل. وهو محال.

الثاني : إن القلب صالح ، لأن يميل إلى الإيمان ، وصالح لأن يميل إلى الكفر. ويمتنع أن يميل إلى أحد الجانبيين إلا لمرجح. وذلك المرجح هو حدوث داعية وإرادة في القلب. ولا يمكن أن يكون حدوث تلك الإرادة ، لإرادة أخرى. وإلا وقع التسلسل. فهي إرادة تحدث بإحداث الله تعالى. ثم تلك الداعية وتلك الإرادة. إن كانت داعية الكفر. فهي الخذلان والإزاغة والصد والختم والطبع والدين والقسوة والوقر والكنان. وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن. وإن كانت تلك الداعية داعية الإيمان ، فهي التوفيق والإرشاد والهداية والتسديد والعصمة. وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن.

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول : «قلب المؤمن بين اصبعين من أصابع الرحمن» والمراد من هاتين الإصبعين : هاتان الداعيتان. فكما أن الشيء الذي يكون بين إصبعي الإنسان يقلب كما يقلبه الإنسان بواسطة ذينك الإصبعين فكذلك القلب لوقوعه بين داعيتي الفعل والترك يتقلب كما يقلبه الحق ـ سبحانه ـ بواسطة تينك الداعيتين. ومن أنصف ولم يتعسف ، وجرب نفسه ، وجد هذا المعنى كالشيء المحسوس. ولو جوّز العاقل حدوث إحدى الداعيتين من غير محدث ، لزمه نفي الصانع.

وكان صلوات الله عليه يقول : «يا مقلب القلوب ، ثبت قلبي على دينك» ومعناه : ما ذكرناه. فلما أخبر الله تعالى عن الراسخين في العلم أنهم يقولون : «آمنا» بالمحكمات والمتشابهات ، وأن كلها «من عند» الله ، حكى عنهم أنهم تضرعوا في أن لا يجعل قلبهم مائلا إلى الباطل ، بعد أن جعله مائلا إلى الحق. فهذا كلام عقلي برهاني قاطع متأكد بهذا التقرير القرآني.

فإن قيل : لما دلت الدلائل على أن الزيغ لا يجوز أن يخلقه الله تعالى ، وجب حمل هذه الآية على التأويل. وهو من وجوه :

الأول : قال «الجبائي» : المراد بقوله : (لا تُزِغْ قُلُوبَنا) أي لا تمنعها الألطاف التي معها تستمر القلوب على صفة الإيمان. وذلك لأنه تعالى لما منعهم

١٨٦

ألطافه عند ما صاروا مستحقين لذلك المنع ، جاز أن يقال : إنه تعالى أزاغهم. ويدل على صحة هذا الوجه : قوله تعالى : (فَلَمَّا زاغُوا ، أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (١).

قال : «أبو بكر الأصم» : معناه : لا تسلط علينا بلايا ، تزيغ عندها قلوبنا. وهو كقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ : أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ، أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ. ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) (٢) وقال : (لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ ، لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ) (٣) فصار حاصل هذا الوجه : لا تكلفنا من العبادات ما لا نأمن معها من الزيغ. وقد يقول القائل : لا تحملني على إيذائك ، وعلى سوء الأدب عندك. أي لا تفعل بي ما أصير عنده سيئ الأدب عندك.

الثالث : قال «الكعبي» : (لا تُزِغْ قُلُوبَنا) أي لا تسمنا باسم الزائغ ، كما يقال: فلان يكفر فلانا ، إذا سماه كافرا.

الرابع : قال «الجبائي» : (لا تُزِغْ قُلُوبَنا) عن طريق الجنة ، ودار الثواب. ويرجع حاصله إلى فعل الألطاف. فيكون هذا هو الوجه الأول. أو يحمل ذلك على شيء آخر. وهو أنه تعالى : إذا علم أنه مؤمن في الحال ، وعلم أنه لو بقي إلى السنة الثانية : كفر. فقول : (لا تُزِغْ قُلُوبَنا) محمول على أن يميته قبل أن يصير كافرا. فإن أبقاه حيا إلى السنة الثانية ، يجري مجرى ما إذا أزاغه عن طريق الجنة.

الخامس : قال «الأصم» : (لا تُزِغْ قُلُوبَنا) عن كمال العقل بسبب خلق الجنون فينا (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) بنور العقل.

السادس : قال «أبو مسلم الأصفهاني» : احرسنا من الشيطان ، ومن شرور أنفسنا حتى لا نزيغ.

__________________

(١) سورة الصف ، آية : ٥.

(٢) سورة النساء ، آية : ٦٦.

(٣) سورة الزخرف ، آية : ٣٣.

١٨٧

والجواب :

أما التأويل الأول : فضعيف. لأن مذهبهم : أن كل ما أمكن في قدرة الله تعالى أن يفعل في حقهم من الألطاف ، فقد وجب ذلك وجوبا ، لو ترك لبطلت إلهيته ، ولصار جاهلا أو محتاجا. والشيء الذي يكون ، فأي حاجة إلى الدعاء والتضرع في طلبه؟

وأما الثاني : فضعيف أيضا. لأن التسديد في التكليف. إن علم الله أن له أثرا في حمل المكلف على القبيح ، كان فعله من الله قبيحا. وإن علم أنه لا أثر له في حمل المكلف على فعل القبيح ، كان وجوده كعدمه ، فيما يرجع إلى كون العبد مطيعا وعاصيا. فلا فائدة في صرف الدعاء إليه.

وأما الثالث : وهو أن يكون المراد أن لا يوقع الله علينا اسم الزيغ. فقد تقدم جوابه.

وأما الرابع : فجوابه : أنه لو كان علمه بأنه يكفر في السنة الثانية ، يوجب عليه أن يميته في الحال ، لكان علمه بأنه يكفر طول عمره ، يوجب عليه أن لا يخلقه البتة.

وأما الخامس : وهو حمله على إبقاء العقل. فضعيف. لأن هذه الآية متعلقة بما هو مذكور قبل هذه الآية. وهو قوله : (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ).

وأما السادس : وهو أن يحمل ذلك على الحراسة من الشيطان ، ومن شرور النفس. فنقول : ذلك إن كان مقدورا لله ، فقد وجب فعله ، فلا فائدة في طلبه. وإن لم يكن مقدورا فلا فائدة في الدعاء. فظهر بما ذكرنا : سقوط جملة هذه الوجوه.

ثم نقول : المصير إلى هذه التأويلات. إنما يحسن إذا دل الدليل على تعذر إجراء هذا النص ، فهو الحق الصريح. وإذا كان كذلك ، فكيف يصار فيه إلى التأويل.

١٨٨

الحجة الرابعة عشر : قوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ. يَقُولُوا : هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ. يَقُولُوا : هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ. قُلْ : كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (١) وجه الاستدلال : إن لفظ السيئة يقع على البلية تارة ، وعلى المعصية أخرى. وأيضا : الحسنة تقع على النعمة تارة ، وعلى الطاعة أخرى. قال تعالى : (وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (٢) وقال : (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) (٣) أي الطاعات والمعاصي.

إذا عرفت هذا فنقول : إن قوله : (إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ) يفيد العموم في كل الحسنات. وقوله : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) يفيد العموم في كل السيئات. ثم قال بعده : (قُلْ : كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) فهذا تصريح بأن جميع الحسنات والسيئات من الله تعالى. ولما ثبت أن الطاعات والمعاصي داخلتان تحت اسم الحسنة والسيئة ، ودل هذا النص على أن جميع الحسنات والسيئات من الله ، لزم القطع بأن جميع المعاصي والطاعات من الله تعالى.

فإن قيل : المراد هاهنا بالحسنة والسيئة ، ليس هو الطاعة والمعصية. ويدل عليه وجوه:

الأول : اتفاق الكل على أن هذه الآية نازلة في معنى الخصب والجدب. قال المفسرون: كانت المدينة مملوءة من النعم ، وقت مقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلما ظهر عناد اليهود ونفاق المنافقين ، أمسك الله عنهم بعض الإمساك ، كما جرت عادته في جميع الأمم. قال تعالى : (وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ ، مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها) (٤) فعند هذا قال اليهود والمنافقون: ما رأينا أعظم شؤما من هذا الرجل. نقصت ثمارنا ، وغلت أسعارنا ، منذ قدم. فكان قوله : (إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ) يعني الخصب ورخص السعر وتتابع الأمطار. قالوا : (هذا مِنْ عِنْدِ

__________________

(١) سورة النساء ، آية : ٧٨.

(٢) سورة الأعراف ، آية : ١٦٨.

(٣) سورة هود ، آية : ١١٤.

(٤) سورة الأعراف ، آية : ٩٤.

١٨٩

اللهِ ، وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) وهي الجدب وغلاء الأسعار. قالوا : هذا من شؤم محمد ـ عليه‌السلام ـ فثبت : أن المراد هاهنا من الحسنة والسيئة ليس هو الطاعات والمعاصي ، بل الرخص والقحط.

الثاني : إن الحسنة إذا أريد بها الخير والطاعة. لا يقال فيها : أصابتني. وإنما يقال : أصبتها. وليس في كلام العرب : أصابت فلانا حسنة. بمعنى أنه عمل خيرا ، وأصابته سيئة بمعنى عمل معصية. بل نقول : لو كان المراد ما ذكرتم ، لقال : إن أصبتم حسنة.

الثالث : لفظ الحسنة واقع بالاشتراك على الطاعات ، وعلى المنافع الدنيوية ، وهاهنا أجمع المفسرون على أن المنافع مرادة ، فيمتنع كون الطاعات مرادة. ضرورة أنه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميه جميعا.

الرابع : إنه تعالى قال بعد هذه الآية : ما دل على أن المراد بالحسنة والسيئة في هذه الآيات ، ليس هو الطاعات والمعاصي. وبيانه من وجهين :

الأول : إن تعالى قال بعد هذه الآية : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ ، لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) ولو كان حصول العلم والمعرفة بخلق الله ، لم يبق لهذا التعجب معنى. لأن السبب في أن لا تحصل هذه المعرفة على قول من يقول خالق أعمال العباد هو الله : هو أنه تعالى ما خلقها وما أوجدها. وذلك يبطل هذا التعجب. فلما حصل هذا التعجب ، دل ذلك على أن العلم والمعرفة إنما يحصلان بإيجاد العبد.

الثاني : إنه تعالى قال بعد هذه الآية : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ. وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) وجه الاستدلال به : أن لفظ السيئة تارة يقع على البلية والمحنة ، وتارة يقع على الذنب والمعصية. ثم إنه تعالى أضاف السيئة إلى نفسه بقوله : (قُلْ : كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) وأضاف السيئة في آخر هذه الآية إلى العبد بقوله : (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) ولا بد من التوفيق بين هاتين الآيتين. ولما كانت السيئة بمعنى البلية والمحنة ، مضافة إلى الله تعالى ، وجب أن تكون السيئة بمعنى المعصية ، مضافة إلى العبد ، حتى

١٩٠

يزول التناقض بين هاتين الآيتين المتجاورتين.

ولا يقال : هذا مدفوع من وجهين :

الأول : إن بعضهم قرأ (فَمِنْ نَفْسِكَ) (١)؟

الثاني : إنه تعالى أضاف الحسنة إلى نفسه ، حيث قال : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) تعالى ، وعند المعتزلة : أن الطاعات والمعاصي كلها من العباد. لأنا نقول : أما الأول. فجوابه : من وجهين :

الأول : إن هذه القراءة مهجورة مردودة ، وأنها جارية مجرى تغيير القرآن على سبيل التصحيف والتحريف. وهي طريقة مذمومة.

الثاني : إن القراءة التي تمسكنا بها ، لا يمكن الطعن فيها. فإنها متواترة. وهي تدل على قولنا. وإذا ثبت ذلك فنقول : هذه القراءة الشاذة. إن كانت منافية لتلك القراءة المتواترة ، وجب القطع بكونها مردودة ، وإن لم تكن منافية لها ، فهي لا تضرنا في هذا المطلوب.

وأما الثاني فجوابه : إنا إذا قلنا في الشيء المعين : إنه من فلان. فقد يراد منه : أنه بتخليقه وتكوينه. وقد يراد به : أنه هو الذي أقدره عليه وأعانه عليه وأزال الموانع العائقة منه ، وحصّل الشرائط المعتبرة فيه.

إذا ثبت هذا فنقول : أما كون السيئة من العبد ، فليس المراد أنها حصلت بإقدار العبد. وذلك لأن القدرة على المعصية ، ما حصلت من العبد البتة. ولما تعذر حمل اللفظ على هذا ، وجب حمله على أن المراد منه : أنها حصلت بإيجاده وتكوينه. وأما كون الحسنة من الله ، فهو يحتمل أن يكون المراد

__________________

(١) في تفسير القرطبي ؛ «وقيل : إن ألف الاستفهام مضمرة. والمعنى : أ«فمن نفسك؟ ومثله : قوله تعالى : (وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ؟) والمعنى : أو تلك نعمة؟ وكذا قوله تعالى : (فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً ، قالَ : هذا رَبِّي؟) أي : أهذا ربي؟ قال أبو خراش الهذلي :

رموني. وقالوا : يا خويلد ، لم ترع

فقلت ـ وأنكرت الوجوه ـ : هم هم؟

أراد «أهم»؟ فأضمر ألف الاستفهام» انظر تفسير الآية ٧٩ من سورة آل عمران في تفسير القرطبي. الجامع لأحكام القرآن. والقراءة على الاستفهام قراءة شاذة.

١٩١

منه : أنها حصلت بإقدار الله وبإعانته عليه ، فوجب حمل اللفظ عليه ، إزالة للتناقض بين الآيات.

قوله : «المراد من الحسنة والسيئة ؛ المنافع والمضار» قلنا : قد بينا أن لفظ الحسنة والسيئة ، كما يتناولان المنافع والمضار ، فقد يتناولان الطاعات والمعاصي. فتخصيصه بأحدهما تحكم محض.

قوله : الآية إنما نزلت في المنافع والمضار ، والخصب والجدب قلنا : العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب.

قوله : «لا يقال في الطاعات والمعاصي ، إنها أصابتني» قلنا : لا نسلم. فإنه يجوز أن يقال : أصابني توفيق من الله ، وعون من الله. وفلان أصابه خذلان من الله. والمراد من ذلك : التوفيق والعون لتلك الطاعة ، أو ما يرجح جانبه على جانب المعصية.

قوله : «لفظ الحسنة والسيئة ، بالنسبة إلى المعنيين مشترك ، فلم يمكن حمله عليها» قلنا : لا نسلم أنه مشترك ، بل متواطئ. وذلك لأن كل ما كان منتفعا به فهو حسنة. ثم إنه إن كان منتفعا به في الآخرة فهو الطاعة ، وإن كان منتفعا به في الدنيا ، فهو النفع الحاضر. فثبت : أن هذا اللفظ بالنسبة إلى هذين الأمرين متواطئ ، لا مشترك ، فكان متناولا لكل واحد من القسمين.

قوله : «لو حملنا الحسنة والسيئة هاهنا على الطاعات والمعاصي ، لزم التناقض بين أول الآية وبين آخرها» قلنا : لا نسلم. أما قوله تعالى : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) فنقول : وجه تمسك الخصم به : أن المدح والذم لا يصحان ، إلا إذا كان العبد موجدا. وسيأتي الجواب عن هذه الشبهة ، إن شاء الله تعالى. وأما قوله تعالى : (وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) فالجواب عن تمسكهم به من وجوه :

الأول : إنه تعالى قال حكاية عن إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ أنه قال : (وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) (١) أضاف المرض إلى نفسه ، والشفاء إلى الله. ولم

__________________

(١) سورة الشعراء ، آية : ٨٠.

١٩٢

يقدح ذلك في إقراره بأن خالق المرض والشفاء ، هو الله تعالى. فكذا هاهنا. أضاف السيئة إلينا ، والحسنة إلى نفسه. ولا يقدح ذلك في كونه تعالى خالقا للكل.

الثاني : إن أكثر المفسرين. قالوا في تفسير قول إبراهيم ـ عليه‌السلام ـ : (هذا رَبِّي) (١) : أنه ذكر هذا استفهاما على سبيل الإنكار. كأنه قال : هذا ربي؟ فههنا يحتمل أن يكون المراد ذلك. كأنه قيل : الإيمان الذي وقع على وفق قصده : من الله. والكفر الذي وقع خلاف قصده : من نفسه. وهذا محال. لأنه لو وقع بإيقاعه ، لما وقع إلا ما قصده واختاره. فلما حكمنا بأن الإيمان الذي وقع على وفق قصده : من الله ، لا منه. فكيف يمكن أن يقال : الكفر الذي وقع على خلاف مقصده : منه؟

والحاصل : إن قوله : «وما أصابك من سيئة ، فمن نفسك؟» : محمول على الاستفهام ، على سبيل الإنكار ، حتى يلزم التناقض بين أول الآية وآخرها. ومما يدل على أن المراد من قوله : (قُلْ : كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) : جميع الممكنات والمحدثات وجهان :

الأول : البرهان القاطع العقلي. وهو أن كل موجود. فهو إما واجب لذاته ، وإما ممكن لذاته. والواجب لذاته واحد. وهو الله ـ سبحانه ـ والممكن لذاته كل ما سواه. ثم إن الممكنات لذاته ، إن استغنى عن المؤثر ، فحينئذ ينسد باب الاستدلال بحدوث العالم وبجوازه على وجود الصانع ، ويلزم نفي الصانع. وأما إن كان الممكن لذاته ، محتاجا إلى المؤثر ، وجب أن يثبت هذا الحكم في جميع الممكنات ، وأن لا يختلف لكونه حيوانا أو جمادا ، أو فلكا أو ملكا ، أو حركة أو سكونا ، أو فعلا أو قولا. لأنه لما كان الإمكان منشأ للحاجة ، وجب تحقق الحاجة في جميع الممكنات. ولأجل قوة هذا البرهان وظهوره. قال سبحانه : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ ، لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) على سبيل التعجب. لأنه لما كان الإمكان هو المنشأ للحاجة. فالحكم في بعض

__________________

(١) سورة الأنعام ، آية : ٧٦.

١٩٣

الممكنات بالحاجة ، وفي بعضها بعدم الحاجة : عجيب خارج عن المعقول.

والوجه الثاني في بيان ما ذكرناه : أنه تعالى قال في آخر هذه الآية : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ ، فَقَدْ أَطاعَ اللهَ ، وَمَنْ تَوَلَّى ، فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) يعني : ما أرسلناك إليهم ، لأجل أن تجعلهم مؤمنين ، عارفين واصلين إلى الحق. فإن ذلك ليس في وسعك. بل لا يحصل ذلك إلا بقدرتي وإرشادي.

وهذا آخر تقرير هذه الحجة. والله أعلم.

الحجة الخامسة عشر : الإيمان حسنة ، وكل حسنة فمن الله ، ينتج : أن الإيمان من الله. بيان المقدمة الأولى : إن الحسنة هي الفعل الخالي عن جميع جهات القبح ، والإيمان كذلك. فكان حسنة. ولأنهم اتفقوا على أن قوله : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً : مِمَّنْ دَعا إِلَى اللهِ) (١) المراد به : كلمة الشهادة وقيل في قوله : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ) (٢) : إن ذلك هو قول : لا إله إلا الله. فثبت : أن الإيمان حسنة.

وإنما قلنا : إن كل حسنة فمن الله. لقوله تعالى : (ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ) وهو نكرة في موضع الشرط ، فيفيد الاستغراق. وإذا ثبت أن الإيمان من الله ، وأردنا أن نبين أيضا : أن الكفر من الله تعالى. فلنا فيه وجوه :

الأول : إنه لا قائل بالفرق.

الثاني : العبد لو قدر على إيجاد الكفر. فالقدرة الصالحة لإيجاد الكفر. إما أن تكون صالحة لإيجاد الإيمان ، أو لا تكون. فإن كان الأول فحينئذ يعود ذلك إلى القول بأن إيمان العبد منه. وإن كان الثاني فحينئذ يكون القادر على الشيء غير قادر على ضده. وذلك عندهم باطل. وأيضا : على هذا التقدير تكون القدرة موجبة للمقدور. وذلك عندهم يمنع من كون القادر قادرا على الفعل. فثبت : أنه لما لم يكن الإيمان منه ، وجب أن لا يكون الكفر منه.

__________________

(١) سورة فصلت ، آية : ٣٣.

(٢) سورة النحل ، آية : ٩٠.

١٩٤

الثالث : إن العبد لما لم يكن موجدا للإيمان. فبأن لا يكون موجدا للكفر أولى. وذلك لأنك لا ترى في الدنيا إنسانا يرضى بالكفر والجهل والضلال. بل إنما يريد الحق والإيمان. فلما نص تعالى على أن الإيمان الذي وقع على قصده ، ليس منه ، بل من الله. والكفر الذي وقع على خلاف قصده بأن لا يكون منه ، بل من الله : كان أولى.

فإن قالوا : لم لا يجوز أن يكون المراد من كون الإيمان من الله ، هو أن الله أقدره عليه ، وهداه إليه؟ قلنا : فعلى هذا التقدير. الذي من الله هو الاقدار والتمكين. فأما تعين الإيمان فليس من الله. وهو على خلاف الآية. وأيضا : فجميع الشرائط مشتركة بالنسبة إلى الإيمان والكفر. وهو القدرة ، والعقل. والدلائل. ثم إن العبد باختيار نفسه ، أوجد أحد الضدين دون الآخر. فلا بد وأن يكون ذلك بإعانة الله ، وبترجيح داعيته على ما حققنا هذا الكلام في دليل الداعي. وهو المطلوب. والله أعلم.

الحجة السادسة عشر : لو لم يكن الإيمان بخلق الله ، لما حسن من العبد أن يحمد الله على الإيمان. وقد حسن ذلك ، فوجب أن يكون الإيمان بخلق الله تعالى. بيان الملازمة : بالنص والمعقول. أما النص : فهو أنه تعالى حكم بأن كل من أحب أن يحمد على ما لم يفعل ، كان مذموما. قال تعالى : (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) (١) وأما المعقول. فهو أن الحمد في اللغة عبارة عن مدح الفاعل على الإحسان الذي صدر منه. فإذا لم يكن الفعل فعلا له ، امتنع مدحه عليه. وإنما قلنا : إنه يحسن من العبد أن يحمد الله على الإيمان : لإطباق الأمة على قولهم : الحمد لله على نعمة الإيمان.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : إنا بحمد الله على الإيمان ، بمعنى : أنه تعالى أعاننا على الإيمان ، وأقدرنا عليه ، وأرشدنا إلى كيفية تحصيله؟ وأيضا : فمذهب «ثمامة بن الأشرس» إنا لا نحمد الله على الإيمان ، بل الله تعالى

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية : ١٨٨.

١٩٥

يحمدنا عليه. كما قال تعالى : (فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً) (١) وقال : (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً. فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ) (٢) وقال : (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) (٣).

والحاصل : إنا نحمد الله على الإقدار على الإيمان. والله تعالى يشكرنا على فعل الإيمان. وعند هذا قال : «ثمامة» : لا يجوز أن يقال : الحمد لله على نعمة الإيمان ، ومنع هذا الإجماع.

والجواب عن الأول : إن الإيمان غير ، والقدرة على الإيمان غير. فهب أنا نشكره على أن أعطانا القدرة على الإيمان ، لكن كيف نشكره على الإيمان ، مع أنه تعالى ما أعطانا الإيمان؟

وأما السؤال الثاني فهو باطل. لأن إجماع الأمة على قولهم : الحمد لله على نعمة الإيمان : معلوم بالتواتر. فكان منكره منكرا للإجماع. والذي يدل على أن هذا الإجماع معلوم بالتواتر : أن المعتزلة ذكروا أن «ثمامة بن الأشرس» إنما منع هذا الإجماع عند «جعفر بن حرب» جوابا عن كلام رجل من أهل السنة ، احتج بهذا الدليل. قالوا : فلما سمع «جعفر بن حرب» هذا الكلام ، قال : لما شنعت هذه المسألة ، سهلت. وهذا يدل على أن «جعفر بن حرب» كان معترفا بأن منع هذا الإجماع : شنيع.

وأما الآيات الدالة على كون العبد مشكورا على الطاعات : فهي لا تنافي كون الله تعالى مشكورا على تلك الطاعات. لأن الشكر هو التعظيم. وتعظيم العبد لله ، ليس إلا المدح والثناء. وتعظيم الله للعبد ، ليس إلا إيصال الثواب إليه. ولا منافاة بين الأمرين. فثبت: أن كون العبد مشكورا على الطاعات ، لا ينافي كون الله مشكورا عليها. والله أعلم.

الحجة السابعة عشر : قوله تعالى : (وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ

__________________

(١) سورة الاسراء ، آية : ١٩.

(٢) سورة البقرة ، آية : ١٥٨.

(٣) سورة آل عمران ، آية : ١١٥.

١٩٦

وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) (١) وإيتاء الرشد ، ليس عبارة عن أصل العقل وسلامة المزاج. لأن ذلك حاصل في حق الأكثرين. فلا يجوز ذكره في معرض المنة عليه. وليس المراد أيضا : التوفيق والبيان. لأن كل ذلك حاصل في حق الكفار. فوجب أن يكون المراد : ما حصل عنده من العلوم الكثيرة والأفعال الشريفة. وذلك يدل على أن أفعال العبد تحصل بخلق الله تعالى.

فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد من الرشد : النبوة؟ والدليل عليه : قوله تعالى : (وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ) وذلك لأنه تعالى إنما يخص بالنبوة من يعلم من حاله أنه في المستقبل يقوم بحقها ويجتنب عن كل ما لا يليق بها. ولذلك قال : (اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ) (٢).

سلمنا ذلك. فلم لا يجوز أن يقال : المراد من هذا الرشد ، هو ما آتاه الله من العقل والفهم الكامل؟ قوله : «العقل حاصل في حق الكل» قلنا : لفظ الرشد إنما يطلق فيمن انتفع بعقله واستعمله في تحصيل مصالحه. والجواب : إن الرشد هو الاهتداء إلى وجوه المصالح. قال تعالى : (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً. فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ) (٣) ولا يمكن أن يكون المراد والتعظيم ، ولا يجوز تخصصه بالنبوة. لأن لفظ الرشد ، مطلق ، فتقييده بالنبوة خلاف الظاهر ، فوجب حمله على كل ما كان حاصلا له من العلوم والأفعال الشريفة. وحينئذ يحصل المطلوب.

الحجة الثامنة عشر : قوله تعالى : (وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا : إِنَّا نَصارى ، أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ ، فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ. فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) (٤) دل هذا النص : على أنه تعالى أوقع الإغراء بينهم ، حتى تقاتلوا. ولا شك أن تلك العداوة المقاتلة : أفعال قبيحة. فإن قالوا : قوله : (بَيْنَهُمُ) راجع إلى النصارى ، وإلى من تقدم ذكرهم من اليهود ، فالله تعالى

__________________

(١) سورة الأنبياء ، آية : ٥١.

(٢) سورة الأنعام ، آية : ١٢٤.

(٣) سورة النساء ، آية : ٦.

(٤) سورة المائدة ، آية : ١٤.

١٩٧

أغرى بين النصارى واليهود ، فيما كان يفعله كل فريق منهم من ضروب الكفر بالله. وإنكار القبيح ليس بقبيح ، بل هو حسن. فدل ذلك على أن تلك العداوة ، ليست من القبائح.

والجواب : إن إنكار القبيح إنما يحسن إذا أنكره ، لكونه قبيحا. أما إذا أنكره لغرض أن يدعوه إلى قبيح آخر ؛ كان قبيحا. وحينئذ يحصل المطلوب.

الحجة التاسعة عشر : قوله تعالى : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ ، مِنْ رَبِّكَ : طُغْياناً وَكُفْراً. وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) (١) والاستدلال به من وجهين:

الأول : إن قوله : (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ، ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ : طُغْياناً وَكُفْراً) معناه : أن إسماع الله إياهم هذه الآيات ، اقتضى أن يحصل لهم زيادة ميل ورغبة في الكفر. إذا ثبت هذا فنقول : إسماع تلك الآيات ، اقتضى ترجيح فعل الكفر على فعل الإيمان. وقد دللنا على أن عند حصول الرجحان يجب الفعل. فثبت : أن إسماع الله تعالى إياهم هذه الآيت ، يستلزم حصول الكفر. وذلك ينافي قول المعتزلة.

والوجه الثاني في الاستدلال : قوله تعالى : (وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) والاستدلال به كما تقدم.

الحجة العشرون : الاستدلال بجميع آيات الهدى والضلال. وسنفرد لذلك بابا على سبيل الاستقصاء. ولنقتصر من ذكر الدلائل القرآنية على هذا القدر. فإن من وقف على ما ذكرناه ، أمكنه الاستدلال بآيات القرآن من وجوه كثيرة ، خارجة عن الحصر. وبالله التوفيق.

__________________

(١) سورة المائدة ، آية : ٦٤.

١٩٨

الباب الثالث

في

الدلائل الاخبارية في هذه المسألة

١٩٩
٢٠٠