المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٧

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٣٥

١
٢

٣
٤

المقالة الأولى

في

المقدمات

٥
٦

الفصل الأول

في

تفصيل مذاهب الناس فيها

اعلم (١) : أن الموجود. إما أن يكون واجبا لذاته ، وإما أن يكون ممكنا لذاته. أما الواجب لذاته فهو الله جل جلاله. وأطبق المحققون على أنه يجب أن يكون ، لا متحيزا ، ولا حالا في المتحيز. وأما الممكن لذاته. فإما أن يكون قائما بالنفس ، وإما أن يكون قائما بالغير. والقائم بالنفس. إما أن يكون متحيزا ، وإما أن لا يكون متحيزا. والقائم بالغير. إما أن يكون قائما بالمتحيز ، وإما أن يكون قائما بغير المتحيز. فهذه أقسام أربعة.

فأما الذوات المتحيزة والصفات القائمة ، فهي معلومة الثبوت. وأما الذوات التي لا تكون متحيزة فهي المسماة في اصطلاح الفلاسفة بالمفارقات ، وفي اصطلاح قوم آخرين بالأرواح. وهي على قسمين. لأن هذه الذوات. إما أن يقال : كما أنها ليست أجساما ، ولا حالة في الأجسام ، فكذلك ليست متعلقة بالأجسام على سبيل التصرف والتدبير [وإما أن يقال : إنها متعلقة بالأجسام على سبيل التصرف والتدبير (٢)] والأول تسميها الفلاسفة بالعقول المجردة.

__________________

(١) بعد فراغ المؤلّف من الجزء السادس كتب هكذا : «بسم الله الرحمن الرحيم. وبه ثقتي. الكتاب السابع في الأرواح العالية والسافلة. وفيه مقالات. المقالة الأولى في المقدمات. وفيها فصول. الفصل الأول : في تفصيل مذاهب الناس فيها. اعلم أن الموجود .... الخ».

(٢) سقط (م).

٧

وهاهنا بحث. فإن عدم تعلقها بالأجسام على سبيل التدبير والتصرف ، يحتمل أن يكون لكمالات ذواتها ، واستعلائها عن الالتفات إلى الأجسام ، ويحتمل أن يكون لضعفها في ذواتها وعدم اقتدارها على التصرف في شيء من الأجسام. فهذا بحسب القسمة محتمل. ومن الذي أحاط عقله بجميع ملك الله وملكوته؟ وإلى هذا القسم الإشارة في الكتاب الإلهي ، حيث قال : (وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ ، لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) (١).

وأما القسم الثاني. فهو الجواهر التي تكون مجردة في ذواتها عن الجسمية. والحلول في الجسمية. إلا أنها متعلقة بالأجسام على سبيل التدبير والتصرف. وهذا القسم ينقسم إلى قسمين لأنها إما أن تكون مدبرة للأجسام الفلكية ، أو الأجسام العنصرية. ولما ثبت بالدليل [أنه حصل خارج العالم خلاء لا نهاية له ، ولم يثبت بالدليل (٢)] أن العالم واحد ، بل ثبت أنه لا يمتنع وجود عوالم غير هذا العالم. وبتقدير ثبوتها ، فيحصل هناك من زمر الأرواح المقدسة ، ما لا يعلمها [إلا الله تعالى ، ولا يعلمها (٣)] البشر البتة.

إلا أن البحث عن تلك الأحوال غير ممكن. فلهذا السبب اقتصرت العقول على البحث عن الأرواح المدبرة للأجسام الفلكية ، أو الأرواح المدبرة للأجسام العنصرية.

أما الأرواح المدبرة للأجسام الفلكية. فالأظهر أن الأفلاك تكون لها كالأبدان ، والكواكب لها كالقلوب ، والخطوط الشعاعية الفائضة من أجرام الكواكب [النيرة (٤)] جارية مجرى الأجسام اللطيفة النورانية ، الفائضة من

__________________

(١) النجم ٢٦ وفي تفسير «الجامع لأحكام القرآن» للقرطبي رحمه‌الله في تفسير هذه الآية : «هذا توبيخ من الله تعالى لمن عبد الملائكة والأصنام. وزعم : أن ذلك يقربه إلى الله تعالى. فأعلم أن الملائكة مع كثرة عبادتها وكرامتهم على الله لا تشفع إلا لمن أذن أن يشفع له. قال الأخفش : الملك واحد ، ومعناه جمع ، وهو كقوله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) وقيل : إنما ذكر ملكا واحدا. لأن «كم» تدل على الجمع»

(٢) سقط (م).

(٣) سقط (ط ، ل).

(٤) من (ل).

٨

القلب والدماغ ، الواصلة إلى سائر الأعضاء. ثم كما أن لكل بدن : نفسا واحدة ، إلا أنه يفيض عنها في كل جزء من أجزاء البدن : قوة مدبرة لذلك الجزء ، فكذلك لا يبعد أن يفيض من النفس الكلية التي للفلك : نفوس مخصوصة ، كل واحد منها يكون متعلقا بجزء معين من أجزاء الفلك ، وبجانب مخصوص من جوانبه.

وأما النفوس السفلية : فقد اتفق الأكثرون على أن النفوس الناطقة البشرية : جواهر مجردة عن الجسمية ، وعن الحلول في الجسم ، إلا أنها متعلقة بهذه الأبدان على سبيل التدبير والتصرف.

وأما نفوس سائر الحيوانات : فالأكثرون زعموا : أنها قوى جسمانية ، وليست جواهر مجردة. ومنهم من زعم : أنها من الجواهر المجردة. وهؤلاء قسمان :

الأول : القائلون بالتناسخ ، وهم الذين زعموا : أن أرواح البهائم [والسباع (١)] كانت أرواحا بشرية ، إلا أنها بعد مفارقة الأبدان الإنسانية ، صارت متعلقة بأبدان البهائم والسباع.

والفرقة الثانية : الذين ينكرون التناسخ ، ويزعمون مع هذا : أن نفوس السباع والبهائم ، وسائر الحيوانات : نفوس مجردة عن الجسمية ، والحلول في الجسمية. فهذا هو الكلام في نفوس الحيوانات.

واختلف الناس في الجن والشياطين وليس للمتأخرين من الفلاسفة في هذا الباب : كلام مقنع ، إلا أن الأكثرين من الأنبياء والرسل ـ عليهم‌السلام ـ أثبتوها ، وجزموا بوجودها.

وحاصل القول فيها :

أنهم زعموا : أن الأرواح على قسمين : أرواح فلكية. وأرواح سفلية.

__________________

(١) سقط (ط ، ل).

٩

أما الأرواح الفلكية : فهم الملائكة ، وهم معصومون عن الشرور والنقائص وأما الأرواح السفلية ، فهم فريقان :

أحدهما : الأرواح الطاهرة الخيرة ، النقية عن العقائد الذميمة ، والأفعال الرديئة. وهم مؤمنو الجن.

والثاني : الأرواح الخبيثة الشريرة المؤذية. قالوا : ولهم رئيس ، هو أقواهم قوة ، وأتممهم قدرة. وهو المسمى «إبليس» والباقون أتباعه ، وهو مع جنده ، في مقابلة [جند الملائكة. وأما المجوس. فقد بالغوا ، وزعموا : أنه. أعني «إبليس» في مقابلة (١)] «الله» تعالى وملائكته (٢) فكل ما يحصل في العالم من الخيرات والراحات ، فهو من الله تعالى ، والملائكة. وكل ما يحصل في العالم من الآلام والآفات والمكروهات فهو من إبليس والشياطين.

ثم القائلون [بوجود هذا (٣)] النوع من الأرواح ، فريقان : منهم من زعم : أنها أرواح فلكية ، إلا أن كل واحد منها يدبر لقسم من أقسام هذا العالم ، فههنا (٤) أرواح مدبرة [للجبال ، وأرواح مدبرة (٥)] للبحار ، وأرواح مدبرة للمفاوز ، وأرواح مدبرة للعمرانات. وهذا القسم أيضا : أقسام. فبعضها مدبرة لأحوال الأمطار ، وبعضها للزروع ، وبعضها للحروب. وقال الآخرون : بل هذه الأرواح ، المدبرة لهذه الأشياء ، لا يبعد أن يكون تعلقها الأول ، بجزء من أجزاء كرة الأثير.

واعلم : أن هاهنا نوعا (٦) آخر من الأرواح ، قال بإثباته جمهور الأنبياء ، وأقرّ به أصحاب الطلسمات ، وذلك لأنه جاء في الكلمات المروية عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أنه كان يقول : «جاءني ملك البحار ، وملك الجبال ، وملك الأمطار ،

__________________

(١) سقط (م).

(٢) ومنازعته (طا) ، (ل)

(٣) ليسوا نوعا مستقلا ، بل هم من الملائكة.

(٤) بهذا (م).

(٥) فبعض الارواح (م).

(٦) من (ل).

١٠

وملك الأرزاق ، وملائكة الحرب» فهذا كلام أثبته رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأقرّ به. وجمهور أصحاب الطلسمات يثبتون هذا النوع من الأرواح ، ويقرون به ، فيجب البحث عن وجود هذا النوع.

تلك الحرارة تشبه الحرارة الغريزية [فإذا كانت الحرارة الغريزية (١)] التي في القلب مع قلتها ، لم تخل من نفس تدبرها ، وتتعلق بها ، فالحرارة اللطيفة الموجودة تحت فلك القمر ، كيف يمكن خلوها عن نفوس تتعلق بها وتدبرها؟ ومنهم من قال : لا يمتنع أيضا تعلق الأرواح الكثيرة [بها (٢) ، و] بكرة النسيم ، وبكرة الزمهرير. فإنا نشاهد أن الجبال التي تكثر فيها الثلوج ، قد يتولد فيها ديدان عظيمة ، تشبه زقاقا رقيقة مملوءة من الماء العذب البارد ، فإذا لم يمتنع تعلق الأرواح بها ، فكذلك لا يمتنع تعلق الأرواح بهذه الكرات. فهذا تفصيل الكلام في هذا الباب.

والحاصل : أن مراتب المفارقات عند الفلاسفة المتأخرين ك «أبي نصر الفارابي» و «أبي علي بن سينا» أربعة. فأعلاها وأشرفها : واجب الوجود لذاته ، ثم العقول ، ثم النفوس السماوية ، ثم النفوس البشرية. ولا يعترفون بالجن والشياطين. وأما أرباب الملل والنحل ، وأصحاب الطلسمات. فإنهم يثبتون الجن والشياطين ، وسائر الأقسام. والله أعلم.

__________________

(١) من (ل).

(٢) من (م).

١١
١٢

الفصل الثاني

في

ذكر شرح اخر في تقسيم الأرواح

اعلم : أن الموجودات بحسب القسمة العقلية ، على أربعة أقسام : لأنها إما أن تؤثر(١) ولا تتأثر ، بوجه من الوجوه. وإما أن تقبل الأثر ، ولا تمكنه أن يؤثر البتة. وإما أن تؤثر وتتأثر معا. وإما أن لا تؤثر ولا تتأثر البتة. فهذه أقسام أربعة ، لا مزيد عليها.

أما القسم الثاني : وهو الذي يؤثر ولا يتأثر البتة ، فهو الله سبحانه وتعالى. والدليل عليه : أنه واجب الوجود لذاته ، وكل ما كان واجبا لذاته (٢) كان واجب الوجود في جميع صفاته السلبية (٣) والثبوتية. والدليل عليه : أن ذاته المخصوصة ، إن كانت كافية في حصول ذلك الإيجاب ، أو ذلك السلب ، يلزم أن يدوم ذلك الإيجاب. وذلك السلب بدوام ذاته. فحينئذ يمتنع وقوع التغير في شيء من صفاته ، وإن لم تكن ذاته كافية في حصول ذلك الإيجاب وذلك السلب ، فحينئذ يتوقف حصول ذلك الإيجاب ، وذلك السلب [على اعتبار حال الغير ، ولا شك أن هويته موقوفة على حصول ذلك الإيجاب أو ذلك السلب (٤)] والموقوف على الموقوف على الغير. موقوف على الغير. [والموقوف

__________________

(١) تكون مؤثرة (م).

(٢) واجب الوجود لذاته (م ، ط).

(٣) السلبية والإضافية والثبوتية (م ، ط).

(٤) من (طا ، ل).

١٣

على الغير (١)] : ممكن لذاته [فواجب الوجود لذاته ، ممكن الوجود لذاته (٢)] هذا خلف. فثبت : أن الحق سبحانه وتعالى ؛ واجب الوجود لذاته ، وواجب الوجود في كل صفاته الإيجابية [والسلبية (٣)] وكل ما كان كذلك ، فهو لا يقبل الأثر من الغير البتة.

وأما بيان أنه مؤثر في غيره ، فهو أنه ثبت : أن كل ما عدا الموجود الواحد الواجب ، فإنه ممكن لذاته ، وكل ممكن لذاته ، فإنه لا يوجد إلا بإيجاد الواجب لذاته. إما بواسطة أو بغير واسطة. فثبت : أن الحق سبحانه وتعالى : مؤثر في كل ما سواه ، وأنه لا يقبل الأثر البتة عن شيء مما سواه. فهو من حيث أنه مستقل في وجوده ، وفي جميع صفاته الثبوتية والسلبية. قائم بنفسه. ومن حيث إن كل ما سواه [قائم به (٤)] فإنه يوجد بإيجاده. وإن ما يتقوم بتقويمه ، فهو مقوم بغيره. والكامل في كونه قائما بذاته ، مقوما لغيره : هو الله القيوم. فواجب الوجود : هو القيوم الحق. فلهذا السر قال في الكتاب الإلهي : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ، الْحَيُّ الْقَيُّومُ) (٥).

وأما القسم الثاني : وهو الموجود الذي يتأثر ولا يؤثر فهو «الهيولى» وقد عرفت في كتاب «الهيولى» : أن هيولى العالم الجسماني ، هي الأجزاء التي لا تتجزأ وعند الفلاسفة : هيولى عالم الأجسام [موجود (٦)] ليس بمتحيز ، وصورتها هي الحجمية والتحيز.

إذا عرفت هذا فنقول : تلك الأجزاء من حيث هي هي ، ليست حارة ولا باردة ، ولا رطبة ولا يابسة ، ولا مجتمعة ولا مفترقة ، بل هي قابلة لهذه

__________________

(١) سقط (طا) ، (ل).

(٢) سقط (م).

(٣) سقط (طا) ، (ل).

(٤) سقط (ل).

(٥) البقرة ٢٥٥.

(٦) من (طا) ، (ل).

١٤

الصفات ، ولهذه الأحوال ، وتلك الأحوال (١) تسمى عند بعضهم : بالهباءات وليس فيها إلا مجرد القبول والطاعة والانقياد. ولما كان الجود بإعطاء الوجود ، لا يصح إلا من الموجود ، وكان القبول والتأثر لا يحصل إلا عند حصول العدم ، لا جرم قيل في الكتاب الإلهي : (وَاللهُ الْغَنِيُّ ، وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ) (٢).

إذا عرفت هذا ، فنقول : [من الظاهر (٣)] أن الوجود أشرف من العدم ، ولهذا السبب كان أشرف الموجودات : المؤثر الذي لا يتأثر ، وهو الله سبحانه وتعالى وأخسها : المتأثر الذي لا يؤثر ، وهو الهيولى.

وأما القسم الثالث من أقسام الموجودات : وهو الذي يؤثر ويتأثر معا. فهو عالم الأرواح والنفوس ، ويجب البحث هاهنا عن أمرين :

الأول : إثبات أنها متأثرة. والدليل عليه : أن واجب الوجود لذاته : واحد ، فيكون كل ما سواه : ممكنا لذاته. فهذه الأرواح والنفوس ممكنة لذواتها. والممكن لذاته لا يوجد إلا بمؤثر ، فثبت أن هذه الأرواح قابلة للأثر.

الثاني : إثبات أنها مؤثرة ، وهاهنا [يحصل (٤)] البحث العظيم.

فمن الثاني : من زعم : أنه لا يؤثر إلا الواحد ، الذي هو واجب الوجود لذاته. واحتج (٥) عليه بوجوه :

الحجة الأولى : إن كل ما كان ممكنا لذاته ، فإن ماهيته مقتضية للإمكان ، فلو كانت مؤثرة في وجود غيرها ، لكانت الماهية الواحدة اقتضت أثرين ، وهذا محال. وهذه الحجة مستقيمة على أصول الفلاسفة من وجهين :

الأول : إن عندهم الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد.

__________________

(١) الأجزاء (م). الأحوال (طا).

(٢) محمد ٣٨.

(٣) من (ل).

(٤) من (ل).

(٥) واحتجوا (طا) ، (ل).

١٥

الثاني : إن عندهم البسيط لا يكون قابلا وفاعلا معا.

الحجة الثانية : أن نقول : إن الشيء الواحد. إما أن لا يمتنع كونه مصدرا للأثرين (١) أو يمتنع. فإن لم يمتنع ذلك ، فنقول : لا شك أن واجب الوجود لذاته : موجود. ولا شك أنه مؤثر في وجود غيره. والتقدير في هذا القسم : أنه لا يمتنع صدور الآثار الكثيرة عن المؤثر الواحد. وإذا كان كذلك ، لم يمتنع إسناد جميع موجودات العالم إليه. وعلى هذا التقدير ، فإثبات المؤثر الواحد : معلوم ، وإما إثبات ما عداه : فمشكوك فيه. والتمسك بطاعة المعبود المعلوم ، أولى من التمسك بطاعة المعبود المجهول. فثبت : أن العقل يقتضي التوجه إلى عبادة الله تعالى ، والإعراض عن كل ما سواه.

وهذا الدليل هو المذكور في الكتاب الإلهي ، حيث قال تعالى : (وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ، لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ. فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ) (٢) والمعنى : أن المعبود الأول معلوم الثبوت ، وما سواه غير معلوم. والاقتصار على المعلوم أولى من الذهاب إلى غير المعلوم.

وأما القسم الثاني : وهو أن يكون التقدير ، هو أنه يمتنع صدور الآثار الكثيرة عن المؤثر الواحد ، فنقول : فعلى هذا التقدير ، يمتنع كون الممكن لذاته ، مصدرا للأثر ، لأن للممكن لذاته ماهية ، تقتضي الإمكان فلو اقتضت تلك الماهية أثرا آخر ، لزم صدور الآثار الكثيرة عن المؤثر الواحد ، وهو محال.

الحجة الثالثة : إن علّة الحاجة إلى المؤثر ، هي الإمكان. والدليل عليه : إنا إذا رفعنا الإمكان عن الوهم ، بقي الوجوب بالذات ، أو الامتناع بالذات ، وكل واحد منهما ، يحيل الحاجة إلى المؤثر. فثبت : أن علة الحاجة ليست إلا الإمكان. والمفهوم من الإمكان أمر واحد ، فعلة الحاجة إلى المؤثر أمر واحد. وذلك الأمر الواحد ، إما أن يكون علة للحاجة إلى مؤثر معين ، أو

__________________

(١) للاثنين (م).

(٢) المؤمنون ١١٧ والآية كاملة في (ل).

١٦

إلى مؤثر غير معين. والثاني باطل ، لأن المؤثر الذي لا يكون معينا في ذاته امتنع وجوده في نفسه [لأن كل ما كان موجودا في نفسه (١)] فهو معين في ذاته ، وما لا يكون معينا في ذاته ، امتنع كونه موجودا في ذاته ، وما لا وجود له في ذاته ، امتنع احتياج غيره في الوجود إليه. فثبت : أن الإمكان (٢) لا يحوج إلا إلى شيء معين. فوجب إسناد كل ممكن إليه. فثبت : أنه لا مؤثر إلا الواحد.

فهذا تقرير هذا القول.

وأما الجمهور الأعظم من أهل العالم. فقد أثبتوا مؤثرات كثيرة. قالوا : وكيف يمكننا إنكار ذلك ، ونرى النار [مؤثرة (٣)] في الإحراق ، والشمس في الإشراق ، والخبز في الشبع ، والماء في الري؟ ثم قالوا : والأرواح مؤثرة في عالم الأجسام ، ومدبرة لها ، ومتصرفة فيها. وأكدوا أقوالهم تارة بوجوه فلسفية ، وأخرى برموز نبوية. ألا ترى : أنه جاء في الكتاب الإلهي في صفات الملائكة : (فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً) (٤)؟ وقال أيضا : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) (٥) وإذا ثبت هذا ، فقد ظهر أن عالم الأرواح متوسط بين العالم الإلهي ، وبين العالم الجسماني ، لا توسطا بالحيز والمكان ، بل توسطا بالشرف والرتبة. فهي من حيث إنها متأثرة (٦) عن العالم الإلهي ، كانت أدون منه ، ومن حيث إنها مؤثرة في عالم الأجسام ، كانت أعلى وأجل منها ، فلا جرم كانت درجة الأرواح متوسطة بين الدرجتين.

إذا عرفت هذا فنقول : الروحانيات لها مراتب ودرجات :

فالمرتبة الأولى : وهي أعلى مرتبة ، وأجلها رتبة : الذين يكونون

__________________

(١) من (ل).

(٢) الإمكان يحوج إلى (م).

(٣) سقط (طا).

(٤) الذاريات ٤.

(٥) النازعات ٥.

(٦) مؤثرة من (ل).

١٧

مستغرقين في نور جلال الله تعالى ، استغراقا تاما ، بحيث لا يتفرغون مع ذلك الاستغراق ، لتدبير عالم الأجسام ، فطعامهم التوحيد ، وشرابهم التقديس ، وأنفسهم التنزيه. استغرقوا في نور جلال الله تعالى ، ولم يتفرغوا إلى شيء سوى الله تعالى. وهؤلاء هم الملائكة المقربون.

وقد عبر الكتاب الإلهي عن هذه المرتبة بقوله : (وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ، يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ ، لا يَفْتُرُونَ) (١).

ثم إن لهذا القسم من الروحانيات : درجات لا نهاية لها في الكمال والنقصان وذلك لأن أنوار جلال الله سبحانه وتعالى ، غير متناهية. فدرجات العارفين في العرفان أيضا : غير متناهية. ثم إنه لما كان لا صفة لهذا القسم من الروحانيات ، إلا الاستغراق في المعارف الإلهية ، والفناء في تلك الجلالة الصمدية ، لا جرم سمى الحكماء الإلهيون هذا القسم من الأرواح : بالعقول المحضة ، لأنها [وإن كانت جواهر قائمة بأنفسها ، إلا أنها (٢)] لكثرة تعقلاتها ، وقوة معارفها ، صاروا كأنهم [عين (٣)] تلك التعقلات ، ونفس تلك الإدراكات.

فإن قال قائل : فعلى ما تقولونه أنتم ، لم يبق لهذا القسم من الروحانيات ، إلا قبول الوجود عن الحق ، وقبول الأضواء القدسية عن إشراق جلال الحق ، وكل ذلك انفعال وتأثر ، فأين التأثير والفعل؟ فنقول في الجواب : إنها وإن كانت مستغرقة في تلك التعقلات الإلهية ، والتعقلات القدسية ، إلا أنه لا يبعد أن يفيض عنها : آثار عظيمة ، إما على الأرواح الفلكية ، أو على الأجرام الفلكية (٤) فيضان النور عن الشمس ، والحياة عن

__________________

(١) الأنبياء (١٩ ـ ٢٠) ، والنص كامل في (طا).

(٢) سقط (طا) ، (ل).

(٣) من (م ، ط).

(٤) الفلكية ، ففاض عنها الانوار ، فيضان ... إلخ (م ، ط).

١٨

الروح ، وبهذا التقدير تكون فعالة. وأيضا : فلا يبعد أن يقال : إن تلك العقول ، يكون بعضها أدنى حالا من البعض ، فيستكمل الناقص منها بالكامل ، كما أن الشمس والقمر ، وإن كانا في العالم الجسماني جوهرين علويين شريفين ، إلا أن القمر ، لما كان أضعف حالا من الشمس لا جرم صار يقبل النور عن الشمس. ثم إنه بعد قبول النور عن الشمس ، يصير فياضا ، لتلك الأنوار على العالم السفلي ، فلا يبعد أن يكون حال الروحانيات كذلك.

وأما القسم الثاني من أقسام الأرواح : فهم الذين التفتوا إلى تدبير عالم الأجسام. وما بالغوا في الاستغراق في خدمة الجانب الأعلى إلى حيث يمنعهم عن التعلق بالجانب الأسفل ، وهؤلاء هم الملائكة العملية. وفي مصطلحات الفلاسفة هم المسمون بالنفوس.

ثم إن هذا القسم متفاوتون أيضا في درجات الشرف والكمال. فكل من كان تعلقه بجسم أشرف وأعلى ، كان هو في ذاته أشرف (١) وأعلى. ولما كان أعظم الأجسام هو العرش ، لا جرم كان أعظم الأرواح المتعلقة بعالم الأجسام هو الروح المتصرف في العرش ، ولا يبعد أن يكون المسمى بالروح الأعظم هو ذلك الروح ، وهو المسمى أيضا : بالنفس الكلية في مصطلحات الفلاسفة ، لأن تلك النفس بدنها العرش (٢) ، وكل ما حصل في داخل العرش ، فكأنه جزء من أجزائه ، وشعبة من شعبه. وكذلك النفوس المدبرة لتلك الأجسام تكون شعبة من شعب تلك النفس ، ونتيجة من نتائجها.

ثم المرتبة الثانية من مراتب النفوس : النفس المدبرة للكرسي ، كما قال في الكتاب الإلهي : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ)؟ إلى قوله تعالى : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) (٣) والسبب في تسمية الفلك الثامن بالكرسي : أن الكرسي جسم حصل فيه درجات متفاوتة بالدنو والعلو ، لأن

__________________

(١) أعلى وأبهى (طا) ، (ل).

(٢) بنفس الكل (ل).

(٣) البقرة ٢٥٥.

١٩

الكواكب المركوزة في الفلك الثامن : أجرام مختلفة بالصغر والكبر ، والتي أدركتها أبصار الخلق من تلك الكواكب مرتبة على سبع مراتب في العظم ، فأصغرها جرما ، ما يكون في العظم السابع ، وهو يكون في أدنى الدرجات ، وفوقها ما يكون في العظم السادس. وهكذا تترقى مرتبة فمرتبة ، ودرجة فدرجة ، إلى أن تصل إلى العظم الأول. ولهذا [السبب (١)] حصل في ثخن الفلك الثامن : درجات متفاوتة. ولهذا سمي بالكرسي. ولما كانت «الشعرى اليمانية» أكبرها قدرا ، وجب أن يكون مكانه في الدرجة الأعلى ، والمرتبة الاسمي والأسنى. وأقول : لا شك أن لكل واحد من تلك الكواكب خواص وآثار ، لا يعلمها إلا الله ـ سبحانه وتعالى.

والمرتبة الثالثة من النفوس : الأرواح المدبرة لفلك (٢) «زحل» وهكذا القول في سائر أطباق السموات ، وأجرام الكواكب على اختلاف درجاتها ، وتباعد مراتبها ، حتى تنتهي إلى الروح المدبرة لكرة «القمر».

ثم بعد هذه المراتب : الأرواح المدبرة لكرة الأثير [ثم لكرة الهواء (٣)] ثم الأرواح المدبرة لأقسام هذا العالم ، وذلك لأن كرة الأرض مقسومة بأربعة أقسام ، وأعظم الأقسام الأربعة : البحار. والقسم الثاني : المفاوز ، والبيانات. والقسم الثالث : الجبال. والقسم الرابع : العمرانات ، ولا يبعد في العقل أن يحصل لكل قسم من هذه الأقسام : روح واحدة ، أو أرواح كثيرة مدبرة لها. وكل ما ذكرناه ، مما نطق به أصحاب الوحي والتنزيل فإنه [عليه‌السلام كان يقول (٤)] : «جاءني ملك البحار ، فقال : كذا وكذا. وجاءني ملك الجبال ، فقال : كذا وكذا ، وجاءني ملك الأمطار ، فقال : كذا وكذا. وجاءني ملك الحروب». و «خازن الجنة فلان ، وخازن النار فلان» وإذا كان كل واحد من هذه الأقسام أمرا محتملا في العقل ، ولم يوجد دليل على نفيه ،

__________________

(١) من (طا) ، (ل).

(٢) لكرة (م ، ط).

(٣) من (طا) ، (ل).

(٤) من (طا) ، (ل).

٢٠