المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

الفصل الثالث

في

الدلائل الدالة

على أن حصول الايمان والكفر في قلوب

العباد لا يمكن أن يكون إلا بتخليق الله تعالى

البرهان الأول

إنه لا يمكن أن يكون كل علم مكتسبا من علم آخر قبله وإلا لزم [إما (١)] التسلسل ، وإما الدور. بل لا بد وأن تنتهي هذه المكتسبات إلى علوم حاصلة في العقل ، لا على سبيل الاكتساب ، وهي البديهيات.

إذا عرفت هذا فنقول : كل ما لا بد منه في كون تلك البديهيات مستلزمة لهذه الكسبيات. إما أن يكون حاصلا ، وإما أن لا يكون. فإن كان الأول وجب كون هذه المكتسبات حاصلة عند حصول تلك البديهيات. لأن المؤثر ، إذا كان مستجمعا لجميع الجهات المعتبرة في المؤثرية ، فإنه يمتنع تخلف الأثر (عنه (٢)) فإذا كانت تلك البديهيات غير مقدورة البتة ، وكان استلزامها لهذه النظريات استلزاما ضروريا ، غير داخل تحت الاختيار. وجب القطع بأن هذه النتائج غير داخلة تحت القدرة والاختيار. وأما إن قلنا : إن تلك البديهيات غير مستجمعة لجميع الجهات المعتبرة في استلزام هذه النظريات ، فحينئذ لا بد من ضم أمور أخرى إليها. وتلك الأمور. إما أن تكون من العلوم البديهية ، أو

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) من (ط ، ل).

١٠١

من العلوم الكسبية. والأول باطل لأنا فرضنا حصول جميع العلوم البديهية. والثاني أيضا باطل. لأن كلامنا في كفية استلزام البديهيات لأول المكتسبات. وعلى هذا التقدير ، يلزم أن يحصل قبل أول المكتسبات : مكتسب آخر. وذلك محال. لأن الذي يكون موصوفا بأنه أول المكتسبات ، يمتنع أن يحصل قبله مكتسب آخر. فثبت بما ذكرنا : أن البديهيات غير داخلة تحت (١) القدرة. وثبت : أن استلزامها للمكتسب الأول غير داخل تحت الوسع. واستلزام المكتسب الأول للمكتسب الثاني ، غير داخل أيضا تحت القدرة. وهلم جرا. في جميع المراتب. بالغة ما بلغت. فثبت : أن شيئا من العلوم والمعارف غير واقع بقدرة [العبد (٢)] واختياره.

وهو المطلوب

البرهان الثاني على هذا المطلوب

إن العلم إما تصور ، وإما تصديق.

وذلك لأنا إذا أدركنا أمرا من الأمور ، فإما أن نحكم عليه بحكم [وإما أن لا نحكم عليه بحكم (٣)] فإن لم نحكم عليه بحكم ، فذاك هو التصور ، وإن حكمنا عليه بحكم ، فذاك هو التصديق. إذا عرفت هذا الحصر. فنقول : إنه لا يمكن اكتساب شيء من التصورات. ويدل عليه وجوه :

الأول : إنا إذا حاولنا اكتساب شيء [آخر (٤)] من التصورات فحال ما نحاول ذلك الاكتساب. إما أن يكون لنا شعور بماهية ذلك المطلوب ، أو لا يكون لنا ، به شعور [فإن كان لنا به شعور (٥)] فحينئذ يكون تصوره حاضرا

__________________

(١) في (م).

(٢) سقط (م).

(٣) زيادة.

(٤) من (ط ، ل).

(٥) من (ل).

١٠٢

عندنا. والحاصل لا يمكن تحصيله. وإن لم يكن لنا به شعور ، كان الذهن غافلا عنه. والغافل عن الشيء يمتنع [أن يكون (١)] طالبا له.

فإن قالوا : لم لا يجوز أن يكون ذلك الأمر ، مشعورا به من وجه دون وجه ، فلأجل أنه مشعور به من بعض الوجوه ، يمكن طلبه. ومن حيث إنه غير مشعور به من سائر الوجوه ، فإن العقل يحاول تكميل ذلك الشعور وإتمامه ، فلا جرم صح طلبه؟.

والجواب : إن أحد الوجهين لما كان محكوما عليه بأنه مشعور به ، والوجه الثاني محكوم عليه بأنه غير مشعور به. كان أحد الوجهين مغايرا للآخر ، وإلا يصدق على الشيء الواحد ، أنه مشعور به ، غير مشعور به. وذلك محال. وإذا ثبت هذا فنقول : الوجه الذي هو مشعور به يمتنع [كونه (٢)] مطلوبا. لأنه يقتضي تحصيل الحاصل. والوجه الذي هو غير مشعور به ، يمتنع طلبه. لأن ما كان الذهن غافلا [عنه (٣)] يمتنع طلبه. والحاصل : أن التقسيم الذي ذكرناه أولا ، يفيد في هذين الوجهين.

الثاني : إنا إذا حاولنا تعرف ماهيته. فإما أن نتعرفها من نفسها ، أو من الأمور الخارجة عنها ، أو مما يتركب من هذه الأقسام. والكل باطل ، فبطل القول بإمكان تعرف شيء من الماهيات. إنما قلنا : إنه لا يمكن تعرفها من نفسها ، لأن الوسيلة معلومة قبل المتوسل إليه. فلو كانت الوسيلة والمتوسل إليه واحدا ، لكان الشيء الواحد معلوما قبل كونه معلوما. وهو محال. وإنما قلنا : إنه لا يمكن تعرفها من الأمور الداخلة [فيها (٤)] لأنا إما أن نتعرفها من بعض أجزائها ، أو من مجموع أجزائها. والأول باطل. لأن العلم ببعض أجزاء الشيء ، لا يكون علما بتمام ذلك الشيء. إلا إذا قيل : إن العلم بهذا الجزء

__________________

(١) من (م ، ل).

(٢) من (م ، ل).

(٣) من (ط ، ل).

(٤) من (ط ، ل).

١٠٣

[بوجه (١)] يوجب العلم بالجزء الثاني ، ثم العلم بمجموع الأجزاء ، يفيد العلم بتمام تلك الماهية. إلا أن هذا محال من وجهين :

الأول : (٢) إن على هذا التقدير ، يكون العلم بأحد الجزءين ، موجبا للعلم بالجزء الثاني. وهذا إنما يتم إذا كان العلم بالشيء يستفاد من المعلوم بالأمر الخارج عنه. وهذا هو القسم الثالث. فيكون الدليل الدال على إبطال هذا القسم ، يوجب فساد هذا الاحتمال.

والثاني : إن هذا الكلام إنما يتم إذا قلنا : إن العلم بمجموع الأجزاء ، يوجب العلم بتمام الماهية. إلا أن الدليل [الدال (٣)] على فساد هذا القسم ، يوجب فساد هذا الاحتمال. وأما إذا قلنا : إنا نتعرف العلم بتلك الماهية من العلم بمجموع أجزائها. فهذا أيضا : محال. لأن مجموع أجزائها ، هو تمام ماهية تلك الماهية. فالقول بأنا نتعرف مجموع تلك الماهية ، من معرفة مجموع أجزائها : يعود إلى القسم الأول. وهو تعريف الشيء [بنفسه (٤)] وهو محال.

وأما القسم الثالث : وهو أنا نتعرف تصور تلك الماهية من أمور خارجة عنها. فنقول : إن صريح العقل لا يستبعد حصول ذلك الوصف في غير تلك الماهية. لما ثبت : أن الماهيات المختلفة يجوز اشتراكها في لازم واحد. فعلى هذا التقدير ما لم يعرف أن ذلك الوصف مختص بتلك الماهية ، وغير حاصل في غيرها ، فإنه لا يمكننا أن نتوسل بمعرفة ذلك الوصف إلى معرفة تلك الماهية [لكن (٥)] علمنا بأن ذلك الوصف مختص بتلك الماهية ، مسبوق بتصور تلك الماهية. لأن العلم بالنسبة ، مسبوق بالعلم بكل الماهية الفلانية هي التي يلزمها اللازم الفلاني. فهذا لا يفيد العلم بخصوصية تلك الماهية. فإن بهذا القدر لا نعرف أن تلك الماهية أمرا ما ، مجهول الحقيقة. إلا أنه عرف منها ، أنه يلزمها

__________________

(١) من (م).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) من (ط ، ل).

(٤) من (ط ، ل).

(٥) من (ط ، ل).

١٠٤

اللازم الفلاني. ومن راجع نفسه ، علم أن الأمر كما ذكرناه.

وأما القسم الرابع : وهو أنا نتعرف الماهية لمجموع هذه الأقسام. فهذا أيضا باطل. لأنا لما بينا أنه يمتنع أن يكون الواحد من هذه الأقسام داخل في التأثير ، امتنع أن يكون المجموع المركب منها في هذا الباب. فهذان البرهانان قاطعان في أنه لا يمكن اكتساب شيء من التصورات ، بل إن حصل شيء منها في الذهن ، فقد حصل ، وإلا فلا سبيل إلى اكتسابه.

الوجه الثالث في بيان أن الأمر كما ذكرناه : هو أنا إذا رجعنا إلى أنفسنا ، علمنا أنه لا يمكننا أن نتصور أمرا من الأمور ، إلا التصورات ، التي أدركناها بأحد الحواس الخمس ، أو التصورات التي وجدناها من أنفسنا. كعلمنا بالألم واللذة ، والفرح والغم ، وأشباها. أو ما يركبه العقل أو الخيال من أحد هذه الأمور. فأما أن نتصور أمرا وراء هذه الأقسام. فلا سبيل لنا البتة إليه. وهذا المعنى معلوم بالبديهة عند اعتبار أحوال النفس.

فثبت بهذه الوجوه الثلاثة : أن شيئا من التصورات غير مكتسب.

وأما أن شيئا من التصديقات غير مكتسب. فيدل عليه أيضا وجوه :

الأول : إن كل تصديق ، فلا بد فيه من تصورين.

أحدهما : تصور الموضوع. والآخر : تصور المحمول. إذا عرفت هذا فنقول : إما أن يكون مجرد حضور هذين التصورين في الذهن ، مستقلا بإيجاب أن يحكم الذهن بذلك التصديق ، أو لا يكون. والأول : هو البديهيات. والثاني : هو النظريات. مثال الأول : إنا إذا [تصورنا (١)] أن الواحد ما هو؟ وتصورنا أن نصف الاثنين ما هو؟ فمجرد حضور هذين التصورين في الذهن ، يوجب جزم الذهن بأن الواحد نصف الاثنين. فهذا هو البديهي. ومثال [الثاني (٢)] إنا إذا تصورنا : أن العالم ما هو؟ وأن الحادث ما هو؟ لم يكن مجرد

__________________

(١) نظرنا (ل).

(٢) من (ط).

١٠٥

حضور هذين التصورين ، موجبا جزم الذهن بأن العالم حادث ، أو ليس بحادث.

إذا عرفت هذا فنقول : أما التصديقات البديهية ، فشيء منها غير مكتسب. لأن ذينك التصورين. إن حضرا ، كانا موجبين لذلك التصديق ـ والإنسان لا قدرة له في تحصيل (١) ذينك التصورين ـ وعند حضورهما فلا قدرة له في استلزامهما (٢) لذلك التصديق. بل إن حضرا لكان عند [حضور (٣)] ذلك التصديق واجبا. وإن لم يحضر (٤) إلا واحدا منهما ، كان حضور ذلك التصديق ممتنعا. فثبت : أن الإنسان لا قدرة له البتة على التصديقات البديهية. وأما التصديقات النظرية. فلا قدرة له أيضا على شيء منها. لأن تلك البديهيات ، إن كانت مستجمعة للأمور المعتبرة في استلزام تلك النظريات ، كان حصول تلك النظريات عقيب تلك البديهيات واجبا. فلم يكن للإنسان قدرة عليها. وإن لم تكن مستجمعة للأمور المعتبرة في ذلك الاستلزام ، امتنع كونها مستلزمة لتلك النظريات. والممتنع لا قدرة عليه.

وتمام تقرير هذا الكلام هو الذي سبق ذكره في البرهان الأول. إلا أن هذا الوجه في الحقيقة غير مختص بالتصديقات النظرية ، بل هو عام في كيفية المكتسبات. علم من علم يتقدمه ، سواء كان ذلك العلم ، علما تصوريا [أو تصديقيا (٥)].

والوجه الثاني في بيان أن شيئا من التصديقات غير مكتسب : هو أن نقول : لا شك أن تلك التصديقات الكسبية ، لا يمكن إيقاعها إلا في تصورات حاضرة في الذهن. فنقول : عند حضور تلك التصورات ، إما أن يكون ذلك التصديق ضروريا ، أو لازما ، أو لا يكون كذلك. فإن كان حصول ذلك

__________________

(١) تخيل (م).

(٢) استلزامها لذانيك التصديقين [الأصل].

(٣) من (ط ، ل).

(٤) لم يحضر بواحد منهما [الأصل].

(٥) من (ط ، ل).

١٠٦

التصديق عند حضور تلك التصورات لازما أو ضروريا ، لم يكن للعبد قدرة عليه ، ولا اختيار له فيه. لأن تلك التصورات لا قدرة للعبد عليها البتة. وعند حضورها تكون مستلزمة لذلك التصديق استلزاما لا قدرة للعبد عليه. فعلى هذا التقدير ، امتنع أن يكون ذلك التصديق واقعا بكسب العبد وباختياره. وأما إن كان حصول التصديق عند حصول (١) تلك التصورات غير ضروري ولا لازم ، فحينئذ لم يكن ذلك التصديق علما ولا يقينا ، بل هو اعتقاد تقليدي، أتى به الإنسان من غير موجب. وهو أيضا محال. ومتى حاول الإنسان تشكيك نفسه فيه ، أمكن ذلك وقبل هذا لا يكون علما ولا يقينا. فثبت بما ذكرنا : أن العلوم إما تصورات وإما تصديقات. وثبت : أن كل واحد منهما خارج عن قدرة العبد وعن وسعه. فثبت : أن المعارف والعلوم خارجة عن قدرة البشر ، وأن حصولها ليس إلا بخلق الله سبحانه.

البرهان الثالث

على أن العبد لا يقدر على خلق العلوم

هو : أن العبد إذا حاول إحداث العلم ، إما ابتداء وإما بواسطة شيء آخر. فإما أن يحاول إحداث مطلق العلم ، وإما أن يحاول إحداث العلم بكذا على التعيين. فإن حاول إحداث مطلق العلم ، لم يكن بأن يحصل هذا العلم ، أولى بأن يحصل ذلك العلم. لأن ماهية العلم جنس تحته أنواع كثيرة. وهي العلم بهذا المعلوم ، والعلم بهذا المعلوم الآخر. والطبيعة الجنسية بالنسبة إلى جميع الأنواع على السوية. فلم تكن الطبيعة الجنسية [ناقصة (٢)] باقتضاء بعض الأنواع ، أولى من اقتضاء النوع الآخر. فلو كان القصد إلى جنس حصول النوع ، كان ذلك رجحانا للممكن من غير مرجح. وهو محال.

وأما القسم الثاني وهو أن يقال : إنه يحاول إحداث العلم بكذا على

__________________

(١) حضور (ط).

(٢) من (ط).

١٠٧

التعيين. فنقول : هذا أيضا محال. وذلك لأن اعتقاد أن الشيء كذا ، قد يكون علما ـ إذا كان مطابقا لذلك المعتقد ـ وقد يكون جهلا ، وهو إذا كان غير مطابق. فالعلم إنما يتميز عن الجهل ، إذا عرف كونه مطابقا لذلك المعتقد [وقد يكون جهلا ، وهو إذا كان غير مطابق (١)] فعلى هذا لا يمكن أن يقصد إلى العلم دون الجهل ، إلا إذا ميز بين العلم وبين الجهل ، ولا يمكنه أن يعرف هذا الامتياز إلا إذا عرف أن هذا الاعتقاد مطابق للمعتقد ، ولا يمكنه أن يعرف هذه المطابقة ، إلا إذا عرف أو لا حال ذلك المعتقد في نفسه. فثبت : أنه لا يمكن أن يجعل نفسه عالما بذلك الشيء ، إلا إذا كان قد عرف أولا حال ذلك الشيء. وذلك يقتضي كون الشيء مشروطا بنفسه. وهو محال. فثبت : أن إقدار الانسان على جعل نفسه ، عالما بشيء : أمر محال. وبهذا البرهان يظهر أيضا : أن الإنسان لا يمكنه أن يجعل نفسه جاهلا بشيء. لأن الجهل إنما يتميز عن العلم ، بكونه غير مطابق للمعتقد. ولا يمكنه أن يعرف كونه غير مطابق للمعتقد ، إلا إذا عرف قبل ذلك ، حال ذلك المعتقد في نفسه. فثبت : أنه لا يمكنه تحصيل الجهل لنفسه ، إلا إذا كان عالما بذلك الشيء. وهذا يقتضي كون أحد الضدين مشروطا بالآخر ، وإنه محال.

فثبت بهذه البراهين القاطعة : أن كل ما حصل في قلوب الخلق وعقولهم من العلوم والجهالات ، فالكل من الله [وبإيجاد الله (٢)].

فإن قالوا : لم لا يجوز أن يقال : إنه وإن كان لا يمكنه إحداث العلوم والجهالات في نفسه ابتداء ، إلا أنه يمكنه إحداثها بواسطة علوم متقدمة عليها ، أو جهالات متقدمة عليها؟

قلنا : الجواب من وجهين :

الأول : إن تلك الجهالات لا تتسلسل ، بل تنتهي إلى جهل أول. فيكون خالقه هو الله سبحانه.

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (ط ، ل).

١٠٨

والثاني : إن استلزام تلك العلوم المتقدمة لتلك العلوم التي هي النتائج ، يجب أن تكون ضرورية. وكذلك استلزام تلك الجهالات المتقدمة لتلك الجهالات التي هي النتائج ، يجب أن تكون ضرورية. وعلى هذا التقدير يكون الكل من الله تعالى.

وهو المطلوب

البرهان الرابع

إن الانسان لا يقصد إلا تحصيل العلم. فلما حصل الجهل ، كان حصوله على خلاف قصده واختياره. فوجب أن يكون من غيره.

فإن قالوا : ذلك لأنه اشتبه عليه هذا الجهل بالعلم. فنقول : فهو إنما اختار ذلك الجهل ، لتقدم جهل آخر. ولا بد وأن تنتهي تلك الجهالات إلى الجهل الأول ، الواقع بخلق الله.

وهو المطلوب

البرهان الخامس

إن الناس تحيروا في ماهية العلم وفي موضوعه. أما حيرتهم في ماهية العلم. فلأن بعضهم يقول : العلم ليس إلا مجرد هذه النسبة المسماة بالتعلق. وبعضهم يقول : أنه صفه حقيقة مستلزمة لهذه النسبة والإضافة. وبعضهم يقول : إنه عبارة عن صورة مساوية لماهية المعلوم ، حاصلة في ذات العالم. ولو كان حصول هذا العالم بإيجادي وخلقي ، لكنت عالما بأني لما ذا خلقت؟ لأن القصد إلى ما لا يكون متصورا : محال. ولو كنت أعلم أني لما ذا خلقت؟ لما بقي هذا الاشتباه.

وأما حيرتهم في موضع العلم. فلأن بعضهم قال : موضعه هو القلب [وبعضهم قال : إن موضعه هو الدماغ (١)] وبعضهم قال : موضعه هو

__________________

(١) من (ط ، ل).

١٠٩

النفس الناطقة. ولو كنت أنا الخالق لهذه العلوم ، لكنت عالما بأني في أي موضع خلقتها؟ وفي أي محل أوجدتها وأحدثتها؟ ولما كان الكل مشتبها غير معلوم. علمنا : أن خالق هذه المعارف والعلوم : هو الله سبحانه.

وليكن هاهنا آخر كلامنا في الدلائل العقلية في مسألة خلق الأعمال.

وبالله التوفيق

١١٠

الباب الثاني

في

تقرير الدلائل القرآنيّة على

أن خالق أعمال العباد هو الله تعالى

١١١
١١٢

الفصل الأول

في

أن التمسك بالدلائل السمعية.

هل يجوز في هذه المسألة ، أم لا؟ (١)

وهاهنا أبحاث ثلاثة :

أحدها : أن الدلائل اللفظية لا تفيد اليقين. وهذه المسألة يقينية. فوجب أن لا يجوز التمسك فيها بالدلائل السمعية.

والثاني : إنا سلمنا أن التمسك بالدلائل اللفظية : جائز في المسائل اليقينية. إلا أن التمسك بها في هذه المسألة لا يجوز.

الثالث : إن القرآن. هل يصير مطعونا فيه ، بسبب تعارض ما فيه من دلائل الجبر والقدر؟.

البحث الأول

أما البحث الأول : فتقريره : إن التمسك بالدلائل اللفظية ، موقوف على أمور عشرة. وكل واحد منها ظني ، والموقوف على الظني : ظني. ينتج : أن

__________________

(١) نص المخطوطات : الباب الثاني في تقرير الدلائل القرآنية على أن خالق الدلائل القرآنية أعمال العباد هو الله تعالى. والكلام في هذا الباب مرتب على فصول. الفصل الأول في أن التمسك بالدلائل السمعية هل يجوز في هذه المسألة أم لا؟ وهاهنا أبحاث ثلاثة : أحدها : أن الدلائل اللفظية ... الخ وفي مخطوطة (ل) يقول الناسخ: «الفصول غير موجودة في النسخ» والفصول موجودة في مخطوطة أسعد أفندي فقط

١١٣

التمسك بالدلائل اللفظية ، لا يفيد إلا الظن.

ولنبين تلك الأمور العشرة :

فالأول : [أن التمسك (١)] بالدلائل اللفظية ، يتوقف على نقل مفردات اللغة ، ونقل النحو والتصريف. لكن رواية هذه الأشياء ، تنتهي إلى أشخاص قليلين. لا يمتنع في العرف إقدامهم على الكذب. ومثل هذه الرواية لا تفيد إلا الظن.

الثاني : إن التمسك بالدلائل اللفظية ، يتوقف على عدم الاشتراك. لأن بتقدير حصول الاشتراك ، يحتمل أن يكون المراد من كل واحد من تلك الألفاظ المفردة أمرا ، آخر غير ما تصورناه. وعلى ذلك التقدير يكون المراد من المركب ، أمرا آخر ، غير ما فهمناه. لكن عدم الاشتراك مظنون.

الثالث : ويتوقف أيضا على أن الأصل في الكلام : الحقيقة لأنه كما يستعمل اللفظ في حقيقته ، فقد يستعمل في مجازه. فلو لم نقل : الأصل في الكلام الحقيقة. فربما كان المراد بعض مجازاته. وحينئذ يتغير المعنى لكن عدم المجاز مظنون.

الرابع : ويتوقف على عدم الإضمار وعدم الحذف. بدليل : أن الإضمار والحذف [واردان في كتاب الله. أما الحذف (٢)] فكثير منه قوله تعالى : (قُلْ : تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ. أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً) (٣)

__________________

(١) من (ط ، ل).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) سورة الأنعام ، آية : ١٥١ ، واعلم. أن على القول بأن «أن» في (أَلَّا تُشْرِكُوا) تكون مفسرة ، لا تكون «لا» زائدة. والمعنى : أنه أي الحال والشأن : «لا تشركوا» يقول الزمخشري رحمه‌الله في الكشاف «وأن» في (ألا تشركوا) مفسرة ، ولا للنهي. ويقول الزجاج رحمه‌الله ـ نقلا عن مجمع البيان ـ :

ما حرم ربكم في موضع نصب بقوله اتل. المعنى اتل الذي حرمه ربكم عليكم فتكون ما موصولة ، وجائز أن يكون في موضع نصب بحرم ، لأن التلاوة بمنزلة القول فكأنه قال أقول أي شيء حرم ربكم عليكم. أهذا أم هذا؟ فجائز أن يكون الذي تلاه عليهم قوله : «إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا» ويكون ألا تشركوا به منصوبة بمعنى طرح اللام أي أبين لكم ـ

١١٤

وكلمة «لا» هاهنا محذوفة. لأنه تعالى لم يحرم علينا أن لا نشرك به. وإنما حرم علينا أن نشرك به. ومنها قوله تعالى : (لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ) (١) وكلمة «لا» محذوفة. والتقدير : أقسم بيوم القيامة. ومنها قوله (وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها : أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ) (٢) وكلمة «لا» هاهنا محذوفة ، وإلا لكان يجب رجوعهم إلى الدنيا. وهو باطل بالإجماع. فكان التقدير : وحرام على قرية أهلكناها : إنهم يرجعون. وأما الإضمار فكثير منها : قوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ : أَكِنَّةً ، أَنْ يَفْقَهُوهُ) (٣) والتقدير : لئلا يفقهوه. لأن تأثير الأكنة في أن لا يفقه ، لا في أن يفقهه. ومنها قوله تعالى : (يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) (٤) قال بعضهم : التقدير يبين الله لكم لئلا تضلوا.

وبالجملة : فالقرآن مملوء من الحذف والإضمار ، بحيث ينقلب النفي

__________________

ـ الحرام : لا تشركوا. لأنهم إذا حرموا ما أحل الله فقد جعلوا غير الله في القبول منه بمنزلة الله سبحانه ، فصاروا بذلك مشركين. ويجوز أن يكون أن لا تشركوا به شيئا محمولا على المعنى فيكون المعنى : أتل عليكم ألا تشركوا ، أي أتل عليكم تحريم الشرك ، ويجوز أن يكون على معنى أوصيكم أن لا تشركوا به شيئا لأن قوله (وبالوالدين إحسانا) محمول على معنى أوصيكم بالوالدين إحسانا.

(١) أول القيامة. و «لا» ليست زائدة. فإن الآية مثل آية (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ) يقول الإمام الزمخشري رحمه‌الله : «والوجه : أن يقال : هي للنفي. والمعنى في ذلك : إنه لا يقسم بالشيء إلا إعظاما له يدلك عليه : قوله تعالى : (فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) فكأنه بإدخال حرف النفي يقول : إن إعظامي له بإقسامي به ، كلا إعظام ، يعني : أنه يستأهل فوق ذلك.

(٢) سورة الأنبياء ، آية : ٩٥ و «لا» ليست زائدة. فإنه قبل الآية : (فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ، فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ ، وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) والمعنى : أنه ممتنع في الوجود. رجوع الكفار إلى الدنيا للعمل الصالح بعد موتهم. وفي مجمع البيان : «وحرام إن شئت رفعته بالابتداء لاختصاصه بما جاء بعده من الكلام ، وخبره محذوف وتقديره : «وحرام على قرية أهلكناها بأنهم لا يرجعون» مقتضى أو ثابت أو محكوم عليه. وإن شئت جعلت «لا» زائدة. والمعنى : حرام على قرية أهلكناها رجوعهم ، كما قال : «فلا يستطيعون توصية ، ولا إلى أهلهم يرجعون» وإن شئت جعلته خبر مبتدأ وأضمرت مبتدأ ـ كما ذكرت ـ ويكون المعنى : حرام على قرية أهلكناها بالاستئصال رجوعهم ، لأنهم لا يرجعون. وتكون «لا» غير زائدة. والمعنى : حرام عليهم أنهم ممنوعون من ذلك».

(٣) سورة الكهف ، آية : ٥٧.

(٤) سورة النساء ، آية : ١٧٦.

١١٥

إثباتا ، والإثبات نفيا. كما أوردناه في الأمثلة. وإذا كان الأمر كذلك ، كان عدم الحذف وعدم الإضمار : مظنونا لا معلوما.

الخامس : ويتوقف أيضا على عدم التقديم والتأخير. لأن بسببهما يتغير المعنى. لكن عدمهما مظنون.

السادس : ويتوقف على عدم المخصص. فإن أكثر عمومات القرآن والسنة ، مخصوص بعدم كون العام مخصوصا مظنونا ، لا معلوما. ومثاله : قوله تعالى : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (١) فهذا إنما يدل على أنه تعالى خالق لأعمال العباد [لو علمنا أن هذا العموم ، غير مخصوص في أفعال العباد (٢)] لأن بتقدير أن يكون قد وجد ما يدل على كونه مخصوصا ، لم يكن التمسك به. إلا أن عدم المخصص : مظنون لا معلوم.

السابع : ويتوقف على عدم المعارض النقلي. لأن الدلائل اللفظية (٣) قد يقع فيها التعارض ، ويصار فيها إلى الترجيحات التي لا تفيد إلا الظن.

الثامن : ويتوقف على سلامتها عن المعارض العقلي. وإن آيات التشبيه كثيرة. لكنها لما كانت معارضة بالدلائل العقلية [القطعية (٤)] لا جرم أوجبنا صرفها عن ظواهرها. فكذا هاهنا. وأيضا : فعند حصول التعارض بين ظواهر النقل وقواطع العقل ، لا يمكن تصديقهما معا. وإلا لزم تصديق النقيضين [ولا تكذيبهما ، وإلا لزم رفع النقيضين (٥)] ولا ترجيح النقل على القواطع العقلية ، لأن النقل لا يمكن التصديق به إلا بالدلائل العقلية. فترجيح النقل على العقل يقتضي الطعن في العقل (٦) ولما كان العقل أصلا للنقل ، كان الطعن في العقل موجبا للطعن في العقل والنقل معا. وأنه محال. فلم يبق إلا القسم الرابع وهو

__________________

(١) سورة الأنعام ، آية : ١٠٢.

(٢) من (ط).

(٣) القطعية (م).

(٤) من (ط ، ل).

(٥) من (ط).

(٦) العقل (م ، ل).

١١٦

القطع بمقتضيات الدلائل العقلية القطعية ، وحمل الظواهر النقلية على التأويل. فثبت بهذا : أن الدلائل النقلية يتوقف الحكم بمقتضياتها على عدم المعارض العقلي. إلا أن ذلك مظنون لا معلوم.

التاسع : وهو أن الدليل النقلي. إما أن يكون قاطعا في متنه ودلالته ، أو لا يكون كذلك.

أما القاطع في المتن. فهو الذي علم بالتواتر اليقيني صحته ، وأما القاطع في دلالته فهو الذي حصل اليقين بأنه لا يحتمل معنى آخر سوى هذا الواحد. فنقول : لو حصل دليل لفظي بهذه الشرائط ، لوجب أن يعلم كل العقلاء صحة القول بذلك المذهب.

مثاله : إذا استدللنا بآية أو بخبر على أن الله تعالى خالق لأعمال العباد. فهذا إنما يتم لو كانت تلك الآية ، وذلك الخبر مرويا بطريق التواتر القاطع ، وأن تكون (١) دلالة تلك الآية وذلك الخبر على هذا المظنون غير محتمل البتة ، لوجه آخر. احتمالا راجحا أو مرجوحا. وإلا لصارت تلك الدلالة ظنية. ولو حصل دليل سمعي لهذا الشرط ، لوجب أن يعرف كل المسلمين صحة ذلك المطلوب بالضرورة ، من دين محمد عليه الصلاة والسلام. ولو كان الأمر كذلك ، لما اختلف أهل الإسلام في هذه المسألة ، مع إطباقهم على أن القرآن حجة. ولما لم يكن الأمر كذلك ، علمنا أن شيئا من هذه الآيات ، لا يدل على هذا المطلوب ، دلالة قطعية يقينية. بل كل آية يتمسك بها أحد الخصمين ، فإنه لا بد وأن يكون محتملا لسائر التأويلات ، ولا يمكننا دفع تلك التأويلات إلا بالترجيحات [الظنية (٢)] والمدافعات الإقناعية. ومعلوم أن كل ذلك يفيد الظن.

العاشر : إن دلالة ألفاظ القرآن على هذا المطلوب. إما أن تكون دلالة مانعة من النقيض أو غير مانعة منه. والأول باطل. أما أولا فلأن الدلائل

__________________

(١) لا تكون (م ، ل).

(٢) من (ط ، ل).

١١٧

اللفظية : وضعية والوضعيات لا تكون مانعة من النقيض. وأما ثانيا : فلأن هذه الدلائل ، لو كانت مانعة من النقيض. لكان الصحابة والتابعون أولى الناس بالوقوف عليها والإحاطة بمعانيها ، لأنهم كانوا أرباب تلك اللغة. ولو كان الأمر كذلك ، لكانوا عالمين بالضرورة بأن القول بصحة هذا المطلوب : من دين محمد عليه الصلاة والسلام. ولو كان الأمر كذلك ، لما وقع الاختلاف في هذه المسألة قديما وحديثا ، بين أمة محمد عليه الصلاة والسلام. فثبت: أن دلالة هذه الألفاظ على هذه المطالب ، ليست دلائل قاطعة مانعة عن النقيض ، بل هي محتملة للنقيض. ومتى كان الأمر كذلك ، كانت دلالة الدلائل اللفظية ، ليست إلا ظنية.

فثبت بهذه الوجوه العشرة : أن الدلائل اللفظية لا تفيد إلا الظن. وظاهر أن هذه المسألة يقينية ، والتمسك بالدليل الظني في المطلوب اليقيني : باطل قطعا (١).

فهذا تقرير البحث عن قولنا : التمسك بالدلائل اللفظية في المطالب اليقينية لا يجوز.

وبالله التوفيق

__________________

(١) اعلم : أن المؤلف قد جانبة الصواب في هذا الحكم. فإنه بقوله إن القرآن يفيد الظن ، ولذلك يجب الاعتماد على الأدلة العقلية ، بقوله هذا يهدم أصول الدين بالكلية. لأن المقدم في الاستدلال هو دليل القرآن. وأما العقل فإنه يبين للراسخين في العلم أن هذا محكم ، وهذا متشابه. لا أن العقل يفيد اليقين رأسا. فقوله تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ. وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) يدل على أن العلم مترتب على التقوى في نظر إنسان ، وفي نظر إنسان آخر يقف عند قوله : (وَاتَّقُوا اللهَ) ويكون المعنى عنده : أن الله بين أحكام الدين وأحكام البيع ، ثم قال (وَاتَّقُوا اللهَ) أي في الأحكام التي ذكرها من قبل. ثم يفهم أن قوله (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) استئناف كلام جديد ، يفيد المنة والتفضل من الله على عباده. ومن هذا المثال يتبين أن النص مقدم في الاستدلال ، وأن العقل هو الذي يشرح النص ويوضحه. وللعوام بحسب عقولهم فهم ، وللراسخين فهم. واعلم : أن العقل الذي يقول به الإمام فخر الدين ، هو الذي أفاد الظن في دلالة الألفاظ. وهو أيضا يفيد الظن في كل الأمور ، بدليل اختلاف الفلاسفة ، والملل والأديان ، ونشوء المذاهب والفرق. فإذا وضح أن دلالة القرآن ظنية مطلقا ، وهو قد وضح من قبل : أن العقل لا يوثق به عند أقوام من الناس. فمعنى ذلك : الطعن في الدين بالكلية.

١١٨

البحث الثاني

في

بيان أن بتقدير أن يكون التمسك بالدلائل اللفظية في أمثال هذه المطالب جائز. إلا أنا نقول : التمسك بالدلائل السمعية في إثبات أن العبد غير موجد لأفعال نفسه : غير جائز.

واعلم : أن المعتزلة قد أطنبوا في تقرير هذا المقام. وأنا أنقل حاصل ما ذكروه ، وأضم إليه من عندي : وجوها أخرى. أقوى وأكمل مما ذكروه ، ليكون البحث موصلا إلى أقصى الغايات ، وأكمل النهايات.

قالوا : إن كل من نفى كون (١) العبد موجدا ، فإنه يتعذر عليه إثبات الصانع ، ويتعذر عليه إثبات النبوة ، ويتعذر عليه القول (٢) بأن القرآن حجة.

وإذا كان الأمر كذلك ، ثبت : أن كل من نفى كون العبد موجدا لأفعال نفسه فإنه يتعذر عليه الاستدلال بالدلائل السمعية ، على تصحيح المطلوب.

أما بيان أن كل من نفى كون العبد موجدا ، فإنه يتعذر عليه القول بإثبات الصانع. فتقريره من وجوه ثلاثة.

الأول : وهو الذي ذكره المعتزلة. قالوا : إن طريقنا إلى إثبات الصانع. هو أن نقول : أفعالنا إنما افتقرت إلينا ، بسبب حدوثها. فإذا كان العالم محدثا ، وجب افتقاره إلى الفاعل. ومعلوم أن بناء هذا الدليل : على افتقار أفعالنا إلينا. فإذا لم نعتقد هذا الأصل ، فقد انسد علينا طريق إثبات الصانع. هذا حاصل كلامهم.

وهذا ضعيف من وجهين :

الأول : إنا لا نسلم أن هذا الذي ذكرتم : دليل صحيح في إثبات

__________________

(١) نفي كل كون (م).

(٢) القول بأن القول حجة (م).

١١٩

الصانع. وذلك لأن افتقار الحادث إلى المؤثر. إما أن يكون معلوما ، أو لا يكون. فإن كان معلوما ، لزم من العلم بكون العالم محدثا : العلم بافتقاره إلى المؤثر ، من غير حاجة إلى نفيه ، على افتقارنا إلينا. وإن كان غير معلوم ، لم يلزم من مشاهدة وقوع أفعالنا ، عقيب تصورنا ودواعينا : وقوعها. لاحتمال أن تلك الأفعال وقعت عندها ، لا بها ، ولا بشيء آخر. بل حدثت على سبيل الاتفاق. فثبت : أن ما ذكرتموه ليس دليلا صحيحا.

الثاني : هب أن ما ذكرتم دليل صحيح. إلا أنه لا يلزم من بطلان دليل واحد ، بطلان القول بالمدلول. لاحتمال أن يثبت ذلك المدلول بدليل آخر.

الوجه الثاني : إن مذهب الجبرية : أن حصول الفعل عند مجموع القدرة والداعي : واجب. وحصوله عند فقدان هذا المجموع : ممتنع. وهذا يقتضي كونه تعالى موجبا بالذات ، لا فاعلا بالاختيار.

الوجه الثالث : إن مذهب الجبرية : أنه لا مؤثر في حدوث الممكنات إلا الله ، وإذا كان كذلك ، كان تخصيص بعض الناس بخلق الكفر والمعصية فيه ، والبعض الآخر بخلق الإيمان والطاعة. تخصيصا لا لمخصص.

وأيضا : مذهب الجبرية : أنه لا حسن ولا قبح في العقول. وعلى هذا التقدير تخصيص بعض الأفعال بالإيجاب ، والبعض بالندب ، والبعض بالتحريم : تخصيصا لا لمخصص أصلا. ومجوز هذا ، يلزمه أن يحكم باستغناء الممكن عن المرجح. وذلك يقتضي نفي الصانع.

وهذان الوجهان ، نحن لخصناهما للقوم. وما رأينا أحدا منهم دار حولهما.

واعلم : أن الجواب المعتمد عن الوجه الثاني : إنا بينا فيما تقدم : أنه إن لزم على مذهب [الجبرية (١)] القول بأن الصانع موجب بالذات ، لا فاعل بالاختيار ، لزمهم على مذهبهم : نفي المؤثر بالكلية ، وتجويز أن يترجح أحد

__________________

(١) من (م ، ل).

١٢٠