المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

مؤثر في الفعل ، وخالق ذلك المجموع هو الله تعالى ولكون هذا المجموع مستلزما لحصول الفعل ، صحت هذه الإضافات والإسنادات. ولكون ذلك المجموع ، موجبا لوقوع هذه الأفعال ، صح أن الكل بقضاء الله وبقدره ، وبهذا الطريق يزول التناقض بين الدلائل العقلية وبين هذه الدلائل القرآنية.

قال مولانا الداعي إلى الله :

واعلم : إن هذا إنما يتم على مذهبي خاصة. حيث قلت : مجموع القدرة مع الداعي مستلزم للفعل ، أما من لا يقول بذلك فإنه يتعذر عليه التصديق بهذه الآيات. والطريق الثاني للمعتزلة في هذا الباب : أن قالوا : ليس للفعل اسم في لغة العرب ، إلا وقد دل القرآن على إضافة الفعل إلى العبد بذلك الاسم.

واعلم : أن تلك الألفاظ ثمانية :

فالأول : العمل. قال تعالى : أ ـ (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ) (١) ب ـ (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا) (٢) ج ـ (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها ، لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (٣) د ـ (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ. أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (٤)؟ ه ـ (أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ) (٥) و ـ (لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ) (٦) ز ـ (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٧) ح ـ (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٨) ط ـ (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى

__________________

(١) سورة فصلت ، آية : ٤٦.

(٢) سورة الكهف ، آية : ٧.

(٣) سورة الجاثية ، آية : ٢١.

(٤) ص ٢٨.

(٥) سورة الصافات ، آية : ٦١.

(٦) سورة الواقعة ، آية : ٢٤.

(٧) سورة السجدة ، آية : ١٧.

(٨) سورة الكهف ، آية : ١٠٧.

٣٠١

لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) (١) يا ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (٢) يب ـ (مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها) (٣) يج ـ (وَالْعَصْرِ. إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ. إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (٤) يد ـ (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ، إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (٥) يه ـ (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ ، وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) (٦) يو ـ (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (٧) يز ـ (وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا) (٨) يح ـ (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً؟) (٩) يط ـ (وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً) (١٠) ك ـ (لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ. إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (١١).

فقد ذكرنا عشرين آية دالة على إثبات العمل للعبد. ومن استقصى في الطلب وجد في القرآن كثيرا.

اللفظ الثاني [الفعل (١٢)] قال الله تعالى : أ ـ (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (١٣) ب ـ (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ. وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) (١٤) ج ـ (وَافْعَلُوا الْخَيْرَ) (١٥) د ـ (وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ

__________________

(١) سورة الرعد ، آية : ٢٩.

(٢) سورة البينة ، آية : ٧.

(٣) سورة غافر ، آية : ٤٠.

(٤) أول العصر.

(٥) سورة الكهف ، آية : ٣٠.

(٦) سورة فاطر ، آية : ١٠.

(٧) سورة هود ، آية : ٧.

(٨) سورة الجاثية ، آية : ٣٣.

(٩) سورة الكهف ، آية : ١٠٣.

(١٠) سورة الكهف ، آية : ٤٩.

(١١) سورة التحريم ، آية : ٧.

(١٢) من (م ، ل).

(١٣) سورة البقرة ، آية : ٢١٥.

(١٤) سورة الزمر ، آية : ٧٠.

(١٥) سورة الحج ، آية : ٧٧.

٣٠٢

فاعِلُونَ) (١) ه (ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ) (٢).

اللفظ الثالث : الصنع. قال في المائدة : (لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ ، وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ. لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ) (٣) وقال في العنكبوت : (إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ ، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ ، وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) (٤).

اللفظ الرابع : الكسب قال تعالى : أ ـ (وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) (٥) ب ـ (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) (٦) ج ـ (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) (٧) د ـ (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (٨) ه ـ (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) (٩).

اللفظ الخامس : الجعل. قال تعالى : أ ـ (يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) (١٠) ب ـ (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) (١١) ج ـ (وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَ) (١٢).

اللفظ السادس : الخلق. قال الله تعالى : أ ـ (فَتَبارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ) (١٣) وهذا يقتضي كون غيره خالقا. كقوله : زيد أفضل الفضلاء فإنه يقتضي كون غيره فاضلا ب ـ قال مخاطبا لعيسى : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ

__________________

(١) سورة المؤمنون ، آية : ٤.

(٢) سورة النساء ، آية : ٦٦.

(٣) سورة المائدة ، آية : ٦٣.

(٤) سورة العنكبوت ، آية : ٤٥.

(٥) سورة آل عمران ، آية : ٢٥.

(٦) سورة الروم ، آية : ٤١.

(٧) سورة الطور ، آية : ٢١.

(٨) سورة المدثر ، آية : ٣٨.

(٩) سورة غافر ، آية : ١٧.

(١٠) سورة البقرة ، آية : ١٩.

(١١) سورة الزخرف ، آية : ١٩.

(١٢) سورة الأنعام ، آية : ١٠٠.

(١٣) سورة المؤمنون ، آية : ١٤.

٣٠٣

كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) (١) ج ـ وقال عيسى عليه‌السلام ، حاكيا عن نفسه : (أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ) (٢) د ـ (وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً) (٣) ه ـ (إِنْ هذا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) (٤).

اللفظ السابع : [الإحداث (٥)] قال تعالى حكاية عن بعض البشر : (حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) (٦).

اللفظ الثامن : الإبداع قال تعالى : (وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها) (٧).

إذا عرفت هذا ، فنقول : الألفاظ المستعملة في إسناد الفعل إلى فاعله في اللغة ليس إلا ما ذكرناه. وكلها ورد في كتاب الله تعالى في إسناد أفعال العباد إليهم ، فمن أنكر في هذا الإسناد كان ساعيا في تكذيب [كتاب (٨)] الله تعالى ، مجاهرا بالإنكار والإبطال. وأنه محض الكفر.

والجواب : إن هذا أيضا خارج عن المذهب الذي اخترناه ، وهو أن مجموع القدرة مع الداعي مستلزم الفعل (٩) لأنه فعل من الفاعل ، إلا الذي يكون بحال متى اتصف بالقدرة والإرادة الجازمة ، وارتفعت الموانع فإنه يجب الفعل. والعبد كذلك. فيكون فاعلا وصانعا. إلا أن خالق تلك القدرة وتلك الداعية لما كان هو الله سبحانه كان الكل بقضاء الله وقدره وتخليقه وتكوينه. وبهذا الطريق [ظهر (١٠)] أن جميع ألفاظ القرآن مستعملة في موضعها الأصلي من غير حاجة إلى الإنكار ولا إلى الابتكار. وبهذا الطريق ظهر أن الذي اخترناه هو خير

__________________

(١) سورة المائدة ، آية : ١١٠.

(٢) سورة آل عمران ، آية : ٤٩.

(٣) سورة العنكبوت ، آية : ١٧.

(٤) سورة الشعراء ، آية : ١٣٧.

(٥) من (م ، ل).

(٦) سورة الكهف ، آية : ٧٠.

(٧) سورة الحديد ، آية : ٢٧.

(٨) من (ط).

(٩) الفعل لا يفعل ... الخ (م).

(١٠) من (م ، ل).

٣٠٤

المذاهب والأقوال في هذا الباب. والله أعلم.

الوجه الثاني من وجوه استدلالتهم من كتاب الله تعالى : الأمر والنهي : أ ـ (وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (١) [ب ـ (سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) (٢)] ج ـ (أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ ، وَآمِنُوا بِهِ) (٣) د ـ (اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ) (٤) ه ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ) (٥) و ـ (فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ) (٦) ز ـ (وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ) (٧) ح ـ (وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ) (٨) ط ـ (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) (٩) ي ـ (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (١٠).

وبالجملة : فالأوامر والنواهي الواردة في كتاب الله ، لا حد لها ولا حصر ، ولو لم يكن العبد قادرا على الفعل والترك ، لم يقبل أمره ولا نهيه ، وكيف يجوز في العقل أن يقال : افعل يا من لا يفعل؟ ولو جاز ذلك ، فلم لا يجوز أن يبعث الأنبياء إلى الجمادات ، وينزل عليهم الكتب [ويملأ تلك الكتب (١١)] من الوعد والوعيد للجمادات؟ وكما أن صريح لفظ القرآن يشهد بأن كل ذلك سفه وعبث ، فكذلك صريح العقل يشهد بأن أمر العبد ونهيه ـ مع أنه لا قدرة له على الفعل والترك ـ عبث وسفه.

والجواب : إنا بينا في باب الجواب عن شبههم العقلية : إن تكليف ما لا

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية : ١٣٣.

(٢) من (ل). والآية رقم ٢١ من سورة الحديد.

(٣) سورة الأحقاف ، آية : ٣١.

(٤) سورة الأنفال ، آية : ٢٤.

(٥) سورة الحج ، آية : ٧٧.

(٦) سورة النساء ، آية : ١٧٠.

(٧) سورة الزمر ، آية : ٥٥.

(٨) سورة الزمر ، آية : ٥٥.

(٩) سورة الحشر ، آية : ٧.

(١٠) سورة النساء ، آية : ٥٩.

(١١) من (ط ، ل).

٣٠٥

يطاق ، لازم على المعتزلة من أثني عشر وجها ، فلا فائدة في إعادتها (١) في هذا المقام [وبالله التوفيق (٢)].

الوجه الثالث من استدلالات القوم : الآيات الدالة على أنه لا مانع لهم من الإيمان والطاعة ، ولا مجبر لهم على الكفر والمعصية. ولنذكر من هذا الجنس آيات :

أحدها : قوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) (٣)؟ قالوا : هذه الآية دالة على أن الكفر من قبل العبد. وبيانه من وجوه : الأول : لو كان تعالى قد خلق الكفر فيهم ، لما جاز أن يقول : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) على سبيل التوبيخ ، كما لا يجوز أن يقول : كيف تسودون وتبيضون وتصحون وتسقمون؟ الثاني : إن كان خلقهم أولا للشقاء وللنار ، أو ما أراد بخلقهم إلا الكفر والوقوع في النار فكيف يصح أن يقول (٤) موبخا لهم : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ)؟ الثالث : كيف يليق بالحكيم أن يقول : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ) حال ما يخلق الكفر فيهم؟ الرابع : إنه تعالى إذا قال للكفار : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ) فهل ذكر هذا الكلام توجيها للحجة على العبد ، وطلبا للجواب منه ، أو ذكره على سبيل الهزل والعبث؟ والثاني لا يقول به مسلم. فبقي الأول : فنقول : لو كان موجد الكفر هو الله تعالى ، لكان للكافر أن يقول :

عندي اثني عشر وجها من وجوه العذر. كل واحد منها مستقل بأن يكون جوابا عن هذا السؤال : فالأول : أنه يقول : يا إله الخلق خلقت الكفر في ، فكيف لا أكون كافرا. مع أني لا أقدر على دفع فعلك؟ الثاني : أردت الكفر ، وأنا لا أقدر على دفع إرادتك. والثالث : علمت الكفر مني ـ وعند المجبرة : أن خلاف المعلوم ممتنع الوقوع ـ والرابع : أجبرت على وقوع الكفر ـ وعند المجبرة ، خلاف خبر الله ممتنع الوقوع ـ والخامس : إنك خلقت في قدرة لا

__________________

(١) إعلائها (م).

(٢) من (ط).

(٣) سورة البقرة ، آية : (٢٨).

(٤) يقال (م).

٣٠٦

تصلح إلا للكفر ، ومع حصول تلك القدرة يكون الكفر واجب الحصول. والسادس : إنك خلقت في إرادة جازمة مقتضية لحصول الكفر ، ومع حصول تلك الإرادة يكون الكفر واجب الحصول. وأيضا : فكما حصلت هذه الأسباب الستة في جانب حصول الكفر ، فهي بأسرها مفقودة في جانب الإيمان. مع أنه يمتنع حصول الإيمان إلا عند حصول مجموعها. فثبت : أنه حصل لعدم الإيمان اثني عشر سببا. كل واحد منها مستقل بعدم الإيمان. فكيف يليق بالحكيم أن يقول مع هذه الموانع القاهرة : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا) (١)؟ أو يقول : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ) (٢) اللهم إلا إذا قاله على سبيل الهزل. إلا أن على هذا التقدير يصير القرآن كتاب الهزل والسخرية.

وثانيها : قوله تعالى : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى) (٣)؟ وهو إنكار بلفظ الاستفهام. ومعلوم : أن رجلا لو جلس في موضع ، بحيث لا يمكنه الخروج ، وقال له مولاه : ما منعك عن التصرف في حوائجي ، كان ذلك الكلام عبثا. وأيضا : المجبرة يقولون : إن الختم والطبع [والقسوة (٤)] والغشاوة والوقر والصّم والبكم والعمى والسد والإغواء والإضلال والإرانة والصرف والمكر والاستدراج والخداع. وكل واحد من هذه الأمور الستة عشر : سببه مستقل بالمنع من الإيمان. فمع قيام هذه الموانع بأسرها كيف [يليق (٥)] بالحكيم أن يقول : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا؟) وأيضا : الأعذار الاثني عشر قائمة ، ومع حصولها ، كيف يليق بالحكيم أن يقول : (وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا) (٦).

وثالثها : قوله تعالى لإبليس (ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ؟) (٧) وقول موسى

__________________

(١) سورة النساء ، آية : ٣٩.

(٢) سورة البقرة ، آية : ٢٨.

(٣) سورة الكهف ، آية : ٥٥.

(٤) من (ط ، ل) والدس (م).

(٥) سقط (م).

(٦) سورة الكهف ، آية : ٥٥.

(٧) ص ٧٥.

٣٠٧

عليه‌السلام لأخيه : (ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا) (١)؟ [وقوله (٢)](فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) (٣)؟ و ـ (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (٤) ـ (عَفَا اللهُ عَنْكَ. لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) (٥) ـ (لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللهُ لَكَ) (٦) ـ (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) (٧)؟ ـ (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (٨)؟.

وقال «الصاحب بن عباد» في فصل له في هذا الباب : «كيف يأمر بالإيمان ولم يرده ، وينهي عن الكفر ويريده ، ويعاقب على الباطل ويقدره ، وكيف يصرفه عن الإيمان ، ثم يقول : (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) (٩) ويخلق فيهم الإفك ، ثم يقول : (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) (١٠)؟ وينشأ فيهم الكفر ، ثم يقول : (لِمَ تَكْفُرُونَ) (١١)؟ ويخلق فيهم لبس الحق بالباطل [ثم يقول : (لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) (١٢)] ويصدهم عن سبيل الله ، ثم يقول : (لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) (١٣)؟ وحال بينهم وبين الإيمان ، ثم يقول : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا) (١٤)؟ وذهب بهم عن الرشد ثم قال : (فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) (١٥) وأضلهم عن الدين ، حتى أعرضوا ، ثم قال : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (١٦).

__________________

(١) طه ، آية : ٩٢.

(٢) من (ل).

(٣) سورة الانشقاق ، آية : ٢٠.

(٤) سورة المدثر ، آية : ٤٩.

(٥) سورة التوبة ، آية : ٤٣.

(٦) سورة التحريم ، آية : ١.

(٧) سورة آل عمران ، آية : ٧١.

(٨) سورة آل عمران ، آية : ٩٩.

(٩) سورة غافر ، آية : ٧٠.

(١٠) سورة المائدة ، آية : ٧٥.

(١١) سورة آل عمران ، آية : ٩٨.

(١٢) من (ط ، ل). والآية ٧١ من آل عمران.

(١٣) سورة آل عمران ، آية : ٩٩.

(١٤) سورة النساء ، آية : ٣٩.

(١٥) سورة التكوير ، آية : ٢٦.

(١٦) سورة المدثر ، آية : ٤٩.

٣٠٨

فإن قال قائل : إن السؤال والجواب إنما يتم مع الأكفاء والأمثال ، والله منزه عن ذلك. فكيف تمكن المناظرة مع الله؟ ولهذا قال تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) (١).

فالجواب عنه من وجهين :

الأول : إن المناظرة مع الله ، إذا كانت ممتنعة كان إيراد هذا السؤال من الله يجب أن يكون عبثا ، وذلك يقتضي القدح في كلمة الله تعالى.

الثاني : إن القرآن قد دل على أن هذه المناظرة غير ممتنعة. ويدل عليه آيات : أحدها : قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا : ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ. فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) (٢) وثانيها : قوله تعالى : (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ. لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (٣) وثالثها : قوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ ، لَقالُوا : رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً ، فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى) (٤) ورابعها : قوله تعالى : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ، وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) (٥)؟ [ومعلوم (٦)] أن المراد منه : إنا أمهلناكم وأزلنا عذركم [حتى لا يبقى لكم عذر (٧)] ولا حجة علينا. وخامسها : قوله تعالى : (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها) (٨) ومعلوم أن تلك المجادلة إنما تكون مع من يطالبها ويجانسها. وما ذاك إلا الله تعالى. فيلزم أن تكون مجادلة العبد مع الله. وسادسها : قوله تعالى حكاية عن الكفار : (رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى. وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً) (٩)؟ ثم لم يقل في

__________________

(١) سورة الأنبياء ، آية : ٢٣.

(٢) سورة المائدة ، آية : ١٩.

(٣) سورة النساء ، آية : ١٦٥.

(٤) سورة طه ، آية : ١٣٤.

(٥) سورة فاطر ، آية : ٣٧.

(٦) من (ط ، ل).

(٧) من (ط ، ل).

(٨) سورة النحل ، آية : ١١١.

(٩) سورة طه ، آية : ١٢٥.

٣٠٩

الجواب : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) (١) بل قال : (كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى) (٢) وسابعها : قوله : (وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ ، فَيَقُولَ : رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ : فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ) (٣).

فهذه الآيات دالة على أن الكفار يجعلون عدم بعثة الأنبياء ، وعدم الإمهال عذرا لهم في ترك الإيمان. والله يقول : إني أزلت هذا العذر لئلا يبقى سؤالهم متوجها عليّ. فإذا كان هذا القدر من العذر ، وهو عدم بعثة الأنبياء عليهم‌السلام [لم (٤)] يقبله الله تعالى من الكفار [فلأن لا (٥)] يكون العبد ممنوعا عن الإيمان من الوجوه الاثني عشر التي ذكرناها ، لئلا (٦) يكون عذرا له في عدم الإيمان : كان أولى. بل نقول : هذا العذر أولى بالقبول. وذلك لأن الله تعالى لو بعث الرسل ، ولم يخلق الإيمان البتة لم يؤمن العبد البتة. ولو خلق الإيمان ، ولم يبعث الرسل ، لآمن لا محالة. فكيف يجوز أن يزيل الله عذرا ، لا تأثير له البتة ولا يزيل ما هو المؤثر الأصلي؟ فإن هذا يكون كالمناقض. وأما قوله تعالى : (لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) فقالوا : المراد منه : لما ثبت بالدلائل أنه تعالى لا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب ، لم يكن في السؤال عن كل واحد من التصور مزيد فائدة. بل العلم حاصل بأن أي شيء يفعله الله فهو حكمة وصواب. وليس المراد بأنه تعالى بلغ في الظلم مبلغا لا يسأل عن فعله خوفا من شره كالفراعنة والجبابرة ، والذين يظلمون ولا يسألون عن فعلهم ، خوفا من شرهم.

فهذا تمام تقرير كلام القوم في هذا الباب.

__________________

(١) سورة الأنبياء ، آية : ٢٣.

(٢) سورة طه ، آية : ١٢٦.

(٣) سورة المنافقون ، آية : ١٠.

(٤) زيادة.

(٥) زيادة.

(٦) لأن يكون (م).

٣١٠

والجواب : إن هذه الآيات دالة على أنه لا مانع للقوم من الإيمان. وقد دلنا بالوجوه الاثني عشر على قيام الموانع. ولا بد من التوفيق ، فتحمل هذه الآيات على عدم الموانع الظاهرة ، وتحمل الدلائل العقلية على قيام الموانع العقلية. عملا بالدليلين بقدر الإمكان.

والله أعلم

٣١١
٣١٢

النوع الرابع

من وجوه استدلالات المعتزلة بالقرآن

الآيات التي أمر الله عباده فيها بأن يستعينوا بالله ، وبأن يعين بعضهم بعضا

أما الاستعانة بالله : فكقوله تعالى : (إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) ـ (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ) (١) ـ (وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ) (٢) ـ (اسْتَعِينُوا بِاللهِ) (٣) وتقديره : إن الاستعانة إنما تعقل في حق من يقدر على الفعل ، لكنه لا يقدر على إتمامه وإكماله إلا بإعانة المعين. فلو لم يكن العبد قادرا على التكوين والتحصيل كانت إعانته ممتنعة ، فكان أمره بالاستعانة عبثا. وأما الأمر بإعانة بعضهم بعضا. فكقوله تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى ، وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) (٤) ومن لم يقدر على الفعل أصلا فكيف يمكنه إعانة غيره على الفعل؟

والجواب : مذهبنا : أن الملزوم للفعل هو مجموع القدرة والداعي. وذلك مشروط بإزالة الموانع. فإعانة الله لعبده. هو أن يزيل الموانع عن كون ذلك المجموع مستلزما لذلك الأثر.

وأما إعانة بعضهم بعضا : فهو أنه من الجائز أن لا تكون قدرة الإنسان

__________________

(١) سورة النحل ، آية : ٩٨.

(٢) سورة المؤمنون ، آية : ٩٧.

(٣) سورة الأعراف ، آية : ١٢٨.

(٤) سورة المائدة ، آية : ٢.

٣١٣

الواحد وداعيته كافية في استلزام ذلك الفعل. بل لا بد فيه من قدر أناس كثيرين ومن دواعيهم ، حتى يترتب على مجموع تلك القدر وتلك الدواعي ، حصول ذلك الأثر. فزال الإشكال.

٣١٤

النوع الخامس

من استدلالات القوم بالقرآن

[وهو (١)] جميع الأدلة الدالة على أنه تعالى لم يكلف فوق الوسع والطاقة. قالوا : لو لم يكن العبد موجدا لأفعال نفسه ، لكان تكليفه بالفعل تكليفا بما لا يطاق ، وهذا باطل ، فذاك باطل. بيان الملازمة : إنه إذا كان فعل العبد واقعا بتكوين الله. فإن خلق ذلك الفعل لم يقدر على تحصيله لأن تحصيل الحاصل محال ، وإن لم يخلقه لم يقدر العبد أيضا على تحصيله. لأن قدرته غير صالحة للتحصيل فثبت : أن العبد لو لم يكن موجدا لأفعال نفسه ، لكان [تكليفه (٢)] تكليفا بما لا يطاق. وإنما قلنا : إن ذلك باطل. لقوله تعالى : (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) (٣) ولقوله تعالى : (وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) (٤) ومعلوم : ان تكليف ما لا يطاق اعظم أنواع العسر ولقوله : (وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) (٥) [ولا حرج (٦)] فوق أن يكون الإنسان مكلفا بما لا طاقة له به. والجواب : إنا بينا أن تكليف ما لا يطاق لازم على المعتزلة من الوجوه الاثني عشر التي ذكرناها وقررناها. فلا فائدة في الإعادة. وإذا كان كذلك فتحمل هذه الآيات على عدم الظاهرية.

__________________

(١) زيادة.

(٢) سقط (م).

(٣) سورة البقرة ، آية : ٢٨٦.

(٤) سورة البقرة ، آية : ١٨٥.

(٥) سورة الحج ، آية : ٧٨.

(٦) من (ل).

٣١٥
٣١٦

النوع السادس

من وجوه القوم

أن قالوا : لو كان الله تعالى موجدا للكفر والمعاصي ، لكان مريدا لها. وهذا باطل فذاك باطل. بيان الملازمة : إن المجبرة ساعدوا على أنه تعالى لو كان خالقا لأعمال العباد ، لكان مريدا لها. وبيان هذه المساعدة من وجهين :

الأول : إنهم في [مسألة (١)] إرادة الكائنات. قالوا : لما ثبت أن الله خلق أعمال العباد ، وجب [أن يكون (٢)] مريدا لها.

والثاني : أنهم قالوا إنه تعالى لما خصص بعض أفعاله ، بإحداثه في وقت معين ، ومحل معين ، مع جواز أن يخلقه في وقت آخر ، وفي محل آخر ، وجب أن يكون ذلك التخصيص لأجل الإرادة. فثبت : أنه تعالى لو كان موجدا لأفعال العباد ، لكان مريدا [لها (٣)] وبيان أنه تعالى غير مريد لها : قوله تعالى : (كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً) (٤) والمكروه لا يكون مرادا لامتناع الجمع بين الضدين. وتمام الكلام في هذا المقام ، والاستدلال بجميع الآيات التي يتمسكون بها في أنه تعالى غير مريد للقبائح سيأتي الاستقصاء فيه في مسألة إرادة الكائنات (٥) إن شاء الله.

__________________

(١) سقط (م).

(٢) من (ط ، ل).

(٣) سقط (م).

(٤) سورة الإسراء ، آية : ٣٨.

(٥) ليست في الأصول.

٣١٧
٣١٨

النوع السابع للقوم

الآيات الدالة على أنه متى فعل العبد فعلا ، فإنه تعالى يجازيه بفعل آخر

وتقديره : أن نقول : القرآن يدل على أن العبد قد يفعل أمورا. متى فعلها. فإنه تعالى يجازيه عليها بأفعال أخرى ، ومتى كان الأمر كذلك ، وجب أن تكون تلك الأفعال واقعة بتكوين العبد ، لا بتكوين الله تعالى. بيان المقدمة الأولى (١) : إن الآيات : (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٢) ـ (جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٣) ـ (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا ، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) (٤) ـ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ. إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) (٥) ـ (ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ) (٦) ـ (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ) (٧) ـ (فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) (٨) هذه الآيات وأمثالها دالة على أن العبد إذا أتى بهذه الأفعال فإنه تعالى يجازيه

__________________

(١) الأولى بآيات جزاء ... الخ (م).

(٢) سورة الواقعة ، آية : ٢٤.

(٣) سورة التوبة ، آية : ٩٥.

(٤) سورة النجم ، آية : ٣١.

(٥) سورة التحريم ، آية : ٧.

(٦) سورة الحج ، آية : ١٠.

(٧) سورة غافر ، آية : ١٧.

(٨) سورة فصلت ، آية : ١٧.

٣١٩

[عليها (١)] بأفعال أخرى. وبيان المقدمة الثانية. وهي قولنا : إن ذلك يقتضي أن لا يكون فعل العبد فعلا لله تعالى. فتقديره من وجهين :

الأول : إنه لو كان الشرط فعلا لله تعالى ، كما أن الجزاء فعله ، لصار العبد من هذا الشرط والجزاء خارجا من البين ، ويصير التقدير كأنه تعالى يقول : إني متى فعلت الفعل الفلاني فإني أفعل بعده فعلا آخر. إلا أن التغاير بين هذا الكلام وبين [قوله (٢)] أيها العبد إن أطعتني أثبتك ، وإن عصيتني عاقبتك : معلوم بالضرورة.

الثاني : إنه تعالى إنما رتب هذه الأجزية على أفعال العباد ترغيبا لهم (٣) في الطاعات ومنعا لهم عن المحظورات. وهذا إنما يفيد إذا كانوا قادرين على الفعل والترك ، متمكنين من كل واحد منهما على البذل. وقد بينا : أنه لو كان موجد أفعال العباد هو الله تعالى لما [بقيت (٤)] هذه القدرة وحينئذ يصير هذا الترغيب والترهيب عبثا بالكلية. ومما يؤكد ذلك قوله تعالى : (وَقالُوا : اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً. لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا. تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا : أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً) (٥) والاستدلال به من وجهين :

الأول : إن ذلك القول لو كان مخلوقا لله تعالى لصار الكلام ركيكا لأنه يصير تقدير الكلام : تكاد السموات أجعلها منفطرة والأرضين أجعلها منشقة بما خلقت في العبد هذا الكلام ، وأردته وقضيت به. ومعلوم : أن ذلك في غاية الركاكة. وأيضا : فقوله : (لقد جئتم شيئا إدّا). نص في أن العبد هو الذي جاء بذلك الفعل.

الثاني : إن الواحد منا إذا أنكر على غيره فعلا ، ثم أتى بمثله عد سفيها.

__________________

(١) زيادة.

(٢) من (ط ، ل).

(٣) إليهم (م).

(٤) ثبت (ط).

(٥) سورة مريم ، آية : ٨٨ ـ ٩١.

٣٢٠