المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

المطالب العالية من العلم الإلهي - ج ٩

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : الفلسفة والمنطق
الناشر: دار الكتاب العربي ـ بيروت
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٩٥

قال تعالى : (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ ، وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ) (١)؟ فلما عاب عليهم قولهم إن ولدا للرحمن [فالذي (٢)] خلق ذلك [القول (٣)] فيهم يكون العبث عليه ألزم. لو أن قائلا قال : تأملوا قبح قولهم إن للرحمن ولدا ، ومن قبحه انفطرت السموات وانشقت الأرض فانهدت الجبال [ثم مع ذلك (٤)] فإني أنا الذي فعلت ذلك ، وخلقته فيهم وقضيته عليهم وأردته منهم. لقال الناس : ما أشد حماقة هذا القائل ، وما أقبح صنعه. وإذا كان الأمر كذلك ، فكيف يليق هذا برب العالمين؟

والجواب : إن عندنا مجموع القدرة والدّاعي ، موجب للفعل ، وعلى هذا التقدير فهذه الإلزامات ساقطة عنا. وأيضا : فالوجوه الاثني عشر المذكورة دالة على وقوع تكليف ما لا يطاق ، وكل ذلك يبطل هذه الكلمات.

والله أعلم

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ٤٤.

(٢) من (ط ، ل).

(٣) من (م ، ل).

(٤) من (ط).

٣٢١
٣٢٢

النوع الثامن للقوم

الآيات الدالة على كون العبد متمكنا من الإيمان والكفر ، قادرا على الخير والشر.

قال تعالى : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ ، وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (١) وقال : (لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) (٢) وقال : (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ ، إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) (٣) وقال : (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (٤) أي طريقي الخير والشر. وقال : (وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) (٥) والجواب : إنا ذكرنا هذه الآيات دليلا لنا. لأنها تقتضي تعليل الفعل. بالمشيئة. ومشيئة العبد معلقة بمشيئة الله تعالى ، فيكون فعل العبد معلقا بمشيئة الله تعالى. من هذا الوجه.

__________________

(١) سورة الكهف ، آية : ٢٩.

(٢) سورة التكوير ، آية : ٢٨.

(٣) سورة الإنسان ، آية : ٣.

(٤) سورة البلد ، آية : ١٠.

(٥) سورة الشمس ، آية : ٧ ـ ٨.

٣٢٣
٣٢٤

النوع التاسع للقوم

الآيات الدالة على أنه تعالى لا يظلم أحدا من عباده.

قال تعالى : (إِنَّ اللهَ. لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً) (١) وقال : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) (٢) وقال : (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) (٣) قالوا : لو أن الله تعالى خلق الكفر في الكافر ، ثم يعاقبه عليه ، لكان ظالما بل نقول على مذهب الجبرية : لا ظالم إلا الله. لأن أحدا لما لم يفعل شيئا البتة ، لم يكن أحد ظالما ، بل نقول : ليس في أنواع الظلم أوضح من أن يؤاخذ الواحد منا عبده بما يفعله فيه ، ولا أقبح من أن يعاقبه على ما لم يفعله. فلو لم يقل : إن هذا ظلم ، لم يكن في تنزيه الله عن الظلم فائدة. إذ لا نعقل عن كونه ظالما إلا هذا. والجواب : إن الظلم هو التصرف في ملك الغير ، وإذا كان (٤) ما سوى الله تعالى لم يكن في تصرفه [في ملكه ظالما (٥)] فكيف يكون [الله (٦)] ظالما.

والله أعلم

__________________

(١) سورة يونس ، آية : ٤٤.

(٢) سورة النحل ، آية : ١١٨.

(٣) سورة ق ، آية : ٢٩.

(٤) ما كان (م).

(٥) زيادة.

(٦) زيادة.

٣٢٥
٣٢٦

النوع العاشر للقوم

الآيات الدالة على أن أفعاله حسنة ، ومنزهة عن التفاوت والعبث والباطل.

فإحداها : قوله : (صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ) (١) ـ (الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) (٢) فهاتان (٣) الآيتان دالتان على أن كل ما كان صنعا لله ، فهو حسن. وهذا يقتضي أن لا يكون حسنا ، لم يكن صنعا لله تعالى. فالقبائح والفواحش لما لم تكن موصوفة بالحسن. وجب أن لا تكون فعلا لله تعالى.

وثانيها : قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً. ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا) (٤) فنص على أن من اعتقد أنه تعالى خلق باطلا ، فقد كفر.

وثالثها : قوله تعالى : (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً) (٥) دل هذا الكلام على تنزيه الله تعالى عن خلق الباطل ، فوجب أن يقال : إن كل ما كان باطلا ، فإنه لا يكون مخلوقا.

__________________

(١) سورة النمل ، آية : ٨٨.

(٢) سورة السجدة ، آية : ٧ والآية مذكورة في (ل).

(٣) فهذه الآية (م).

(٤) ص ٢٧.

(٥) سورة آل عمران ، آية : ١٩١.

٣٢٧

ورابعها : قوله تعالى : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) (١).

وخامسها قوله : (أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً) (٢).

وسادسها : قوله : (ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ) (٣) ولا شك أن العقائد الفاسدة ، والمذاهب الباطلة فيها تفاوت شديد. لأن بعضها يكذب بعضا ، وبعضها يبطل بعضا. فلو كانت تلك المذاهب مخلوقة لله تعالى ، لحصل التفاوت في خلق الله تعالى. والجواب : إن كل من تصرف في ملك نفسه ، كان تصرفه عدلا صوابا ومنزها عن الباطل والعبث. وما سوى الله فإنه ملكه ، فلم يكن تصرفه على جميع التقديرات إلّا حقا صوابا.

__________________

(١) سورة الدخان ، آية : ٣٨ ـ ٣٩.

(٢) سورة المؤمنون ، آية : ١١٥.

(٣) سورة الملك ، آية : ٣.

٣٢٨

النوع الحادي عشر للقوم

الآيات التي تدل بصريحها على أن أفعال العباد ليست من الله

فأحدها : قوله تعالى : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ ، لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ. وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ. وَيَقُولُونَ : هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (١) وجه الاستدلال بالآية : أنه لو كان التحريف والكذب في اللسان خلقا لله تعالى ، لكان اليهود صادقين في قولهم : إنه من عند الله ، ولذم تكذيب الله في قوله : (وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [وذلك لأنهم أضافوا إلى الله ما هو من عند الله (٢)] والله تعالى نفى عن نفسه أنه ما هو من عنده. ثم قال الجبائي في تفسيره ، عند تقرير هذا الكلام : «وكفى هذا الخزي ، لقوم يجعلون اليهود أولى بالصدق من الله».

قالوا : ولا يقال : المراد من قولهم : (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أنه كلام الله

__________________

(١) سورة آل عمران ، آية : ٧٨ وفي مجمع البيان : «وفي هذا دليل على أن المعاصي ليست من عند الله ولا من فعله. لأنها لو كانت من فعله ، لكانت من عنده على آكد الوجوه. فلم يجز إطلاق النفي بأنها ليست من عند الله ، وكما لا يجوز أن يكون من الكتاب على وجه من الوجوه ، لإطلاق النفي بأنه ليست من الكتاب كله ، لا يجوز أن يكون من عند الله ، لإطلاق النفي بأنه ليس من عند الله».

(٢) من (ط).

٣٢٩

وحكمه [فلا جرم (١)] قال تعالى : (وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) أي ما هو من كلام الله ولا حكمه.

قالوا : هذا السؤال باطل من وجوه :

الأول : قال الجبائي : «إن على هذا التقدير لا يبقى بين قوله : (لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) وبين قوله : (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) فرق. وإذا لم يبق هذا الفرق. لم يحسن العطف ، لأن عطف الشيء على نفسه فاسد».

الثاني : قال الكلبي : «كون المخلوق [من عند (٢) الخالق] آكد من كون المأمور به من عند الآمر ، وحمل الكلام على الوجه الأقوى : أولى».

الثالث : قوله : (وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) نفي مطلق لكونه من عند الله وهذا ينفي كونه من عند الله بوجه من الوجوه. فوجب أن لا يكون من عنده لا بالخلق ولا بالحكم.

والجواب : [قوله قولهم (٣)] لم لا يجوز أن يكون المراد من قول اليهود إنه من عند الله ـ أنه كلام الله وحكمه ـ قول يلزم [عليه (٤)] عطف الشيء على نفسه»؟ قلنا : الجواب عنه من وجهين :

الأول : إنه ليس كل ما لم يكن من الكتاب ، لم يكن من عند الله. فإن الحكم الشرعي قد يثبت تارة بالكتاب (٥) وتارة بالنسبة ، وتارة بسائر الطرق مثل الإجماع والقياس في شرعنا. ثم كل هذه الطرق من عند الله وبحكمه فقوله تعالى : (لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ. وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ) نفي خاص وهو كونه

__________________

(١) من (ط).

(٢) من (م ، ل).

(٣) زيادة.

(٤) زيادة.

(٥) ثبوته بالكتاب أو بغير الكتاب لا ينفي الإشكال فإن الادعاء أنه من عند الله لم يرتفع. لأن المستدل بالسنة يقول : هي من عند الله.

٣٣٠

مذكور في كتاب الله ، ثم عطف عليه النفي العام فقال : (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ ، وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ)

الوجه الثاني في الجواب : [أنه يجوز (١)] أن يكون المراد من الكتاب : التوراة (٢) ويكون المراد في قولهم (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) : إنه موجود في كتب سائر الأنبياء مثل : «إشعياء» و «إرمياء» و «حبقوق» وذلك لأن اليهود كانوا في نسبة تلك التحريفات إلى الله منجرين. فإن وجدوا قوما أغمارا جهالا بالتوراة ، نسبوا تلك المحرفات إلى أنها من التوراة. وإن وجدوا عقلاء لا يروج عليهم ذلك الكلام. زعموا : أنه موجود في كتب سائر الأنبياء الذين جاءوا بعد موسى عليه‌السلام. فثبت بهذين الوجهين : أنه لا يلزم عطف الشيء على نفسه. وقوله : «كون المخلوق من عند الخالق ، آكد من كون المأمور به من عند الآمر ، وحمل الكلام على الوجه الأقوى : أولى» قلنا : لكن هاهنا قرينة أخرى تدل على أن الذي قلناه أولى. وذلك لأن الجواب لا بد وأن يكون مطابقا للسؤال ، والقوم ما ادعوا أن التحريف الذي ذكروه وفعلوه خلق الله تعالى ، وإنما ادعوا أنه حكم الله (٣) ونازل في كتابه. فوجب أن يكون قوله : (وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) إلى (٤) هذا المعنى لا إلى غيره. وهذا الكلام يصلح لجعله جوابا عن السؤال الثالث [وأيضا : فعنه (٥)] جواب آخر ، وهو أن يكون تأدى هذا الحكم حكما لله تعالى وكون هذا الشيء مخلوقا لله تعالى : معنيان مختلفان ، وحمل اللفظ المشترك على كل مفهوميه لا يجوز ، ولما ثبت أنه لا بد وأن يكون هذا اللفظ محمولا [على نفي الحكم [وجب أن لا يكون محمولا على (٦)] نفي

__________________

(١) من (ط).

(٢) الصحيح : أن المراد من الكتاب هو التوراة. واليهود الفريسيون ، الذين يدعون الغيرة على الشريعة الموسوية ـ وهم طائفة من اليهود العبرانيين ـ هم الذين يلوون ألسنتهم بالمد والغنة وترقيق الحروف وتفخيمها ، ليوهموا السامعين أنه كلام الله. ويبعدوا شبهة التحريف عن التوراة.

(٣) من (ط).

(٤) وحكيم الله هو خلقه.

(٥) عليه إلى [الأصل].

٣٣١

الخلق. وإلا لزم كون اللفظ المشترك مستعملا في مفهوميه معا. وإنه لا يجوز. والله أعلم.

ومن الآيات التي يتمسكون بها من هذا الجنس قوله تعالى : (ما جَعَلَ اللهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ) (١) وعندنا : المراد نفي الحكم [وعندهم : المراد نفي الحكم (٢)] والخلق معا.

والآية الثالثة من هذا الجنس قوله تعالى : (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها. أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ. ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ) (٣) ولو كان ذلك من خلقه ، لكان قد أنزل الله بها أعظم وجوه السلطان. لأن السلطان مشتق من التسلط ، ولا تسلط فوق الإيجاد ، والإخراج من العدم إلى الوجود.

__________________

(١) المائدة ١٠٣. وفي مجمع البيان : «وفي هذه الآية دلالة على بطلان قول المجبرة ، لأنه ـ سبحانه ـ نفى أن يكون جعل البحيرة وغيرها. وعندهم : أنه سبحانه هو الجاعل والخالق له. ثم بين أن هؤلاء قد كفروا بهذا القول وافتروا على الله الكذب ، بأن نسبوا إليه ما ليس بفعل له. وهذا واضح».

(٢) من (ط).

(٣) سورة النجم ، آية : ٢٣.

٣٣٢

النوع الثاني عشر للقوم

الآيات الدالة على التحدي بالقرآن.

قال تعالى : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا. فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) (١) إلى قوله : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) ووجه الاستدلال به : إن التحدي مع من يقدر على شيء من الأفعال. لأنه لما كان قادرا على الفعل في الجملة ، ثم عجز عن فعل (٢) له معنى خاص. دل ذلك على أن لذلك الفعل خصوصية. لأنه [لو (٣)] عجز ذلك الفاعل عن الإتيان (٤) بمسألة ، ولا يقدر على الفعل أصلا فإن التحدي معه لا يفيد الفائدة المطلوبة. إذا ثبت هذا فنقول : إذا لم يكن العبد قادرا على الإيجاد والتكوين أصلا ، لم يحصل التحدي بالقرآن على كونه معجزا. ولما كان ذلك باطلا بإجماع الأمة ، علمنا : أن العبد موجد.

والجواب : إن هذا الإشكال غير وارد علينا. لأنا سلمنا أن مجموع القدرة [مع الداعي قد (٥)] يوجب بعض الأفعال. وإذا لم يؤثرا في أمر من الأمور ، علمنا : أن ذلك المتيسر ممتاز عن ذلك المتعسر (٦) لمزيد خاصية ، لأجلها حصل ذلك اليسر.

__________________

(١) سورة البقرة ، آية : ٢٣ ـ ٢٤.

(٢) عن فعل معنى خاصة [الأصل].

(٣) سقط (م).

(٤) الإثبات (م).

(٥) من (ط ، ل).

(٦) المتيسر [الأصل].

٣٣٣
٣٣٤

النوع الثالث عشر للقوم

التمسك بقوله تعالى : (وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً. أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (١) ووجه الاستدلال به : أن هذه القبائح والفواحش. إما أن يكون فاعلها هو الله تعالى [أو العبد. فإن كان فاعلها هو الله تعالى (٢)] كان العبد بريئا عن فعلها وتحصيلها. ثم إن الله تعالى نسبها إلى العبد ، لأنه وصف العبد بكونه سارقا زانيا كافرا. فلزم أن يكون تعالى قد رمى العبد بهذه الأمور مع [أنه يعلم (٣)] أنه بريء عنها. فيلزم أن يقال : إنه تعالى احتمل بهتانا وإثما مبينا. ومعلوم : أن كل من قال بذلك فهو كافر. وأما إن كان فاعل هذه القبائح والفواحش هو العبد ، كان الله بريئا عن فعلها. فالمجبرة اللذين رموا إله العالم بفعل هذه القبائح مع أنه تعالى بريء عنها ، وجب أن يدخلوا تحت قوله تعالى : (فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً).

والجواب : إن هذه الأمور أفعال للعباد من حيث إنه إنما حصلت عن قدرتهم ودواعيهم ، وأفعال الله تعالى من حيث إنها موجبة عن فعل الله تعالى ، وهو مجموع القدرة مع الداعي ، وحينئذ يسقط هذا السؤال عنها.

__________________

(١) سورة النساء ، آية : ١١٢.

(٢) من (ل).

(٣) من (م ، ل).

٣٣٥
٣٣٦

النوع الرابع عشر للقوم

قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللهِ) (١)

دلت الآية على أن مقصوده تعالى من بعثة الأنبياء إقدام الخلق على الطاعة. فلو كان تعالى يخلق الكفر فيهم ، لامتنع أن يكون غرضه من البعثة حصول الطاعة. وهذا التمسك بقوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) (٢) وهكذا الاستدلال بكل ما جاء في القرآن من قوله : (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (٣) ـ (فَقُولا لَهُ : قَوْلاً لَيِّناً. لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى) (٤) فإن هذه النصوص وما يشبهها نصوص صريحة في أنه تعالى يريد [من عباده فعل (٥)] الطاعة والتقوى [ولو كانت الطاعة والتقوى (٦)] من خلق الله تعالى لكان يجب أن يقول : لعلي أتذكر وأتقي.

والجواب : إن القضية الموجبة يكفي في العمل بها ، حصول مستمر (٧) من وقت واحد وعندنا : أنه تعالى يجعل الكل مؤمنا عارفا في القيمة.

__________________

(١) سورة النساء ، آية : ٦٤.

(٢) سورة الذاريات ، آية : ٥٦.

(٣) سورة الأنعام ، آية : ٥١.

(٤) سورة طه ، آية : ٤٤.

(٥) من (م ، ل).

(٦) من (م ، ل).

(٧) مسمى (م).

٣٣٧
٣٣٨

النوع الخامس عشر للقوم

قوله تعالى : (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ ، وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) (١)

ووجه الاستدلال : إنه تعالى احتج عليهم بالتمكن والإقدار ، والعمر الطويل ، والمهلة في أوقات التكليف ، وإزاحة الأعذار ببعثة الرسل. فلو كان الإيمان والتذكر موقوفين على خلق الله ، لكان لهم أن يقولوا : آلهتنا قد فعلت فينا الكفر ، والعدول عن طاعتك ، وكنا عاجزين عن دفع ما خلقت ، ولم تخلق فينا الإيمان. ولو خلقت الإيمان فينا لكنا مؤمنين بك. قالوا : فكيف يعقل أن يحتج الله سبحانه عليهم بما لا حجة له فيه ، مع أنه قال : (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ) (٢)؟ وليس لهم أن يقولوا : المناظرة مع الله لا تجوز. لأن هذا الكلام قد سبق جوابه.

والجواب : إن كل ذلك مشكل عليهم ، بما أن حصول الفعل موقوف على خلق [القدرة و (٣)] الداعي وذلك يوجب الجبر ، ويشكل أيضا. بما أن خلاف معلوم الله محال الوقوع.

__________________

(١) سورة فاطر ، آية : ٣٧.

(٢) سورة الأنعام ، آية : ١٤٩.

(٣) زيادة.

٣٣٩
٣٤٠